الدعوى رقم 186 لسنة 33 ق " دستورية " جلسة 13 /10 / 2018
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت
الثالث عشر من أكتوبر سنة 2018م، الموافق الرابع من صفر سنة 1440 هـ.
برئاسة السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار والدكتور عادل عمر
شريف وبولس فهمي إسكندر ومحمود محمد غنيم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق
عبد الجواد شبل نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشرى رئيس
هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
في الدعوى
المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 186 لسنة 33 قضائية " دستورية
".
المقامة من
على عبد الله على عبده - بصفته عضو مجلس الإدارة المنتدب لشركة ثقات للاستشارات المالية
ضد
1- رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة
2- رئيس مجلــــس الـــوزراء
3- وزيــــر الماليــــة
4- رئيس الهيئة العامة للرقابة الماليـة
الإجراءات
بتاريخ الحادي
والعشرين من نوفمبر سنة 2011، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى، قلم كتاب المحكمة
الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية المادة (68) من قانون سوق رأس المال
الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت
فيها الحكم برفض الدعوى.
وقدمت الهيئة
العامة للرقابة المالية مذكرة، طلبت فيها الحكم أصليًّا: بعدم قبول الدعوى؛
لانعدام المصلحة، واحتياطيًّا: برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة
المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر
الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكـم فيها بجلسة اليوم.
المحكمـــــة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق –
في أن النيابة العامة كانت قد قدمت المدعى - بناءً على طلب رئيس الهيئة العامة
للرقابة المالية - إلى المحاكمة الجنائية في الجنحة رقم 1614 لسنة 2011 جنح
اقتصادية القاهرة (المقيدة برقم 984 لسنة 2011 جنح مالية)، متهمة إياه بأنه في غضون
أعوام 2008، 2009، 2010، بدائرة قسم العجوزة، بمحافظة الجيزة، بصفته المسئول عن
الإدارة الفعلية لشركة ثقات للاستشارات المالية: (1) لم يقم بإمساك الدفاتر
والسجلات اللازمة لمباشرة نشاط الشركة. (2) لم يقم بإخطـار الهيئة العامة للرقابة
المالية بنقل مقر الشركة. (3) لم يحتفظ بالدفاتر التى توضح المركز المالي للشركة.
(4) لم يحتفظ بمحاضر الجمعية العمومية للشركة. (5) لم يقم بتدوين محاضر جلسات مجلس
إدارة الشركة بصفة منتظمة، وطلبت عقابه بالمادة (67) من قانون سوق رأس المال الصـادر
بالقانون رقم 95 لسنة 1992، والمواد (124/2، 135/7، 227) من لائحته التنفيذية
الصادرة بقرار وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية رقم 135 لسنة 1993، والمواد (75،
81، 163/5) من قانون شركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم والشركات ذات
المسئولية المحدودة الصادر بالقانون رقم 159 لسنة 1981، وأثناء نظر الدعوى بجلسة
26/10/2011، عدلت المحكمة - في مواجهة المدعى - القيد، بإضافة نص المادة (68) من
قانون سوق رأس المال المشار إليه، فدفع المدعى بعدم دستورية ذلك النص، وإذ قدرت
المحكمة جدية هذا الدفع، وصرحت له بإقامة الدعوى الدستورية، أقام دعواه المعروضة.
وحيث إن المادة (67) من قانون سوق رأس المال الصادر بالقانون رقم 95
لسنة 1992، بعد استبدالها بالقانون رقم 123 لسنة 2008 تنص على أن "مع عدم
الإخلال بأية عقوبة أشد، منصوص عليها في أي قانون آخر يعاقب بغرامة لا تقل عن ألفى
جنيه ولا تزيد على مليون جنيه، كل من يخالف أحد الأحكام المنصوص عليها في اللائحة
التنفيذية لهذا القانون".
