صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ عَلَى رَوْحٌ وَالِدِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا وَقْفِيَّة عِلْمِيَّة مُدَوَّنَةٌ قَانُونِيَّةٌ مِصْرِيّة تُبْرِزُ الْإِعْجَازَ التَشْرِيعي لِلشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وروائعِ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ، مِنْ خِلَالِ مَقَاصِد الشَّرِيعَةِ . عَامِلِةَ عَلَى إِثرَاءٌ الْفِكْرِ القَانُونِيِّ لَدَى الْقُضَاة. إنْ لم يكن للهِ فعلك خالصًا فكلّ بناءٍ قد بنيْتَ خراب ﴿وَلَقَدۡ وَصَّلۡنَا لَهُمُ ٱلۡقَوۡلَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ﴾ القصص: 51
الصفحات
- أحكام النقض الجنائي المصرية
- أحكام النقض المدني المصرية
- فهرس الجنائي
- فهرس المدني
- فهرس الأسرة
- الجريدة الرسمية
- الوقائع المصرية
- C V
- اَلْجَامِعَ لِمُصْطَلَحَاتِ اَلْفِقْهِ وَالشَّرَائِعِ
- فتاوى مجلس الدولة
- أحكام المحكمة الإدارية العليا المصرية
- القاموس القانوني عربي أنجليزي
- أحكام الدستورية العليا المصرية
- كتب قانونية مهمة للتحميل
- المجمعات
- مُطَوَّل اَلْجُمَلِ فِي شَرْحِ اَلْقَانُونِ اَلْمَدَنِيِّ
- تسبيب الأحكام الجنائية
- الكتب الدورية للنيابة
- وَسِيطُ اَلْجُمَلِ فِي اَلتَّعْلِيقِ عَلَى قَانُونِ اَلْعَمَلِ 12 لسنة 2003
- قوانين الامارات
- مُطَوَّل اَلْجُمَلِ فِي اَلتَّعْلِيقِ عَلَى قَانُونِ اَلْمُرَافَعَاتِ
- اَلْمُذَكِّرَة اَلْإِيضَاحِيَّةِ لِمَشْرُوعِ اَلْقَانُونِ اَلْمَدَنِيِّ اَلْمِصْرِيِّ 1948
- مُطَوَّل اَلْجُمَلِ فِي اَلتَّعْلِيقِ عَلَى قَانُونِ اَلْعُقُوبَاتِ
- محيط الشرائع - 1856 - 1952 - الدكتور أنطون صفير
- فهرس مجلس الدولة
- المجلة وشرحها لعلي حيدر
- نقض الامارات
- اَلْأَعْمَال اَلتَّحْضِيرِيَّةِ لِلْقَانُونِ اَلْمَدَنِيِّ اَلْمِصْرِيِّ
- الصكوك الدولية لحقوق الإنسان والأشخاص الأولى بالرعاية
بحث هذه المدونة الإلكترونية
الأربعاء، 3 ديسمبر 2025
اتفاق بشأن العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة
الثلاثاء، 2 ديسمبر 2025
التعليق على اتفاقية جنيف الأولى / المادة 3: النزاعات التي ليس لها طابع دولي
Commentary of 2016
نص المادة*
1. في حالة قيام نزاع مسلح ليس له طابع دولي في أراضي أحد الأطراف السامية المتعاقدة، يلتزم كل طرف في النزاع بأن يطبق كحد أدنى الأحكام التالية:
1-1. الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر، يعامَلون في جميع الأحوال معاملة إنسانية، دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون، أو الدين أو المعتقد، أو الجنس، أو المولد أو الثروة أو أي معيار مماثل آخر.
ولهذا الغرض، تحظر الأفعال التالية فيما يتعلق بالأشخاص المذكورين أعلاه، وتبقى محظورة في جميع الأوقات والأماكن:
1-1-1. الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب؛
1-1-2. أخذ الرهائن؛
1-1-3. الاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة؛
1-1-4. إصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات دون إجراء محاكمة سابقة أمام محكمة مشكّلة تشكيلًا قانونيًا، وتكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة.
1-2. يُجمع الجرحى والمرضى ويعتنى بهم.
2. ويجوز لهيئة إنسانية غير متحيزة، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن تعرض خدماتها على أطراف النزاع.
3. وعلى أطراف النزاع أن تعمل فوق ذلك، عن طريق اتفاقات خاصة، على تنفيذ كل الأحكام الأخرى من هذه الاتفاقية أو بعضها.
4. وليس في تطبيق الأحكام المتقدمة ما يؤثر على الوضع القانوني لأطراف النزاع.
* رقمت الفقرات هنا تسهيلًا للإشارة إليها.
التحفظات أو الإعلانات
لا يوجد [1]
1. المقدمة
351 - من بين التطورات العديدة الهامة على ساحة القانون الدولي الإنساني التي شكلها إقرار اتفاقيات جنيف المؤرخة في 1949، تبرز المادة الثالثة على نحو خاص. فبالنص عليها، اتفقت الدول للمرة الأولى على تنظيم ما وصفته بعبارة "النزاعات المسلحة التي ليس لها طابع دولي" في إطار معاهدة دولية.[2] فالمادة 3 المشتركة تمثل واحدًا من أوائل أحكام القانون الدولي التي عالجت ما كانت الدول تعتبره آنذاك شأنًا داخليًا خالصًا. وهذه المادة مشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع.[3]
352 - وأثبتت العقود اللاحقة أهمية المادة 3 المشتركة. فرغم أن النزاعات الدولية المسلحة لا تزال تحدث، فإن الغالبية العظمى من النزاعات المسلحة الحديثة كانت ولا تزال ذات طابع غير دولي، كما أنها كانت ولا تزال تولد قدرًا من المعاناة لا يقل عن ذلك الذي نواجهه في حالات النزاعات الدولية المسلحة.[4]
353 - ومنذ عام 1949، تطور القانون المعني بالنزاع المسلح غير الدولي تطورًا كبيرًا، حيث أقرت الدول معاهدات إضافية تنظم ذلك النوع من النزاعات، لا سيما البروتوكول الإضافي الثاني المؤرخ في 1977، وعددًا من الصكوك الأخرى واجبة التطبيق في هذا النوع من النزاعات.[5] بالإضافة إلى ذلك، حددت دراسة أجرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر بشأن القانون الدولي الإنساني العرفي عددًا من القواعد العرفية واجبة التطبيق في النزاعات المسلحة غير الدولية.[6]
354 - ورغم هذه التطورات، تظل المادة 3 المشتركة هي قلب أحكام معاهدات القانون الإنساني المعني بتنظيم النزاعات المسلحة غير الدولية. وهذه المادة بحسبانها جزءًا من اتفاقيات جنيف المؤرخة في 1949 المصدق عليها عالميًا، هي المادة الوحيدة الملزمة عالميًا التي تحكم كل النزاعات المسلحة غير الدولية. وبمقارنة ذلك بالبروتوكول الإضافي الثاني نجد أنه لم يصدق عليه عالميًا، ونطاق تطبيقه أكثر محدودية دون أن يعدل، رغم ذلك، من الشروط الراهنة لتطبيق المادة 3 المشتركة.[7]
355 - والمادة 3 المشتركة مادة موجزة مصاغة بألفاظ عامة، مقارنة بعدد المواد المعنية بالنزاعات المسلحة الدولية، وتفصيل تلك المواد، في اتفاقيات جنيف.
356 - لاحظ المؤتمر الدبلوماسي لعام 1949 سمة المادة 3 المشتركة بشأن النزاعات التي ليس لها طابع دولي وهي أنها "اتفاقية مصغرة".[8] ومنذ ذلك الحين أصبح ينظر إلى السمة الأساسية لأحكام هذه المادة بأنها "معيار أدنى" ملزم في كل النزاعات المسلحة، وأنها إبراز "لاعتبارات إنسانية أساسية ".[9]
2. الخلفية التاريخية
357 - لم تكن النزاعات المسلحة غير الدولية ظاهرةً جديدةً عندما نظمتها المادة 3 المشتركة للمرة الأولى في عام 1949، فالنزاعات ذات الطابع الدولي أو غير الدولي على حد سواء لطخت التاريخ الإنساني ووضعت بصمتها على ملامحه منذ القدم.[10]
358 - ورغم ذلك، تناولت اتفاقية جنيف الأولى - اتفاقية جنيف لتحسين حال جرحى الجيوش العسكريين في الميدان المؤرخة في 1864- حصرًا النزاع المسلح بين الدول، أو "الحرب" تحريًا للدقة،[11] وحذا حذوها مراجعات الاتفاقية وكذا المعاهدات المعنية بمسائل إنسانية تتعلق بالحرب والتي توالى إقرارها تباعًا.[12] وجاء هذا النهج انعكاسًا للفهم السائد وهو أن المبادرة بالحرب وشنها كان ممارسةً لسلطة السيادة، وهي امتياز تتمتع به الدول، ولذا فمن الملائم أن ينظم القانون الدولي هذا الأمر. وعلى العكس من ذلك، كانت النظرة إلى العنف الذي لا يستند إلى امتياز السيادة أنه ينبو عن هذا الشكل من التنظيم.[13] فمعاملة هذا العنف على أنه "حرب"، وإخضاعه للقانون الدولي من شأنه أن يرفع– دون وجه حق- من شأن الوضع القانوني لمن يمارسونه.[14]
359 - ما ذكرناه آنفًا لا يعني أن الوعي بضرورة تنظيم جوانب بعينها من جوانب العنف الذي تنخرط فيه جماعات مسلحة من غير الدول كان غائبًا قبل إقرار المادة 3 المشتركة في عام 1949.[15] على سبيل المثال نصت [الاتفاقية بشأن حقوق وواجبات الدول في حالة الصراعات الأهلية المؤرخة في 1928] على قواعد تلتزم بها الدول الأطراف في حالة وقوع صراعات أهلية في دولة متعاقدة أخرى.[16] وعلاوة على ذلك، أحيانًا كانت الدول التي تواجه عنفًا مسلحًا داخليًا تبرم اتفاقات خاصة مع أطراف من غير الدول،[17] أو تصدر تعليمات أحادية الجانب إلى قواتها المسلحة، ومدونة ليبر الصادرة في 1863 مثال لافت للنظر على ذلك.[18]
360 - وعلاوة على ما سبق، تطور مفهوم الاعتراف بالتحارب خلال القرن التاسع عشر.[19] فبالاعتراف بأن بعض الأطراف من غير الدول لديه القدرة الفعلية على شن "حرب" على نطاق من شأنه أن يؤثر على مصالح دول غير أطراف في النزاع، حتى وإن افتقرت تلك الأطراف إلى الصفة القانونية لأن تفعل ذلك،[20] فالاعتراف بالتحارب جعل من الممكن تطبيق قواعد بعينها من قواعد القانون الدولي التي تحكم "الحرب" بين الدول في نزاعات مسلحة محددة تشترك فيها أطرافٌ من غير الدول – ونعني بذلك قانون الحياد بين الدول المتحاربة والدول المحايدة، وقوانين الحرب وأعرافها بين الدول المتحاربة.[21] وشريطة توافر شروط معينة في النزاع المسلح،[22] يعتبر جائزًا للدول من غير الأطراف في النزاع (بل يعتبر واجبًا عليها كما يرى بعض الكتاب)[23] أن تعترف بطرف النزاع من غير الدول "طرفًا محاربًا"، الأمر الذي يستوجب تطبيق قانون الحياد.[24]
361 - ومع ذلك، لم يكن لاعتراف الدول من غير أطراف النزاع بقيام حالة حرب آثارٌ قانونية على العلاقات بين أطرافه. فهذا الاعتراف لم يكن ليجعل قوانين الحرب الدولية وأعرافها واجبة التطبيق على ذلك النزاع، ولم يمكن أيضًا لينشئ التزامًا قانونيًا على الدولة الطرف في النزاع بأن تعترف بخصمها الداخلي محاربًا.[25] وكان للدولة الطرف في النزاع حرية أن تعترف أو لا تعترف بخصمها محاربًا؛ ولم يكن القانون الدولي لينطبق إلا إذا اختارت هي الاعتراف مخضعة النزاع بذلك إلى قوانين الحرب الدولية وأعرافها.[26] ولكن بمجرد أن ينتهي النزاع، لم يكن ينظر إلى اعتراف الدولة الطرف المنتصرة بالمتمردين طرفًا محاربًا على أنه مانع لها من معاملتهم معاملة الخونة ومن تطبيق قانونها الجنائي عليهم؛ فصفة الطرف المتحارب التي اكتسبت بالاعتراف فقدت بالهزيمة.[27] وكانت الممارسة العملية للدول تشير، مع بعض الاستثناءات،[28] إلى ترددها في الاستفادة من صك الاعتراف بالحرب، وعدم رغبتها في الاعتراف بقيام موقف مسوغ لتطبيق القانون الدولي داخل حدودها، بل ويتطلب تطبيقه، وأن ترفع من شأن الوضع القانوني لخصم داخلي. وعلاوة على ذلك، لم تكن الدول من غير الأطراف ترغب عادة في الإساءة إلى الدول الأخرى بالاعتراف بخصومها الداخليين محاربين، وكانت تفضل ألا تخضع نفسها لقيود قانون الحياد.[29]
362 - في البداية، كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مترددة أيضًا حيال اعتبار النزاعات المسلحة غير الدولية شاغلًا من الشواغل الإنسانية الدولية.[30] لكن في ضوء التجربة على أرض الواقع، أصبح واضحًا لناظري اللجنة الدولية للصليب الأحمر الحاجة في حالات النزاعات المسلحة غير الدولية إلى قواعد مماثلة وعلى نفس القدر من الملاءمة لتلك التي أرستها اتفاقية جنيف المؤرخة في 1864.[31] في عام 1912، قدمت جمعيتان من الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر إلى المؤتمر الدولي التاسع للصليب الأحمر تقريرين يناقشان دور الصليب الأحمر في حالات "الحرب الأهلية" و"التمرد".[32] لكن حالت المقاومة الشديدة من جانب بعض الدول دون طرحهما للنقاش التفصيلي والتصويت عليهما.[33]
363 - ورغم ذلك أقر المؤتمر الدولي العاشر للصليب الأحمر لعام 1921 قرارًا يعالج، من بين جملة أمور، اعتبارات إنسانية أثناء حالات "الحروب الأهلية".[34] ورغم أن هذا القرار ليس صكًا قانونيًا ملزمًا، فقد أكد على حق الصليب الأحمر، وواجبه، في تقديم المساعدة في حالات الحروب الأهلية والاضطرابات الثورية والاجتماعية. كما اعترف القرار بأن كل ضحايا الحروب الأهلية، أو ضحايا هذه الاضطرابات، يستحقون الإغاثة دون استثناء أيًا ما كان، وفقًا للمبادئ العامة للصليب الأحمر.[35]
364 - في عام 1938، تأكدت الخطوة المهمة التي اتخذت في القرار المؤرخ في 1921، عندما أقر المؤتمر الدولي السادس عشر للصليب الأحمر قرارًا إضافيًا، أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، يطلب فيه من اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن "تعتمد على خبرتها العملية في مواصلة الدراسة العامة للمشكلات التي تخلقها الحروب الأهلية فيما يتعلق بالصليب الأحمر، وأن تعرض نتيجة دراستها على المؤتمر الدولي التالي للصليب الأحمر".[36]
365 - حالت الحرب العالمية الثانية دون انعقاد المؤتمر الدولي للصليب الأحمر حسبما كان مقررًا لعقده في عام 1942. وبعد نهاية الحرب، وعلى خلفية تجارب الحرب الأهلية الإسبانية والحرب الأهلية اليونانية، أعادت اللجنة الدولية للصليب الأحمر النظر في المسائل الإنسانية التي تنشأ في النزاعات المسلحة غير الدولية باعتبار ذلك جزءًا من عملها في مراجعة اتفاقيات جنيف المؤرخة في 1929 واتفاقية لاهاي العاشرة المؤرخة في 1907، وصياغة اتفاقية جديدة معنية بحماية المدنيين في وقت الحرب.
366 - وفي عام 1946، عقدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر "المؤتمر التمهيدي للجمعيات الوطنية للصليب الأحمر لدراسة اتفاقيات جنيف ومختلف المشكلات المتعلقة بالصليب الأحمر". وبالنظر إلى مراجعة اتفاقية جنيف بشأن الجرحى والمرضى المؤرخة في 1929، اقترحت اللجنة أنه "في حالة قيام حرب أهلية داخل حدود دولة ما، يجب دعوة الخصوم لإعلان استعدادهم لتطبيق مبادئ الاتفاقية، تحت شرط مبدأ المعاملة بالمثل".[37]
367 - واختار المؤتمر التمهيدي نهجًا أكثر مباشرة بحذف شرط المعاملة بالمثل لوجوب تطبيق الاتفاقية كما ورد في مشروع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وإضافة افتراض تطبيقها. اقترح المؤتمر إدراج مادة في مستهل الاتفاقية تحدد نطاق تطبيقها اشتملت على الفقرة التالية:
في حالة قيام نزاع مسلح داخل حدود دولة ما، يجب أن يطبق الاتفاقية أيضًا كل طرف من الأطراف المعادية، إلا إذا أعلن أحدها صراحة نيته بما يخالف ذلك.[38]
368 - استرشد المؤتمر التمهيدي بفكرة مفادها "لن تغامر أي دولة أو جهة متمردة بالإعلان أمام العالم أجمع عن نيتها عدم الامتثال لقوانين الإنسانية التي يعترف العالم كله بقيمتها وجوهريتها".[39] وبالنسبة لاتفاقية جنيف بشأن أسرى الحرب المؤرخة في 1929، رأى المؤتمر أن "الأحكام التي تجسدها الاتفاقية ... يجب أن تطبق ...، من حيث المبدأ، في حالات الحروب الأهلية".[40]
369 - ناقش مؤتمر الخبراء الحكوميين المنعقد عام 1947 هذه الاقتراحات. أما عن مراجعة اتفاقيات جنيف المؤرخة في 1929 وصياغة اتفاقية جديدة بشأن المدنيين، فلقد اتفق المشاركون على حكمٍ اشتمل أيضًا على شرط تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل:
في حالة الحروب الأهلية، في أي جزء من وطن طرف متعاقد أو أرض يستعمرها، يجب أن يطبق الطرف المعني مبادئ الاتفاقية بنفس القدر، رهنًا بالتزام الطرف الخصم بها.[41]
370 - وفي التحضير للمؤتمر الدولي السابع عشر للصليب الأحمر في ستوكهولم عام 1948، صاغت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في إطار ذلك التحضير - الصيغة التالية للمادة 2(4) بحيث تدرج مستقبلًا في كل من الاتفاقيات التي روجعت أو في الاتفاقيات الجديدة:
في جميع حالات النزاعات المسلحة التي ليس لها طابع دولي، وعلى الأخص حالات الحرب الأهلية، أو النزاعات الاستعمارية، أو الحروب الدينية، التي قد تقوم على أرض دولة واحدة أو أكثر من الدول السامية المتعاقدة، يكون تنفيذ مبادئ الاتفاقية الماثلة ملزمًا لكل الخصوم. ولا يعتمد تطبيق الاتفاقية في هذه الظروف بأي شكل على الوضع القانوني لأطراف النزاع ويجب ألا يؤثر على ذلك الوضع.[42]
371 - بنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر استبعادها شرط تطبيق المعاملة بالمثل في مسودتها على رؤيتها أن هذا الشرط من شأنه أن "يهدر قيمة هذا النص، لأن أيًا من الأطراف يستطيع دائمًا الادعاء بأن خصمه قد أغفل بندًا معينًا من بنود الاتفاقية". ولقد وافق مؤتمر الخبراء الحكوميين لعام 1947 على الإيضاحات الجلية بشأن الوضع القانوني لأطراف النزاع بناءً على توصية قدمها أحد الوفود.[43]
372 - وبناءً على ذلك، أقر مؤتمر ستوكهولم مسودة المادة 2(4) التالية بخصوص إعادة النظر في اتفاقية جنيف بشأن الجرحى والمرضى، واتفاقية لاهاي العاشرة:
في كل النزاعات المسلحة التي ليس لها طابع دولي التي قد تقع في أرض طرف أو أكثر من الأطراف السامية المتعاقدة، يجب أن يلتزم كل من الخصوم بتنفيذ أحكام اتفاقيات جنيف. ويجب تطبيق الاتفاقية في هذه الظروف، أيًا كان الوضع القانوني لأطراف النزاع، ودون الإخلال بها.[44]
373 - فيما يتعلق بإعادة النظر في اتفاقية جنيف بشأن أسرى الحرب المؤرخة في 1929 وصياغة اتفاقية جديدة لحماية المدنيين، أضاف مؤتمر ستوكهولم شرط تطبيق المعاملة بالمثل كما يلي:
في كل النزاعات المسلحة التي ليس لها طابع دولي التي قد تقع في أرض طرف أو أكثر من الأطراف السامية المتعاقدة، يجب أن يلتزم كل من الأطراف بتنفيذ أحكام الاتفاقية الماثلة، شريطة أن يتصرف الطرف الخصم بالمثل طبقًا لها. ويجب تطبيق الاتفاقية في هذه الظروف أيًا كان الوضع القانوني لأطراف النزاع، ودون الإخلال بها.[45]
أضيف شرط تطبيق المعاملة بالمثل في مشاريع الاتفاقيات المعنية بأسرى الحرب والمدنيين نظرًا للرأي السائد القائل بأن السمة الإنسانية للاتفاقيات المعنية بالجرحى والمرضى والغرقى كفلت تطبيق أحكامها في النزاعات المسلحة غير الدولية حتى في حالة انتفاء المعاملة بالمثل، لكن لم يصدق ذلك على سائر الأحكام المعنية بأسرى الحرب والاتفاقيات الجديدة المعنية بالمدنيين، ومنها على وجه الخصوص الأحكام المعنية بالدول الحامية.[46] وفي نهاية المطاف جاء حذف أمثلة النزاعات المسلحة التي ليس لها طابع دولي التي ذكرها مشروع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ("على الأخص الحروب الأهلية، والنزاعات الاستعمارية، والحروب الدينية") استرشادًا بالرأي القائل بأن الإغراق في تفصيل الحكم أكثر مما ينبغي يحمل في طياته خطر إضعافه لاستحالة التنبؤ بكل الظروف في المستقبل، ولأن سمة النزاع المسلح التي يكتسي بها موقف ما مستقلة عن بواعثه.[47]
374 - وزعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مطلع عام 1949 على الدول عددًا من الملاحظات والمقترحات بشأن مشاريع الاتفاقيات تحضيرًا للمؤتمر الدبلوماسي المقرر انعقاده في جنيف في وقت لاحق من ذلك العام. وبالنظر إلى المادة 2(4) من مشروع تعديل اتفاقية جنيف لعام 1929 الخاصة بأسرى الحرب ومشروع اتفاقية المدنيين الجديدة، شددت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في هذه الاتفاقيات[48] أيضًا على اعتقادها بأنه "يظل من الأفضل حذف هذه العبارة" شريطة أن يتصرف الخصم بالمثل طبقًا لها".
375 - وأثناء المؤتمر الدبلوماسي، كان من الواضح، وكما سبق واتضح من المناقشات التي أدت بدورها إلى انعقاده، أن مسألة حل النزاعات المسلحة ذات الطابع غير الدولي كانت بحق واحدة من أصعب القضايا المطروحة على بساط البحث.
376 - أصبح الانقسام في موقف الدول في اجتماع اللجنة المشتركة ظاهرًا للعيان أثناء القراءة الأولى لمشروع المادة (2).[49] ولم يوافق بعض الدول على تضمين أي نصوص تنظم النزاعات المسلحة غير الدولية في اتفاقيات جنيف الجديدة، في حين حبذت دول أخرى تنظيم كل حالات النزاعات المسلحة غير الدولية، بينما اتفقت مجموعة ثالثة من الدول على ضرورة وجود بعض التنظيم، ولكن فضلت أن يقتصر فقط على حالات محددة تحديدًا قاطعًا.[50]
377 - شكلت لجنة خاصة وكلفت بالاضطلاع بمهمة إيجاد صيغة توافقية. وبعد الاتفاق بشأن المسألة الأساسية وهي ضرورة أن تعالج اتفاقيات جنيف الجديدة بصورة أو بأخرى النزاعات المسلحة غير الدولية، ركزت اللجنة الخاصة عملها على المقترحين التاليين:
1. تطبيق كل اتفاقيات جنيف على حالات خاصة فقط من النزاعات المسلحة غير الدولية؛
2. أو تطبيق أحكام معينة فقط من اتفاقيات جنيف على جميع النزاعات المسلحة غير الدولية.[51]
378 - شكلت اللجنة الخاصة فريق عمل[52] لدراسة هذين المقترحين. وقدم فريق العمل المشروع الأول الذي رأى تطبيق جميع أحكام اتفاقيات جنيف في النزاعات المسلحة غير الدولية باستثناء الأحكام الخاصة بالدول الحامية، في حالات محددة تحديدًا قاطعًا، وعند عدم توافر تلك الحالات تطبق المبادئ الإنسانية الأساسية من اتفاقيات جنيف بشكل عام.[53] بيد أن هذا الاقتراح لم يلقَ قبولًا من مؤيدي ومعارضي تنظيم النزاع المسلح غير الدولي على حد سواء.[54]
379 - قدم فريق العمل، استنادًا إلى ما تلقاه من ردود، المشروع الثاني في إصدارين منفصلين أولهما لتنقيح اتفاقيتي جنيف لعام 1929 واتفاقية لاهاي العاشرة [55] لعام 1907، وثانيهما الاتفاقية الجديدة لحماية الأشخاص المدنيين في وقت النزاع المسلح.[56]
380 - أثارت تلك المشروعات مجددًا عددًا من مقترحات التعديل،[57] من بينها اقتراح تقدم به الوفد الفرنسي دعا إلى هجر نهج التطبيق الكامل لاتفاقيات جنيف في حالات محددة تحديدًا قاطعًا من النزاعات المسلحة غير الدولية مع إخضاع النزاعات المسلحة غير الدولية الأخرى للمبادئ الإنسانية الأساسية فقط من اتفاقيات جنيف. وبدلًا من ذلك، أشار المشروع الفرنسي إلى أحكام مشروع ديباجة اتفاقية حماية المدنيين الذي أشار إلى معايير إنسانية محدودة،[58] لكن متميزة، يتعين تطبيقها في جميع حالات النزاع المسلح غير الدولي.[59]
381 - وعلى ذلك الأساس جرى تشكيل فريق عمل ثانٍ تابع للجنة الخاصة بغرض دراسة المقترح الفرنسي[60] وتقديم مشروع نص لإدراجه في اتفاقيات جنيف الأربع وهو ما كان بمثابة الأساس الذي بني عليه النص الذي أُقر في النهاية.[61]
382 - وأثناء اجتماع اللجنة الخاصة جرى التصويت على عدد كبير من مقترحات التعديل،[62] ونجحت اللجنة الخاصة في إحالة النص إلى اللجنة المشتركة التي أنهت بصورة تكاد أن تكون كاملة وضع الصياغة النهائية التي أُقرت في نهاية المطاف لتكون المادة 3.[63] كما نظرت اللجنة المشتركة في مشاريع أخرى، بما فيها مشروع قدمه وفد الاتحاد السوفيتي يدعو إلى تطبيق أحكام اتفاقيات جنيف في جميع النزاعات المسلحة غير الدولية ما دامت تخدم هدفًا إنسانيًا.[64] وفي النهاية حاز النص الذي أحالته اللجنة الخاصة إلى اللجنة المشتركة بأغلبية التصويت، وأُقر في نهاية الأمر بوصفه مشروعًا جديدًا للمادة (2)(أ) وعرض على الجلسة العامة للمؤتمر.[65]
383 - في التصويت النهائي في الجلسة العامة، أقرت 34 دولة مشروع المادة (2)(أ) مقابل 12 دولة عارضته وامتنعت دولة واحدة عن التصويت.[66] وفى تسلسل المواد التي جرى إقرارها، استقر مشروع المادة (2)(أ) ليكون المادة 3 المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربع.[67]
3. الفقرة 1: نطاق تطبيق المادة 3 المشتركة
3-1. المقدمة
384 - لم تورد المادة 3 المشتركة تعريفًا تفصيليًا لنطاق تطبيقها، ولم تتضمن أيضًا قائمة بمعايير تحديد الحالات التي اتجه القصد إلى تطبيقها عليها، بل نصت فقط على أنه "في حالة قيام نزاع مسلح ليس له طابع دولي في أراضي أحد الأطراف السامية المتعاقدة" فيجب على أطراف النزاع احترام أحكام بعينها.
385 - البساطة الظاهرة في صياغة المادة 3 المشتركة هي نتيجة تاريخ المفاوضات بشأنها.[68] وتراوحت مواقف الدول في المؤتمر الدبلوماسي لعام 1949 بين من يعارض فرض القانون الدولي أي قيود على حق الدول في الرد على العنف المسلح في إطار سيادتها، ومن يصمم بشدة على إخضاع النزاعات المسلحة غير الدولية لأكبر قدر ممكن من اتفاقيات جنيف. وكان من اللازم التوصل إلى حل وسط. ومن بين خيارين هما حصر الحالات الخاضعة للتنظيم في مجموعة فرعية محددة من النزاعات المسلحة غير الدولية أو اشتراط عدد من القواعد الملزمة في النزاعات المسلحة غير الدولية مع كفالة انطباقها على مجموعة واسعة من الحالات، اختارت الدول الأخير، ولكنها تركت المجال مفتوحًا أمام إبرام اتفاقات خاصة تسمح بتطبيق المزيد من قواعد اتفاقيات جنيف.[69]
386 - ورغم ذلك لم تأتِ الصياغة التي اتفق عليها بحلٍ للسؤال الملح بشأن نطاق تطبيق المادة 3 المشتركة. وربما يكون عدم الإفراط عن قصد في عرض تفاصيل تلك النقطة هو ما يسر إقرار المادة 3 المشتركة. ومع ذلك فإن وضوح نطاق تطبيقها هو أمر مهم لأن ثبوت وصف "نزاع مسلح غير ذي طابع دولي" أو انتفاءه يستتبع عواقب ذات أهمية. وفي هذا الصدد، من المفيد ملاحظة أن التوصيف الذي أوردته المادة 1 من البروتوكول الإضافي الثاني، بشأن "حالات الاضطرابات والتوتر الداخلية مثل الشغب وأعمال العنف العرضية النادرة وغيرها من أعمال ذات طبيعة مماثلة لا تعد نزاعات مسلحة" يعتبر توصيفًا دقيقًا لأغراض المادة 3 المشتركة.[70]
387 - إن حالة العنف التي تبلغ الحد الذي يجعلها "نزاعًا مسلحًا ليس له طابع دولي" هي تلك المواجهة بين أطراف منظمة بعنف يبلغ درجة معينة من الشدة. وتقدير توافر هذه الحالة يرتكز على الوقائع.
388 - وإذا وصلت حالة العنف إلى مرتبة النزاع المسلح غير الدولي، فإن انطباق المادة 3 المشتركة وأحكام القانون الدولي الإنساني الأخرى واجبة التطبيق على النزاع المسلح غير الدولي تضمن إخضاع أطراف النزاع لإلزام قانوني دولي يضمن أشكالًا معينة من الحماية الأساسية لضحايا النزاع ويضمن احترام القواعد في حالة تنفيذ الأعمال العدائية.[71] ومن المهم أن يخضع أطراف النزاع للقانون الإنساني سواء أكانت تلك الأطراف من الدول أم من غير الدول.[72] ولقد صيغت أحكام المادة 3 المشتركة بشأن نطاق التطبيق وأحكام أخرى من القانون الدولي الإنساني لتعالج تحديدا وقائع النزاع المسلح غير الدولي الأمر الذي يحدث اختلافًا جوهريًا في الحفاظ على حياة ضحايا النزاع وفي رعايتهم وحفظ كرامتهم.
389 - تحتوي المادة 3 المشتركة على قواعد تحد من إيقاع الضرر أو منعه في حالة النزاع المسلح غير الدولي، بيد أنها، في ذاتها، لا تقدم قواعد تضبط تنفيذ الأعمال العدائية. ومع ذلك عندما تنطبق المادة 3 المشتركة يكون مفهومًا أن أحكام القانون الدولي الإنساني الأخرى الخاصة بالنزاع المسلح غير الدولي، بما فيها القواعد التي تعالج تنفيذ الأعمال العدائية، تنطبق أيضًا. فعليه قد لا يكون ثم حاجة واضحة للنظر في وضع قيود ممكنة على نطاق تطبيق المادة 3 المشتركة، بيد أنه من المهم تطبيق القواعد واجبة التطبيق على النزاعات المسلحة في الأوضاع التي من أجلها صيغت.[73]
390 - وبناء على ذلك يجب ألا نترخص في تأكيد وجود حالة عنف تجاوزت حد "نزاع مسلح ليس له طابع دولي في أراضي أحد الأطراف السامية المتعاقدة" أو استبعاد وجودها. ويجب تطبيق معايير القانون الدولي الإنساني فقط في حالة النزاع المسلح الذي من أجله وضعت تلك المعايير وطورت، مع توخي الحرص في الموازنة بين اعتبارات الضرورة العسكرية والاعتبارات الإنسانية.
391 - تقييم نطاق تطبيق المادة 3 المشتركة له غرض آخر بمعزل عن مسألة ما إذا كانت حالة العنف قد تجاوزت الحد الفاصل للنزاع المسلح غير الدولي، ألا وهو تأكيد التمايز بين النزاعات المسلحة الدولية والنزاعات المسلحة غير الدولية. ومازال هناك عناصر مهمة في القانون الدولي الإنساني تحكم النزاعات المسلحة الدولية وليس لها ما يقابلها في القانون الدولي الإنساني واجب التطبيق على النزاعات المسلحة غير الدولية، رغم التطور الكبير الذي شهده القانون الدولي الإنساني العرفي واجب التطبيق على النزاعات المسلحة غير الدولية منذ عام 1949. لم ينص القانون الدولي الإنساني الذي يحكم النزاعات المسلحة غير الدولية بوجه خاص على وضع أسرى الحرب كما خلا من نظام مماثل لنظام قانون الاحتلال. ولذلك فإن التمايز بين النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية له أهمية متواصلة.
392 - يجب الإشارة إلى عدم وجود سلطة مركزية في ظل القانون الدولي معنية بتحديد وتصنيف حالة ما على أنها حالة نزاع مسلح. وعلى الدول وأطراف النزاع تحديد الإطار القانوني الذي ينطبق على تنفيذ عملياتهم العسكرية. وتقدر اللجنة الدولية للصليب الأحمر الوقائع بصورة مستقلة، وتصنف الحالات بصورة منتظمة لأغراض عملها. وتلك المهمة كامنة في الدور المنتظر من اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تنهض به بمقتضى اتفاقيات جنيف وحسبما نصت عليه قوانين حركة الهلال الأحمر والصليب الأحمر الدولية.[74] وقد يكون من المتعين أيضا على الجهات الفاعلة الأخرى مثل الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية تصنيف الحالات لأغراض أعمالها، ويصدق القول أيضًا على المحاكم الوطنية والدولية بغية ممارسة اختصاصها. وفي كل الأحوال لا بد من أن يبنى التصنيف على أساس من حسن النية استنادًا إلى الوقائع والمعايير ذات الصلة طبقًا للقانون الإنساني.[75]
3-2. في حالة قيام نزاع مسلح ليس له طابع دولي
3-2-1. أطراف النزاعات المسلحة غير الدولية
3-2-1-1. عام
393 - ترتكز المادة 3 المشتركة على وصف سلبي وهو أنها واجبة التطبيق على النزاعات المسلحة التي "ليس لها طابع دولي"، والنزاعات المسلحة التي "ليس لها طابع دولي" هي تلك النزاعات التي يكون أحد أطرافها على الأقل من غير الدول. وهذا الفهم يدعمه سياق المادة 3 المشتركة التي تأتي عقب المادة 2 المشتركة واجبة التطبيق على النزاعات المسلحة بين الدول أي النزاعات المسلحة الدولية. ويختلف المجال الذي تطبق فيه المادة 3 المشتركة عن ذلك الذي تطبق فيه المادة 2 المشتركة التي تتناول النزاعات المسلحة بين الدول.[76] ولذلك فإن النزاعات المسلحة التي ليس لها طابع دولي هي أولًا وقبل كل شيء نزاعات مسلحة بين حكومة دولة طرف وطرف أو أكثر من غير الدول.[77] وكان ذلك هو نوع النزاعات المسلحة غير الدولية الذي تركزت عليه المناقشات أثناء مفاوضات المادة 3 المشتركة.[78]
394 - بالإضافة إلى ما تقدم، من المقبول على نطاق واسع أن النزاعات المسلحة غير الدولية حسب مفهوم المادة 3 المشتركة تضم أيضًا النزاعات المسلحة التي لا تنطوي على دولة طرف، بما يعني النزاعات المسلحة فيما بين مجموعات مسلحة من غير الدول فقط.[79] ومع ذلك فمن الجدير بالملاحظة أن البروتوكول الإضافي الثاني لا ينطبق على تلك النزاعات،[80] إلا أن هذا لا يغير من نطاق تطبيق المادة 3 المشتركة.[81] ولقد أكدت الدول بإقرارها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998، مجددًا على أن النزاع القائم فقط بين مجموعات مسلحة مختلفة ولا تشترك فيه أي دولة من الممكن أن يرقى أيضًا إلى مصاف النزاعات المسلحة غير الدولية.[82]
3-2-1-2. حالات خاصة
395 - مفهوم النزاعات المسلحة غير الدولية من منظور المادة 3 المشتركة بحسبانها النزاعات التي يكون أحد أطرافها على الأقل طرفًا من غير الدول يمكن من التمييز بوضوح بين النزاعات المسلحة الدولية والنزاعات المسلحة غير الدولية. ومع ذلك قد تنشأ حالات لا يكون فيها هذا المفهوم واضحًا بنفس القدر.
396 - تعالج معاهدات القانون الدولي الإنساني ذاتها حالات معينة. وطبقًا للمادة 1(4) من البروتوكول الإضافي الأول، تتضمن النزاعات المسلحة الدولية في ضوء المادة 2 المشتركة من اتفاقيات جنيف أيضًا ما يلي:
النزاعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير، كما كرسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقًا لميثاق الأمم المتحدة.
397 - وبشأن الدول الأطراف في البروتوكول، ينطبق القانون الإنساني الذي يحكم النزاعات المسلحة الدولية على تلك النزاعات.[83]
398 - الحالات التي لا يتضح فيها ما إذا كان النزاع المسلح ذا طابع دولي أو غير دولي هي تلك التي تنخرط فيها إحدى الدول مع كيان صفة الدولة فيه محل شك. واستنادًا إلى صفة ذلك الكيان دولة أم غير دولة، تتحدد دولية النزاع وهو ما يجعل قانون النزاع المسلح الدولي أو غير الدولي واجب التطبيق.[84] وبشكل عام لم تقدم المادة 3 المشتركة أو القانون الإنساني إجابة عن السؤال المتعلق باعتبار كيان ما دولة أو لا طبقًا للقانون الدولي؛ حيث إن قواعد القانون الدولي العام هي التي تحدد المعايير ذات الصلة.[85] طُرح السؤال حول ما إذا كانت الكيانات المنخرطة في النزاع دولًا أم غير دول، على سبيل المثال، أثناء النزاعات في يوغوسلافيا السابقة في بداية تسعينيات القرن العشرين، تلك النزاعات التي أدت إلى استقلال كرواتيا، والبوسنة والهرسك.[86] وهذه الحالة وغيرها بينت إمكانية تحول أي نزاع مسلح غير دولي إلى نزاع مسلح دولي والعكس صحيح.
399 - بالإضافة إلى ما تقدم، عندما تكون دولة طرفًا في نزاع ضد كيان ما قد يكون حكومة دولة أخرى أو لا فقد يكون من غير الواضح أيضًا ما إذا كان النزاع ذا طابع دولي أم غير دولي. فعلى عكس الحالة المذكورة أعلاه، فالعنصر غير المؤكد ليس هو صفة الدولة، إنما يكون السؤال عما إذا كان خصم الدولة الأولى هو حكومة الدولة الثانية. ولم يقدم القانون الإنساني إرشادًا في تقرير ما إذا كان كيان ما هو حكومة دولة، بل رهن تقدير ذلك بقواعد القانون الدولي العام. وطبقًا للقانون الدولي، فإن الشرط الأساسي لوجود حكومة هو فعاليتها، أي قدرتها على ممارسة المهام التي تسند عادة إلى الدولة، بشكل فعال وذلك في حدودها الإقليمية، لا سيما حفظ القانون والنظام.[87] وبعبارة أخرى، الفعالية هي القدرة على الاضطلاع بمهام الدولة داخليًا وخارجيًا، أي العلاقة بالدول الأخرى. وإذا كان الكيان المعني هو الحكومة يكون النزاع المسلح دوليًا بين دولتين ممثلتين في حكومة كل منهما. أما إذا لم يكن حكومة فيكون النزاع غير دولي، شريطة وصول النزاع إلى الحد الفاصل للنزاع المسلح غير الدولي بطبيعة الحال.[88]
400 - برز هذا السؤال على سبيل المثال بشأن العملية العسكرية التي أطلقتها دول حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة في أكتوبر عام 2001 في أفغانستان. واستنادًا إلى الاعتبارات السابقة، صنفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر المرحلة الأولية من العملية على أنها نزاع مسلح دولي بين التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ونظام طالبان في أفغانستان الذي كان يسيطر في ذلك الوقت على 90% تقريبًا من أراضيها. وبعد تأسيس حكومة أفغانية جديدة في حزيران/ يونيو عام 2002 من خلال لويا جيرغا (المجلس الأعلى)، أعادت اللجنة الدولية للصليب الأحمر تصنيف الموقف على أنه نزاع مسلح غير دولي دائر بين الحكومة الأفغانية الجديدة المدعومة من دول حلف شمال الأطلسي من جهة، ونظام طالبان وجماعات مسلحة أخرى من غير الدول من جهة أخرى.[89]
401 - ومع ذلك صنفت بعض الدول المشاركة ذلك النزاع تصنيفًا مختلفًا تراوح بين نزاعٍ مسلح دولي في البداية،[90] إلى عملية تحقيق استقرار، قد تتضمن مهمة حفظ سلام، وهو ما يجعل الوضع كله غير معترف به على الدوام باعتباره نزاعًا مسلحًا (دولي كان أم غير دولي).[91]
3-2-1-3. اشتراك دولة أجنبية واحدة أو أكثر في نزاع مسلح غير دولي
402 - قد يتعقد أيضًا نزاع مسلح ما، دولي أم غير دولي، عندما تنضم دولة أجنبية أو أكثر إلى نزاع مسلح غير دولي. فقد تنضم دولة أجنبية في نزاع وتحارب لصالح حكومة دولة طرف في النزاع أو لصالح جماعة مسلحة من غير الدول. وفي حالة اشتراك عدة دول أجنبية، فمن المتصور كذلك أن تحارب دولة أو أكثر لدعم الحكومة، بينما تحارب دولة أو أكثر لدعم الجماعة المسلحة من غير الدول.
403 - نظرًا للطبيعة المركبة لتلك التصورات، اقترح البعض أن أي اشتراك عسكري من جانب دولة أجنبية في نزاع مسلح غير دولي (أي أنها تحارب لدعم طرف ما) يجعل النزاع كله دوليًا، ما من شأنه أن يجعل القانون الإنساني الذي يحكم النزاعات المسلحة الدولية واجب التطبيق على العلاقات بين جميع الأطراف المتعادية.[92] وذلك النهج اقترحته اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مؤتمر الخبراء الحكوميين المؤرخ في 1971، لكنه رُفض.[93]
404 - وبدلًا من ذلك النهج، لقي نهج تمييزي قبولًا واسعًا حيث يفرق بين الحالة التي تحارب فيها الدولة الخارجية دعمًا للدولة الطرف في النزاع، والحالة التي تحارب فيها دعمًا للجماعة المسلحة.[94] في الحالة الأولى، يحتفظ النزاع المسلح بطابعه غير الدولي لأنه يظل مواجهة بين جماعة مسلحة من غير الدول وسلطات الدولة. وفي الحالة الثانية، يظل النزاع الأصلي بين الجماعة المسلحة من غير الدول والدولة الطرف أيضًا غير دولي من حيث الطابع (ما لم تمارس الدولة المتدخلة درجة معينة من السيطرة على الجماعة المسلحة).[95] وفي الوقت ذاته، ينشأ في الحالة الثانية نزاع موازٍ بين الدولة الأجنبية المتدخلة والدولة الطرف في النزاع المسلح الأصلي، لأنه في ذلك المثال تكون المواجهة بين دولتين. وأخيرًا، عندما تتدخل عدة دول أجنبية لصالح أي من أطراف النزاع المسلح غير الدولي الأصلي، يعتمد الطابع الدولي أو غير الدولي لكل من العلاقات الثنائية في النزاع على ما إذا كانت الأطراف المتعادية تتكون من دولٍ فقط أم أنها تضم جماعات مسلحة من غير الدول. وتتبع اللجنة الدولية للصليب الأحمر أيضًا هذا النهج اليوم.[96]
405 - ورغم أن ذلك النهج التمييزي دقيق قانونيًا، فقد أشير إلى عدم سهولة تطبيقه أحيانًا على أرض الواقع.[97] فعلى سبيل المثال، في نموذج النزاع المسلح الدولي والنزاع المسلح غير الدولي المتوازيان الذي يظهر بعد تدخل دولة أجنبية لدعم جماعة مسلحة من غير الدول من أطراف النزاع المسلح الأصلي، تنطبق أنظمة قانونية مختلفة على الأشخاص الذين حرمتهم الجماعة المسلحة من غير الدول أو الدولة المتدخلة من حريتهم. وحسب الوضع القانوني لهؤلاء الأشخاص، تخضع الدولة المتدخلة لالتزام معاملتهم بموجب اتفاقيتي جنيف الثالثة أو الرابعة، في حين تلتزم الجماعة المسلحة من غير الدول بالقانون الذي ينظم النزاعات المسلحة غير الدولية فقط.
3-2-1-4. سيطرة دولة أجنبية متدخلة على جماعة مسلحة من غير الدول طرف في النزاع
406 - تنشأ حالة لها خصوصيتها عندما لا يقف الأمر عند مجرد انضمام دولة أجنبية إلى مجموعة مسلحة من غير الدول ولكن يمتد إلى سيطرة الدولة على الجماعة فعليًا في نزاعها المسلح أمام القوات المسلحة لدولة أخرى. وفي تلك الحالة، لن يكون هناك نزاع مسلح دولي وآخر غير دولي متوازيان، ولكن نزاع دولي فقط بين الدولة المتدخلة والدولة الإقليمية حتى وإن كانت إحداهما تعمل عن طريق مجموعة مسلحة من غير الدول. وأثارت مسألة مستوى سيطرة الدولة الأجنبية على الجماعة المسلحة من غير الدول اللازم لجعل نزاع مسلح ما دوليًا جدلًا واسعًا.[98]
407 - في عام 1999، في قضية تاديتش، اعتمدت دائرة استئناف المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة على القانون الدولي لمسؤولية الدول لتسترشد في تلك المسألة.[99] وفي قرار محكمة العدل الدولية الصادر في قضية نيكاراجوا عام 1986، حددت المحكمة مستويين محددين من السيطرة بغرض إسناد فعل تمارسه مجموعة من غير الدول إلى دولة أجنبية لأغراض تحديد مسؤولية الدول، وهذان المستويان هما: اعتماد الجماعة المسلحة من غير الدول اعتمادًا تامًا على الدولة وذلك لإسناد أي من أعمالها إلى تلك الدولة؛ أو السيطرة الفعلية للدولة على عمليات محددة وذلك لإسناد الأعمال المرتكبة أثناء تلك العمليات إلى الدولة.[100] وفي ضوء تلك الخلفية، وضعت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة معيار "السيطرة الإجمالية" لدولة ما على جماعة مسلحة من غير الدول لأنه كان يلائم أمثل ملاءمة تصنيف النزاعات إلى نزاعات دولية ونزاعات غير دولية، ويلائم كذلك أغراض إسناد المسؤولية إلى الدولة.[101] وطبقًا لهذا المعيار، فإن ما يلزم لنشوء نزاع مسلح دولي، وليتأتى إسناد أفعال جماعة مسلحة من غير الدول إلى دولة ما، هو درجة من السيطرة تتخطى "مجرد تمويل وتجهيز" الدولة المتدخلة للجماعة المسلحة "بل أيضًا تتضمن المساهمة في تخطيط عملياتها العسكرية والإشراف عليها"، لكن لا يلزم "أن تمتد تلك السيطرة إلى إصدار أوامر أو تعليمات معينة بشأن فرادى الأعمال العسكرية".[102]
408 - وفي حكم محكمة العدل الدولية الصادر في قضية تطبيق اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها عام 2007، أشارت المحكمة إلى أنه "ما دام معيار "السيطرة الإجمالية" قد استخدم لتحديد ما إذا كان نزاع ما نزاعًا دوليًا أم غير دولي، ... فمن المرجح أن يكون ذلك المعيار ممكن التطبيق ومناسب". ورغم ذلك لم توافق محكمة العدل الدولية على معيار "السيطرة الإجمالية" عند إسناد الأعمال غير المشروعة إلى الدولة.[103]
409 - ولتصنيف حالة ما وفقًا للقانون الإنساني تنطوي على علاقة وثيقة، إن لم تكن علاقة تبعية، بين جماعة مسلحة من غير الدول ودولة ليست طرفًا في النزاع ، يكون معيار السيطرة الإجمالية مناسبًا، لأن مفهوم السيطرة الإجمالية يعكس بشكل أفضل العلاقة الواقعية بين الجماعة المسلحة والدولة غير الطرف في النزاع، بما في ذلك لغرض إسناد الأفعال. يشير هذا المعيار إلى أن الجماعة المسلحة قد تكون تابعة للدولة حتى إن لم تكن تتلقى تعليمات خاصة محددة لكل عمل من أعمال الحرب. وإضافة إلى ما تقدم يمكن اللجوء إلى معيار السيطرة الإجمالية من تقدير مستوى السيطرة على الكيان بحكم الواقع (de facto) أو الجماعة المسلحة من غير الدول ككل بما يسمح بإسناد عدة أفعال إلى الدولة التي ليست طرفًا في النزاع.[104] والاستناد إلى معيار السيطرة الفعلية، من الجهة الأخرى، قد يتطلب إعادة تصنيف النزاع مع كل عملية، وهو أمر غير عملي. وعلاوة على ذلك، يجب أن يتفادى المعيار المستخدم إنتاج حالة يحكم فيها قانون النزاع المسلح الدولي بعض الأفعال في حين لا يمكن إسنادها إلى الدولة.
410 - لا يحظى هذا الموقف في الوقت الحالي بالقبول من قبل الكافة. حيث قررت محكمة العدل الدولية أنه من الممكن استخدام معيار السيطرة الإجمالية لتصنيف نزاع ما، لكن يظل معيار السيطرة الفعلية هو معيار إسناد فعل ما إلى إحدى الدول، دون أن توضح كيفية عمل المعيارين معًا.[105]
3-2-1-5. القوات متعددة الجنسيات في النزاعات المسلحة غير الدولية
411 - ليس هناك أحكام في القانون الدولي الإنساني تمنع الدول أو المنظمات الدولية التي ترسل قوات متعددة الجنسيات[106] من أن تصبح أطرافًا في نزاع مسلح إذا ما توافرت الشروط التقليدية لانطباق ذلك القانون.[107] ويستند وجوب تطبيق القانون الإنساني على القوات متعددة الجنسيات فقط، كما هي الحال تجاه الأطراف الفاعلة الأخرى، إلى الظروف القائمة على أرض الواقع دون النظر إلى الولاية الدولية التي يسندها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى تلك القوات، أو التوصيف المعطى للأطراف التي من المحتمل أن تواجهها. ويعتمد هذا التحديد على الوفاء بشروط قانونية محددة منشؤها قواعد القانون الإنساني ذات الصلة بهذه الحالة، ألا وهي المادة 3 المشتركة في حالة النزاعات المسلحة غير الدولية.
412 - وبالتالي فإن تصنيف تلك القوات أو كيفية تشكيلها، سواء كانت قوات حفظ سلام تعمل وفقًا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أم قوات متعددة الجنسيات تعمل بموجب ولاية ممنوحة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو دونها، هو أمر غير ذي بال. فإذا كانت القوات قد شاركت فعليًا في أعمال عدائية جماعية وصلت إلى الحد الفاصل الذي ينشأ معه نزاع مسلح غير دولي في مواجهة جماعة مسلحة أو أكثر، فإن المنظمة الدولية التي أرسلت قوة متعددة الجنسيات أو الدول التي شكلت تلك القوة قد تصبح طرفًا (أو أطرافًا) في النزاع.[108]
413 - ونظرًا للخلفية الدولية للقوات متعددة الجنسيات، اقترح البعض أن أي نزاع تشترك فيه تلك القوات، وتنخرط في أعمال مكافئة لتلك التي ينخرط فيها أحد أطراف النزاع، هو نزاع مسلح دولي، بصرف النظر عما إذا كانت تلك القوات تقاتل ضد الدولة أو ضد جماعة مسلحة من غير الدول.[109] لكن قد يثور السؤال عن مدى ملاءمة ذلك التدويل التلقائي للنزاع، خاصةً عندما تصبح القوات المتدخلة مشتركة في الأعمال العدائية في مواجهة جماعات مسلحة من غير الدول فقط.[110] ووفقًا لرأي آخر، وهو الرأي الذي تتبناه اللجنة الدولية للصليب الأحمر،[111] فإن تقدير الطابع الدولي أو غير الدولي لنزاع مسلح تصبح قوات متعددة الجنسيات مشاركة فيه يتبع ذلك النهج التمييزي المستخدم في حالة تدخلات فرادى الدول الأجنبية.[112] وعليه، فإن ما يحدد سمة نزاع مسلح ما من حيث الدولية هو صفة الأطراف المتنازعة: دول أم غير الدول. وبناءً على ذلك، لا تسبغ صفة الدولية على نزاع مسلح تشترك فيه قوات متعددة الجنسيات إلا إذا كان ذلك الاشتراك ضد دولة، ودون تأثير على الطابع غير الدولي للنزاع المسلح الأصلي الموازي بين تلك الدولة وجماعة مسلحة من غير الدول. وعلى العكس، عندما تحارب القوات متعددة الجنسيات لدعم دولة طرف في النزاع ضد جماعة مسلحة من غير الدول يحكم قانون النزاعات المسلحة غير الدولية العلاقات بين الأطراف المتحاربة.[113]
3-2-2. الحد الفاصل للنزاع المسلح غير الدولي
3-2-2-1. المقدمة
414 - العنف المسلح الذي يدور بين أطراف فاعلة من غير الدول وسلطات حكومية أو بين عدة أطراف فاعلة غير حكومية ليس ظاهرة غريبة. فسيطرة الدولة على العنف داخل حدودها وحفظ القانون والنظام واستعادتهما عند الضرورة بممارستها الاحتكار المشروع لاستخدام القوة المكفول لها تحقيقًا لهذا الغرض هو جزء من دورها.[114] ويقدم القانونان المحلي والدولي، وخاصة قانون حقوق الإنسان الدولي والإقليمي، حسب ما يقتضي الأمر، الإطار الذي يجوز لدولة ما أن تمارس فيه هذا الحق.
415 - وفي حالات العنف الذي يدور بين جماعات مسلحة من غير الدول وسلطات حكومية، أو بين عدة جماعات مسلحة من غير الدول، يكون السؤال الأساسي هو ما هي النقطة التي يصبح عندها ذلك العنف نزاعًا مسلحًا غير دولي خاضعًا للقانون الإنساني؟
416 - ويختلف الحد الفاصل الذي يصبح عنده العنف نزاعًا مسلحًا غير دولي عن الحد الفاصل للنزاعات المسلحة الدولية. ففي حالة النزاعات المسلحة الدولية، يكون "اللجوء إلى قوة مسلحة بين الدول" كافيًا لجعل القانون الإنساني واجب التطبيق في الحال بين تلك الدول.[115] بيد أنه ليس بالضرورة أن تكون حالة العنف التي لا يمكن وصفها بأنها نزاع مسلح دولي لأن أحد أطرافه من غير الدول نزاعًا مسلحًا غير دولي. واختلاف هذين الحدين الفاصلين ينتج عن ميل الدول إلى التحرز من تنظيم القانون الدولي شؤونها المحلية أكثر من ميلها نحو عدم تنظيم القانون ذاته علاقاتها الخارجية مع دول أخرى ذات سيادة. وكانت تلك هي الحال بالتأكيد عند إقرار المادة 3 المشتركة.[116]
417 - ويذكر بيكتيه في تعليقه على اتفاقية جنيف الأولى الصادر عام 1952، في إشارة إلى غياب تعريف لمصطلح "نزاع مسلح ليس له طابع دولي":
تخوف الكثير من الوفود من احتمالية استخدامه ليغطي أي عمل يرتكب بقوة السلاح - أي شكل من أشكال الفوضى، أو الثورة، أو حتى مجرد قطع الطريق. على سبيل المثال، إذا قام عدد قليل من الأفراد بثورة ضد الدولة وهاجموا مركز الشرطة، فهل هذا كافٍ لينشئ نزاعًا مسلحًا في إطار معنى المادة؟"[117]
تلك المخاوف المتعلقة بالسيادة تساعد في تفسير ارتفاع الحد الفاصل لوجوب تطبيق القانون الإنساني في النزاعات المسلحة غير الدولية عنه في النزاعات المسلحة الدولية.
418 - وتجدر الإشارة، رغم ما تقدم، إلى أنه عندما جرى التفاوض بشأن البروتوكول الإضافي الثاني وإقراره عام 1977 وضعت الدول له نطاق تطبيق ضيق نسبيًا، وذلك دون إدخال تغيير في نطاق تطبيق المادة 3 المشتركة.[118]
419 - وقد أوردت التعليقات على اتفاقيات جنيف التي نشرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر تحت الإشراف العام على التحرير من جانب جان بيكتيه في الفترة من 1952 إلى 1960 قائمة بعدد من "المعايير الملائمة" لتقدير انطباق المادة 3 المشتركة.[119] وكما أشارت تلك التعليقات، فقد انبثقت تلك "المعايير الملائمة" من "مختلف التعديلات التي جرت مناقشتها" أثناء المؤتمر الدبلوماسي الذي عقد عام 1949، نظرًا لأن "تلك الشروط المختلفة، رغم أنها ليست إلزامية على الإطلاق، تشكل معايير ملائمة" و"مفيدة بوصفها وسيلة لتمييز النزاعات المسلحة الحقيقية عن مجرد أعمال الخروج على القانون أو العصيان غير المنظم وقصير الأجل".[120]
420 - بيد أن تلك "المعايير الملائمة" هي مجرد معايير إرشادية،[121] ومردها إلى اقتراحات التعديلات التي قُدمت أثناء المؤتمر الدبلوماسي الذي عقد عام 1949، حين كان التطبيق الكلي لاتفاقيات جنيف على النزاعات المسلحة غير الدولية لا يزال على بساط البحث، وليس مجرد تطبيق بعض الأحكام التي تمثل حدًا أدنى في المادة 3 المشتركة بالصيغة التي أُقرت بها في نهاية المطاف. ولذلك اقترحت الدول المعايير المذكورة لغرض تقييد نطاق تطبيق المادة 3 المشتركة المستقبلية في ضوء الواجبات شديدة التفصيل والشاقة التي ستقع على كاهل جميع الأطراف حال تطبيق اتفاقيات جنيف كلها على النزاعات المسلحة غير الدولية.[122] وبما إن المادة 3 المشتركة بصيغتها التي أُقرت بشكل نهائي قد هجرت فكرة التطبيق الكامل لاتفاقيات جنيف على النزاعات المسلحة غير الدولية في مقابل النص على نطاق تطبيق متسع، لم تكيف كل تلك المعايير لتلائم تمامًا المادة 3 المشتركة.[123] غير أن "المعايير الملائمة" قد تدل قطعًا حال تحققها على وجود نزاع مسلح غير دولي.