وتنص الفقــرة الأولى من المادة (68) من القانون ذاتـه على أن
"يعاقب المسئول عن الإدارة الفعلية بالشركة، بالعقوبات المقررة عن الأفعال التي
ترتكب بالمخالفة لأحكام هذا القانون"، وقد تم استبدال ذلك النص بموجب المادة
الأولى من القانون رقم 17 لسنة 2018 بتعديل بعض أحكام قانون سوق رأس المال المشار
إليه - المعمول به اعتبارًا من 15/3/2018 - ليصير : "يعاقب المسئول عن
الإدارة الفعلية للشركة، بالعقوبات المقررة عن الأفعال التى ترتكب بالمخالفة
لأحكام هذا القانون، متى ثبت علمه بها وكانت المخالفة قد وقعت بسبب إخلاله
بواجباته الوظيفية".
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية -
مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون
الفصل في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها
والمطروحة على محكمة الموضوع. متى كان ذلك، وكانت النيابة العامة قد أحالت المدعى
للمحاكمة الجنائية - بصفته المدير المسئول عن الإدارة الفعلية لشركة ثقات
للاستشارات المالية - بوصف ارتكابه عدة جرائم، من بينها: عدم إمساك الدفاتر
والسجلات اللازمة لمباشرة نشاط الشركة، وعدم إخطار الهيئة العامة للرقابة المالية
بنقل مقر الشركة، وعدم الاحتفاظ بالدفاتر التى توضح المركز المالى للشركة، وذلك
بالمخالفة للمواد (124/2، 135/7، 227) من اللائحة التنفيذية لقانون ســوق رأس
المال، الصادرة بقرار وزير الاقتصاد رقم 135 لسنة 1993، والمعاقب عليها بنص المادة
(67) من قانون سوق رأس المال الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992، التى ترصد عقوبة
غرامة لا تقل عن ألفى جنيه، ولا تزيد على مليون جنيه لكل من يخالف أحد الأحكام
المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية لهذا القانون، وحال نظر الدعوى، أضافت المحكمة
لمواد القيد نص المادة (68) من القانون المشار إليه، الذى انصب عليه الدفع بعدم
الدستورية المبدى من المدعى أمام محكمة الموضوع، وتقدير تلك المحكمة لجدية هذا
الدفع، وتصريحها له بإقامة الدعوى الدستورية، وانحصرت فيه طلبات المدعى الختامية
الواردة بصحيفة دعواه الدستورية المعروضة، ومن ثم فإن نطاق الدعوى والمصلحة فيها
يتحددان بما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة (68) من قانون سوق رأس المال الصادر
بالقانون رقم 95 لسنة 1992، وذلك في مجال انطباق أحكامها على نص المادة (67) من
القانون ذاته المستبدلة بالقانون رقم 123 لسنة 2008، بحسبان الفصل في دستورية ذلك
النص، سيكون له أثر مباشر وانعكاس أكيد على موقف المدعى من الاتهام المسند إليه في
الدعوى الموضوعية، وقضاء محكمة الموضوع فيها، ولا تستطيل إلى غير ذلك من أحكام،
وترتيبًا على ما تقدم يكون الدفع المبدى من الهيئة العامة للرقابة المالية بعدم
قبول الدعوى فاقدًا سنده، متعينًا الالتفات عنه.