421 - ومع مرور الوقت، تحقق الآن لاثنين من المعايير التي سردها بيكتيه في تعليقاته الاعتراف بهما على نطاق واسع بأنهما الأكثر ملاءمة لتقدير وجود النزاع المسلح غير دولي، ألا وهما:
وجوب أن يبلغ العنف قدرًا معينًا من الحدة وأن يدور على الأقل بين طرفين منظمين أو جماعتين مسلحتين منظمتين. وبالتالي، يجب تقدير وجود النزاع المسلح غير الدولي طبقًا لهذين المعيارين تحديدًا.
3-2-2-2. تنظيم أطراف النزاع ودرجة حدته
422 - تقدم صياغة المادة 3 المشتركة توجيهًا أوليًا بشأن الحد الفاصل لتطبيقها: فلكي تنطبق يجب أن يكون هناك "نزاع" "مسلح" ليس له طابع دولي تنخرط فيه "أطرافه". وهذا يشير إلى أن تطبيق المادة 3 المشتركة يتطلب بالضرورة وجود حالة عنف تصل إلى مستوى معين من الحدة تلجأ فيها إلى السلاح جماعات مسلحة من غير الدول بإمكانها أن تصبح أطرافًا في نزاع مسلح.[124]
423 - وقد أعربت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن فهمها للنزاع المسلح غير الدولي فهمًا يرتكز على الممارسة وتطورات السوابق القضائية الدولية على النحو التالي:
النزاعات المسلحة غير الدولية هي مواجهات مسلحة متطاولة الأجل تقع بين قوات مسلحة حكومية وقوات جماعة مسلحة أو أكثر، أو تنشأ بين جماعات مسلحة في إقليم إحدى الدول [الأطراف في اتفاقيات جنيف]. ويجب أن تصل المواجهة المسلحة إلى حد أدنى من الحدة وأن تظهر الأطراف المنخرطة في النزاع حدًا أدنى من التنظيم.[125]
424 تعريف النزاعات المسلحة غير الدولية على أنها "عنف مسلح متطاول الأجل بين سلطات حكومية وجماعات مسلحة نظامية أو بين تلك الجماعات"، بالإضافة إلى معياري التحديد المتمثلين في كل من "الحدة" و"التنظيم"، وهما من الأمور التي طالما أظهرتها على نطاق واسع ممارسات مؤسسات أخرى غير اللجنة الدولية للصليب الأحمر،[126] فضلًا عن تجليها أيضًا في ممارسات الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف.[127]
425 - تحدد هذان المعياران مبكرًا منذ عام 1962، حين نظرت لجنة خبراء دعتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر لدراسة مسألة تقديم المعونة الإنسانية إلى ضحايا النزاعات المسلحة الداخلية مسألة الحد الفاصل لوجوب تطبيق المادة 3 المشتركة.[128] وفي عام 1979 لاحظ أحد ثقات الباحثين مؤكدًا من جديد على وجوب توافر درجة معينة من حدة الأعمال العدائية وتنظيم الأطراف بحسبانهما من العناصر المرشدة أن:
الممارسة هي التي أرست المعايير التالية للتمييز بين النزاعات المسلحة غير الدولية والاضطرابات الداخلية. ففي المقام الأول، يجب أن ترتكب الأعمال العدائية بقوة السلاح وأن تُظهر درجة من الحدة تضطر معها الحكومة بوصفها سلطة الحكم إلى استخدام قواتها المسلحة ضد المتمردين وليس قواتها الشرطية فحسب. وثانيًا، فيما يخص المتمردين، فإن الأعمال العدائية يجب أن تكون ذات طابع جماعي، أي يجب ألا تنفذها جماعات منفردة. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن يُظهر المتمردون حدًا أدنى من التنظيم، وأن تكون قواتهم المسلحة تحت قيادة مسؤولة وأن تكون قادرة على الوفاء بالقدر الأدنى من المتطلبات الإنسانية.[129]
426 - وفي التسعينيات من القرن العشرين، أسهمت الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا إسهامًا كبيرًا في إيضاح تعريف النزاعات المسلحة غير الدولية أو المعايير الأساسية لتحديدها. ولكي تتمكن المحكمتان من ممارسة اختصاصهما بشأن الانتهاكات الجسيمة وجرائم الحرب الأخرى، كان عليهما تحديد ما إذا كانت الحالات التي زعم ارتكاب جرائم فيها تشكل نزاعات مسلحة أم لا، وإذا كان الأمر كذلك، تحديد ما إذا كانت تلك النزاعات ذات طابع دولي أم غير دولي.[130]
427 - خلصت دائرة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، في قرارها بشأن الاختصاص في قضية تاديتش عام 1995، إلى أن معيار النزاع المسلح غير الدولي يتحقق "كلما كان هناك ... عنف مسلح متطاول الأجل بين سلطات حكومية وجماعات مسلحة منظمة، أو بين تلك الجماعات داخل الدولة".[131] وواصلت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، في حكمها الصادر في نفس القضية عام 1997، تطوير هذا النهج حيث قضت بأن "المعيار الذي تطبقه دائرة الاستئناف ... يركز على جانبين من النزاع ... وهما حدة النزاع وتنظيم أطرافه".[132] وفيما بعد، تأكدت تلك الاستنتاجات من جديد في السوابق القضائية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الجنائية الدولية.[133] وعلى نحو ما أشارت إليه المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، فإن "تحديد حدة النزاع وتنظيم الأطراف هما مسألتان تتمحوران حول الوقائع يتعين البت فيهما في ضوء أدلة محددة ولكل حالة على حدة".[134]
428 - يتوافق النهج الذي طوره الفقه الجنائي الدولي مع تفسير اللجنة الدولية للصليب الأحمر لمفهوم "النزاعات المسلحة التي ليس لها طابع دولي" طبقًا للمادة 3 المشتركة. ويوفر فقه المحاكم الدولية مزيدًا من العناصر التي تفيد في فهم مضمون تلك المعايير.
429 - أولًا، فيما يتعلق بمعيار "التنظيم"، من المفترض أن تكون القوات المسلحة التابعة للدولة منظمة. ولكي تكون جماعة مسلحة من غير الدول منظمة بالشكل الكافي حتى تصبح طرفًا في نزاع مسلح غير دولي، يجب أن تمتلك قوات مسلحة نظامية. "ويجب أن تخضع [تلك القوات] لهيكل قيادة محدد، وأن يكون لديها القدرة على أن تحافظ على استمرار العمليات العسكرية".[135] بالإضافة إلى ذلك، "لا يقتضي الأمر أن تكون الجماعة على نفس مستوى تنظيم القوات المسلحة الحكومية، غير أنها لا بد وأن يتوافر لديها مستوى معين من التسلسل الهرمي والانضباط والقدرة على تنفيذ الالتزامات الأساسية للقانون الدولي الإنساني".[136]
430 - حددت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بعض العوامل الدلالية في سبيل تقدير مستوى التنظيم اللازم للجماعة المسلحة من غير الدول، ورغم ذلك أوضحت أن أيًا من تلك العوامل ليس ضروريًا، في ذاته، لتحديد مدى استيفاء معيار "التنظيم":
تتضمن تلك العوامل الدلالية: وجود هيكل قيادي وقواعد وآليات تأديبية داخل الجماعة؛ ووجود مقرات للقيادة، وسيطرة الجماعة فعليًا على إقليم محدد؛ وقدرة الجماعة على الحصول على الأسلحة وغيرها من المهمات العسكرية ومجندين وتلقي التدريب العسكري؛ وقدرتها على تخطيط العمليات العسكرية وتنسيقها وتنفيذها ولا سيما تحركات القوات وإمداداتها؛ وقدرتها على وضع استراتيجية عسكرية موحدة واستخدام الأساليب العسكرية؛ وقدرتها على توحيد كلمتها، وعلى التفاوض وإبرام الاتفاقات مثل اتفاقات وقف إطلاق النار أو اتفاقات السلام.[137]
431 - ثانيًا، قد تتحقق الدرجة المطلوبة من الحدة "حين تكون الأعمال العدائية ذات طابع جماعي أو حين تضطر الحكومة إلى استخدام القوة العسكرية ضد المتمردين بدلًا من القوات الشرطية فحسب".[138] وفي ضوء ذلك، من المفهوم أن المادة 1(2) من البروتوكول الإضافي الثاني التي تنص على أنه "لا يسري هذا اللحق (البروتوكول) على حالات الاضطرابات والتوتر الداخلية مثل الشغب وأعمال العنف العرضية النادرة وغيرها من الأعمال ذات الطبيعة المماثلة التي لا تعد منازعات مسلحة"، كما تضع الحد الأدنى لانطباق المادة 3 المشتركة.[139] وقد أكدت ممارسات الدول هذا التفسير حيث اختارت الإشارة إلى المادة 3 المشتركة والمادة 1(2) من البروتوكول الإضافي الثاني مجتمعتين فيما يتعلق بالمعاهدات الأخرى واجبة التطبيق على النزاعات المسلحة غير الدولية.[140]
432 - وضعت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عددًا من "العوامل الدلالية" التي يمكن استخدامها في تقدير حدة النزاع، وتشمل:
خطورة الهجمات وما إذا كان هناك زيادة في الاشتباكات المسلحة، وانتشار الاشتباكات عبر الإقليم على مدى فترة زمنية، والزيادة في عدد القوات الحكومية وتعبئة الأسلحة وتوزيعها بين أطراف النزاع، وما إذا كان النزاع قد استرعى انتباه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وما إذا كانت قرارات قد صدرت بشأن هذه المسالة. وقد راعت الدوائر الابتدائية في هذا الصدد عدد المدنيين الذين أُرغموا على الفرار من مناطق القتال؛ ونوع الأسلحة المستخدمة وبخاصة الأسلحة الثقيلة وغيرها من المعدات العسكرية مثل الدبابات والمركبات الثقيلة الأخرى؛ ومحاصرة المدن أو تطويقها وقصفها قصفًا كثيفًا؛ ومدى الدمار وعدد الإصابات الناجمة عن القصف والمعارك؛ وحجم القوات والوحدات المنتشرة؛ ووجود خطوط للمواجهة بين الأطراف وتغيرها؛ واحتلال أراضٍ ومدن وقرى؛ ونشر قوات حكومية في منطقة الأزمة؛ وإغلاق الطرق؛ وأوامر واتفاقات وقف إطلاق النار، ومحاولة ممثلي المنظمات الدولية التوسط وإنفاذ اتفاقات وقف إطلاق النار.[141]
433 - وعلى نحو ما أكدته المحاكم، فمؤشرات الحدة والتنظيم سالفة الذكر ليست سوى أمثلة من الممكن أن تجتمع في حالة معينة، وإن لم يكن من الضروري اجتماعها، حتى نخلص إلى تحقق معياري الحدة والتنظيم في حالة بعينها.
434 - في جميع الأحوال، يجب أن يجتمع معيارا الحدة والتنظيم كي تبلغ حالة العنف مرتبة النزاعات المسلحة غير الدولية. ويبدو أنه من الممكن، استنادًا إلى الظروف، استخلاص بعض الاستنتاجات من أحد المعيارين تؤدي إلى استنتاج تحقق المعيار الآخر. فعلى سبيل المثال، قيام مواجهات مسلحة على درجة عالية من الحدة بين سلطات الدولة والجماعات المسلحة من غير الدول أو بين عدة جماعات مسلحة من غير الدول، هو أمر قد يستدل منه على أن تلك الجماعات قد بلغت حد التنظيم المطلوب الذي تصبح معه أطرافًا في نزاع مسلح غير دولي.
435 - وخلاصة القول فإن حدة النزاع ومستوى تنظيم الخصوم المقدران على أساس التفسير الشامل لمختلف المؤشرات الواقعية هما عاملان حاسمان في تلك الحالات. كما أن بدء الإشارة إلى ذينك المعيارين بعد فترة وجيزة من إقرار المادة 3 المشتركة، والتأكيد من جديد على تبلورهما على مر السنين، يؤكد على دورهما الحاسم في رسم الحد الفاصل لتطبيق المادة 3 المشتركة. ومع ذلك ثمة حالات يصعب فيها أيما صعوبة تفسير هذين المعيارين.
436 - وفي ضوء ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن التطورات التكنولوجية تثير تساؤلًا عما إذا كانت العمليات السيبرانية يمكن أن ترقى إلى مستوى النزاعات المسلحة غير الدولية، شأنها في ذلك شأن النزاعات المسلحة الدولية، وفي أي نقطة يحدث ذلك الارتقاء.[142] وتطبق نفس المعايير الخاصة بالعنف الحركي عند تقدير وجود نزاع مسلح غير دولي ينطوي على عمليات سيبرانية.[143] وإذا توافر شرطا التنظيم والحدة الكافيان في الحالات التي تنطوي على عمليات سيبرانية أو تستند حصرًا إليها، فإن تلك الحالات تدخل في نطاق المادة 3 المشتركة.
437 - تنشأ تحديات معينة عند تطبيق معايير التصنيف المستقرة على العمليات السيبرانية. أولًا، الجماعات المسلحة من غير الدول المنظمة تنظيمًا يكفي لأن تصبح طرفًا في نزاع مسلح غير دولي تقليدي، يمكن أن تصبح طرفًا في نزاع ينطوي على عمليات سيبرانية أو يستند حصرًا إليها. ورغم ذلك، فالجماعات التي تنظم نفسها عبر الإنترنت فقط قد يكون من الصعب – إن لم يكن من غير المستحيل[144] – تقدير ما إذا كانت قد استوفت الحد الأدنى للتنظيم المطلوب حتى تصبح طرفًا في نزاع مسلح غير دولي.[145] ثانيًا، إذا أفضت العمليات السيبرانية إلى "نفس العواقب العنيفة التي تفضي إليها العمليات الحركية، أي إذا استخدمت على سبيل المثال لفتح بوابات السدود أو التسبب في اصطدام الطائرات أو القطارات"،[146] فإنها تصل إلى درجة الحدة اللازمة لأن تصبح نزاعًا مسلحًا غير دولي. وفي المقابل قد لا يكون لبعض العمليات السيبرانية تأثير مماثل لتأثير الهجمات الحركية ولكنها تقتصر على إعاقة وظائف الإنترنت أو استغلال الشبكات أو سرقة البيانات أو حذفها أو إتلافها. وإذا كانت العمليات السيبرانية لا تنطوي إلا على النوع الأخير من الأفعال، فمن غير المرجح الوصول إلى درجة حدة العنف التي يقتضي القانون الإنساني توافرها.[147]
3-2-2-3. هل تشكل المدة الزمنية معيارًا مستقلًا؟
438 - استخدام مصطلح "عنف مسلح متطاول الأجل" في بعض التعريفات يثير مسألة ما إذا كانت المدة الزمنية للأعمال العدائية التي تقع بين السلطات الحكومية وجماعات مسلحة من غير الدول أو بين تلك الجماعات يشكل معيارًا إضافيًا مستقلًا لتحديد وجود نزاع مسلح غير دولي من عدمه.
439 - المدة الزمنية للأعمال العدائية تناسب على وجه الخصوص تقدير الأعمال بعد وقوعها، أثناء سير الإجراءات القضائية على سبيل المثال. ومن حيث التطبيق العملي للقانون الإنساني، يمكن لوجود شرط المدة الزمنية المستقل أن يؤدي في المقابل إلى حالة من عدم اليقين بشأن مدى انطباق القانون الإنساني خلال المرحلة الأولية من القتال بين الأطراف التي يُتوقع منها احترام القانون أو يؤدي إلى تأخر التطبيق في الحالات التي تكون القوة التنظيمية للقانون الإنساني مطلوبة فيها فعلًا في وقت مبكر.
440 - وعلى ذلك، تعتبر المدة الزمنية للأعمال العدائية ملائمة لأن تصبح من بين عوامل تقدير حدة المواجهات المسلحة. ورغم ذلك فقد تصل الأعمال العدائية قصيرة الأجل، في حالة بعينها واستنادًا إلى الظروف، إلى مستوى حدة النزاعات المسلحة غير الدولية إذا كان ثم مؤشرات أخرى على أعمال عدائية على درجة كافية من الحدة تستلزم ذلك التقدير وتبرره.[148]
441 - في هذا الصدد أشارت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، التي أوضحت أنها تفسر الفترة الزمنية بحسبانها مؤشرًا على حدة المواجهات المسلحة، إلى أنه:
بناءً على ذلك، جرى تفسير معيار العنف المسلح متطاول الأجل عمليًا، ولا سيما من جانب دائرة محاكمة تاديتش، على أنه يشير بقدر أكبر إلى حدة العنف المسلح وليس إلى مدته الزمنية. واستندت الدوائر الابتدائية إلى عوامل دلالية ذات صلة بتقدير معيار "الحدة"، وليس من بين تلك العوامل ما هو أساسي في حد ذاته لإثبات تحقق المعيار. وتتضمن تلك العوامل الدلالية: عدد المواجهات المنفردة ومدتها الزمنية ودرجة حدتها.[149]
442 - ورغم ذلك فقد أشارت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة إلى وجوب عدم إغفال المدة الزمنية للمواجهات المسلحة عند تقدير ما إذا كانت الأعمال العدائية قد وصلت إلى مستوى حدة نزاع مسلح غير دولي أم لا:
يتعين توخي الحرص عند تقدير حدة النزاع حتى لا يختفي من أمام أعيننا شرط العنف المسلح المتطاول في حالة النزاع المسلح الداخلي، فالمعايير مترابطة ارتباطًا وثيقًا، وهي أمور مرتبطة بالواقع يجب تحديدها في ضوء توافر دليل محدد ولكل حالة على حدة.[150]
443 - التفاوض بشأن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وإقراره عام 1998 أتاحا للدول فرصةً جديدةً لتناول مسألة تعريف النزاع المسلح غير الدولي أو معاييره الأساسية لا سيما طول المدة الزمنية الذي يجب أن تبلغه المواجهات المسلحة لتصبح نزاعًا مسلحًا غير دولي. أقرت الدول مادة واحدةً تحكم جرائم الحرب تعكس ما جاءت به المادة 3 المشتركة، وهي المادة 8(2)(ج) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ومادة واحدة تختص بجرائم الحرب تدرج انتهاكات جسيمة أخرى لقوانين الحرب، وهي المادة 8(2)(د) من نفس النظام الأساسي. فبالنظر إلى المادة 8(2)(ج)، أعادت الدول النص على نطاق تطبيق المادة 3 المشتركة، وكل ما غيرته هو أن أضافت بغية التوضيح استثناء الاضطرابات والتوترات الداخلية اللذان تنص عليهما المادة 1(2) من البروتوكول الإضافي الثاني.[151] ونطاق التطبيق الذي أقرته الدول بشأن قائمة جرائم الحرب الأخرى التي تنص عليها المادة 8(2)(ه) مشمول في المادة 8(2)(و) التي تنص على أنها:
تنطبق علي النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي وبالتالي فهي لا تنطبق على حالات الاضطرابات والتوترات الداخلية، مثل أعمال الشغب أو أعمال العنف المنفردة أو المتقطعة أو غيرها من الأعمال ذات الطبيعة المماثلة. وتنطبق على النزاعات المسلحة التي تقع في إقليم دولة عندما يوجد صراع مسلح متطاول الأجل بين السلطات الحكومية وجماعات مسلحة منظمة أو فيما بين هذه الجماعات.
444 - وبعد إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ظهر تساؤل حول ما إذا كان هذا النص قد أنشأ نوعًا مختلفًا من النزاعات المسلحة غير الدولية أم لا.[152] فلقد فسر البعض الإشارة إلى "صراع مسلح متطاول الأجل" على أنها تنشئ نوعًا جديدًا من النزاعات المسلحة غير الدولية يتوسط بين ما تنص عليه المادة 3 المشتركة وما ينص عليه البروتوكول الإضافي الثاني.[153] بينما رأى آخرون أن المادة 8(2)(و) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لم تقدم تصورًا لشكل جديد من النزاعات المسلحة غير الدولية، فاستخدام عبارة "صراع مسلح متطاول الأجل" حقق الغرض منه وهو تفادي إضافة المعايير المقيدة التي ينص عليها البروتوكول الإضافي الثاني إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بما يقدم للدول صيغة توفيقية مستوحاة من السوابق القضائية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.[154] لم تؤيد الأحكام الأولى الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية وجود نوعين مختلفين من النزاعات المسلحة غير الدولية بموجب المادتين 8(2)(ج) و8(2)(ه) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.[155] ولتأكيد وجود نزاع مسلح غير دولي، اضطر المدعي العام إلى أن يثبت أن الجماعات المسلحة تظهر درجة كافية من التنظيم تمكنها من تنفيذ مواجهات مسلحة متطاولة الأجل.[156] ولقد رفضت هذه الدوائر الابتدائية بوضوح شرطا سيطرة جماعة مسلحة على جزء من الأراضي أو خضوعها لقيادة مسؤولة، وهما شرطان مستمدان من المادة 1(1) من البروتوكول الإضافي الثاني، حسب انطباقه بموجب المادة 8(2)(ه) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.[157] وإضافة إلى ما تقدم، فبما أن المادة 8(2)(و) تنص على ضرورة ألا تكون أعمال العنف متقطعة أو منفردة انتبهت الدوائر الابتدائية إلى حدة النزاع المسلح.[158] ومن أجل تقدير حدة النزاع استخدمت المحكمة الجنائية الدولية عوامل مشابهة لتلك التي استخدمتها الدوائر الابتدائية التابعة للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، حيث أوضحت أن حدة الأعمال العدائية المسلحة واتصاف الجماعات المسلحة بالتنظيم هما المعياران اللازمان لتقدير وجود نزاع مسلح ليس له طابع دولي.
3-2-2-4. مشاركة قوات مسلحة إضافية في نزاعٍ مسلحٍ غير دولي قائم
445 - كما ذُكر أعلاه، قد تصبح قوات مسلحة متعددة الجنسيات أو قوات مسلحة أجنبية مجتمعة أو متفرقة طرفًا في نزاعٍ مسلحٍ عند مشاركتها في عملية سلام.[159] فعندما يتعلق الأمر بعمليات السلام بشأن نزاع مسلح غير دولي، ترى اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنه لا يلزم دائمًا تقدير ما إذا كانت أعمال القوات المتعددة الجنسيات، في حد ذاتها، تصل إلى مستوى الحدة اللازم لنشوء نزاع مسلح غير دولي جديد حتى تصبح تلك القوات أطرافًا فيه. قد يكون هذا هو الوضع على سبيل المثال في الحالات التي يقع فيها نزاع مسلح غير دولي بين حكومة دولة وجماعة مسلحة من غير الدول مع دعم القوات الأجنبية الحكومة أو عندما تكون قوات متعددة الجنسيات مشتركة فعليًا في نزاعٍ مسلحٍ غير دولي ضد جماعة مسلحة من غير الدول، وتقدم قوات أجنبية إضافية دعمًا للقوات المتعددة الجنسيات. وقد يشهد تصور ثالث اشتراك قوات متعددة الجنسيات في نزاع مسلح غير دولي تتلقى من بعض الفرق الوطنية دعمًا لا يصل إلى المشاركة في التنفيذ الجماعي للعمليات العدائية. وفي الحالتين الأخيرتين، فإن الدول التي ترسل تلك القوات قد تصبح أطرافًا في النزاع المسلح غير الدولي، ويتوقف ذلك على الوظيفة (الوظائف) التي تؤديها. ويرجع هذا إلى أن ذلك المعيار قد استوفي بالفعل بوجود نزاع مسلح غير دولي تشارك فيه تلك الدول.[160]
446 - من المهم التأكيد على أن ذلك النهج المتبع لتحديد أطراف النزاع المسلح غير الدولي هو نهج يكمل، ولا يحل محل، عملية تقدير وجوب تطبيق القانون الإنساني استنادًا إلى معايير تنظيم الأطراف وحدة الأعمال العدائية. وعلاوة على ذلك، فإن أفعال أو أشكال المشاركة أو أشكال الدعم المشار إليها لا تؤدي كلها إلى أن تصبح القوات متعددة الجنسيات أطرافًا في نزاعٍ مسلحٍ غير دولي قائم فعلًا. والعنصر الحاسم هنا هو مشاركة تلك القوات في التنفيذ الجماعي للأعمال العدائية بحيث تكون الأنشطة التي تشارك بها ذات أثر مباشر على قدرة الطرف الخصم في تنفيذ عمليات عسكرية، تلك هي الأنشطة التي تحول القوات المتعددة الجنسيات إلى طرف في نزاع مسلح غير دولي قائم فعلًا. وعلى العكس من ذلك، الأنشطة التي تمكن الطرف المستفيد من مشاركة القوات المتعددة الجنسيات من بناء قدراته أو إمكانياته العسكرية ليس من شأنها أن تؤدي إلى نفس النتيجة. ومع ذلك عبر البعض عن مخاوف حيال هذا النهج.[161]
3-2-2-5. هل الغرض المحدد معيار إضافي؟
447 - قد تظهر مسألة أخرى وهي هل تؤدي معايير إضافية، أي إلى جانب حدة النزاع وتنظيم الجماعة (الجماعات) غير المسلحة، دورًا في تحديد ما إذا كانت حالة العنف ترقى إلى نزاعٍ مسلحٍ غير دولي، وليست مجرد حالة إجرامية عادية، حتى وإن كان العنف حادًا والجماعة جيدة التنظيم؟
448 - أشير إلى الغرض السياسي على وجه التحديد بوصفه خصيصة مميزة للنزاعات المسلحة غير الدولية.[162] ودار نقاش أثناء المفاوضات بشأن المادة 3 المشتركة حول تضمين أغراض بعينها لتكون عناصر ضرورية في النزاعات المسلحة غير الدولية. غير أن الدول لم تعتمد المقترحات في هذا الصدد.[163]
449 - وعلى مر السنين رُفض صراحةً اعتبار الغرض من المشاركة في أعمال العنف معيارًا لتحديد ما إذا كانت حالة العنف ترقى إلى نزاعٍ مسلحٍ غير دولي أم لا. ذهبت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة إلى ما يلي:
يعتمد تحديد وجود نزاع مسلح من عدمه على معيارين فقط وهما: حدة النزاع، ومدى تنظيم الأطراف، وعليه يصبح غرض القوات المسلحة من المشاركة في أعمال عنف أو من تحقيق غرض إضافي أمرًا غير ذي صلة بذلك التحديد.[164]
450 - ويجب ملاحظة أن اقتراح الدافع السياسي بوصفه شرطًا أساسيًا لاعتبار نزاعٍ ما نزاعًا مسلحًا غير دولي قد يفتح الباب أمام مجموعة من الأسباب التي تستند إلى دوافع أخرى بهدف إنكار وجود تلك النزاعات المسلحة.[165] بالإضافة إلى ذلك، قد يصعب عمليًا تحديد دوافع جماعة مسلحة من غير الدول. فعلى سبيل المثال، ما يمكن اعتباره أهدافًا سياسية قد يكون مثيرًا للجدل؛ وقد تتراصف دوافع غير سياسية مع أخرى سياسية؛ وقد تكون الأنشطة غير السياسية في الواقع وسيلة لتحقيق أهداف سياسية.[166]
451 - ترى اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن الإجابة عن السؤال عما إذا كانت حالة العنف ترقى إلى نزاعٍ مسلحٍ غير دولي لا تعتمد إلا على معياري الحدة والتنظيم.[167]
3-3. نطاق التطبيق الجغرافي
3-3-1. المقدمة
452 - تصبح المادة 3 المشتركة واجبة التطبيق بمجرد التأكد من قيام نزاع مسلح غير دولي استنادًا إلى صفة الأطراف المشاركة ودرجة حدة النزاع وتنظيم الأطراف. لكن يدور بعض الجدل بشأن نطاق التطبيق الجغرافي للقانون الإنساني الذي يحكم النزاعات المسلحة غير الدولية طبقًا للوصف الوارد في المادة 3 المشتركة.
453 - بالإضافة إلى ذلك، عندما تتخطى الأعمال العدائية حدود دولة واحدة، يثور السؤال حول ما إذا كان الموقع الجغرافي للأحداث يؤثر على تصنيف الحالة نزاعًا مسلحًا غير دولي.
454 - وبسبب التطورات التي أرستها الممارسة، اكتسبت مثل تلك الأسئلة أهمية كبيرة وخصوصًا فيما يتعلق بالمسائل المعنية باستخدام القوة. وهذه المسائل موضوع مناقشة استمرت حتى وقت كتابة هذا التعليق.[168]
3-3-2. النزاعات المسلحة غير الدولية "الداخلية
455 - استقر الفهم بشأن النزاعات المسلحة غير الدولية ولا يزال ذات الفهم قائمًا بشكل رئيسي على أنها تلك النزاعات التي تنشب داخل حدود دولة واحدة، أي النزاعات المسلحة "الداخلية".[169] وانطباق المادة 3 المشتركة، وبشكل أعم القانون الإنساني الذي يحكم النزاعات المسلحة غير الدولية، على النزاعات المسلحة غير الدولية الداخلية ليس محل جدال.
456 - لكن ثار التساؤل بشأن مدى انطباق القانون الإنساني: هل ينطبق في إقليم الدولة المعنية بالكامل أم يقتصر انطباقه على المناطق التي تقع فيها الأعمال العدائية؟ ففي المناطق التي تقل فيها الأعمال العدائية داخل دولة ما وتفصل بين أماكن وقوعها مسافات كبيرة، أو حتى المناطق التي لا تنفذ فيها أعمال عدائية، قد يبدو مدى انطباق القانون الإنساني أمرًا محل تساؤل. فهناك شاغل بشأن عدم انطباق القانون الإنساني، وعلى الأخص القواعد التي تنظم تنفيذ الأعمال العدائية، في المناطق التي لا تقع فيها تلك الأعمال حتى وإن كانت تلك المناطق تقع داخل الدولة التي يقع فيها نزاع مسلح. ففي المناطق التي تنعم بالسلام مقارنة بمناطق النزاع المسلح في تلك الدولة، من شأن نظامي القانون الجنائي للدولة وإنفاذ القانون، في حدود الأطر التي تحددها قوانين حقوق الإنسان الدولية والإقليمية واجبة التطبيق، أن يوفرا إطارًا قانونيًا كافيًا.[170]
457 - لكن صياغة المادة 3 المشتركة تشير إلى أنه بمجرد قيام نزاع مسلح غير دولي، فإنها تنطبق في جميع أنحاء أرض الدولة المعنية: "تحظر الأفعال التالية فيما يتعلق بالأشخاص المذكورين أعلاه، وتبقى محظورة في جميع الأوقات والأماكن".
458 - وفي عام 1995، أشارت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية تاديش إلى ما يلي:
67- ... النطاق الزمني والجغرافي للنزاعات المسلحة الداخلية والدولية يمتد متجاوزًا حدود زمان ومكان وقوع الأعمال العدائية...
...
69- المستفيدون من المادة 3 المشتركة من اتفاقيات جنيف هم أولئك الذين لا يشاركون مشاركة نشطة (أو توقفت مشاركتهم النشطة) في الأعمال العدائية. وهذا يدل على أن القواعد التي تنص عليها المادة 3 المشتركة تنطبق أيضًا خارج النطاق الجغرافي الضيق للمسرح الفعلي لعمليات القتال. ...
70- ... في حالة النزاعات الداخلية يستمر انطباق القانون الدولي الإنساني في كل أرض الدول المتحاربة أو في كامل الأرض التي تقع تحت سيطرة طرف ما سواء دار فيها قتال فعلي أو لم يدر.[171]
459 - بمجرد تخطي النزاع الحد الفاصل للنزاع المسلح غير الدولي في دولة ما، يمكن بشكل عام اعتبار أن انطباق المادة 3 المشتركة وأحكام القانون الإنساني الأخرى التي تحكم النزاعات المسلحة غير الدولية يمتد ليشمل كامل أرض الدولة المعنية.[172]
460 - ورغم ما سبق ذكره، فوجوب تطبيق القانون الإنساني في كامل أرض طرفٍ في النزاع لا يعني أن كل الأفعال التي ترتكب على هذه الأرض تخضع بالضرورة لنظام القانون الإنساني. وحسبما ذكرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، يجب أن يرتبط فعل ما "ارتباطًا وثيقًا بالأعمال العدائية التي تحدث في أجزاء أخرى من الأراضي التي تقع تحت سيطرة أطراف النزاع" حتى يصبح ذلك الفعل حلقة في سياق النزاع المسلح وحتى ينطبق عليه القانون الإنساني.[173] وعليه يتطلب وجوب تطبيق القانون الإنساني على فعل معين، قيام صلة محددة تربط ذلك الفعل بالنزاع المسلح غير الدولي. أما الأفعال التي تفتقر إلى تلك الصلة فتظل بوجه عام خاضعة حصرًا للقانون الجنائي وإنفاذ القانون الوطنيين، وذلك في إطار الحدود الواردة في قانون حقوق الإنسان الدولي والإقليمي.[174]
461 - وعلاوة على ما سبق، إذا وقع فعل ما، أو أنتج أثره، في مناطق تنعم بالسلام مقارنة بغيرها من المناطق في إحدى الدول، فمن شأن ذلك الفعل أن يقع بصفة عامة ضمن نطاق تطبيق القانون الإنساني وذلك اتساقًا مع الاعتبارات التي نوقشت أعلاه. وتبقى محل تساؤل، في كل تصور بعينه، النقاط المتعلقة بالمعايير القانونية واجبة التطبيق. ويتعين أيضًا، في كل حالة على حدة، تقرير ما إذا كان استخدام القوة بشكل محدد، يخضع بالضرورة لقانون تنفيذ الأعمال العدائية، أو لنظام إنفاذ القانون المستند إلى قانون حقوق الإنسان.[175]
462 - كانت هذه المسائل موضوع بعض المناقشات.[176] وفي حالات الأعمال العدائية الفعلية، تحكم قواعد القانون الإنساني المنظمة لتنفيذ الأعمال العدائية استخدام أطراف النزاع للقوة المسلحة ضد أهداف مشروعة.[177] ولكن الحالة تكون أقل وضوحًا من ناحية استخدام القوة ضد أفراد معزولين يعتبرون عادة أهدافًا مشروعة طبقًا للقانون الدولي الإنساني، بيد أنهم موجودون في مناطق تخضع للسيطرة المحكمة والمستقرة للدولة حيث لا تقع فيها أعمال عدائية، كما أنه من غير المتوقع منطقيًا أن يتيسر للخصم تلقي تعزيزات فيها.
463 - لم يحسم القانون بعد هذه المسألة، ولكن ظهر عدد من التفسيرات القانونية المختلفة التي يمكن تصنيفها تصنيفًا فضفاضًا حسب أربعة آراء. طبقًا لأولها، تحكم قواعد القانون الإنساني التي تنظم تنفيذ الأعمال العدائية الحالة المذكورة أعلاه دون قيود باستثناء تلك التي تنص عليها قواعد محددة من القانون الإنساني.[178] واستنادًا إلى الرأي الثاني، تحكم التوصية التاسعة الواردة في "الدليل التفسيري لمفهوم المشاركة المباشرة في العمليات العدائية بموجب القانون الدولي الإنساني" الصادر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر استخدام القوة في تلك الحالة.[179] وتنص تلك التوصية، بالإضافة إلى التعليق عليها، على أنه في المناطق التي تنعم بقدر من السلام مقارنة بغيرها في دولة ما "يجب ألا يتجاوز نوع ودرجة القوة المسموح باستخدامها ضد أشخاص لا يتمتعون بالحماية من الهجمات المباشرة ما هو ضروري فعلًا لتحقيق غرض عسكري مشروع في ضوء الظروف السائدة".[180] لكن من وجهة نظر أخرى، فإن الإطار القانوني الذي ينطبق في كل حالة يجب أن يحدد لكل حالة على حدة أخذًا في الاعتبار كل الظروف.[181] وأخيرًا نجد وجهة النظر القائلة بأنه في تلك الظروف يحكم استخدام القوة قواعد إنفاذ القانون المستندة إلى قواعد حقوق الإنسان.[182]
464 - يلاحظ أن تطبيق أي من الآراء الثلاثة الأخيرة من شأنه أن يؤدي في الواقع إلى نتائج متماثلة.
3-3-3. النزاعات المسلحة غير الدولية غير المحدودة بأرض دولة واحدة
465 - كما أشرنا أعلاه، لقد كان المفهوم الشائع والتقليدي للنزاعات المسلحة غير الدولية، ولا يزال، هو أنها نزاعات مسلحة ضد جماعات مسلحة من غير الدول، أو فيما بين تلك الجماعات، داخل حدود دولة ما، أي نزاع مسلح "داخلي".[183] لكن يثير ذلك تساؤلًا حول ما إذا كان الاقتصار على أرض دولة واحدة شرطًا لأن يكون النزاع المسلح المعني غير دولي حسب مفهوم المادة 3 المشتركة.
466 - نرى للوهلة الأولى أن صياغة المادة 3 المشتركة تشترط ذلك القيد: فهي لا تذكر النزاعات المسلحة "التي ليس لها طابع دولي" فقط،[184] وإنما تشترط أن تقع النزاعات المسلحة "في أراضي أحد الأطراف السامية المتعاقدة". وقد تفسر هذه العبارة على أن النزاع يجب أن يقع داخل أرض "واحد" من الأطراف السامية المتعاقدة على وجه التحديد، ما يقصر تطبيق المادة 3 المشتركة على النزاعات المسلحة "الداخلية". بينما يؤكد تفسيرٌ آخر على وجوب أن يقع النزاع في أرض واحد من "الأطراف السامية المتعاقدة"، مستثنيًا بذلك فقط النزاعات التي تحدث على أرض دولة ليست طرفًا في اتفاقيات جنيف.[185] وتحتوى المادة 2 المشتركة أيضًا على إشارة إلى الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف. والإشارة إلى "الأطراف السامية المتعاقدة" في هذا السياق في المادتين كلتيهما قد أضيفت ربما بغية تجنب أي فهم خاطئ قد يعني أن اتفاقيات جنيف لعام 1949 تخلق التزامات جديدة على الدول من غير الأطراف فيها.
467 - موضوع المادة 3 المشتركة والغرض منها يدعمان انطباقها في النزاعات المسلحة غير الدولية التي تمتد خارج أرض دولة واحدة. وبما أن هدف هذه المادة هو توفير حد أدنى من الحماية للأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية أو الذين توقفت مشاركتهم فيها أثناء المواجهات المسلحة الحادة بين الدول من جانب، والجماعات المسلحة من غير الدول من جانب آخر، أو بين تلك الجماعات، فمن المنطقي أن تسري تلك الحماية عندما يمتد العنف إلى أرض أكثر من دولة واحدة.[186]
468 - ويصدق القول بأنه رغم انطباق المادة 3 المشتركة، فقد تنطبق كذلك قواعد أخرى، على الأخص تلك المنظمة لتنفيذ الأعمال العدائية التي تفرض قيودًا مختلفة على الطريقة التي قد تستخدم بها القوة مقارنة بقانون وقت السلم. لكن يجب أن نتذكر أن انطباق المادة 3 المشتركة على حالة ما ليس هو ما يوجب انطباق قواعد القانون الإنساني الأخرى التي تحكم النزاعات المسلحة غير الدولية، بل إن قيام نزاعات مسلحة غير دولية هو ما يوجب تطبيق المادة 3 المشتركة، وأحكام القانون الإنساني الأخرى.[187] وبالنظر إلى المسألة في ضوء ما سبق، يكون انطباق المادة 3 المشتركة في النزاعات المسلحة غير الدولية غير المحدودة بأرض دولة واحدة متسقًا مع الغرض الذي وضعت هذه المادة من أجله.
469 - ما دام هناك شك يخلفه التحليل السابق بشأن اقتصار المادة 3 المشتركة على النزاعات المسلحة الداخلية، يمكن الرجوع إلى تاريخ صياغة المادة للاستيضاح.[188] ففي مرحلة ما، نظرت الدول في مشروع ذكر النزاعات المسلحة "التي قد تقع في أراضي طرفٍ سامٍ متعاقد أو أكثر".[189] ولأسباب غير محددة، لم يقر المؤتمر الدبلوماسي لعام 1949 عبارة "أو أكثر"، لذلك ليس ثمة ما يمكن استخلاصه من غياب هذه العبارة في تفسير المادة 3 المشتركة.[190] وفي أربعينيات القرن العشرين، بدا أن الدول كانت تفكر بشكل رئيسي في تنظيم النزاعات المسلحة الداخلية، وكانت حماية شؤونها الداخلية ضد التنظيم الشامل الذي يورده القانون الدولي واحدة من شواغلها الرئيسية وأحد بواعثها على تقييد الأحكام الموضوعية واجبة التطبيق على النزاعات المسلحة غير الدولية.[191] لكن إذا كانت صياغة المادة 3 المشتركة "تعني أن النزاعات القائمة بين الدول والجماعات المسلحة المنظمة، والتي تنتشر في أراضي عدة دول، ليست "نزاعات مسلحة غير دولية"، لنشأت بذلك ثغرة في الحماية، وهو ما لم يكن من الممكن تفسيره بمخاوف الدول بشأن سيادتها".[192]
470 - وخلاصة القول أنه رغم الغموض النسبي لنص المادة 3 المشتركة وتاريخ صياغتها، فموضوعها وغرضها يدلان على انطباقها على النزاعات المسلحة غير الدولية العابرة للحدود.
471 - كان هناك وقت كتابة هذا التعليق بعض الدلائل من ممارسات الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف التي تدعم الرأي القائل بأن النزاعات المسلحة غير الدولية قد تعبر حدود الدولة في ظروف معينة ومحدودة.[193]
472 - تعددت أوصاف النزاعات المسلحة غير الدولية العابرة للإقليم، فوصفت تارة بالنزاعات "عبر الحدود"، وتارة بالنزاعات "الممتدة"، وأخرى بعبارة "النزاعات المسلحة المتخطية للحدود". استخدمت كذلك عبارات مثل "النزاعات المسلحة غير الدولية العابرة للإقليم".[194] وهذه العبارات ليست أصنافًا أو مصطلحات قانونية، لكنها قد تكون مفيدة لأغراض الوصف.
473 - يتحقق عمليًا أحد أنماط النزاعات المسلحة غير المحدودة بحدود دولة واحدة والذي يبدو أن الدول قد قبلته بحسبانه من النزاعات "غير الدولية" في حالة انضمام دولة أو أكثر إلى دولة أخرى تحارب مجموعة مسلحة على أرضها. رغم أن مثل هذا النزاع قد يجري داخل أرض دولة واحدة فإن الدول الأخرى تستخدم القوة عبر الإقليم، أي خارج أرضها، بوصفها أطرافًا في النزاع، ويظل النزاع في مثل تلك الحالات نزاعًا ذا طبيعة غير دولية.[195] أصبحت مسألة مدى انطباق المادة 3 المشتركة والقانون الإنساني بصفة أعم أكثر أهمية في تلك الحالات، على الأخص عند تقسيم أرض الدولة إلى مناطق أصغر تحت مسؤولية الدول الأجنبية المتدخلة المختلفة، وعندما تشهد بعض المناطق عنفًا أكثر حدة من الذي تشهده مناطق أخرى. في تلك الأحوال، يسري القانون الإنساني في شأن كل الدول المشاركة بنفس نهج سريانه في النزاعات المسلحة "الداخلية" غير الدولية الصرف حسبما ورد ذكره بإيجاز أعلاه.[196] وثارت مسائل أخرى بشأن ما إذا كان القانون الدولي أيضًا ينطبق في أرض "الوطن" بشأن الدول الأطراف في تلك النزاعات،[197] لكن ليس هناك من الممارسات الدولية حتى كتابة هذا التعليق ما يكفي لتقرير انطباقه في أرض الوطن.
474 - ثانيًا، قد يمتد نزاع مسلح غير دولي من أرض الدولة التي بدأ فيها إلى أرض دولة متاخمة ليست طرفًا فيه.[198] تسمى هذه النزاعات أحيانًا النزاعات المسلحة غير الدولية "الممتدة"، وهو مصطلح وصفي وليس مصطلحًا قانونيًا متخصصًا. فلنفترض، لأغراض هذا التحليل، أن الدولة الثانية وافقت على أن تستخدم الدولة الطرف في النزاع أرضها مستبعدة بذلك وجود نزاع دولي مسلح بينهما يثور تساؤل عما إذا كان القانون الإنساني الذي ينظم النزاعات المسلحة غير الدولية سيستمر في تنظيم العلاقات بين الدولة الأولى وطرف النزاع من غير الدول أم لا، وذلك في الوقت الذي يتحارب فيه الطرفان على أرض الدولة الثانية المتاخمة.[199] قد يكون الوضع كذلك إذا توافر معيارا النزاع المسلح غير الدولي، أي الحدة والتنظيم، في العنف المسلح الدائر بينهما على أرض الدولة الثانية نفسها. لكن عندما يختلف الوضع، وعندما لا تقع على أرض الدولة الثانية إلا أفعال عدائية متباعدة أو متقطعة، قد يتساءل المرء عما إذا كان من الممكن ربط هذا "الامتداد" الذي يقع من وقت إلى آخر بالنزاع المسلح غير الدولي القائم بالفعل في الدولة الأولى، بوصفه امتدادًا للنزاع ليس إلا.[200] في تلك الحالات يبدو أن ممارسات الدول تشير إلى أن عبور حدود دولية لا يغير من الطابع غير الدولي للنزاع المسلح.[201] كل الأمثلة على ممارسات الدول بشأن "امتداد" النزاعات ترتبط بحالات امتد فيها النزاع من إقليم إلى إقليم متاخم أو مجاور.
475 - ويبدو أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا المؤرخ في 1994 قد أقر بوجود تلك الحالات، حيث يذكر أن اختصاص المحكمة يمتد إلى محاكمة "الأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية، والانتهاكات الجسيمة الأخرى للقانون الدولي الإنساني التي ارتكبت على أرض رواندا، ومواطني رواندا المسؤولين عن الإبادة الجماعية والانتهاكات الأخرى التي ارتكبت على أراضي دول مجاورة".[202]
476 - ومع ذلك تستمر التساؤلات عن المدى الذي عندما يصل إليه نزاع مسلح غير دولي دائر في بلد مجاور يمكن اعتباره "نزاعًا ممتدًا" إليها. بعبارة أخرى، ليس من الواضح ما إذا كان من شأن القانون الإنساني أن ينطبق في أرض الدولة التي امتد إليها النزاع (كما هي الحال في النزاعات المسلحة "الداخلية" التقليدية)، أم أن تطبيقه أكثر محدودية من ذلك.[203] فما دامت الدول التي امتد النزاع إلى أرضها لم تصبح طرفًا في النزاع فهناك دافع للتساؤل عن انطباقه في كل أنحاء أرضها.[204] وعلى اختلاف النظريات القانونية التي وضعت لم ترسخ الممارسة قاعدة واضحة بعد.[205] وبالإضافة إلى ما سبق، يبرز تساؤل عما إذا كان "امتداد" نزاع مسلح غير دولي قائم يقتصر، حسب الظروف الجغرافية أو القدرات الفنية، على الدول المجاورة أم لا، وهذا التصور الأخير هو ما نناقشه فيما يلي.
477 - هناك تصور ثالث للنزاعات المسلحة غير الدولية غير المحدودة بأرض دولة واحدة وهو المواجهات المسلحة التي تصل إلى الحد الفاصل للحدة المطلوب توافره، وتجري بين دولة وجماعة مسلحة من غير الدول تمارس نشاطها في أرض دولة ثانية مجاورة.[206] وقد تجري المواجهات المسلحة أيضًا بين جماعتين مسلحتين منظمتين من غير الدول. وفي تصور من هذا القبيل تكون المواجهات ذات طبيعة "عابرة للحدود". وإذا كانت الجماعة المسلحة من غير الدول تتصرف نيابة عن الدولة الثانية، ربما يقوم نزاع دولي مسلح لأن المواجهة في هذه الحالة ستكون في الواقع بين دولتين.[207] أما إذا لم تكن الجماعة المسلحة من غير الدول تتصرف نيابة عن الدولة الثانية، فمن المفهوم أن المواجهة القائمة بين الدولة الأولى والجماعة المسلحة من غير الدول، يجب أن ينظر إليها باعتبارها نزاعًا مسلحًا غير دولي.[208] وفي مثل تلك الحالة، قد يندلع أيضًا نزاع دولي مسلح بين الدولة الأولى والثانية إذا لم ترضَ الأخيرة عن عمليات الأولى على أرضها.[209] وبذلك قد يقع نزاع مسلح غير دولي بالتوازي مع آخر دولي بين الدولتين المعنيتين.
478 - وأخيرًا، تظهر مسألة ما إذا كانت الاعتبارات الجغرافية من شأنها أن تؤدي دورًا محدودًا في النزاعات المسلحة غير الدولية.[210] فعلى سبيل المثال، ثارت مسألة إمكانية قيام نزاع مسلح غير دولي بين جماعة مسلحة من غير الدول ودولة سواء وجد أم لم يوجد مرتكز في دولة معنية ليكون مسرحًا رئيسيًا أو أساسيًا للأعمال العدائية. هناك تصوران محتملان نعرضهما فيما يلي. الأول هو حالة النزاع الممتد المتسع الوارد وصفه أعلاه. ففي هذا التصور، يكفي توافر الحدة والتنظيم لينشأ نزاع وليصنف كذلك على أنه المسرح الرئيسي للأعمال العدائية، والمسألة الوحيدة التي تتبقى هي المدى الذي قد يصل إليه امتداد النزاع. والتصور الثاني يدرس احتمال نشوء نزاع يستند فقط إلى أفعال جماعة مسلحة من غير الدول، لكن مع اختلاف موقعي الأعمال العدائية وأعضاء الجماعة المسلحة. المسألة الرئيسية، في هذا التصور، هي ما إذا كان من الممكن تقييم الأعمال العدائية المتباعدة بحسبانها وحدة واحدة بحيث نستنتج وجود نزاع مسلح واحد بين جماعة مسلحة من غير الدول ودولة أم لا. وعليه، ومع عدم هجر معياري التنظيم والحدة اللازم توافرهما لينشأ نزاع مسلح غير دولي، فهذا النهج يقبل إمكانية اعتبار مجموع الأعمال التي تبدو متفرقة أو منعزلة في حدود الدولة التي تقع فيها نزاعًا مسلحًا غير دولي.
479 - ومن شأن افتراض وجود مثل ذلك النزاع المسلح العالمي، أو النزاع المسلح غير الدولي العابر لحدود الدول، أن يوجب تطبيق القانون الإنساني في أرض دولة ليست طرفًا في المواجهة التي تجري بين أطراف ذلك النزاع، حيث كان لينطبق حصرًا القانون الوطني، لا سيما القانون الجنائي وقواعد إنفاذ القانون بشأن استخدام القوة، في حدود قانون حقوق الإنسان واجب التطبيق.
480 - يثير هذا التصور مخاوف مهمة حيال الحماية. فقد يعني ذلك على سبيل المثال أنه عندما يشن طرف في مثل ذلك النزاع المسلح غير الدولي العالمي أو العابر لحدود الدول هجومًا ضد فرد مقاتل من الطرف المقابل على أرض دولة أخرى ليست طرفًا في النزاع، قد يخضع سكان تلك الدولة لتطبيق معايير القانون الإنساني بشأن استخدام القوة. فبموجب القانون الإنساني مثلًا قد تكون الهجمات التي تنفذ ضد أهداف عسكرية ويتوقع أن تتسبب عرضًا في وفاة مدنيين قد تكون متجاوزة الحد بالقياس إلى الميزة العسكرية الملموسة والمباشرة المنشودة من تلك الهجمات هي وحدها الهجمات غير المشروعة. وقد يعني ذلك، حسب الظروف، أن مقدارًا معينًا من "الضرر الملازم" الذي يقع بين السكان المدنيين لدولة ليست طرفًا في المواجهات الدائرة بين أطراف النزاع المسلح غير الدولي العالمي أو العابر لحدود الدول قد لا يكون أمرًا غير مشروع، وهذا ينقص بشكل كبير من الحماية التي يكفلها القانون الدولي لأولئك الأشخاص.
481 - لكن، وكما أشرنا سابقًا، حتى وإن كان من الواجب اعتبار القانون الدولي الإنساني واجب التطبيق في حالة تحقق ذلك التصور، لا يعني ذلك بالضرورة أنه يحكم كل الأفعال في تلك الحالة.[211]
482 - بالإضافة إلى ما سبق، تظل ممارسات الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف التي تساند نظرتها إلى النزاعات المسلحة غير الدولية العالمية أو العابرة لحدود الدول، تظل ممارسات معزولة.[212] وعليه، عبرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن رأيها بأن تقدير وجود نزاع مسلح، أو تقييم علاقة عملية عسكرية بعينها بنزاع مسلح قائم، يجب أن يكون لكل حالة على حدة.[213]
3-4. نطاق التطبيق الزمني
3-4-1. المقدمة
483 - تنطبق المادة 3 المشتركة على النزاعات المسلحة التي ليس لها طابع دولي التي "تقوم" في أرض أحد الأطراف السامية المتعاقدة، لكنها لا تقدم إرشادًا بشأن متى تحل اللحظة التي يجب عندها اعتبار أن نزاعًا مسلحًا قد "قام". وعلى عكس اتفاقيات جنيف، من حيث انطباقها على النزاعات الدولية المسلحة،[214] أو البروتوكول الإضافي الأول[215] والبروتوكول الإضافي الثاني في واقع الأمر،[216] لا تنص المادة 3 المشتركة على حكم محدد أيًا ما كان بشأن نطاق تطبيقها الزمني.
3-4-2. بداية النزاع المسلح غير الدولي
484 - من غير الضروري النص على حكم محدد بشأن بداية وجوب تطبيق المادة 3 المشتركة التي تصبح واجبة التطبيق بمجرد أن ينشب نزاع مسلح غير دولي حسب التحليل الوارد في الفقرات أعلاه، أي بمجرد تحقق معياري الحدة والتنظيم في حالة عنف يجري بين دولة وجماعة مسلحة من غير الدول، أو بين جماعتين مسلحتين أو أكثر من الجماعات من غير الدول.
3-4-3. نهاية النزاع المسلح غير الدولي
485 - تترتب نتائج مهمة على تحديد النقطة التي ينتهي عندها النزاع المسلح غير الدولي، كما هي الحال بشأن بدايته. ومثلما كانت الحال فيما يتعلق بتقدير وجود النزاع ابتداءً، فيجب ألا نترخص في تأكيد نهاية النزاع أو فانتهائه. فكما أن القانون الإنساني يجب ألا يطبق في حالة عنف لم تتخطَ بعد الحد الفاصل للنزاع المسلح غير الدولي، يجب ألا يطبق في الحالات التي لم تعد تشكل نزاعًا مسلحًا غير دولي.
486 - رأت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن "القانون الدولي الإنساني ينطبق من بدء [نزاع مسلح غير دولي] ويمتد، في حالة النزاعات الداخلية، إلى ما بعد توقف الأعمال العدائية لحين، تحقيق تسوية سلمية...".[217] أكدت السوابق القضائية الدولية هذه المنهجية وشددت عليها مصادر أخرى محلية ودولية.[218] من الضروري الاستناد إلى الوقائع عند تقييم ما إذا كان نزاع مسلح غير دولي قد انتهى، أو بمعنى آخر، أنه قد جرى التوصل فيه إلى "تسوية سلمية".[219]
487 - إن منهجية الاستناد إلى الوقائع لا تبين فقط المعيار لتقدير بدء نزاع مسلح غير دولي،[220] بل تتسق أيضًا بشكل أعم مع القانون الإنساني الحديث الذي لا تلعب المعايير الشكلية دورًا مهمًا في تحديد مدى انطباقه.[221]
488 - ويجب أن يراعي تقييم الوقائع الذي يجرى لتحديد انتهاء نزاع مسلح غير دولي من عدمه ما يلي:
489 - أولًا: من الممكن أن ينتهي النزاع المسلح غير الدولي إذا أصبح أحد الأطراف غير موجود. فالهزيمة العسكرية الساحقة لأحد الأطراف، أو تسريح أفراد طرف من غير الدول، أو أي شكل آخر من أشكال انقضاء وجود طرف ما، يعني أن النزاع قد انتهى، حتى إن نفذت فلول الطرف المنحل أفعال عنف متقطعة أو عرضية. ولكن عندما تلحق هزيمة غير ساحقة بأحد الأطراف ويعاني نوعًا من الفوضى فقد يتمكن رغم ذلك من إعادة تنظيم صفوفه حتى وإن استغرق ذلك مدة طويلة وأن يواصل أعماله العدائية. وقد يكون هذا هو الوضع على الأخص عندما تسيطر جماعة مسلحة من غير الدول على أرض أو تواصل تجنيد قوات وتدريبها وتسليحها. وفي مثل تلك الحالات، لا يسوغ استنتاج انقضاء وجود ذلك الطرف.
490 - ثانيًا: في بعض الأحيان تستمر المواجهات المسلحة لوقت ليس بقصير بعد اتخاذ قرار أو إعلان إجراء رسمي من طرف واحد كوقف إطلاق النار أو هدنة أو اتفاق سلام. والاعتماد على مثل تلك الاتفاقات وحدها لتقدير انتهاء نزاع مسلح غير دولي من شأنه أن يؤدي إلى انقضاء انطباق القانون الإنساني قبل أوانه في حالات يستمر فيها النزاع فعليًا.[222] وعلى العكس من ذلك، فقد تنتهي المواجهات المسلحة أيضًا دون اتفاق لوقف إطلاق النار أو هدنة أو إبرام اتفاق سلام على الإطلاق، أو قبل إبرامه. وبناءً عليه، رغم وجوب اعتبار وجود تلك الاتفاقات عند تقييم كل الوقائع، فهي ليست ضرورية ولا كافية في ذاتها لتستوجب وقف تطبيق القانون الإنساني.
491 - ثالثًا: توقف المواجهات المسلحة توقفًا مستقرًا لفترة طويلة مع انتفاء خطر استئنافها فعليًا يشكل دون شك نهاية نزاع مسلح غير دولي، حيث إن هذا من شأنه أن يعادل تسوية سلمية للنزاع، حتى وإن لم يكن هناك أي إجراء رسمي يشتمل على إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار أو هدنة أو اتفاق سلام، أو حتى إعلان من جانب واحد موضوعه أحد تلك الإجراءات بصورة رسمية.