ولا ينال من ذلك سبق صدور حكم المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم
107 لسنة 32 قضائية "دستورية" بجلسة 14/3/2015، القاضي برفض الدعوى -
والذى نشر في العدد رقم 12 مكرر (ب) من الجريدة الرسمية بتاريخ 25/3/2015 - ذلك أن
من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعاوى
الدستورية يقتصر نطاقها على النصوص التشريعية التى كانت مثارًا للمنازعة حول
دستوريتها، وفصلت فيها المحكمة فصلاً حاسمًا بقضائها، أما ما لم يكن مطروحًا على
المحكمة، ولم تفصل فيه بالفعل، فلا تمتد إليه تلك الحجية. متى كان ذلك، وكان الحكم
الصادر في الدعوى الدستورية المشار إليها قد اقتصر على الفصل في دستورية نص الفقرة
الأولى من المادة (68) من قانون سوق رأس المال الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992
في مجال انطباقه على نص الفقرة الأولى من المادة (65 مكررًا) من ذلك القانون
المضافة بالقانون رقم 143 لسنة 2004، ومن ثَمَّ فإن حجية ذلك الحكم تكون بدورها
مقصورة على هذا النطاق وحده، ولا تمتد إلى ما يجاوز ذلك من أحكامهما. ليبقى نص
الفقرة الأولى من المادة (68) من ذلك القانون، في خارج النطاق المتقدم، قابلاً
للطرح على هذه المحكمة لتقول كلمتها فيه، بشأن مدى اتفاقه وأحكام الدستور.
كما لا يغير مما تقدم إصدار المشرع القانون رقم 17 لسنة 2018، بتعديل
بعض أحكام قانون سوق رأس المال المشار إليه، ومن بينها نص الفقرة الأولى من المادة
(68) منه، متبنيًّا في تعديلها الأسس ذاتها التى اعتنقتها المحكمة عند تفسير ذلك
النص، والذى ضمنته مدونات حكمها الصادر في الدعوى رقم 107 لسنة 32 قضائية
"دستورية" الآنف الذكر، وعينت فيه قواعد وضوابط المسئولية الجنائية
للمسئول عن الإدارة الفعلية، وأسست عليه قضاءها برفض الدعوى، فأوجبت أن يكون ممن
يعهد إليهم بقسط من نشاط الشركة يمارسه نيابة عنها، ويرتبط بتنفيذ الالتزام القانوني
الذى فرضه المشرع على الشركة، واعتبر الإخلال به جريمة مؤثمة قانونًا، وهو يسأل عن
فعله شخصيًّا، ولو كان ارتكابه الجريمة قد تم باسم الشركة ولحسابها ولمصلحتها
وباستخدام إحدى وسائلها، وبحيث لا تتحقق المسئولية الجنائية عن الجريمة في هذه
الحالة إلا بتوافر أركانها، والتي تلتزم سلطة الاتهام بإثباتها كاملة في حقه،
وبذلك أتى النهج الذى سلكه المشرع بالنص بعد التعديل المذكور، مواكبًا لذات أسس
المسئولية الجنائية وعناصرها وأركانها للمسئول عن الإدارة الفعلية التى أوضحها
وكشف عنها حكم المحكمة الدستورية العليا على النحو المتقدم ذكره، وعلى ذلك، لم يأت
النص بعد استبداله بأحكام جديدة تخالف في مضمونها ومحتواها الحقيقي ما قرره النص
المطعون فيه قبل استبداله بالنص الجديد، وهو بذلك لا يُعَدُّ قانونًا أصلح للمتهم،
ومن ثم يظل المدعى مخاطبًا بحكم ذلك النص قبل استبداله.
وحيث إن المدعى ينعى على النص المطعون فيه مخالفته نصوص المواد (41،
66، 67، 86، 165) من دستور سنة 1971، والإعلان الدستوري الصادر في 30/3/2011،
قولاً منه إنه يخل بمبدأى شخصية العقوبة، وشخصية المسئولية الجنائية، لافتراضه
مسئولية القائم بالإدارة الفعلية للشركة عن الأفعال التى ترتكب بالمخالفة لأحكام
هذا القانون، وتحميله تبعة جريمة ارتكبها غيره، بما يمثل افتئاتًا على اختصاص
السلطة القضائية، ويحول دون ممارستها الحق في التثبت من ارتكاب المسئول عن الإدارة
الفعلية بالشركة للجريمة، فضلاً عما يمثله ذلك من مساس بالحرية الشخصية، وإنكار
لأصل البراءة.