492 - رابعًا: يجب ألا يفسر الهدوء المؤقت للمواجهات المسلحة على أنه منهٍ بذاته للنزاع المسلح غير الدولي. فقد "تتذبذب" حدة النزاع،[223] لكن مجرد وجود فترات هدوء مع استمرار بقاء أطراف النزاع ليس كافيًا وحده لنستنتج أن النزاع قد انتهى. ومن المستحيل نظريًا تحديد طول المدة التي يجب انقضاؤها دون حدوث مواجهات مسلحة لنستطيع أن نخلص بقدر مقبول من اليقين إلى أن الموقف قد استقر وأصبح يعادل تسوية سلمية. وقد يقرر أحد الأطراف على سبيل المثال وقف الأعمال العدائية مؤقتًا، أو قد يكون النسق المعهود للنزاع هو التراوح بين وقف المواجهات المسلحة واستئنافها. في تلك الحالات، من المستحيل أن نخلص إلى أن حالة ما قد وصلت إلى الاستقرار، بل يجب أن تراقب لمدة أطول، وفي تلك الأثناء يستمر انطباق القانون الإنساني.
493 - يجب ألا يكون تصنيف النزاع "بابًا دوارًا يتأرجح بين وجوب تطبيق وعدم وجوب تطبيق" القانون الإنساني، لأن ذلك قد "يؤدي إلى قدر كبير من عدم اليقين واللبس القانونيين".[224] وبالتالي يجب على التقييم المستند إلى الوقائع أن يراعي طبيعة النزاعات التي يغلب عليها التقلب لتجنب الاستنتاج السابق لأوانه بأن النزاع المسلح غير الدولي قد انتهى.
494 - وفي هذا الصدد، ليس بالمستطاع استنتاج أن نزاعًا مسلحًا غير دولي قد انتهى استنادًا فقط إلى تراجع مستوى حدة المواجهات المسلحة بين الأطراف إلى ما دون الدرجة اللازمة لأن ينشأ النزاع ابتداءً.[225] ومع ذلك، فقد يكون استمرار توقف المواجهات المسلحة بين أطراف النزاع الأصلية مؤشرًا على نهاية ذلك النزاع المسلح غير الدولي، ويتوقف ذلك على الوقائع السائدة، حتى وإن استمرت أعمال عنف محدودة متقطعة أو عرضية.
495 - وتضم الأمثلة على العناصر التي قد تشير إلى استقرار حالة ما بقدر يكفي لتقرير أن نزاعًا مسلحًا غير دولي قد انتهى ما يلي: التنفيذ الفعلي لاتفاق سلام أو وقف إطلاق النار؛ والإعلانات الصادرة عن الأطراف والتي تفيد نبذها المؤكد للعنف بجميع أشكاله بشرط ألا تناقضها الوقائع الفعلية؛ وتفكيك الوحدات الحكومية الخاصة التي أنشئت خصيصًا من أجل النزاع؛ وتنفيذ برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، أو أحد تلك البرامج؛ وزيادة المدة التي تنقضي دون تنفيذ أعمال عدائية؛ ورفع حالة الطوارئ أو غيرها من الإجراءات المقيدة الأخرى.
496 - وعلى ذلك فإن تقدير استقرار حالة ما طوال المدة الزمنية وإلى الحد الذي يمكن معه اعتبار ذلك بمثابة "تسوية سلمية" للنزاع لا يمكن أن يتأتى إلا بتقييم كامل لكل الوقائع المتوفرة. ويبدو جليًا أنه لا يمكن التوصل إلى تلك التنبؤات بيقين مطلق، حيث إن الأمر لا يتعلق بمسألة علمية بحتة. وترى اللجنة الدولية للصليب الأحمر في ضوء ذلك أنه من المفضل عدم التعجل والمخاطرة بالتذبذب في تصنيف النزاع ما قد يؤدي إلى عدم يقين ولبس قانونيين.
3-4-4. استمرار تطبيق المادة 3 المشركة بعد انتهاء النزاع المسلح غير الدولي
497 - يثور التساؤل عن مدى استمرار انطباق أحكام معينة من المادة 3 المشتركة، عند الضرورة، بعد انتهاء النزاع المسلح غير الدولي. لا تذكر المادة 3 المشتركة أي مؤشرات بهذا الخصوص.
498 - ورغم ذلك فإن لجنة الخبراء التي شكلتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر بغرض دراسة مسألة المساعدة الإنسانية لضحايا النزاعات الداخلية قد أشارت في وقت مبكر يرجع إلى عام 1962 إلى ما يلي:
درست اللجنة أيضًا تطبيق المادة 3 في الماضي. إن تسوية نزاع داخلي خاضع إلى المادة 3 لا تنهي في حد ذاتها وعن حق كامل تطبيق المادة، أيًا كان شكل تلك التسوية وشروطها، سواء أعادت الحكومة القانونية تثبيت دعائم النظام نفسه، أو اختفت وحل محلها حكومة شكَّلها خصومها، أو أبرمت اتفاقًا مع الطرف الآخر. كما أشارت اللجنة إلى وجوب احترام كل الالتزامات التي تنص عليها المادة 3 "في جميع الأحوال ... في جميع الأوقات والأماكن". وترى اللجنة بناءً على ما سبق أن أحكام المادة 3 تظل واجبة التطبيق في الحالات الناشئة عن النزاع وعلى المشاركين فيه.[226]
499 - وفي عام 1977 أقرت الدول الحكم التالي في ضوء البروتوكول الإضافي الثاني:
يتمتع بحماية المادتين الخامسة والسادسة عند انتهاء النزاع المسلح كل الأشخاص الذين قيدت حريتهم لأسباب تتعلق بهذا النزاع، وكذلك كافة الذين قيدت حريتهم بعد النزاع للأسباب ذاتها وذلك إلى أن ينتهي مثل هذا التقييد للحرية.[227]
500 - يمكن أن يكون لضمانات المادة 3 المشتركة – الملزمة للدول الأطراف وغير الأطراف على السواء –أهمية جوهرية لضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية حتى بعد انتهاء تلك النزاعات.
501 - تستمر استفادة الأشخاص المحميين بموجب المادة 3 المشتركة من الحماية التي تكفلها المادة حتى بعد انتهاء النزاع المسلح غير الدولي، ما داموا في حالة ترتبت على النزاع مع استمرارهم في وضع تكفل له الحماية المادة 3 المشتركة. ومن ثم يجب، على سبيل المثال، أن يعامل الأشخاص المحتجزون بسبب له صلة بالنزاع حسب مقتضيات الإنسانية حتى بعد انتهاء النزاع وتشمل تلك المعاملة الإنسانية عدم تعريضهم للتعذيب أو المعاملة القاسية أو إنكار حقهم في المحاكمة العادلة.[228]
502 - أما إذا كانت العودة إلى الإطار القانوني المحلي والدولي المعتاد بعد نهاية نزاع مسلح غير دولي الذي من شأنه توفير قدر أكبر من الحماية للأشخاص المحميين بموجب المادة 3 المشتركة، فيجب بطبيعة الحال تفعيل تلك الأشكال من الحماية.[229]
4. الفقرة (1): القوة الملزمة للمادة 3 المشتركة
4-1. "يلتزم كل طرف في النزاع بأن يطبق"
4-1-1. عام
503 - بمجرد قيام نزاع مسلح غير دولي حسب المعنى الوارد في المادة 3 المشتركة، فإنها تنص نصًا قاطعًا على أن "يلتزم كل طرف في النزاع بأن يطبق" الأحكام الأساسية التي تنص عليها المادة.
504 - هذا الحكم البسيط والقاطع هو إنجاز مهم. فبمجرد أن تنطبق المادة 3 المشتركة، يسري الالتزام باحترام أحكامها تلقائيًا وقطعيًا على أطراف النزاع من الدول والأطراف من غير الدول على حد سواء. وهذا الالتزام لا يتوقف فحسب على قبولها صراحة من جانب الطرف من غير الدول بل لا يتوقف أيضًا على ما إذا كان الطرف الخصم يمتثل في الواقع لأحكام المادة 3 المشتركة أم لا.[230] علاوة على ذلك، تستند المادة 3 المشتركة إلى مبدأ المساواة بين أطراف النزاع، فهي تمنح ذات الحقوق للدول الأطراف والأطراف من غير الدول وتفرض ذات الالتزامات عليهما، وهي جميعها – أي الحقوق والالتزامات- ذات طابع إنساني بحت.[231] ولكن هذا لا يقتضي ضمنًا منح حصانة المقاتلين لأفراد الجماعات المسلحة من غير الدول حيث إن هذا المفهوم بهذا الوصف لا ينطبق على النزاعات المسلحة غير الدولية.
4-1-2. القوة الملزمة للمادة 3 المشتركة على الجماعات المسلحة من غير الدول
505 - الجماعات المسلحة من غير الدول ليست "أطرافًا سامية متعاقدة" في اتفاقيات جنيف. وفي عام 1949، قررت الدول أنه لا يجوز للكيانات من غير الدول أن تصبح أطرافًا في اتفاقيات جنيف. ولكن أصبح مقبولًا في وقتنا الحالي أن المادة 3 المشتركة ملزمة للجماعات المسلحة من غير الدول، بحسبانها معاهدة وقانونًا عرفيًا في ذات الآن.[232]
506 - تدعم صياغة المادة 3 المشتركة، التي تفرق بين "الأطراف السامية المتعاقدة" وأطراف النزاع، هذا المفهوم دعمًا واضحًا إذ يجري نصها كما يلي "في حالة قيام نزاع مسلح ليس له طابع دولي في أراضي أحد الأطراف السامية المتعاقدة، يلتزم كل طرف في النزاع بأن يطبق...". وخلال المفاوضات بشأن المادة 3 المشتركة، قوبل بالرفض مقترح لتعديل الإشارة في عجز الجملة بحيث تشير أيضًا إلى الأطراف السامية المتعاقدة.[233]
507 - الآلية المحددة التي تصبح بها المادة 3 المشتركة ملزِمة لكيان ما ليس طرفًا ساميًا متعاقدًا في اتفاقيات جنيف لا زالت محل جدل.[234] وتشمل تفسيرات تلك الآلية ما يلي: الكيان الذي يدَّعي أنه يمثل دولة ما أو أجزاء منها، وبالأخص عبر ممارسة سيادة فعلية عليها، يصبح ملزمًا بالالتزامات الدولية التي تقع على عاتق تلك الدولة؛[235] أو أن المادة 3 المشتركة تصبح عقب تصديق دولة ما على اتفاقيات جنيف جزءًا من قانونها الوطني، وعليه تصبح ملزمة لجميع الأفراد الذين يخضعون لسلطانها بمن فيهم أعضاء الجماعات المسلحة من غير الدول؛[236] أو أن المادة 3 المشتركة ومعاهدات القانون الإنساني الأخرى الرامية إلى إلزام أطراف النزاعات المسلحة غير الدولية من غير الدول هي أحكام معاهدة دولية تنشئ قانونًا التزامات على الغير بطريقة مماثلة لتلك التي تنشئ بها المعاهدات، في ظروف معينة،[237] التزامات على الدول غير الأطراف فيها؛[238] أو أن الدولة عندما تصدق على معاهدة ما فإنها تفعل ذلك بالنيابة عن جميع الأفراد الذين يخضعون لسلطانها والذين يمكن بناءً على ذلك أن يصبحوا مخاطبين بالحقوق المباشرة الممنوحة والالتزامات المباشرة المفروضة بموجب القانون الدولي؛[239] أو أنه "ينبني على الطبيعة الجوهرية للقواعد التي تتضمنها [المادة 3 المشتركة] ومن اعتراف المجتمع الدولي بأسره بها بأنها الحد الأدنى الثابت المطلوب لحماية المصالح الإنسانية الرئيسية"؛[240] أو أن الجماعات المسلحة من غير الدول يمكنها الموافقة أيضًا على أن تلتزم بالمادة 3 المشتركة عبر إصدار إعلان من طرف واحد أو إبرام اتفاق خاص بين أطراف نزاع مسلح على سبيل المثال.[241]
508 - طرحت تلك النظريات القانونية المتنوعة بغرض شرح أساس إلزام الجماعات المسلحة من غير الدول بالمادة 3 المشتركة، ولكن ليس هناك من ينازع في أن الأحكام الموضوعية للمادة 3 المشتركة ملزمة لجميع الجماعات المسلحة عندما تكون أطرافًا في نزاع مسلح.
4-1-3. القوة الملزمة للمادة 3 المشتركة على القوات المتعددة الجنسيات
509 - كما أشرنا سابقًا،[242] يمكن للقوات متعددة الجنسيات الانخراط في أنشطة من شأنها أن تجعل الدول أو المنظمات الدولية التي ترسلها طرفًا في نزاع مسلح غير دولي، سواء تحقيقًا لولايتها أو نتيجة لتطورات على أرض الواقع. ويمكن التمييز بين العمليات المتعددة الجنسيات التي ينفذها تحالف من الدول غير خاضع لقيادة إحدى المنظمات الدولية وسيطرتها من ناحية، والعمليات متعددة الجنسيات التي تُنفذ تحت قيادة الأمم المتحدة أو منظمات دولية أخرى وسيطرتها من الناحية الأخرى.
510 - في الأحوال التي يكون فيها منفذ العمليات متعددة الجنسيات تحالفًا مؤلفًا من دول غير خاضعة لقيادة منظمة دولية وسيطرتها، تكون فرادى الدول المشاركة في القوات متعددة الجنسيات أطرافًا في النزاع.[243] واعتمادًا على ما إذا كانت القوات متعددة الجنسيات مشاركة ضد دولة طرف أو طرف من غير الدول، يكون القانون الحاكم للنزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية ملزمًا للدول المشاركة بقوات. وفي الحالة الأخيرة، تكون المادة 3 المشتركة ملزمة لقوات تلك الدول.
511 - في الأحوال التي تمارس المنظمة التي تُنفذ العملية متعددة الجنسيات في إطارها القيادة والسيطرة على القوات فقد تصبح تلك المنظمة طرفًا في هذا النزاع المسلح.[244] وبما أن المنظمات الدولية التي تنشر قوات دولية ليست دولًا، وبالتالي لا يمكن بشكل عام أن تصبح طرفًا في اتفاقيات جنيف أو أي معاهدات أخرى ترتكز على القانون الإنساني، فلا تكون تلك المعاهدات في هذه الحالة ملزمة لها. ولكن اتفاقيات مركز القوات المبرمة بين الأمم المتحدة والدول التي تستضيف عمليات الأمم المتحدة للسلام تلزم الأمم المتحدة عادة بضمان تنفيذ عملياتها "مع المراعاة الكاملة لمبادئ وقواعد الاتفاقيات الدولية التي تسري على سلوك الأفراد العسكريين".[245] وفيما يتعلق بالقوات التي تخضع لقيادة الأمم المتحدة وسيطرتها، أكد الأمين العام للأمم المتحدة صراحةً على وجوب سريان "مبادئ وقواعد رئيسية للقانون الدولي الإنساني" بعينها أيضًا على القوات المتعددة الجنسيات.[246]
512 - بالإضافة إلى ما تقدم، أصبح إلزام هذه المنظمات بالقانون الدولي العرفي أمرًا مقبولًا.[247] ولقد بينت محكمة العدل الدولية أن المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، من أشخاص القانون الدولي وهي ملزمة بأي التزامات مفروضة عليها بموجب قواعده العامة.[248]
513 - وعلاوة على ما سبق، نظرًا لأن الدول المشاركة بقوات عادة لا تتنازل كليًا عن السيطرة على قواتها إلى المنظمة التي تنشر قوات متعددة الجنسيات، يرى العديد من الدول أن هذه القوات تظل ملزَمة بالوفاء بالالتزامات التي يفرضها القانون الإنساني على الدول التي تتبعها.[249]
4-2. "كحد أدنى، الأحكام التالية"
514 - يجب على جميع أطراف النزاعات المسلحة غير الدولية الالتزام بالأحكام "الدنيا" التي تنص عليها المادة 3 المشتركة. وهذه الالتزامات الجوهرية واجبة التطبيق تلقائيًا في النزاعات المسلحة غير الدولية بمجرد قيامها.
515 - وكما أشارت المادة 3 المشتركة نفسها، هذه الأحكام هي أحكام "دنيا".
516 - لم تتمكن الدول التي أقرت المادة 3 المشتركة في 1949 من التوصل إلى اتفاق على جعل المزيد من أحكام اتفاقيات جنيف، أو جميعها، واجبة التطبيق تلقائيًا في النزاعات المسلحة غير الدولية،[250] لكنها كانت تدرك أن تطبيق قواعد إضافية وأكثر تفصيلًا قد يكون أمرًا مستحسنًا في هذه النزاعات. وبالتالي، اتفقت على إضافة الفقرة 3 من المادة 3 المشتركة، والتي بموجبها يكون "على أطراف النزاع أن تعمل فوق ذلك، عن طريق اتفاقات خاصة، على تنفيذ كل الأحكام الأخرى من هذه الاتفاقية أو بعضها".[251]
517 - بالإضافة إلى الالتزامات الأساسية المفروضة بموجب المادة 3 المشتركة وخيار الاتفاقات الخاصة، فقد تكون أطراف النزاعات المسلحة غير الدولية ملزَمة بمعاهدات أخرى للقانون الإنساني.[252] بالإضافة إلى ذلك، تلتزم الأطراف بالقانون الإنساني العرفي الواجب التطبيق على النزاعات المسلحة غير الدولية وبالالتزامات التي يفرضها القانون الدولي لحقوق الإنسان في نطاق تطبيقه. ولم يُفصل في مسألة ما إذا كان قانون حقوق الإنسان ينطبق على الجماعات المسلحة من غير الدول أم لا، وإلى أي مدى ينطبق عليها. وعلى الأقل، يبدو أنه من المقبول أن الجماعات المسلحة التي تمارس سيطرة إقليمية وتؤدي وظائف تشبه الوظائف الحكومية تتحمل بأدائها تلك الوظائف مسؤوليات بموجب قانون حقوق الإنسان.[253]
5. الفقرة الفرعية (1): الأشخاص المحميون
5-1. المقدمة
518 - تغطي الفقرة الفرعية (1) جميع "الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر". لم تتوسع المادة في شرح هذه المفاهيم كما لم يثر هذا الجزء من المادة الكثير من النقاش في المؤتمر الدبلوماسي لعام 1949. وتقتضي الحماية الممنوحة بموجب هذه الفقرة الفرعية أن يكون الشخص خاضعًا لسلطة أحد أطراف النزاع (انظر القسم (ه)-4).[254]
519 - حماية الأشخاص الذين لا يشتركون في الأعمال العدائية أو الذين توقفوا عن المشاركة فيها هي جوهر القانون الإنساني. وعلى ذلك، تذكر المادة 3 المشتركة بتحديد قاطع الأشخاص المحميين بموجبها، وهم: "الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر". ويقع على عاتق أطراف النزاعات المسلحة غير الدولية التزام قاطع بمعاملة أولئك الأشخاص في جميع الأحوال معاملة إنسانية دون أي تمييز ضار.
520 - ورغم ذلك، وخارج إطار المادة 3 المشتركة، يتضمن القانون الإنساني أيضًا عددًا من الأحكام التي تفيد الأشخاص أثناء مشاركتهم الفعلية في الأعمال العدائية. وتشمل تلك الأحكام الحظر العام المفروض على استخدام وسائل أو أساليب الحرب التي قد تحدث إصابات أو آلام لا مبرر لها، والحظر المفروض على وسائل وأساليب بعينها.[255]
5-2. الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية
521 - تحمي المادة 3 المشتركة "الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية". وينطبق هذا الوصف في المقام الأول على المدنيين من السكان، الذين لا يشتركون عادةً في الأعمال العدائية.[256] وبالتالي، ينتفع المدنيون من الحماية التي تسبغها عليهم المادة 3 المشتركة إلا إذا اشتركوا مباشرة في أعمال عدائية. وتعود الحماية لأولئك الأشخاص فور توقفهم عن الاشتراك في الأعمال العدائية، لا سيما حين يكونون "عاجزين عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر".[257] ويشمل مفهوم السكان المدنيين أيضًا أفراد القوات المسلحة السابقين الذين جرى تسريحهم أو الذين تخلوا عن وظيفتهم العسكرية.[258]
522 - ثانيًا، يشمل مفهوم الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية الأفراد غير المقاتلين في صفوف القوات المسلحة، أي الموظفون الطبيون والدينيون. وهم لا يشتركون عادةً في الأعمال العدائية حيث عليهم أداء المهام الطبية والدينية.[259]
523 - ثالثًا وكما ورد في المادة 3 المشتركة، يشمل مفهوم الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية "أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزون عن القتال". ترد مناقشة هذه الفئة على نطاق أوسع في القسم (ه)-3.
524 - لا تعرف المادة 3 المشتركة مفهوم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية، كما لم يرد ذكر المفهوم في أي من أحكام اتفاقيات جنيف المؤرخة في 1949 أو المعاهدات السابقة عليها.[260] ورغم ذلك، فالتفرقة بين مفهوم الأشخاص المشاركين مباشرةً في الأعمال العدائية والأشخاص الذين لم يكونوا أو لم يعودوا كذلك هي من السمات الرئيسية للقانون الإنساني.
525 - ويرد ذكر المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية في البروتوكولين الإضافيين المؤرخين في 1977، حيث جرى النص في تلك الصكوك على أن الأشخاص المدنيين يتمتعون بحماية من الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية "إلا إذا قاموا بدور مباشر في الأعمال العدائية وعلى مدى الوقت الذي يقومون خلاله بهذا الدور".[261] وقد أصبح من المقبول على نطاق واسع أن عبارة المشاركة "المباشرة" في الأعمال العدائية الواردة في المادة 3 المشتركة وعبارة القيام "بدور مباشر" في الأعمال العدائية الواردة في البروتوكولين الإضافيين تشيران إلى نفس المفهوم.[262]
526 - الغرض من الإشارة إلى المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية في البروتوكولين هو تحديد متى يصبح المدنيون أهدافًا مشروعة طبقًا للقانون الإنساني أثناء سير الأعمال العدائية. ونطاق وتطبيق مفهوم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية هما موضوع للجدل في إطار القواعد المتعلقة بسير الأعمال العدائية.[263]
527 - أيًا كانت وجهة النظر التي يتبناها طرف في النزاع بشأن مفهوم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية لأغراض قراراته المتعلقة بالاستهداف، فبمجرد أن يتوقف الشخص عن المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية، مثلما يحدث عند وقوعه في أيدي العدو، فإن هذا الشخص يدخل في نطاق الحماية الذي تسبغه المادة 3 المشتركة ويجب أن يُعامل معاملة إنسانية.
528 - وبالتالي، فإن أي شكل من أشكال سوء المعاملة - مثل التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة - لا يمكن أبدًا تسويغه بأن الشخص قد يكون قد شارك بشكل مباشر في الأعمال العدائية فيما مضي. فليس ثمة مجال للقصاص طبقًا للقانون الإنساني.
5-3. أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم والأشخاص العاجزون عن القتال
5-3-1. أفراد القوات المسلحة
529 - لم تورد المادة 3 المشتركة أو اتفاقيات جنيف، بصورة أعم، تعريفًا لمصطلح "أفراد القوات المسلحة".[264]
530 - في سياق المادة 3 المشتركة، يشير مصطلح "القوات المسلحة" إلى القوات المسلحة لكل من أطراف النزاع من الدول ومن غير الدول على السواء. ويرد هذا الأمر ضمنيًا في نص المادة 3 المشتركة، التي تنص على أن "كل طرف في النزاع" عليه توفير الحماية "للأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد قوات مسلحة".[265] وعلاوة على ذلك، فإن المادة 3 المشتركة لم تستخدم أداة التعريف في اللغة الإنجليزية "the" مع عبارة "قوات مسلحة"، ما كان من الممكن أن يوحي، حال استخدامها، بأنها إشارة إلى القوات المسلحة التابعة للدولة فقط، بل استخدمت العبارة "قوات مسلحة" دون أن تكون محلاة بأداء التعريف "ال" في العربية.[266][267] وأخيرًا، فإن المادة 3 المشتركة تستند إلى توازن الالتزامات بين جميع أطراف النزاع وتقتضي معاملة أفراد القوات المسلحة للدول والجماعات المسلحة من غير الدول معاملة إنسانية بمجرد أن يلقوا عنهم أسلحتهم أو حين يصبحون عاجزين عن القتال.[268]
531 - ورغم ما تقدم، لا يقتضي شرط المعاملة الإنسانية ضمنًا منح الحصانة المكفولة للمقاتلين لأفراد الجماعات المسلحة من غير الدول حيث إن هذا المفهوم لا ينطبق على النزاعات المسلحة غير الدولية. وقد يُحاكم أولئك الأشخاص بمقتضى القانون الوطني لمشاركتهم في الأعمال العدائية، بما في ذلك المحاكمة عن الأفعال التي لا يعتبرها القانون الدولي الإنساني أفعالًا غير مشروعة. وتؤكد الفقرة الأخيرة من المادة 3 المشتركة أن تطبيق هذه المادة لا يؤثر على الوضع القانوني لأطراف النزاع.
532 - تتكون القوات المسلحة للدولة، بادئ ذي بدء، من القوات المسلحة النظامية التابعة لها. بيد أن مفهوم القوات المسلحة للدولة يشمل أيضًا سائر الجماعات المسلحة أو الوحدات النظامية التي تكون تحت قيادة مسؤولة قبل الدولة الطرف في نزاع مسلح غير دولي.[269]
533 - وتتكون القوات المسلحة للدولة عادةً من الأفراد الذين تسند إليهم وظيفة القتال وأولئك الذين لا تسند إليهم وظيفة القتال، أي الموظفون الطبيون والدينيون. وكما ذكر أعلاه، لا يقوم الموظفون الطبيون والدينيون، عمومًا، بدور مباشر في الأعمال العدائية، ويدخلون في نطاق الحماية التي تسبغها المادة 3 المشتركة عليهم أثناء أداء دورهم غير القتالي.[270]
534 - ولا تمتلك الأطراف من غير الدول في نزاع مسلح قوات مسلحة بالمعنى الراسخ في القوانين الداخلية.[271] ومع ذلك، فإن وجود نزاع مسلح غير دولي يقتضي إشراك قوات مقاتلة نيابة عن الطرف من غير الدول في هذا النزاع، وهي قوات يمكنها الانخراط في عمليات عنف مسلح مستمرة، الأمر الذي يستلزم قدرًا معينًا من التنظيم.[272] وتشكل هذه الجماعات المسلحة المنظمة "القوات المسلحة" للطرف من غير الدول في النزاعات بالمعنى الوارد في المادة 3 المشتركة.[273]
5-3-3. الأفراد الذين ألقوا عنهم أسلحتهم والأشخاص العاجزون عن القتال
535 - تشير المادة 3 المشتركة إلى "أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم" بشكل منفصل عن "الأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر". وما يميز أفراد القوات المسلحة "الذين ألقوا عنهم أسلحتهم" عن "الأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر" هو أن توقف مشاركتهم في النزاع ليس نتاج عوامل خارجية لا تخضع لسيطرتهم، بل ينطوي على قرار من جانبهم بالاستسلام.[274] رغم ذلك، فإن نتيجة هذا القرار هي نفسها كما لو أنهم قد أصبحوا عاجزين عن القتال نتيجة لعوامل خارجية: أي أنهم لم يعودوا مشاركين في النزاع. وإلقاء فرادى الأفراد كل لسلاحه يسبغ عليه الحماية بموجب المادة 3 المشتركة، ولا يقتضي الأمر قيام القوات المسلحة ككل بذلك.[275]
536 - لم تورد المادة 3 المشتركة أو اتفاقيات جنيف، بصورة أعم، تعريفًا لمفهوم "العاجزون عن القتال".
537 - ورغم ما تقدم، حدد البروتوكول الإضافي الأول الأثر الناتج وشروط أن يكون الشخص "عاجزًا عن القتال" وذلك لأغراض سير الأعمال العدائية:
1- لا يجوز أن يكون الشخص العاجز عن القتال، أو الذي يعترف بأنه كذلك لما يحيط به من ظروف، محلًا للهجوم.
2- يعد الشخص عاجزًا عن القتال إذا:
- وقع في قبضة الخصم؛
- أو أفصح بوضوح عن نيته في الاستسلام؛
- أو فقد الوعي أو أصبح عاجزًا على نحو آخر بسبب جروح أو مرض ومن ثم غير قادر على الدفاع عن نفسه؛
شريطة أن يحجم في أي من هذه الحالات عن أي عمل عدائي وألا يحاول الفرار.[276]
وهذه القاعدة هي جزء من القانون العرفي واجب التطبيق في النزاعات المسلحة غير الدولية.[277]
538 - يفسر الجزء الأخير من هذا التعريف ("شريطة أن يحجم في أي من هذه الحالات عن أي عمل عدائي وألا يحاول الفرار") السبب في ألا يكون الشخص العاجز عن القتال محلًا للهجوم. فحين يحجم الشخص عن الأعمال العدائية ولا يحاول الفرار، فلا يعود ثمة سبب لإيذائه. ولذلك، تظهر الرابطة بين هذه الشروط والمادة 3 المشتركة بشأن تحديد اللحظة التي يعتبر ابتداءً منها أحد أفراد القوات المسلحة (أو أحد المدنيين الذين يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية) في وضع الأشخاص العاجزين عن القتال، وعلى ذلك يصبح محميًا بموجب المادة 3 المشتركة.
539 - الأشخاص العاجزون عن القتال، على وجه الخصوص، بإفصاحهم الواضح عن نيتهم الاستسلام هم من "يلقون عنهم أسلحتهم" بالمعنى الوارد في المادة 3 المشتركة، ويدخلون ضمن نطاق الحماية الذي تسبغه عليهم هذه المادة.[278] وتشير المادة 3 المشتركة، بعد ذلك، إلى العوامل الأخرى، التي يلي ذكرها، والتي يحتمل أن تجعل الشخص عاجزًا عن القتال، أي "المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر". فالمرض والجرح هما حالان مألوفان لأفراد القوات المسلحة أثناء النزاعات المسلحة غير الدولية، كما هي الحال بشأن الاحتجاز، حيث تلجأ إليه في حالات النزاع الأطراف من الدول والأطراف من غير الدول على السواء.[279] وثمة أسباب أخرى تجعل الشخص عاجزًا عن القتال، منها على سبيل المثال، المنكوبون في البحار، أو الهابطون بالمظلة من طائرة مكروبة، أو الذين يقعون في قبضة أحد أطراف النزاع أو الذين يكونون بشكل آخر في قبضته– على سبيل المثال عند نقطة تفتيش – حتى لو لم يصل الوضع بعد إلى حالة احتجاز. وتشير العبارة المضافة "لأي سبب آخر" إلى أن مفهوم "العاجزين عن القتال" الوارد في المادة 3 المشتركة لا ينبغي أن يفسر تفسيرً ضيقًا.[280]
5-4. المادة 3 المشتركة وسير الأعمال العدائية
540 - لا تتطرق المادة 3 المشتركة إلى سير الأعمال العدائية. فأشكال الحماية الموضوعية في ذاتها التي تشتمل عليها المادة 3 المشتركة، مثل حظر التعذيب وأخذ الرهائن، تتصور وجود قدر معين من السيطرة على الأشخاص المعنيين: وهم الواقعون في قبضة أحد أطراف النزاع. ويشمل ذلك المدنيين الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة طرف في النزاع ولكن ليس فيما يتعلق بالإجراءات التي تتخذها الأطراف خضوعًا لقواعد سير الأعمال العدائية. وهذا التفسير له ما يؤيده في الأعمال التحضيرية لاتفاقيات جنيف والأدلة العسكرية والسوابق القضائية،[281] كما تؤيده المؤلفات الأكاديمية.[282]
541 - الحماية الوحيدة التي أثارت شكوكًا في هذا الصدد هي حظر القتل العمد الذي وجد أنه ينطبق في بعض الحالات على الهجمات غير المشروعة أثناء سير الأعمال العدائية.[283] ويؤيد بعض الشارحين وجهة النظر القائلة بأن المادة 3 المشتركة تتضمن بعضًا من التنظيم لسير العمليات العدائية.[284] فإذا كانت تلك هي الحال، فيجب تفسير حظر القتل العمد في ضوء قواعد محددة من بين قواعد سير الأعمال العدائية، ولا سيما تلك المتعلقة بالتمييز والتناسب والحيطة. إن إزهاق الأرواح بالامتثال لقواعد سير الأعمال العدائية لا يرقى إلى مستوى القتل العمد بموجب المادة 3 المشتركة.
542 - وترى اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنه يتفرع عن سياق اتفاقيات جنيف المؤرخة في 1949، التي وضعت فيها المادة 3 المشتركة، أنه لم يكن القصد منها تنظيم سير الأعمال العدائية.[285] والمادة 3 المشتركة حسب نصها الذي اعتمد في النهاية نشأت عن صياغات تقترح تطبيق مبادئ اتفاقيات جنيف – أو أحكام تلك الاتفاقيات كما هي – على النزاعات المسلحة غير الدولية. فالشاغل الرئيسي وراء اتفاقيات جنيف هو حماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية الواقعين في قبضة أحد أطراف النزاع، وليس تنظيم سير الأعمال العدائية ذاتها ومن ثم ينبغي أن ينسحب ذات القول على المادة 3 المشتركة التي أُقرت بغية توسيع نطاق جوهر اتفاقيات جنيف لكي تطبق على النزاعات المسلحة غير الدولية.[286]
543 - إنه لأمر واقع في النزاعات المسلحة غير الدولية أن تؤدي الأعمال العدائية إلى وفاة أو إصابة أشخاص لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية، سواء أكان ذلك نتيجة لأنهم قد اُتخذوا، على نحو غير مشروع، هدفًا لهجمات أم لأنهم قد سقطوا عرضًا ضحايا لتلك الهجمات. ومع ذلك، لا تصلح المادة 3 المشتركة لتقييم مشروعية سير الأعمال العدائية التي تحكمها قواعد محددة من القانون الإنساني. وفيما يخص النزاعات المسلحة غير الدولية، يمكن الوقوف على تلك القواعد في البروتوكول الإضافي الثاني والقانون الدولي العرفي.[287]
5-5. انطباق المادة 3 المشتركة على جميع المدنيين وعلى القوات المسلحة التابعة لأحد الأطراف
544 - يقتصر العديد من أحكام اتفاقيات جنيف، ولا سيما الاتفاقيتان الثالثة والرابعة، على توفير الحماية حال الوقوع في أيدى العدو،[288] في حين لا تقتصر أحكام أخرى على تلك الحماية. وتلك هي الحال في الاتفاقية الأولى وبالأخص الحكم الوارد فيها الذي يحدد أشكال الحماية الرئيسية التي تنص عليها هذه الاتفاقية، أي المادة 12.[289]
545 - تشير صياغة المادة 3 المشتركة إلى انطباقها على جميع الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية "دون أي تمييز ضار".[290] ولا تتضمن المادة أي قيود تقتضي وقوع الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية في قبضة العدو لكي تسبغ عليهم الحماية التي توفرها هذه المادة.
546 - من المنطقي أن يتمتع المدنيون بالحماية التي توجبها المادة 3 المشتركة بصرف النظر عن طرف النزاع الخاضعين له. ومن المستحيل عملًا في غالب الأحوال في النزاع المسلح غير الدولي تحديد ما إذا كان عموم السكان الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية تابعين لهذا الطرف أو ذاك. وخلافًا لما هو مألوف في النزاعات المسلحة الدولية،[291] لا يمكن اللجوء إلى معايير موضوعية مثل معيار الجنسية.[292] ولذلك يصعب التوفيق بين قصر الحماية التي توفرها المادة 3 المشتركة على الأشخاص التابعين، أو الذين يُعتقد أنهم تابعون، للطرف المعادي وبين الحماية المنشودة من المادة 3 المشتركة.
547 - وهناك مسألة أخرى وهي ما إذا كانت القوات المسلحة لطرف ما في نزاع تنتفع من تطبيق الطرف الذي تتبعه للمادة 3 المشتركة.[293] وتشمل الأمثلة أفرد القوات المسلحة الذين حوكموا على جرائم ادعى الطرف الذي يتبعونه ارتكابهم لها – مثل جرائم الحرب أو الجرائم العادية في سياق نزاع مسلح – وأفراد القوات المسلحة الذين استغلهم جنسيًا الطرف الذي يتبعونه أو غير ذلك من أشكال الاستغلال.[294] وكون المحاكمة يجريها الطرف الذي يتبعه الأفراد، أو أن الاستغلال يقع من جانبه، لا ينهض أساسًا لحرمان أولئك الأفراد الحماية التي تكفلها لهم المادة 3 المشتركة. ويؤيد ذلك الفهم الطابع الجوهري للمادة 3 المشتركة التي أُقرت بحسبانها "أدنى معيار" في جميع النزاعات المسلحة وأنها إبراز "للاعتبارات الأولية للإنسانية".[295]
548 - في العديد من الحالات، قد لا يكون من الضروري بالطبع الاستناد إلى المادة 3 المشتركة من أجل حمل طرف في النزاع على معاملة أفراد قواته المسلحة معاملة إنسانية، سواء لأنه يشعر بأن عليه التزام طبيعي لمعاملتهم على ذلك النحو، أو أن ذلك من أجل مصلحته الشخصية، أو لأن القانون الوطني وقانون حقوق الإنسان الدولي، في حالة الأطراف من الدول على الأقل، يقتضيان معاملة إنسانية تعادل على أقل تقدير تلك المعاملة حسب المعنى الوارد في المادة 3 المشتركة.
549 - ورغم ما تقدم، ينبغي على جميع أطراف النزاع معاملة قواتها المسلحة معاملة إنسانية استنادًا إلى المادة 3 المشتركة وذلك بقدر ارتباط حالة معينة بنزاع مسلح غير دولي كما هي الحال في الأمثلة الواردة أعلاه.
6. الفقرة الفرعية (1): الالتزامات الأساسية بموجب المادة 3 المشتركة
6-1. الالتزام بالمعاملة الإنسانية
6-1-1. المقدمة
550 - الالتزام بالمعاملة الإنسانية هو حجر الزاوية لأشكال الحماية التي توفرها المادة 3 المشتركة. ورغم اقتضاب صياغة هذا الالتزام، فإنه التزام جوهري. وتتفرع عن هذا الالتزام المحظورات المحددة التي تنص عليها المادة 3 المشتركة في الفقرة الفرعية (1)، بهدف كفالة معاملة جميع الأشخاص الذين لا يشتركون، أو الذين لم يعودوا يشتركون، في الأعمال العدائية معاملة إنسانية من جانب الأطراف في النزاعات المسلحة غير الدولية سواء من الدول أو من غير الدول.
551 - كتب جان بيكتيه في عام 1958 أن مبدأ المعاملة الإنسانية "هو في واقع الأمر الفكرة المهيمنة التي يتكرر ظهورها في اتفاقيات جنيف الأربع".[296] وفيما يتعلق بالنزاعات المسلحة الدولية، جرى تقنين مبدأ المعاملة الإنسانية في لوائح لاهاي الصادرة عامي 1899 و1907، واتفاقيات جنيف المتعاقبة، والبروتوكول الإضافي الأول.[297] أما فيما يتعلق بالنزاعات المسلحة غير الدولية، فقد جرى تقنين ذلك الالتزام للمرة الأولى في المادة 3 المشتركة، وتأكد من جديد فيما بعد في البروتوكول الإضافي الثاني.[298]
6-1-2. المعاملة الإنسانية
552 - المعاملة الإنسانية للأشخاص المحميين بموجب المادة 3 المشتركة ليست مجرد توصية أو نداء أخلاقي. وكما يتضح من استخدام الفعل "يجب"، فإنها التزام يقع على أطراف النزاع بموجب القانون الدولي.
553 - ورغم ما سلف ذكره، فقد سكتت المادة 3 المشتركة وسكت غيرها من أحكام معاهدات القانون الإنساني عن إيراد تعريف دقيق لعبارة "المعاملة الإنسانية". بيد أن هذا السكوت ليس خللًا في تلك الأحكام. ويتحدد معنى المعاملة الإنسانية حسب السياق الذي ترد فيه مع مراعاة النظر فيه في ضوء الملابسات المادية التي تكتنف كل حالة على حدة أخذًا في الاعتبار العوامل الموضوعية والذاتية، مثل البيئة، والحالة البدنية والنفسية/ المعنوية للشخص، وسنه، وخلفيته الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية أو السياسية، وخبراته السابقة. وبالإضافة إلى ذلك، يتزايد الاعتراف بتباين أشكال الأثر الذي تخلفه النزاعات المسلحة على كل من النساء والرجال والفتيات والفتيان. ويجب التنبه إلى حالة الفرد وقدراته واحتياجاته الذاتية، ولا سيما كيفية اختلافها لدى الرجال عن النساء نتيجة للهياكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في المجتمع، حيث إن كل ذلك يسهم في فهم المعاملة الإنسانية التي تنادي بها المادة 3 المشتركة.[299]
554 - إذا كانت المادة 3 المشتركة قد أوردت تعريفًا شاملًا للمعاملة الإنسانية لأدى ذلك إلى وضع إطار يتهدده خطر الضيق الشديد لنطاقه وعدم مرونته، ومن ثم يأتي عاجزًا عن كفالة المعاملة الإنسانية في الحالات التي يتعين فيها النظر إلى ظروف معينة أو ظروف لم يكن من الممكن التنبؤ بها مثل الظروف المناخية أو الأمور ذات الحساسية الثقافية أو الاحتياجات الفردية. وفي ذات الوقت، فالسكوت المطبق عن تقديم أي إرشاد بشأن معنى المعاملة الإنسانية من شأنه أن يجعل أطراف النزاع المسلح في سعة أكثر مما ينبغي، ما يؤدي إلى تعدد التأويلات بما يتعارض مع أهداف هذه القاعدة الأساسية.[300] وكان النهج الذي وقع عليه الاختيار للمادة 3 المشتركة هو جعل حتمية المعاملة الإنسانية محورها الرئيسي، مع توضيح ذلك بإيراد أمثلة على الأفعال المحظورة. وبناء على ذلك، تقتضي المادة 3 المشتركة، بصورة قاطعة، معاملة الأشخاص الذين لا يشتركون، أو الذين لم يعودوا يشتركون، مباشرةً في الأعمال العدائية معاملة إنسانية في جميع الأحوال، بالإضافة إلى أنه "لهذا الغرض تُحظر" الأفعال التالية: الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وأخذ الرهائن، والاعتداء على الكرامة الشخصية، وإصدار الأحكام دون محاكمة عادلة "وتبقى محظورة في جميع الأوقات والأماكن".
555 - تبين عبارة "لهذا الغرض" بوضوح أن الالتزام بالمعاملة الإنسانية هو جوهر موضوع المادة 3 المشتركة. وللمعاملة الإنسانية معناها الخاص الذي يتجاوز المحظورات المذكورة التي هي مجرد أمثلة محددة على السلوك الذي يخالف، بلا أدنى شك، الالتزام بالمعاملة الإنسانية.[301]
556 - وفقًا للمعنى المعتاد لكلمة "إنسانية"، فإن ما ندعو إليه هو المعاملة "الرحيمة أو الخيرة"[302] تجاه الأشخاص المحميين بموجب المادة 3 المشتركة. ويظهر هذا المعنى بشكل مباشر في النسخة الفرنسية من النص الذي صيغ فيه الالتزام باقتضاء "معاملة [الأشخاص المحميين بموجب المادة 3 المشتركة] معاملة إنسانية".
557 - وقد دعت ممارسات الدول إلى معاملة تحترم الكرامة المتأصلة للفرد بوصفه إنسانًا.[303] ويبرز نفس الفهم للمعاملة الإنسانية في السوابق القضائية الدولية أيضًا.[304] فالأشخاص المحميون بموجب المادة 3 المشتركة يجب ألا يعاملوا أبدًا على أنهم أقل من غيرهم من البشر، كما يجب احترام كرامتهم الإنسانية المتأصلة وحمايتها.
558 - إضافة إلى ما ذكر، تقدم الأساليب التي أسهبت في تبيانها الدول بشأن الالتزام بالمعاملة الإنسانية في أدلتها العسكرية ومدوناتها لقواعد السلوك ووثائق سياساتها دلائل أخرى على ما يترتب على هذا الالتزام، وبالأخص فيما يتعلق بالأشخاص سليبي الحرية. ولا تقتصر هذه الوثائق على سرد الممارسات التي لا تتفق مع مفهوم المعاملة الإنسانية فحسب، بل تقدم أمثلة على ما يستتبعه شرط المعاملة الإنسانية. وتشمل هذه الأمثلة المعاملة مع إيلاء الاهتمام الواجب لجنس الفرد؛[305] واحترام عقائده وشعائره الدينية؛[306] وتوفير مياه الشرب والطعام بكميات كافية،[307] والملبس،[308] وضمانات الصحة والشروط الصحية؛[309] وتوفير الرعاية الطبية المناسبة؛[310] والحماية من العنف وأخطار النزاع المسلح؛[311] وتوفير الاتصالات المناسبة مع العالم الخارجي.[312]
6-1-3. في جميع الأحوال
559 - وفقًا للمادة 3 المشتركة، ينطبق الالتزام بالمعاملة الإنسانية "في جميع الأحوال"، وهي الصيغة التي تظهر أيضًا في مواد أخرى من معاهدات القانون الإنساني.[313]
560 - تشدد الصيغة على أن الالتزام بالمعاملة الإنسانية هو التزام مطلق لا مجال فيه لاستثناءات وليس ثمة ظروف تسوغ الخروج عنه.[314] وكما أوضحنا أعلاه، فإن الوفاء بالالتزام بتوفير الغذاء الكافي أو الرعاية الطبية مثلًا، قد يختلف تبعًا للظروف المحددة للنزاع المسلح،[315] إلا أن المعاملة التي يلقاها شخص محمي بموجب المادة 3 المشتركة يجب ألا تكون أقل إنسانية من المعيار الأدنى للمعاملة الواجبة لغيره من البشر.[316]
561 - وتُفسر عبارة "في جميع الأحوال" أيضًا باعتبارها تأكيدًا على عدم جواز التذرع بالضرورة العسكرية تكئة لعدم الوفاء بالالتزام بالمعاملة الإنسانية الوارد في المادة 3 المشتركة.[317] وتتضمن بعض مواد القانون الإنساني صراحةً اعتبارات تتعلق بالضرورة العسكرية، مع الموازنة بينها وبين المطالب الإنسانية. وفي حالة عدم إقامة حكم ما تلك الموازنة فلا بد حينئذ من افتراض أن الموازنة بين الضرورة العسكرية والإنسانية قد أُدرجت ضمن القاعدة وبالتالي لا يجوز التذرع بالضرورة العسكرية لتسويغ عدم التقيد بتلك القاعدة.[318] ولا يخضع الالتزام بالمعاملة الإنسانية الوارد في المادة 3 المشتركة لأي قيد صريح يستند إلى الضرورة العسكرية. وعلى ذلك، لا تبرر حجة التمسك بالضرورة العسكرية إتيان أفعال، أو الامتناع عن إتيانها، لا تتسق مع متطلبات المعاملة الإنسانية.
562 - تعزز عبارة "في جميع الأحوال" أيضًا الطبيعة غير التبادلية، أي تلك غير القائمة على المعاملة بالمثل، التي يتسم بها القانون الإنساني، ولا سيما المادة 3 المشتركة. فالطرف في النزاع المسلح ملزم بما يفرضه عليه القانون الإنساني من التزامات بصرف النظر عن سلوك الطرف المعادي. وعدم امتثال أحد الأطراف في نزاع مسلح لالتزاماته لا يعفي الطرف الآخر من أن يفي بها.[319] ويدعم تاريخ صياغة المادة 3 المشتركة هذا الفهم. وكما ناقشنا في القسم (ب)، نصت المشاريع الأولى لصياغة هذه المادة على المعاملة بالمثل حتى يتسنى تطبيق القانون الإنساني بين أطراف نزاع مسلح غير دولي.[320] غير أن النص أغفل شرط المعاملة بالمثل وعبر عن نقيضه باستخدام عبارة "في جميع الأحوال".
563 - خلا القانون الدولي عند الحديث عن النزاع المسلح غير الدولي من قواعد تتعلق باللجوء إلى القوة بمعنى قانون شن الحرب (jus ad bellum). وتؤكد عبارة "في جميع الأحوال" من جديد على أن مشروعية لجوء أحد الأطراف إلى القوة أو عدم مشروعية استخدام الخصم للقوة لا تبرران انتهاكات القانون الذي ينظم طريقة استخدام هذه القوة.[321] وعادةً ما تحظر القوانين الوطنية للدول أعمال العنف ضد السلطات الحكومية أو فيما بين الأشخاص داخل إقليمها، ورغم ذلك تتمتع الدول، بوجه عام، بحق استخدام القوة لاستعادة الأمن العام والقانون والنظام داخل أراضيها.[322] وبغض النظر عن ذلك الحق، فإن مجرد وصول حالة العنف إلى الحد الفاصل للنزاعات المسلحة غير الدولية يفرض على جميع أطراف النزاع التقيد بالالتزامات التي تفرضها معاهدات القانون الإنساني والقانون العرفي الإنساني. وسواء أكان يحق لطرف في نزاع مسلح غير دولي من الدول أو من غير الدول الانخراط في هذا النزاع طبقًا للقانون الداخلي من عدمه، فهذا أمر لا يمت بصلة بالتزاماته طبقًا للقانون الإنساني. فالقانون الإنساني واجب التطبيق على النزاعات المسلحة غير الدولية وُضع تحديدًا لتنظيم حالات العنف تلك، وبخاصة من أجل حماية جميع الأشخاص الذين لا يشتركون، أو لم يعودوا يشتركون، مباشرةً في الأعمال العدائية. وفي حالة رهن انطباق القانون الإنساني بمشروعية أو عدم مشروعية اللجوء إلى القوة، فلم يكن للقانون الإنساني ليحقق هذا الغرض.[323]
564 - وأخيرًا، من المهم أن نشير إلى أن عبارة "في جميع الأحوال" يجب ألا تفهم على أن المادة 3 المشتركة باعتبارها من أحكام المعاهدات تنطبق على جميع النزاعات المسلحة، أي في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية على حد سواء. ويتعارض هذا التفسير مع النطاق المحدد لتطبيق المادة 3 المشتركة الذي يقتصر على النزاعات المسلحة غير الدولية. بيد أن القواعد الأساسية للقانون الإنساني المنصوص عليها في المادة 3 المشتركة حظيت، في الوقت الراهن، بالاعتراف بحسبانها "حدًا أدنى" ملزمًا في جميع النزاعات المسلحة وأنها إبراز "للاعتبارات الأولية للإنسانية".[324] وإضافة إلى ذلك، هناك قواعد أكثر تفصيلًا في المعاهدات تنص على المعاملة الإنسانية للأشخاص المعرضين للخطر مثل أولئك الذين تشملهم المادة 3 المشتركة بالحماية أثناء النزاعات المسلحة الدولية.[325]
6-2. حظر التمييز الضار
6-2-1. المقدمة
565 - يعامل الأشخاص المحميون بموجب الفقرة الفرعية (1) من المادة 3 المشتركة في جميع الأحوال معاملة إنسانية "دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون، أو الدين أو المعتقد، أو الجنس، أو المولد أو الثروة أو أي معيار مماثل آخر".
566 - ويؤكد البروتوكول الإضافي الثاني من جديد هذا الالتزام.[326]
567 - إن الإصرار على تطبيق بعض قواعد القانون الإنساني دون تمييز يمكن أن يرجع إلى أصول تدوين القانون الإنساني واجب التطبيق على النزاعات المسلحة الدولية.[327] فقد نصت المادة 4 من اتفاقية جنيف لعام 1929 بشأن معاملة أسرى الحرب على الاعتبارات التي تشكل أساس حظر التمييز الضار في القانون الإنساني: "لا يسمح بفروق في المعاملة بين الأسرى إلا إذا كانت هذه الفروق قائمة على الرتب العسكرية، أو الصحة البدنية أو النفسية/ المعنوية، أو القدرات المهنية، أو جنس المستفيدين منها". وعلى هذا النحو، فإن التمييز في المعاملة ليس محظورًا في حد ذاته، بل قد يكون مطلوبًا بموجب القانون الإنساني. ويعكس هذا النهج البند الوارد في المادة 3 المشتركة. ويحظر أي شكل من أشكال التمييز الذي لا تسوغه حالات واحتياجات مختلفة اختلافًا جوهريًا.[328]
6-2-2. التمييز الضار
568 - تقتضي المادة 3 المشتركة المعاملة الإنسانية "دون أي تمييز ضار". وتعزز هذه العبارة الطابع المطلق لالتزام المعاملة الإنسانية بموجب هذه المادة.
569 - وتسرد المادة 3 المشتركة معايير "العنصر أو اللون، أو الدين أو المعتقد، أو الجنس، أو المولد أو الثروة" بوصفها أسس حظر التمييز الضار بين الأشخاص المحميين. وكما يتضح من إضافة العبارة الختامية "أو أي معيار مماثل آخر"، فإن هذا السرد ليس سردًا شاملًا لكل المعايير بل هو من قبيل التمثيل فقط. وعلى ذلك، فإنه يحظر بالمثل التمييز الضار القائم على أسس أخرى، مثل السن أو الحالة الصحية أو مستوى التعليم أو الروابط الأسرية للشخص المحمي بموجب المادة 3 المشتركة.
570 - وأضيفت أسس أخرى لحظر التمييز الضار صراحةً في المادة 2(1) من البروتوكول الإضافي الثاني، وهي: اللغة أو الدين أو العقيدة أو الآراء السياسية أو غيرها أو الانتماء الوطني أو الاجتماعي، ومرة أخرى تأتي هذه الأسس مصحوبة أيضًا بالعبارة الختامية "أو أي معيار مماثل آخر".[329] وتشكل هذه الأسس أيضًا معايير مجحفة "مماثلة أخرى" تحظرها المادة 3 المشتركة.
571 - وخلافًا لأحكام القانون الإنساني الأخرى،[330] لم تدرج المادة 3 المشتركة "الجنسية" باعتبارها معيارًا محظورًا.[331] وقد ينظر إلى ذلك على أنه مجرد إبراز للاعتبار أن مسائل الجنسية في النزاعات المسلحة غير الدولية لا يتوافر ظهورها بذات القدر في النزاعات المسلحة الدولية. بيد أنه ليس من الضروري أن يكون الأمر كذلك حيث قد ينخرط أيضًا أشخاص من جنسيات مختلفة في نزاع مسلح غير دولي أو قد يتأثرون به. ورغم تسليم الفريق العامل المعني بإعداد مشروع النص النهائي للمادة 3 المشتركة في المؤتمر الدبلوماسي الذي عقد عام 1949 بهذا الأمر، فلقد قرر عدم إدراج الجنسية كمعيار، نظرًا لأنها قد تجعل من المشروع تمامًا لحكومة ما أن تعامل المتمردين الذين يحملون جنسيتها معاملة مختلفة بالمعنى الضار عن معاملتها للأجانب المشتركين في حرب أهلية. وقد يُنظر إلى الأجانب على أنهم مذنبين بارتكاب جريمة أشد من مواطني البلد المعني أو، على النقيض من ذلك، قد يعاملون بشكل أقل حدة أو يتعرضون للترحيل فحسب.[332]
572 - وكان في عدم إدراج "الجنسية" في تلك القائمة أخذًا في الاعتبار، وبحق، إلى أن الدول لها الحق في فرض عقوبات بمقتضى القوانين الوطنية على من يشترك في نزاع مسلح غير دولي. بيد أن هذا الأمر لا يؤثر إطلاقًا في حتمية المعاملة الإنسانية التي تقتضيها المادة 3 المشتركة دون أي تمييز ضار. والمادة 3 المشتركة هي مادة ذات طابع إنساني بحت، وهي لا تقيد حق الدول في قمع النزاعات المسلحة غير الدولية أو معاقبة المتورطين فيها. وينحصر تركيزها على ضمان أن يعامل كل شخص لا يشترك أو لم يعد يشترك مباشرةً في الأعمال العدائية معاملة إنسانية. وفي سياق التقييم القضائي المحلي للنزاعات المسلحة غير الدولية، يمكن النظر إلى الجنسية بوصفها ظرفًا مشددًا أو مخففًا، ولكن لا يمكن النظر إليها على أنها تؤثر بأي شكل من الأشكال في الالتزام بالمعاملة الإنسانية بموجب القانون الإنساني. ومعاملة المواطنين الأجانب في نزاع مسلح غير دولي معاملة غير إنسانية تتنافى مع المادة 3 المشتركة.[333] وفي حين لم يدرج المؤتمر الدبلوماسي الذي عقد عام 1949 الجنسية بوصفها معيارًا من المعايير المحظورة، للأسباب المذكورة أعلاه، يجب أن يفسر ذلك على أنها تدخل ضمن مفهوم "معيار مماثل آخر" بموجب المادة 3 المشتركة.[334]
573 - وحتى يكون حظر "أي تمييز ضار" بموجب المادة 3 المشتركة كامل الفعالية، يجب أن يُفسر على أنه لا يشمل فقط التدابير التي تميز بعض الأشخاص المحميين بموجب المادة 3 المشتركة ليعاملوا معاملة ضارة، بل أيضًا ما يبدو محايدًا من التدابير التي لها تأثير سلبي على أشخاص بأعيانهم. وفيما يخص الأشخاص الواقعين ضمن نطاق الحماية الذي تكفله المادة 3 المشتركة، فلا يهم ما إذا كان الاختيار قد وقع عليهم مباشرةً ليعاملوا معاملة لاإنسانية، أو ما إذا كانت تلك المعاملة اللاإنسانية هي نتيجة غير مباشرة للسياسات العامة.[335] ولذلك، يجب على الأطراف في النزاعات المسلحة غير الدولية، عند إقرار سياسات عامة، مراعاة العواقب المحتملة لتلك السياسات على جميع الأشخاص المحميين بموجب المادة 3 المشتركة الذين يتأثرون بهذه السياسات.
6-2-3. التمييز غير الضار
574 - المادة 3 المشتركة، كما أسلفنا، شأنها شأن الأحكام الأخرى للقانون الإنساني، لا تحظر التمييز في حد ذاته.
575 - فالمادة 3 المشتركة لا تحظر التمييز غير الضار، أي التمييز الذي تبرره الحالات والاحتياجات المختلفة اختلافًا جوهريًا للأشخاص المحميين بموجبها.
576 - وهذا يسمح بتباين المعاملة الذي يحقق، في واقع الأمر، أغراض الوصول إلى المعاملة الإنسانية للشخص. فالالتزام القانوني بالمعاملة الإنسانية طبقًا للمادة 3 المشتركة هو التزام مطلق؛ ومع ذلك يجب تكييف طرق تحقيق هذه المعاملة حسب الاحتياجات الخاصة للشخص.[336] والمعاملة التي يحظى بها أحد الأشخاص وتعد معاملة إنسانية قد لا تكون بالضرورة كافية في ذاتها لأن تعد معاملة إنسانية إذا طبقت على غيره من الأشخاص. ولذلك، فإن المادة 3 المشتركة لا تحظر المعاملة المتمايزة التي هي في الواقع ضرورية من أجل تحقيق المعاملة الإنسانية.[337]
577 - لا تنص المادة 3 المشتركة بشكل محدد على الأسس التي تبرر المعاملة المتمايزة بين الأشخاص الذين تشملهم بالحماية. غير أنه يمكن الوقوف على هذه الأسس في العديد من أحكام القانون الإنساني الأخرى. ولقد جرى العرف على وجه الخصوص على أن حالة الشخص الصحية أو سنه أو جنسه يبرر تمايز المعاملة، بل في حقيقة الأمر يقتضيها.[338] ومن أجل الحفاظ على حياة الشخص، على سبيل المثال، قد تقتضي خطورة جروح الشخص أو مرضه، إيلاء الأولوية لعلاجه قبل غيره من المصابين أو المرضى بدرجة أقل.[339] وقد تتطلب سن الشخص المسلوبة حريته معاملة مناسبة، على سبيل المثال، من حيث نوعية الطعام أو الرعاية الطبية المقدمة له؛ كما إن النساء الحوامل أو المراضع المحتجزات قد يتطلبن، بالمثل، تغذية ورعاية طبية خاصتين أو إجراء تعديلات على تنظيم أماكن إيوائهنَ وتجهيزها.