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الرقابة التى تباشرها على
دستورية القوانين، من حيث مطابقتها القواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، تخضع
لأحكام الدستور القائم دون غيره، ذلك أن هذه الرقابة تستهدف أصلاً صون هذا الدستور
وحمايته من الخروج على أحكامه؛ لكون نصوصه تمثل دائمًا القواعد والأصول التى يقوم
عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها
ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات باعتبارها أسمى القواعد الآمرة، وكان
النص المطعون فيه في الإطار المار ذكره مازال ساريًا ومعمولاً بأحكامه، ومن ثَمَّ
فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على دستوريته من خلال أحكام الدستور الصادر سنة
2014، باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.
وحيث إن المقرر أن الدستور في اتجاهه
إلى ترسم النظم المعاصرة، ومتابعة خطاها والتقيد بمناهجها التقدمية؛ نص في المادة
(95) على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال
اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون الذى ينص عليها، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على
أن لكل جريمة ركنًا ماديًّا لا قوام لها بغيره، يتمثل أساسًا في فعل أو امتناع وقع
بالمخالفة لنص عقابى، مفصحًا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداء، في زواجره
ونواهيه، هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيًّا كان هذا الفعل أم
سلبيًّا، ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين
بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية، وخصائصها
المادية، إذ هى مناط التأثيم وعلته، وهى التى يتصور إثباتها ونفيها، وهى التى يتم
التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على
حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه في مجال تقدير توافر
القصد الجنائى، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التى قام
الدليل عليها قاطعًا واضحًا، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما
قصد إليه الجانى حقيقة من وراء ارتكابها، ومن ثَمَّ تعكس هذه العناصر تعبيرًا
خارجيًّا وماديًّا عن إرادة واعية، ولا يتصور بالتالى وفقًا لأحكام الدستور أن
توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين
مادية الفعل المؤثم، والنتائج التى أحدثها بعيدًا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه،
ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التى يضمرها
الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكًا
خارجيًّا مؤاخذًا عليه قانونًا، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة
مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيًّا في صور مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة
جريمة.
وحيث إن الأصل في الجرائم، أنها تعكس
تكوينًا مركّبًا، باعتبار أن قوامها تزامنًا بين يد اتصل الإثم بعملها، وعقل واع
خالطها ليهيمن عليها محددًا خطاها، متوجهًا إلى النتيجة المترتبة على نشاطها؛
ليكون القصد الجنائى ركنًا معنويًّا في الجريمة مُكملاً لركنها المادى، ومتلائمًا
مع الشخصية الفردية في ملامحها وتوجهاتها. وهذه الإرادة الواعية هى التى تتطلبها
الأمم المتحضرة في مناهجها في مجال التجريم بوصفها ركنًا في الجريمة، وأصلاً
ثابتًا كامنًا في طبيعتها، وليس أمرًا فجًّا أو دخيلاً مقحمًا عليها أو غريبًا عن
خصائصها. ذلك أن حرية الإرادة تعنى حرية الاختيار بين الخير والشر، ولكلٍ وجهة هو
مُوَلِّيها، لتنحل الجريمة - في معناها الحق - إلى علاقة ما بين العقوبة التى
تفرضها الدولة بتشريعاتها، والإرادة التى تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التى
يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها، بديلاً عن الانتقام والثأر المحض من صاحبها.
وغدا أمرًا ثابتًا - وكأصل عام - ألا يجرم الفعل ما لم يكن إراديًّا قائمًا على
الاختيار الحر، ومن ثَمَّ كان مقصودًا. ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك
الإرادة وقوفًا على ماهيتها، مازال أمرًا عسرًا، إلا أن معناها - وبوصفها ركنًا
معنويًّا في الجريمة - يدور بوجه عام حول النوايا الإجرامية، أو الجانحة، أو
النوازع الشريرة المدبرة، أو تلك التى يكون الخداع قوامها، أو التى تتمحض عن علم
بالتأثيم، مقترنًا بقصد اقتحام حدوده، لتدل جميعها على إرادة إتيان الفعل بغيًا.