578 - كما يمكن أيضًا الوقوف على أسس للتمييز غير الضار في الوعي بالكيفية التي يشكل بها السياق الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو السياسي في مجتمع ما أدوارًا أو أنماطًا ذات أوضاع واحتياجات وقدرات محددة تختلف بين الرجال والنساء حسب اختلاف الأعمار والخلفيات. ومراعاة هذه الاعتبارات ليس انتهاكًا لحظر التمييز الضار، بل بالأحرى يسهم في تحقيق المعاملة الإنسانية لجميع الأشخاص المحميين بموجب المادة 3 المشتركة.[340]
579 - ويمكن دائمًا لطرف في نزاع مسلح غير دولي أن يختار منح معاملة تفوق مستوى المعاملة الإنسانية. بيد أن المادة 3 المشتركة لم تورد أي التزام قانوني في هذا الشأن.
580 - وفي جميع الأحوال، يجب ألا تؤدي المعاملة التي تفوق مستوى المعاملة الإنسانية، الممنوحة لبعض الأشخاص، بأي حال من الأحوال، إلى منح معاملة أقل من المعاملة الإنسانية لجميع الأشخاص الآخرين المحميين بموجب الفقرة الفرعية (1) من المادة 3.
7. الفقرة الفرعية (1): الأفعال المحظورة طبقًا للمادة 3 المشتركة
7-1. المقدمة
581 - تستهل هذه الفقرة الفرعية بجملة نصها، "ولهذا الغرض، تحظر الأفعال التالية فيما يتعلق بالأشخاص المذكورين أعلاه، وتبقى محظورة في جميع الأوقات والأماكن" هذه الكلمات الأولى من المادة – "ولهذا الغرض" – تؤكد مجددًا أن الأفعال المحظورة التي نصت عليها هذه الفقرة الفرعية تهدف إلى كفالة المعاملة الإنسانية لجميع الأشخاص الذين يقعون ضمن نطاق الحماية الذي تنص عليه المادة.
582 - بالإضافة إلى ما تقدم فإن عبارة "تحظر، وتبقى محظورة" تؤكد مجددًا أن تلك المحظورات مطلقة ولا تقبل أي استثناء عليها.
583 - العبارة "في جميع الأوقات والأماكن" تشير إلى النطاق الجغرافي والزمني لتطبيق المادة 3 المشتركة.[341] أما الإشارة إلى "الأشخاص المذكورين أعلاه" فهي إشارة إلى الأشخاص الذين تشملهم بالحماية الفقرة الفرعية الماثلة.[342]
7-2. الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه والمعاملة القاسية، والتعذيب
7-2-1. الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية
7-2-1-1. المقدمة
584 - جاء الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية في صدارة الأفعال التي تحظرها، على وجه التحديد، المادة 3 المشتركة. ويؤكد الموضع البارز لهذا الحظر أهميته الجوهرية في كفالة المعاملة الإنسانية.
585 - تحمي المادة 3 المشتركة الأشخاص الذين لا يشتركون، أو الذين لم يعودوا يشتركون، في الأعمال العدائية.[343] وعلى ذلك يصبح جليًا سبب تجريم المادة الاعتداء على حياة أولئك الأشخاص وسلامتهم البدنية. فليس لهذا النوع من الاعتداء أي تأثير على العمليات أو القدرات العسكرية للعدو، وليس هناك حاجة عسكرية تقتضي الاعتداء على السلامة البدنية للأشخاص.[344] فإزهاق الأرواح أو الاعتداء على السلامة البدنية أو النفسية/ المعنوية للشخص يتنافى مع حتمية المعاملة الإنسانية التي تقوم عليها المادة 3 المشتركة.
586 - وتؤكد المادة 4(2)(أ) من البروتوكول الإضافي الثاني من جديد حظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية.
587 - توضح المادة 3 المشتركة حظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية عبر سرد العناصر التالية "وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب" وهي أفعال محظورة. وهذا يعني أن الأفعال التي أغفل السرد ذكر أمثلة بعينها عليها لا يزال من الممكن إدراجها تحت الحظر العام، وهكذا فهناك من الأفعال ما لا يصل إلى مستوى التعذيب أو المعاملة القاسية، على سبيل المثال، ولكن لا يزال من الممكن حظرها بحسبانها فعلًا من أفعال العنف الموجه ضد الأشخاص.
588 - وتقتضي معاهدات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، كل في نطاق انطباقه، احترام الحق في الحياة[345] والحق في السلامة البدنية.[346] وبوجه عام، تستبعد هذه الصكوك الانتقاص من هذين الحقين في حالات الطوارئ العامة.[347]
7-2-1-2. القيم المحمية: الحياة والسلامة البدنية
589 - القيمة الأولى التي يحميها حظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية هي حياة الإنسان. ويؤكد هذا الحظر على الأهمية الشاملة لاحترام حياة الأشخاص المستفيدين من الحماية التي تكفلها المادة 3 المشتركة. ويصبح الغرض النهائي للمادة، وهو المعاملة الإنسانية، أمرًا بعيد المنال في حال عدم احترام حياة الأشخاص.[348]
590 - القيمة الثانية التي يحميها هذا الحظر هي "شخص الإنسان". ولكن في النص الصادر باللغة الإنجليزية تشير المادة 3 المشتركة إلى "شخص الإنسان" دون أن تحدد ما إذا كان هذا الأمر يقتصر على السلامة البدنية للشخص أم يشمل أيضا سلامته النفسية/ المعنوية أيضًا. أما النسخة الفرنسية المتساوية في الحجية، ]وتجاريها في ذلك النسخة العربية[، [349] تأتي الصياغة أكثر تحديدًا ("atteintesportées à la vie et à l’intégritécorporelle")، (الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية) بما يشير إلى أن السلامة النفسية/ المعنوية للشخص مستبعدة من نطاق حماية حظر الاعتداء على السلامة البدنية في المادة 3 المشتركة. وتحظر المادة 4(2) من البروتوكول الإضافي الثاني صراحةً "الاعتداء على ... الصحة والسلامة البدنية أو العقلية للأشخاص". فمن ناحية، يمكن تفسير ذلك على أنه توضيح أن الاعتداء على "شخص الإنسان" يشمل أيضًا الاعتداء على السلامة النفسية/ المعنوية للشخص، أو من الناحية الأخرى، يمكن اعتباره دليلًا على أن الاعتداء على السلامة النفسية/ المعنوية قد استبعد عمدًا من حظر الاعتداء على السلامة البدنية الوارد في المادة 3 المشتركة.[350] بيد أنه من المقبول على نطاق واسع اليوم أن حظر التعذيب والمعاملة القاسية بموجب المادة 3 المشتركة – وهما مثالان محددان على حظر الاعتداء على الأشخاص- يشمل أفعالًا تلحق الضرر بالسلامة النفسية/ المعنوية للشخص.[351]
7-2-1-3. السلوك المحظور: الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية
591 - تحظر المادة 3 المشتركة "الاعتداء" على الحياة والسلامة البدنية للأشخاص الذين يدخلون في نطاق حمايتها؛ ولم تضع المادة تعريفًا لكلمة "الاعتداء".
592 - من الواضح أن حظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية يشمل العنف الذي يفضي إلى وفاة أو إصابة شخص محمي بموجب المادة 3 المشتركة. إلا أن الإخلال بحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية ليس مرهونًا بموت الضحية. وفي كثير من الحالات يؤدي الاعتداء على الحياة الذي لا يفضي إلى موت الضحية، على الأقل، إلى بعض الضرر البدني أو النفسي/ المعنوي، وبالتالي يدخل في نطاق حظر الاعتداء على السلامة البدنية.
593 - مع مراعاة الغرض الكامن وراء حظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية – أي كفالة المعاملة الإنسانية للأشخاص الذين لا يشتركون، أو لم يعودوا يشتركون، مباشرةً في الأعمال العدائية – يجب أن يُفهم الحظر أيضًا على أنه يشمل الامتناع عن إتيان أفعال بعينها في ظل ظروف معينة. على سبيل المثال، أن يترك المرء الأشخاص الواقعين تحت مسؤوليته يتضورون جوعًا حتى الموت بعدم تقديم الغذاء لهم، أو أن يترك هؤلاء الأشخاص يموتون أو تستمر معاناتهم من الجروح أو المرض بعدم توفير الرعاية الطبية، رغم إمكانية توفير ذلك، وهذا يتنافى مع شرط المعاملة الإنسانية.[352]
594 - وكما هو واضح من إقرار "الإعدامات" في الفقرة الفرعية (1)(د)، لا تحظر المادة 3 المشتركة عقوبة الإعدام ضد الأشخاص الداخلين في نطاق حمايتها. بيد أنها تقتضي ألا يصدر حكم بالإعدام أو تنفذ العقوبة به إلا بعد "إجراء محاكمة سابقة أمام محكمة مشكّلة تشكيلًا معتادًا، وتكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة".[353] ولن يكون إصدار أحكام الإعدام أو تنفيذها[354] دون احترام هذه الشروط الصارمة مجرد انتهاك للفقرة الفرعية (1)(د)، بل يشكل أيضًا اعتداءً غير مشروع على الحياة بمفهوم الفقرة الفرعية (1)(أ).[355]
595 - لا تتضمن المادة 3 المشتركة حظرًا محددًا على العقوبات البدنية. ويرد ذكر هذا الحظر صراحةً في المادة 4(2)(أ) من البروتوكول الإضافي الثاني الذي يحظر: "الاعتداء على حياة الأشخاص وصحتهم وسلامتهم البدنية أو النفسية/ المعنوية ولا سيما القتل والمعاملة القاسية كالتعذيب أو التشويه أو أي صورة من صور العقوبات البدنية". ويمكن تفسير ذلك الأمر على أنه إشارة إلى أن حظر العقوبات البدنية في البروتوكول الإضافي الثاني اقتضى النص صراحة على ذلك، وأنها ليست محظورة بموجب المادة 3 المشتركة.[356] غير أن المادة 3 المشتركة تتضمن حظرًا محددًا للمعاملة القاسية، وهي الفئة ذاتها التي تدرج تحتها المادة (4)(2)(أ) من البروتوكول الإضافي الثاني حظر العقوبات البدنية على سبيل المثال. وعلاوة على ذلك، تُحظر العقوبات البدنية ضمن تلك المحظورات التي تتضمنها المادة 3 المشتركة إذا استوفيت الشروط المحددة للتشويه أو التعذيب، على سبيل المثال.[357]
7-2-2. القتل العمد
596 - المثال المحدد الأول "الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية" الوارد في المادة 3 المشتركة هو "القتل بجميع أشكاله". تأكد حظر القتل العمد من جديد في المادة 4(2)(أ) من البروتوكول الإضافي الثاني، وهو أيضًا جزء من القانون الدولي العرفي.[358]
597 - لم تضع المادة 3 المشتركة أو غيرها من أحكام القانون الإنساني تعريفًا لكلمة "القتل". وقد قيل في هذا الصدد أن "القتل هو جريمة مفهومة بوضوح ومحددة تحديدًا جيدًا في القانون الوطني لكل دولة. وهذا الفعل المحظور ليس بحاجة إلى مزيد من الإيضاح".[359] ومع ذلك، تتباين التصورات بشأن مفهوم القتل العمد في القوانين الوطنية تأثرًا بتقاليد القانون الجنائي في كل منها.[360] وعلى ذلك، من المفيد ملاحظة أن المادة 3 المشتركة تحظر القتل "بجميع أشكاله"، الأمر الذي يعني أن حظر القتل العمد الوارد في المادة 3 المشتركة ينبغي ألا يفسر تفسيرًا ضيقًا.
598 - استمرت ملاحقة مرتكبي انتهاكات المادة 3 المشتركة، ولا سيما "قتل" الأشخاص الذين لا يشتركون، أو لم يعودوا يشتركون، مباشرةً في الأعمال العدائية، بموجب المادة 3 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة المؤرخ في 1993 (انتهاكات قوانين الحرب أو أعرافها).[361] ووفقًا للمحكمة، "ربما لا يكون من المستطاع وضع خط فاصل بين "القتل العمد" (willful killing) و"القتل العمد"(murder)بشكل يؤثر على مضمون كل منهما"،[362][363] فالاختلاف الوحيد هو أنه "طبقًا للمادة 3 من النظام الأساسي، لا يتطلب الأمر أن تكون الجريمة موجهة ضد "شخص محمي" ولكن ضد أي من الأشخاص الذين "لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية".[364] وتأكد هذا النهج مجددًا في أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية عام 2002، الذي أقر أركانًا تكاد تتطابق في جرائم الحرب المتمثلة في "القتل العمد" في النزاعات المسلحة الدولية، و"القتل العمد" في النزاعات المسلحة غير الدولية، باستثناء ضحايا الجرائم.[365] وعلى ذلك، يمكن الرجوع إلى السوابق القضائية الدولية في مفهوم "القتل العمد" للوقوف على معنى "القتل العمد" (willful killing) أو "القتل العمد"(murder).[366]
599 - بناء على ما سبق ذكره، يمكن الوقوف على العناصر تالية الذكر لحظر "القتل العمد" بموجب المادة 3 المشتركة:
- يحظر قتل الأشخاص المحميين بموجب المادة 3(1) المشتركة أو التسبب في وفاتهم.[367]
- يحظر أيضًا بحسبانه قتلًا عمدًا إزهاق روح أولئك الأشخاص بنية ذلك أو التسبب في وفاتهم عن رعونة أو إهمال، بحسبان ذلك شكلًا من أشكال "القتل العمدي". ولا تندرج تحت الحظر المفروض على "القتل العمدي" حالات الوفاة التي تقع عرضًا بشكل محض أو نتيجة لم يكن من الممكن التنبؤ بتحققها عن إهمال المرء أو امتناعه عن فعل.[368] وفي كثير من الحالات، مثل حالة سلب الحرية، يخضع الأشخاص المحميون بمقتضى المادة 3 المشتركة للسيطرة الكاملة لطرف في النزاع، وبالتالي يعتمدون على ذلك الطرف للبقاء على قيد الحياة. ونتيجة لذلك، قد يُنظر إلى خلق ظروف احتجاز غير صحية أو التهاون مع وجود مثل تلك الظروف على أنه إتيان فعل أو الامتناع عنه عن قصد أو عن رعونة، وكلاهما يتحقق به "العمد".[369]
- الفعل والامتناع عن الفعل كلاهما محظور.[370] على سبيل المثال، يمكن أن يندرج عدم توفير القدر الكافي من الغذاء أو الرعاية الطبية للأشخاص المحميين بموجب المادة 3 المشتركة الذين يقعون تحت مسؤولية شخص ما مع إمكانية توفير ذلك، ما يفضي إلى موتهم جوعًا، تحت حظر القتل العمد طبقًا للمادة 3 المشتركة.[371]
600 - غير أن مفهوم القتل العمد بالمعنى الوارد في المادة 3 المشتركة لا ينطبق على القتل أثناء سير الأعمال العدائية.[372] ويتعين تقييم مشروعية هذا النوع من القتل على أساس القواعد المحددة المتعلقة بسير الأعمال العدائية، ولا سيما القواعد المتعلقة بالتمييز والتناسب والحيطة.
7-2-3. التشويه
601 - المثال المحدد الثاني على حظر "الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية" هو التشويه. وهذا الحظر هو من قواعد القانون الإنساني الراسخة.[373] ويرد ذكر التشويه أيضًا في مواد أخرى من اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة ويتأكد مجددًا في البروتوكولين الإضافيين المؤرخين في عام 1977.[374] وأصبح هذا الحظر الآن جزءًا من القانون الدولي العرفي.[375] ويخلو القانون من أي إشارة إلى اكتساب مصطلح "التشويه" معنى مختلفًا في النزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية، ولا يستنبط أيضًا من الممارسات ما يشير إلى ذلك.[376]
7-2-3-1. تعريف التشويه
602 - لم تورد اتفاقيات جنيف أو البروتوكولات الإضافية تعريفًا محددًا للتشويه. وتستخدم اتفاقيات جنيف والبروتوكولان مصطلحي "التشويه البدني" و"التشويه".[377] ويُعرف مصطلح "التشويه" بمعناه العادي على أنه "إلحاق الأذى أو الضرر بشدة، عادةً بغية إحداث عاهة".[378] وبالتالي فإن مصطلح التشويه يشير إلى فعل من أفعال العنف البدني. وعلى ذلك، يجب أن يُفهم مصطلحا "التشويه" و"التشويه البدني" على أنها من قبيل الترادف.[379]
603 - تنص أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية على أن التشويه يتمثل "على نحو خاص" في "إحداث عاهة مستديمة لهذا الشخص أو الأشخاص" أو "إحداث عجز دائم أو بتر في عضو من أعضائهم أو طرف من أطرافهم".[380] ويُتبع هذا التعريف في السوابق القضائية للمحكمة الخاصة لسيراليون.[381] ومع ذلك، لا يبدو أن هناك، في الوقت الراهن، سوابق قضائية وطنية أو دولية تعزز تفسير مصطلحات "التشويه" أو "إحداث عاهة مستديمة" أو "إحداث عجز دائم أو بتر" على النحو المستخدم في أركان الجرائم.
604 - ينبغي أن يُفهم مصطلح ضرر "دائم" المستخدم في أركان الجرائم بمعناه العادي وهو "دائم أو باق دون تغيير إلى ما لا نهاية، أو يقصد منه أن يكون كذلك؛ أي غير مؤقت".[382] ويشير ذلك ضمنًا إلى أنه ليس من الضروري أن تستمر الإصابة إلى الأبد.[383]
605 - كما ينبغي أيضًا أن يُفهم مصطلح "إحداث عاهة" المستخدم في أركان الجرائم بمعناه العادي، أي "إفساد مظهر المرء".[384] ولفظ "الإفساد"، بدوره، يستلزم درجة معينة من الشدة.[385]
606 - توضح الممارسات الموثقة في النزاعات المسلحة المعاصرة السلوكيات التي تتوافر فيها شروط التشويه. وتشمل هذه السلوكيات أفعالًا مثل بتر الكفين أو القدمين،[386] أو قطع أجزاء أخرى من الجسم،[387] أو تشويه الأعضاء التناسلية،[388] أو الحفر على الجسم.[389] ومن الأمثلة الأخرى المذكورة فقء العين، أو ثرم الأسنان، أو إصابة الأعضاء الداخلية، أو تشويه الوجه تشويهًا دائمًا بسكب حمض عليه.[390]
7-2-3-2. الاستثناء
607 - لا يجوز تبرير التشويه إلا لأسباب طبية قاطعة، تحديدًا إذا كان من شأن التشويه أن يفضي إلى تحسين الحالة الصحية للشخص المعني، مثل بتر الأطراف المصابة بالغرغرينا. ورغم أن هذا الاستثناء لم يرد صراحةً في المادة 3 المشتركة، فإن أي تفسير آخر من شأنه أن يتنافى مع هدف المادة والغرض منها لكونه يتعارض مع الالتزام برعاية الجرحى والمرضى. ويُعزز هذا الاستنتاج الرجوع إلى اتفاقية جنيف الثالثة والبروتوكول الإضافي الأول، اللذين ينصان صراحةً على هذا الاستثناء.[391]
608 تنص أيضًا أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، فيما يخص الأركان التي جرى إقرارها بشأن جريمة الحرب المتمثلة في التشويه، على الاستثناء حين يكون ذلك السلوك "مبررًا بعلاج ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص طبيًا أو علاج أسنانهم أو علاجهم في المستشفى ولم ينفذ لمصلحة ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص".[392] وتؤكد هذا الاستثناء السوابق القضائية للمحكمة الخاصة لسيراليون.[393]
609 - الاستثناء الذي أسلفنا ذكره هو الاستثناء الوحيد. ولا يجوز مطلقًا أن يكون الرضا مسوغًا للتشويه. وقد ورد ذلك صراحةً في المادة 11(2) من البروتوكول الإضافي الأول، كما يتجلى ذلك في أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، الذي تنص على أنه لا يعتد برضا الضحية بحسبانه دفاعًا مقبولًا.[394]
610 - علاوة على ما تقدم، لا يجوز إخضاع الأشخاص المحميين بموجب المادة 3 المشتركة للتشويه كجزء من عقوبة بموجب القانون الوطني، لأن هذا الاستثناء لم يرد في المادة 3 المشتركة أو في القانون الإنساني بوجه عام.
7-2-3-3. التمثيل بالجثث
611 - لا ينطبق حظر التشويه الوارد في المادة 3 المشتركة إلا على الأحياء ولا يمتد ليشمل التمثيل بالجثث. والحماية من إحداث عاهة دائمة أو فقدان أحد الأعضاء أو الأطراف تفترض بالضرورة حياة الضحية وقت وقوع العمل المحظور. وبالتالي، فإن موضوع حظر التشويه الوارد في المادة 3 المشتركة والغرض منه لا يتعلقان بالموتى. بيد أن التمثيل بالجثث محظور بموجب المادة 3 المشتركة لأنه يشكل اعتداءً على الكرامة الشخصية.[395] وهو أيضًا حظر مستقل بموجب القانون الدولي العرفي.[396]
7-2-4. المعاملة القاسية
7-2-4-1. المقدمة
612 - المعاملة القاسية هي المثال الثالث المحدد على الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية. وهذا الحظر هو من القواعد المستقرة في القانون الإنساني.[397] كما يرد الحظر أيضًا في أحكام أخرى من الاتفاقيتين الثالثة والرابعة، ويتأكد مرة أخرى في البروتوكول الإضافي الثاني.[398] وأصبح الحظر الآن جزءًا من القانون الدولي العرفي.[399] وتنص معاهدات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، كل في نطاق تطبيقه، على حظر المعاملة القاسية باعتباره غير قابل للانتقاص منه.[400]
613 - وبالإضافة إلى المعاملة القاسية، تحظر المادة 3 المشتركة التعذيب والاعتداء على الكرامة الشخصية – ويشار إلى جميع هذه المصطلحات أحيانًا باعتبارها أشكالًا مختلفة "لسوء المعاملة". وهذه المحظورات متشابهة ولكنها غير متطابقة، ونتطرق إليها، كل على حدة، أدناه بالترتيب الذي تظهر به في المادة 3 المشتركة.
614 - ورغم ما تقدم، التمييز بين مصطلحات "المعاملة القاسية" و"التعذيب" و"الاعتداء" هي مسألة غير ذات بال من حيث حظر تلك الأعمال، وترتيب ورودها في النص لا يشير بأي شكل من الأشكال إلى ترتيب تصاعدي أو تنازلي في أثر الحظر. وتحظر المادة 3 المشتركة، بصورة مطلقة، جميع أشكال سوء المعاملة هذه في جميع حالات النزاع المسلح غير الدولي.[401] ولا يمكن تسويغ أي من أشكال المعاملة المحظورة لأي سبب، سواء أكان سياسيًا أم اقتصاديًا أم ثقافيًا أم دينيًا؛ ولا يمكن تبرير هذه المعاملة باعتبارات الأمن الوطني، ولا سيما مكافحة الإرهاب أو التمرد. كما إن إباحة التعذيب أو غيره من أشكال سوء المعاملة استنادًا إلى الظروف السائدة تتناقض مع الطبيعة المطلقة للحظر، وتضعف من أثر الحظر الذي تتوخى تحقيقه المادة 3 المشتركة، وتزيد من خطر وقوع انتهاكات لاحقة. وفي واقع الأمر، هذا باب أذى يجب الإبقاء عليه موصدًا؛ حيث إن السماح بإتيان هذه الأشكال من سوء المعاملة في أي ظرف من الظروف قد يدفع إلى تحفيز عملية البحث عن مبررات للانخراط في مثل هذا السلوك المحظور، ما يجعل تصاعد تلك الممارسات أمرًا يكاد تفاديه أن يكون مستحيلًا (وهذا ما يطلق عليه حجة "المنحدر الزلق"). كما قد يقوض هذا الأمر احترام أطراف النزاع للمادة 3 المشتركة، إذ قد يوحي إليها بأن الحظر الوارد على تلك الأفعال حظر مشروط في حين أن الحظر مطلق بموجب المادة 3 المشتركة (انظر أيضًا عبارة "تحظر الأفعال التالية [فيما يتعلق بالأشخاص المذكورين أعلاه] وتبقى محظورة في جميع الأوقات والأماكن").
7-2-4-2. تعريف المعاملة القاسية
615 - لمتورد اتفاقيات جنيف ولا البروتوكولات الإضافية تعريفًا للمعاملة القاسية.[402]
616 - خلصت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة إلى أن حظر المعاملة القاسية في المادة 3 المشتركة هو "وسيلة لتحقيق غاية، وهذه الغاية هي كفالة أن يعامل الأشخاص الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية في جميع الأحوال معاملة إنسانية".[403] وعليه عرفت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة المعاملة القاسية على النحو التالي:
المعاملة التي تتسبب في معاناة نفسية/ معنوية أو بدنية خطيرة أو تشكل افتئاتًا خطيرًا على الكرامة الإنسانية، وهي تعادل جريمة المعاملة اللاإنسانية في إطار أحكام المخالفات الجسيمة التي تنص عليها اتفاقيات جنيف.[404]
617 - وبناءً على ما سبق فإن المحكمة لا تفرق بين "المعاملة القاسية" التي تحظرها المادة 3 المشتركة، و"المعاملة اللاإنسانية" بوصفها مخالفة جسيمة تنص عليها اتفاقيات جنيف.[405] وتتبع أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية المنهجية ذاتها.[406] وبالتالي يمكن استخدام لفظي "قاسية" و"لاإنسانية" بالتبادل. للاطلاع على المزيد من التفاصيل بشأن "المعاملة اللاإنسانية" بوصفها مخالفة جسيمة في النزاعات الدولية المسلحة، انظر التعليق على المادة 50، القسم (د)-3.
618 - يجب أن يتسبب الفعل في معاناة بدنية أو نفسية/ معنوية ذات طبيعة خطرة حتى يوصف بأنه معاملة قاسية (أو لاإنسانية). وعلى العكس من التعذيب، ليس هناك غرض محدد وراء المعاملة القاسية. وفيما يتعلق بمدى خطورة المعاناة النفسية/ المعنوية أو البدنية، ترى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة إن "تقدير ارتفاع تصرف معين إلى مرتبة المعاملة القاسية من عدمه هو مسألة واقع ويجب تحديده لكل حالة على حدة".[407] ويطابق ذلك التفسير الذي ذهبت إليه هيئات حقوق الإنسان ونصوصها.[408]
619 - ويجب لتقدير مدى خطورة المعاناة النظر في ظروف كل حالة على حدة من ناحية العناصر الموضوعية المتصلة بشدة الضرر، والعناصر الذاتية المتعلقة بحالة الضحية. وعادة لا تتخذ المعاملة القاسية شكل عمل منفرد، فقد ترتكب عبر فعل واحد وقد تكون أيضًا نتاج مجموعة أفعال، أو تراكمها، قد لا ترقى عند النظر إليها منفردة إلى مرتبة المعاملة القاسية.[409] ووفقًا لما ذهبت إليه المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، تضم هذه العناصر "طبيعة الفعل أو الامتناع عن الفعل، والسياق الذي يقع فيه، ومدته أو تكرار حدوثه، والآثار البدنية والنفسية والمعنوية الناشئة عنه على الضحية، وظروف الضحية الشخصية، لا سيما السن والجنس والحالة".[410] وليس شرطًا ديمومة المعاناة التي تسببت فيها المعاملة القاسية ما دامت "فعلية وخطرة".[411] بيد أن ترتب آثار طويلة المدى على المعاملة قد يكون له أثر في تقدير مدى خطورة الفعل.[412]
620 - ومن الأفعال المحددة التي اعتبرتها المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة قاسية نقص الرعاية الطبية الملائمة،[413] وظروف العيش اللاإنسانية في مراكز الاعتقال،[414] والضرب،[415] والشروع في القتل،[416] واستخدام المعتقلين في حفر الخنادق على الجبهة في ظروف خطرة،[417] واستخدامهم كدروع بشرية.[418]
621 - ومن أمثلة المعاملة القاسية التي تكشفت من ممارسات هيئات حقوق الإنسان ومعاييرها: طرق محددة للعقاب وعلى الأخص العقاب البدني،[419] وطرق معينة لتنفيذ الإعدام،[420] وإيقاع عقوبة الإعدام بعد محاكمة غير عادلة،[421] والتعقيم القسري،[422] والإهانة المبنية على النوع الاجتماعي كتكبيل المحتجزات أثناء الولادة،[423] واستخدام أدوات الصدمات الكهربائية لشل حركة (تقييد حركة) الأشخاص المحتجزين.[424] ترقى هذه الأفعال كذلك إلى مرتبة الانتهاكات طبقًا للمادة 3 المشتركة.
622 - وحسبما يوضح تعريف المعاملة القاسية، لا يشترط أن تكون المعاناة بدنية، فالمعاناة النفسية/ المعنوية في حد ذاتها يمكن أن تكون ذات طبيعة خطرة بما يجعلها تصنف معاملة قاسية.[425] وهذا الفهم للمعاملة القاسية مبني أيضًا على الصلة التي لا تنفصم بين حظر المعاملة القاسية وشرط المعاملة الإنسانية المطلق التي لا تقتصر على الحفاظ على سلامة الشخص البدنية. فاستخدام الفرد كدرع بشري على سبيل المثال قد يُنزل به معاناة نفسية/ معنوية تماثل إخضاعه للمعاملة القاسية.[426] ومن بين الأمثلة الأخرى الواردة في أحكام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة: التهديد بالقتل،[427] وإجبار أحد المعتقلين على دفن معتقل زميل،[428] وضرب السجناء وإطلاق النار عليهم عشوائيًا.[429] ووجدت هيئات حقوق الإنسان أن الأمثلة التالية على المعاناة النفسية/ المعنوية تصنف معاملة قاسية: التهديد بالتعذيب،[430] مشاهدة الآخرين أثناء تعرضهم لمعاملة سيئة[431] أو الاغتصاب[432] أو الإعدام.[433]
623 - وفي هذا الصدد، من المهم ملاحظة أن ركن "الاعتداء الجسيم على الكرامة الإنسانية" لم يرد في تعريف المعاملة القاسية في أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.[434] فهذا الركن، الذي ترسخ في قرارات المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة واستمر على رسوخه، تجاهلته اللجنة التحضيرية التي وضعت أركان الجرائم لأنها رأت أن جريمة الحرب المتمثلة في "الاعتداء على الكرامة الشخصية" ستغطي الاعتداء على الكرامة الإنسانية.[435]
7-2-5. التعذيب
7-2-5-1. المقدمة
624 - التعذيب هو المثال المحدد الأخير على الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية الذي تحظره المادة 3 المشتركة. هذا الحظر قاعدة قديمة الأمد من قواعد القانون الإنساني.[436] وهو وارد في مواد أخرى في اتفاقيات جنيف الأربع، وأكد عليه من جديد البروتوكولان الإضافيان المؤرخان في 1977.[437] ويعتبر هذا الحظر في عصرنا الحالي جزءًا من القانون الدولي العرفي.[438] كما تورد معاهدات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية كل في إطار تطبيقه حظر التعذيب بوصفه حظرًا لا يمكن الانتقاص منه.[439] خلت القوانين من أي مؤشر يفي باختلاف معنى لفظ "تعذيب" في النزاعات المسلحة الدولية عن النزاعات المسلحة غير الدولية كما لم يستدل من الممارسة العملية على ما يفيد بذلك.[440]
625 - يحظر النص الفرنسي للمادة 3 المشتركة "tortures et supplices" (وهما لفظان يعنيان "التعذيب" وأي صورة من صور التعذيب)، بينما يحظر النص الإنجليزي "torture" (وهو لفظ يعني "التعذيب")، لكن لا يضيف استخدام كلمة "supplices" في النص الفرنسي نوعًا جديدًا من المعاملة المحظورة التي قد لا يشملها لفظ "torture".[441]
7-2-5-2 تعريف التعذيب
626 - سكتت اتفاقيات جنيف والبروتوكولان الإضافيان عن تعريف التعذيب، وظهر أول تعريف للتعذيب في معاهدة دولية في المادة 1(1) من اتفاقية مناهضة التعذيب المؤرخة في 1984 ويشترط هذا التعريف أن يرتكب التعذيب "أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه" موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. لكن لا يشترط القانون الإنساني أي تدخل رسمي في فعل التعذيب (انظر الفقرة 645).
627 - وعليه، تعرف المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة التعذيب، لأغراض القانون الإنساني، بأنه الإلحاق المتعمد للألم أو المعاناة المبرحين بدنيًا كان أم نفسيًا/ معنويًا، بالفعل أو الامتناع عن الفعل لأغراضٍ مثل الحصول من الضحية أو الغير على معلومات أو اعتراف، أو لمعاقبة، أو لتخويف، أو لإكراه أي منهما، أو للتمييز ضد أي منهما على أيٍ من أسس التمييز.[442]
628 - وعليه يكون الفرق بين التعذيب والمعاملة القاسية هو ارتفاع الحد الفاصل بينهما من حيث إيقاع الألم أو المعاناة الذي بتخطيه تصبح المعاملة تعذيبًا. ويشترط في التعذيب أن يكون الألم أو المعاناة "مبرحًا" أكثر منه "شديدًا"، كما يشترط فضلًا عن ذلك أن يكون إلحاق الألم أو المعاناة تحقيقًا لغرض معين أو بدافع محدد.
– الألم أو المعاناة المبرحين
629 - الحد الفاصل للألم أو للمعاناة الذي تشترطه المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة الذي بتخطيه تصبح المعاملة القاسية تعذيبًا أعلى من ذلك الذي تشترطه لتصبح المعاملة قاسية: حيث يجب أن يكون "مبرحًا" أكثر منه "شديدًا". وعلى الجانب الآخر، تشترط أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية شدة الألم أو المعاناة بدنيًا أو نفسيًا/ معنويًا لتصبح المعاملة تعذيبًا أو معاملة قاسية،[443] ولا تفرق بينهما إلا بناءً على الغرض من المعاملة. كان ذلك نتاجًا لحل وسط، وانحرافًا عن السوابق القضائية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.[444]
630 - اعترض بعض الكتاب على وجوب تحديد مراتب للمعاناة بشأن المعاملة القاسية والتعذيب،[445] حيث يرون أن الركن الوحيد الذي يفرق بين التعذيب والمعاملة القاسية يجب أن يكون الغرض المحدد اللازم توافره للتعذيب. والحجة التي يستند إليها هذا الرأي هي صعوبة تحديد قدر الشدة الذي يفصل بين المعاناة الشديدة والمعاناة المبرحة، كما أنه يبدو من العبث التفكير في وجود معاملة أشد من المعاملة "القاسية".[446]
631 - لكن صياغة المعاهدات المختلفة تركت المسألة دون حسم.[447] تذكر المادة 16 من اتفاقية مناهضة التعذيب "أعمال أخرى من أعمال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي لا تصل إلى حد التعذيب"، وهو ما قد يعني ضمنيًا اشتراط درجة أعلى من شدة المعاناة حتى تعتبر المعاملة تعذيبًا، أي أعلى من الدرجة اللازمة لتكون المعاملة معاملة قاسية أو لاإنسانية أو مهينة. لكن قد يعني ذلك أيضًا أن الغرض المحدد اللازم توافره في التعذيب يشكل العنصر المشدد، ويبدو أن المسألة تركت دون حسم أثناء صياغة تلك الاتفاقية.[448]
632 - وحتى بعد إقرار أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، استمرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في تطبيق حد فاصل مميِّز من الألم أو المعاناة للتمييز بين التعذيب والمعاملة القاسية.[449] تشترط المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أيضًا حدًا فاصلًا أعلى من الحد المعني للألم، والغرض من إلحاق الألم هو عامل مهم في تحديده،[450] وأحيانًا عامل حاسم.[451] وتشترط اللجنة الأمريكية والمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان، مثلها في ذلك مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، أن ينتج عن المعاملة التي يمكن أن تعد تعذيبًا درجة أعلى من شدة الألم الناتج عن المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وتشترط كذلك أن يكون لها غرض.[452] وتعمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر أيضًا استنادًا إلى حد فاصل مختلف لشدة الألم.[453] وعلى الجانب الآخر، لا تسعى لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان إلى التفريق تفرق بين التعذيب والمعاملة القاسية.[454]
633 - النتيجة الرئيسية المترتبة على استخدام معيار الغرض معيارًا وحيدًا للتمييز بين التعذيب والمعاملة القاسية هو أن المعاملة القاسية تصل تلقائيًا إلى مرتبة التعذيب في حالات توافر غرضٌ محدد لها. وإذا أخذنا بأوسع تعريف لكلمة "غرض"، الذي يتضمن طيفًا واسعًا من النوايا كالتخويف أو الإكراه،[455] لن يترك ذلك للمعاملة القاسية إلا هامشًا من أضيق ما يكون يقع بين التعذيب والاعتداء على الكرامة الشخصية. وكما أشرنا عاليه، لم تلغِ السوابق القضائية حتى وقتنا هذا عنصر شدة المعاناة باعتبارها عنصرًا مميزًا بين التعذيب والمعاملة القاسية، ولكن من غير المستبعد احتمال تغير ذلك في المستقبل وخاصة إذا اتبعت المحكمة الجنائية الدولية الصياغة الواضحة لأركان الجرائم. ولكن إذا أدخلت المحكمة ذلك التغيير في المستقبل فيجب ألا يؤدي ذلك إلى اشتراط حد أعلى من الشدة لتصنيف معاملة ما على أنها معاملة قاسية.
634 - ولتقييم شدة الألم أو المعاناة، يجب النظر إلى الظروف المحيطة بكل حالة على حدة، وتستوي في ذلك العناصر الموضوعية ذات الصلة بشدة الأذى، والعناصر الذاتية ذات الصلة بحالة الضحية.[456] وعلى ذلك يجب أن يراعى في هذا التقييم عددٌ من العناصر المستندة إلى وقائع، كالبيئة، والمدة، والعزل، وحالة الضحية البدنية أو النفسية/ المعنوية، والمعتقدات الثقافية والحساسية الثقافية، والنوع الاجتماعي، والعمر، والخلفية الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية أو السياسية، أو التجارب السابقة.[457]
635 - تضم العوامل المحدَّدة "طبيعة التسبب بالألم وسياق إيقاعه"[458] و"سبق الإصرار وإضفاء سمة المؤسساتية على سوء المعاملة" و"الحالة البدنية للضحية" و"الأسلوب والطريقة المستخدمين" و"وضع الدونية للضحية".[459] وكما هي الحال في جميع أشكال سوء المعاملة، "قد تتفاقم المعاناة في ظروف معينة بسبب الظروف الاجتماعية والثقافية، وعند تقييم شدة السلوك المزعوم يجب مراعاة الخلفية الاجتماعية والثقافية والدينية المحدَّدة للضحايا".[460]
636 - التعذيب لا يأخذ في الغالب صورة فعل منفرد، مثله في ذلك مثل المعاملة القاسية. وإذ يمكن أن يرتكب التعذيب في صورة فعل منفرد، لكنه قد ينتج أيضًا عن اجتماع أو تراكم عدة أفعال قد لا يصل كل منها إن نظر إليه منفردًا إلى مستوى التعذيب. فمدة سوء المعاملة وتواتر إيقاعها واختلاف أشكالها يقيم كوحدة واحدة.[461] ومع ذلك، "ليس هناك شرط صارم للمدة في تعريف" التعذيب،[462] ولا يشترط أن يتسبب في إصابة مستديمة.[463] ونتيجة لما تقدم، "لا يشترط أن يكون الدليل على المعاناة ظاهرًا بعد ارتكاب الجريمة".[464]
637 - تستوفي بعض الأفعال في ذاتها الحد المتطلب للشدة لأنها تدل بالضرورة على التسبب في الألم أو المعاناة المبرحين،[465] وهذا ما ينطبق على الاغتصاب على وجه التحديد.[466] وفي هذا الصدد أوضحت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ما يلي:
يتضح وصول بعض الأفعال بطبيعتها كالاغتصاب إلى حد الشدة، فهو انتهاك للكرامة الإنسانية، كما يستخدم لأغراض تخويف شخص أو الحط من كرامته أو إهانته أو التمييز ضده أو عقابه أو السيطرة عليه أو إهلاكه، مثله في ذلك مثل التعذيب. يمكن القول بأن الألم أو المعاناة المبرحين اللازمين توافرهما طبقًا لتعريف جريمة التعذيب يتوفران بمجرد إثبات الاغتصاب، لأن فعل الاغتصاب يدل بالضرورة على ذلك الألم أو تلك المعاناة.[467]
638 - ومن الأمثلة الأخرى المجمعة من الأحكام الدولية: الصدمات الكهربية،[468] والحرق،[469] والشد العكسي للركبة،[470] والجثو فوق آلات حادة،[471] والخنق باستخدام الماء أو تحتها،[472] والدفن حيًا،[473] والتعليق،[474] والجلد والضرب الشديد[475] على باطن القدم على الأخص،[476] والإعدام الوهمي،[477] والدفن الوهمي،[478] والتهديد بإطلاق النار أو القتل،[479] وتعريض المحتجزين الذين يجري استجوابهم للبرد الشديد لمدد مطولة،[480] والضرب المتبوع باحتجاز لمدة ثلاثة أيام يمنع فيها الطعام والماء وقضاء الحاجة،[481] واجتماع كل من الحجز في ظروف شديدة الإيلام مع تغطية الرأس والوجه في ظروف خاصة وإحداث ضوضاء باستخدام موسيقى عالية لفترات مطولة، والتهديدات، لا سيما التهديد بالقتل، والهز العنيف واستخدام الهواء البارد لتجميد الأطراف من الصقيع.[482]
639 - الألم النفسي/ المعنوي والمعاناة في حد ذاته قد يكون شديدًا بما يكفي للوصول إلى التعذيب.[483] تذكر اتفاقية جنيف الثالثة والبروتوكول الإضافي الأول تفصيلًا أن التعذيب البدني والنفسي/ المعنوي كلاهما محظور.[484] ووسائل التعذيب النفسية وكذلك آثاره من شأنهما التسبب في معاناة بنفس شدة التعذيب البدني وآثاره الجسمانية.[485] ولقد ذهبت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة إلى أن الإجبار على مشاهدة سوء معاملة شديد لأحد الأقارب،[486] أو الإجبار على مشاهدة اعتداءات جنسية على أحد معارفه، هو تعذيب للمشاهد المكرَه.[487] ورأت أن التهديد بالقتل الذي يسبب معاناة نفسية/ معنوية شديدة وإخبار الضحية كذبًا أن أباه قد قُتل،[488] أو إجبار الضحايا على جمع جثث أشخاص آخرين من نفس جماعتهم العرقية، على الأخص جثث جيرانهم وأصدقائهم هو من قبيل التعذيب أيضًا.[489]
- الغرض المحدد
640 - أحد العناصر المكونة للتعذيب هو أنه يُرتكب لغرض أو دافع محدد. تعرض اتفاقية مناهضة التعذيب الأمثلة التالية: (أ) الحصول على معلومات أو اعتراف، (ب) معاقبة الضحية أو شخص ثالث أو تخويف أي منهما أو إكراهه، (ج) التمييز ضد الضحية أو شخص ثالث على أي من أسس التمييز.[490] وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة تلك الأغراض جزءًا من القانون الدولي العرفي.[491]
641 - تلك الأغراض هي من قبيل التوضيح فقط وليست حصرية، وأكد ذلك الأمر صياغة المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب، التي تورد ذكر عبارة "لأغراض مثل".[492] القائمة غير الحصرية الواردة في اتفاقية مناهضة التعذيب منصوص عليها أيضًا في أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.[493] وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أيضًا هذه القائمة غير حصرية.[494]
642 - من الناحية العملية، تؤدي عدم حصرية القائمة إلى معنى فضفاض للغاية للغرض غير المشروع، فمفاهيم مثل "تخويف وإكراه [الضحية] أو شخص ثالث" و" أي سبب يقوم على التمييز أيًا كان نوعه" هي مفاهيم واسعة إلى درجة تجعل غالبية الأفعال المتعمدة التي تسبب معاناة شديدة لشخص محدد، وعلى الأخص إذا كان محتجزًا، ناتجة عن أحد تلك الأغراض أو غرض مماثل له. لكن لا يمكن أن يكون الغرض من أي نوع، إنما يجب أن "يشبه الأغراض المذكورة صراحة في القائمة من أحد الوجوه".[495] ومن ثَم اعتبرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن مفهوم "الإهانة"، الذي اعتبرته مجاورًا لمفهوم التخويف، كان كذلك أحد الأغراض المحتملة للتعذيب.[496]
643 - ونتيجة لذلك، أكدت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن تلك الأغراض تتحقق في حالة اغتصاب محتجز أثناء استجوابه: "يلجأ المستجوب نفسه أو أشخاص آخرون ذوي صلة باستجواب محتجز ما إلى الاغتصاب باعتباره وسيلة عقاب للضحية أو تخويفها أو إكراهها أو إهانتها، أو وسيلة للحصول على معلومات أو اعتراف من الضحية أو من الغير."[497]
644 - حددت كذلك المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن الغرض المحظور "لا يشترط أن يكون هو الغرض الوحيد أو الغرض الرئيس من إلحاق الألم أو المعاناة المبرحين" لدعم قرارها بوقوع تعذيب.[498]
- التدخل الرسمي
645 - لا يشترط تعريف التعذيب وفقًا للقانون الإنساني تدخل رسمي في الفعل. لكن على الجانب الآخر تنص اتفاقية مناهضة التعذيب المؤرخة في 1984 على أن الألم أو المعاناة يجب أن يوقعه "أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفة رسمية".[499] وقررت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في أحكامها الأولى أن هذا التعريف كان جزءًا من القانون الدولي العرفي واجب التطبيق في النزاعات المسلحة.[500] لكنها خلصت لاحقًا إلى أن تعريف التعذيب وفقًا للقانون الإنساني لا يشمل نفس الأركان. فعلى وجه الخصوص لم يعتبر ضروريًا "حضور موظف رسمي أو شخص آخر ذي سلطة عملية التعذيب" لاعتبار الجرم المرتكب تعذيبًا بموجب القانون الإنساني.[501] هذا التسبيب يتماشى مع نطاق تطبيق المادة 3 المشتركة، التي لا تحظر التعذيب حين ترتكبه قوات مسلحة تابعة لدولة فحسب، إنما أيضًا حين ترتكبه جماعات مسلحة من غير الدول.
7-3. أخذ الرهائن
7-3-1. المقدمة
646 - كان أخذ الرهائن حتى نهاية الحرب العالمية الثانية يُعتبر عملًا مشروعًا وإن كان ذلك يخضع لشروط صارمة للغاية.[502] بيد أنه ردًا على سوء معاملة الرهائن أثناء الحرب العالمية الثانية، حظرت اتفاقيات جنيف المؤرخة عام 1949 تلك الممارسات حظرًا تامًا.[503] وهو ما أكده البروتوكولان الإضافيان مجددًا.[504] وأصبح الحظر الآن جزءًا من القانون الدولي العرفي.[505]
7-3-2. تعريف أخذ الرهائن
647 - لم تقدم اتفاقيات جنيف والبروتوكولان الإضافيان تعريفًا لمفهوم أخذ الرهائن. وفي سياق قانوني مختلف، تعرف الاتفاقية الدولية لمناهضة أخذ الرهائن لعام 1979 أخذ الرهائن على أنه القبض على شخص (الرهينة) أو احتجازه مع التهديد بقتلـه أو إيذائه أو استمرار احتجازه من أجل إكراه طرف ثالث على القيام بفعل معين أو الامتناع عنه كشرط صريح أو ضمني للإفراج عن الرهينة.[506]
648 - أرسى هذا التعريف الأساس لأركان جريمة الحرب المتمثلة في أخذ الرهائن الواردة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المؤرخ في 1998، ولكن مع إضافة الصيغة الجامعة أن يُعتقل الشخص أو يُحتجز أو "يُؤخذ رهينة بأي طريقة أخرى".[507] وعلى هذا الأساس خلصت دائرة الاستئناف في المحكمة الخاصة لسيراليون إلى أن "الوسائل المحددة التي يقع عن طريقها الفرد في قبضة مرتكب الجريمة ليست هي السمة التي تعرف بها الجريمة".[508]
649 - ينطبق التعريف الموسع الوارد في أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية أيضًا على الحظر الأساسي لأخذ الرهائن الوارد في المادة 3 المشتركة وفي المادة 34 من اتفاقية جنيف الرابعة. كما أن فريق الخبراء الذي صاغ أركان الجرائم انتصر للرأي القائل بانتفاء الفرق بين أخذ الرهائن في النزاعات المسلحة الدولية وأخذ الرهائن في النزاعات المسلحة غير الدولية.[509]
650 - وبناء على ما تقدم ولأغراض المادة 3 المشتركة، يمكن تعريف أخذ الرهائن على أنه القبض على شخص (الرهينة) أو احتجازه مع التهديد بقتلـه أو إيذائه أو استمرار احتجازه من أجل إكراه الغير على القيام بفعل معين أو الامتناع عنه كشرط صريح أو ضمني للإفراج عن الرهينة أو سلامتها أو رفاهها.
651 - في وقتنا الراهن، غالبًا ما تُؤخذ الرهائن للمطالبة بفدية، أو للمطالبة بتبادل أسرى، أو لاسترداد "ضرائب حرب".[510] وفي بعض الأحيان، يشار إلى هذه الممارسات على أنها اختطاف أو خطف، ولا يؤثر اختلاف التسميات على التوصيف القانوني لها.[511] وتشكل هذه الممارسات جريمة أخذ الرهائن وهي محظورة وفقًا للمادة 3 المشتركة وذلك رهنًا باستيفاء جميع الشروط المطلوبة.
7-3-2-1. الرهائن
652 - ينطبق حظر أخذ الرهائن الوارد في المادة 3 المشتركة على جميع الأشخاص الذين يدخلون ضمن نطاق الحماية الذي توفره المادة.[512] وفي قضية سيساي، قضت الدائرة الابتدائية في المحكمة الخاصة لسيراليون بأن "الشخص أو الأشخاص الذين جرى احتجازهم كرهائن يجب ألا يكونوا مشاركين مباشرة في الأعمال العدائية وقت وقوع الانتهاك المزعوم".[513] وترى تلك الدائرة أن "مصطلح "رهينة" يجب أن يفسر بأوسع معانيه".[514] وفي هذا المثال، وجهت إلى المتهمين تهم خطف مئات من أفراد قوات حفظ السلام التابعة لبعثة الأمم المتحدة في سيراليون واستخدامهم كرهائن.[515]
653 - غالبًا ما يكون الرهينة شخصًا طبيعيًا مثل المدنيين الذين لا يشكلون تهديدًا أمنيًا وجرى القبض عليهم واحتجازهم على نحو غير مشروع. غير أن الاحتجاز غير القانوني ليس شرطًا مسبقًا لأخذ الرهائن. وفيما يخص الأشخاص الذين قد يكون احتجازهم قانونيًا، كما هي الحال بالنسبة للمدنيين الذين يشكلون تهديدًا أمنيًا، فيمكن مع ذلك تصور استخدامهم رهائن، الأمر الذي تتحول معه الحالة إلى حالة أخذ رهائن. ولا يلزم توافر شرط النية لأخذ رهائن في بداية الاحتجاز، إذ يمكن أن تنشأ النية أثناء الاحتجاز.[516] وهذا ما أكدته الدائرة استئناف المحكمة الخاصة لسيراليون عام 2009 حيث ذكرت:
من الناحية القانونية، قد يتوافر شرط النية [لأخذ الرهائن] لحظة احتجاز الفرد أو قد تتكون النية لاحقًا أثناء احتجاز الأشخاص. في الحالة الأولى، تكتمل الجريمة وقت الاحتجاز الأول (بافتراض تحقق جميع الأركان الأخرى للجريمة)، وفي الحالة الثانية، تتحول الحالة إلى جريمة أخذ رهائن لحظة تبلور النية لذلك الغرض (مرة أخرى، على افتراض تحقق الأركان الأخرى للجريمة).[517]
654 - ولما سبق أهميته حيث إن الأحكام الأولى للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة تشير على ما يبدو إلى أن سلب الحرية على نحو غير مشروع كان جزءًا من تعريف أخذ الرهائن.[518] بيد أنه يجوز أيضًا تفسير تلك الأحكام للقول بأن سلب الحرية كان عملًا غير قانوني لأنه كان أخذًا للرهائن. ولعل الأمر الأهم هو أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة لم تنظر نفس المسألة التي نظرتها المحكمة الخاصة لسيراليون، أي ما إذا كان من الممكن أن يتحول الاحتجاز الأولي الذي لم يكن بقصد أخذ رهائن إلى حالة أخذ رهائن إذا توافر القصد غير المشروع في وقت لاحق.
7-3-2-2. تهديد الرهائن
655 - كما هو محدد أعلاه، أخذ الرهائن ينطوي على تهديدات بقتل الرهائن أو إيذائهم أو استمرار احتجازهم. ويشمل التهديد بالإيذاء التهديدات التي تتعرض لسلامتهم البدنية والنفسية/ المعنوية. وينبثق هذا التفسير عن حظر الاعتداء على سلامة المحتجزين البدنية والنفسية/ المعنوية.[519] وعلى ذلك، قضت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بأن "الركن الإضافي الواجب إثباته للتحقق من جريمة أخذ المدنيين كرهائن على نحو غير مشروع هو صدور تهديد مشروط يتعلق بسلامة المدنيين البدنية والنفسية/ المعنوية".[520]
656 - يجب أن يكون التهديد في حد ذاته غير مشروع طبقًا للقانون الإنساني. وعلى ذلك، فالتهديد باستمرار احتجاز شخص ما لا يصل دائمًا إلى حالة أخذ رهائن. على سبيل المثال، لا يُنتهك حظر أخذ الرهائن بالتهديد باستمرار احتجاز أحد الأشخاص الذين لا يكون الإفراج عنهم واجبًا من الناحية القانونية في إطار مفاوضات بشأن تبادل الأسرى. غير أنه من غير المشروع إصدار هذه التهديدات إذا كان الاحتجاز تعسفيًا.[521] فمجرد احتجاز جماعة مسلحة من غير الدول لأحد المقاتلين هو أمر لا يمكن النظر إليه على أنه يمثل حالة أخذ رهائن وفقًا للمادة 3 المشتركة.
7-3-2-3 قصد إكراه الغير
657 - تؤخذ الرهائن "بغية إكراه" الغير. ولذلك، يجب أن يصدر تهديد مشروط "يقصد به أن يكون إجراءً قسريًا لتحقيق شرط ما".[522] وكما هو مبين في تعريف أخذ الرهائن، فإن التهديد قد يكون صريحًا أو ضمنيًا.[523]
658 - في قضية سيساي، رأت الدائرة الابتدائية في المحكمة الخاصة لسيراليون أن "جريمة أخذ الرهائن تقتضي توجيه التهديد إلى الغير بقصد إرغامه على القيام بفعل أو الامتناع عن فعل كشرط لسلامة المحتجزين أو الإفراج عنهم".[524] وفي هذه القضية، خلصت الدائرة الابتدائية إلى أن المتهم قد هدد مرارًا أفراد حفظ السلام المحتجزين،[525] ولكنها لم تقع على دليل على توجيه التهديد إلى الغير، كما لم تعثر على دليل على وجود تهديد ضمني بأن أفراد حفظ السلام سيتعرضون للأذى أو على إبلاغ أي شروط ضمنية لسلامة أفراد حفظ السلام أو إطلاق سراحهم.[526] ومع ذلك، اعتبرت الدائرة الاستئنافية في المحكمة الخاصة لسيراليون أنه "لا يشترط توجيه التهديد إلى الغير حتى يكون التهديد بنية الإكراه" وخلصت إلى "أنه يكفي توجيه التهديد إلى الشخص المحتجز".[527]
7-3-2-4. الغرض وراء أخذ الرهائن
659 - كما هو مبين في التعريف، تُؤخذ الرهائن من أجل إكراه طرف من الغير على فعل معين أو الامتناع عنه، وهو مفهوم شديد الاتساع. وذكرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن أخذ الرهائن يجري "للحصول على تنازل أو تحقيق مكسب"، وهو مفهوم يتسم بنفس القدر من الاتساع.[528]
660 - في قضية سيساي، على سبيل المثال، احتجز المتهمون من أعضاء الجبهة المتحدة الثورية قوات حفظ السلام، وبعد أن وقع زعيم الجبهة في الأسر استخدموا تلك القوات كرهائن للإرغام على الإفراج عنه.[529]
661 - ويمكن أن تشمل الأغراض الأخرى لأخذ الرهائن تحصين المناطق أو الأهداف العسكرية ضد العمليات العسكرية باستخدام المدنيين المحتجزين كدروع بشرية.[530] وفي هذه الحالات، يشكل أخذ الرهائن أيضًا انتهاكًا لحظر المعاملة القاسية أو حظر العقوبات الجماعية.[531] غير أنه يجب تحليل كل انتهاك محدد على حدة.
662 - أخذ الرهائن هو فعل محظور بصرف النظر عن التصرف الذي يسعى محتجز الرهائن إلى فرضه. وعلى ذلك، فإن أخذ الرهائن هو فعل غير مشروع حتى حين يستهدف إجبار الغير على إيقاف تصرف غير مشروع. الإخلال بالمادة 3 المشتركة ليس وسيلة مشروعة لكفالة احترام القانون الإنساني.[532]
7-4. الاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة
7-4-1. المقدمة
663 - ظهر حظر الاعتداء على الكرامة الشخصية لأول مرة في المادة 3 المشتركة. وأكده مجددًا البروتوكولان الإضافيان، ويعتبر اليوم جزءًا من القانون الدولي العرفي.[533] وتورد معاهدات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، كل في نطاق تطبيقه، حظر "المعاملة اللاإنسانية والحاطة بالكرامة" بوصفه حظرًا لا يجوز الانتقاص منه.[534] وكما ذكر أعلاه، يمكن ربط مصطلح "الاعتداء على الكرامة الشخصية" بالمعاملة القاسية والتعذيب، ولكن تظل له أيضًا سماته.
7-4-2. تعريف الاعتداء على الكرامة الشخصية
664 - لم تقدم اتفاقيات جنيف والبروتوكولان الإضافيان تعريفًا لمصطلح "الاعتداء على الكرامة الشخصية". وتشترط المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن "يكون المتهم قد ارتكب أو اشترك عمدًا في فعل أو امتنع عن فعل يعتبر بوجه عام مسببًا لإذلال أو حط من الكرامة على نحو خطير أو يشكل، بصورة أخرى، اعتداءً جسيمًا على الكرامة الإنسانية".[535] ورأت المحكمة أن هذا التقييم لا ينبغي أن يستند إلى معايير ذاتية تتعلق بحساسية الضحية فحسب، بل أيضًا إلى معايير موضوعية تتعلق بجسامة الفعل.[536] ورأت المحكمة، فيما يتعلق بجسامة الفعل، أنه يجب أن تكون إهانة الضحية أمرًا شديدًا للغاية