وحيث إن الجريمة في مفهومها القانوني - وعلى ما جرى عليه قضاء هذه
المحكمة - تتمثل في الإخلال بنص عقابى، وأن وقوعها لا يكون إلا بفعل أو امتناع
يتحقق به هذا الإخلال، وأن الأصل في الجريمة أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين
كمسئول عنها، وهى عقوبة يجب أن تتوازن وطأتها مع طبيعة الجريمة وموضوعها، بما
مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها،
ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها
مرتبطان بمن يُعد قانونًا مسئولاً عن ارتكابها، ومن ثَمَّ تفترض شخصية العقوبة
شخصية المسئولية الجنائية، بما يؤكد تلازمهما، ذلك أن الشخص لا يكون مسئولاً عن
الجريمة ولا تفرض عليه عقوبتها إلا باعتباره فاعلاً لها أو شريكًا فيها، وهو ما
يعبر عن العدالة الجنائية في مفهومها الحق.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان المشرع قد أثّم بالمادة (67) من قانون
سوق رأس المال، المستبدلة بالقانون رقم 123 لسنة 2008 كل فعل يخالف أحد الأحكام
المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية لهذا القانون، وعَدَّ تلك الجريمة جنحة
معاقبًا عليها بغرامة لا تقل عن ألفى جنيه، ولا تزيد على مليون جنيه، ويسأل عن هذه
الجريمة المسئول عن الإدارة الفعلية للشركة إعمالاً لنص الفقرة الأولى من المادة
(68) من القانون ذاته، والذى يجب دومًا أن يكون من الأشخاص الذين يُعهد إليهم بقسط
من نشاط الشركة يمارسه نيابة عنها، ويرتبط بتنفيذ الالتزام القانوني الذى فرضه
المشرع عليها، وجعل الإخلال به جريمة - حرصًا منه على التزام الشركات العاملة في سوق
رأس المال بالضوابط التشريعية؛ صونًا لحقوق عملائها، وبما ينعكس إيجابًا على العمل
بسوق رأس المال - ليكون مناط مسئوليته عن هذه الجريمة ثبوت مسئوليته عن الإدارة
الفعلية للشركة، في حدود الصلاحيات الممنوحة له، وهو يسأل عن فعله شخصيًّا، ولو
كان ارتكابه للجريمة قد تم باسم الشركة ولحسابها ولمصلحتها وباستخدام إحدى
وسائلها، دون أن يقيم النص المشار إليه مسئوليته عن فعل الغير، أو يقرر مسئوليته
عن الجريمة المنسوب إليه ارتكابها خارج نطاق الاختصاص والسلطة المعهود له
بمباشرتها نيابة عن الشركة، ذلك أن الجريمة لا تقوم بحقه إلا بتوافر أركانها،
والتى يتعين دومًا على سلطة الاتهام إثباتها كاملة، وبذلك يتحقق توافق قواعد
المسئولية الجنائية التى نصت عليها المادة (68) المطعون عليها مع مبدأ شخصية
العقوبة، على نحو يصون الحرية الشخصية .
وحيث إنه بشـأن ما نعاه المدعى على نص المادة (68) من القانون المشار
إليه من إخلاله بأصل البراءة، ومساسه بمبدأ استقلال السلطة القضائية، فمن المقرر
في قضاء هذه المحكمة أن الدستور إذ نص في المادة (96) منه على أن: "المتهم
برىء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن
نفسه"، فمؤدى ذلك أن ضوابط المحاكمة المنصفة - التى عناها الدستور في هذه
المادة - تتمثل في مجموعة من القواعد المبدئية، التى تعكس مضامينها نظامًا متكامل
الملامح، يتوخى بالأسس التى يقوم عليها، صون كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، ويحول
بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقًا من
إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التى تنال من الحرية
الشخصية التى عَدَّها الدستور من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، فلا
تنفصل عنها عدوانًا، ولضمان أن تتقيد الدولة - عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض
العقوبة صونًا للنظام الاجتماعى - بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التى
ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفًا مقصودًا لذاته، أو أن تكون القواعد التى تتم
محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، بل
يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى
من الحماية، التى لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها، ويندرج تحت هذه القواعد
أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء، وهى بعد قاعدة
حرص الدستور القائم على إبرازها في المادة (96) منه.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها،
ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي - ممثلاً في
الواقعة مصدر الحق المدعى به - إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة به، وهذه الواقعة
البديلة هى التى يُعَدُّ إثباتها إثباتًا للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر
كذلك بالنسبة إلى البراءة التى افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل
واقعة أخرى، وأقامها بديلاً عنها، وإنما يُؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل
الإنسان عليها، فقد ولد حرًا مبرءًا من الخطيئة أو المعصية، ويفترض على امتداد
مراحل حياته أن أصل البراءة لا زال كامنًا فيه، مصاحبًا له فيما يأتيه من أفعال،
إلى أن تنقض محكمة الموضوع بقضاء جازم بات لا رجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء
الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التى نسبتها إليه في كل ركن
من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي
بنوعيه إذا كان متطلبا فيها، وحق المتهم في مواجهة الشهود الذين قدمتهم النيابة
العامة إثباتًا للجريمة، والحق في دحض أقوالهم وإجهاض الأدلة التى طرحتها بأدلة
النفى التى يعرضها، وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التى يستند
إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية تُعَدُّ في ذاتها
مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية،
ويُعَدُّ إنفاذها مفترضًا أوليًّا لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون
الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة
التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير
دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئها.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الدستور إذ اختص بموجب المادة
(101) منه السلطة التشريعية بسن القوانين، كما نص في المادتين (184، 188) منه على
استقلال السلطة القضائية، واختصاصها بالفصل في المنازعات والجرائم، فإن لازم ذلك
أن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين لا يخولها التدخل في أعمال أسندها
الدستور للسلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتًا على عملها، وإخلالاً
بمبدأ الفصل بين السلطات. وعلى ذلك، فإن الاختصاص المقرر دستوريًا للسلطة التشريعية
في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها
لغل يد المحكمة الجنائية عن القيام بمهمتها الأصلية في مجال التحقق من قيام أركان
الجريمة التي عينها المشرع.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان نص الفقرة الأولى من المادة (68) من
قانون سوق رأس المال المشار إليه، في مجال انطباق أحكامه على الأفعال المؤثمة بنص
المادة (67) من القانون ذاته، ألقى على عاتق المسئول عن الإدارة الفعلية للشركة
المسئولية الجنائية عن مخالفة أى من الأحكام المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية
لذلك القانون، وقرن ثبوت هذه الجريمة في حقه بثبوت مباشرته الإدارة الفعلية
المتعلقة بتنفيذ الالتزام القانونى، الذى عَدَّ المشرع الإخلال به جريمة، ولم يعف
النيابة العامة من واجب إقامة الدليل على ثبوت أركان الجريمة في حقه، بما في ذلك
ثبوت قيامه بالإدارة الفعلية، كما لم يحل بينه ونفى عناصر الاتهام جميعها بكافة
طرق ووسائل الإثبات القانونية في شتى الدعاوى الجنائية. وعلى ذلك، فإن النص
المطعون فيه - محددًا نطاقه على النحو المتقدم - يكون قد جاء خلوًا من أى قرينة
قانونية تعارض أصـل البراءة، ومن ثَمَّ فإن أحكامه تكون مبرأة من قالة الإخلال
بأصل البراءة، أو المساس باستقلال السلطة القضائية.
وحيث إن النص المطعـون فيه لا يتعارض مع أى نص آخر من نصوص الدستور،
الأمر الذى يتعين معه القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعى
المصروفات، ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة.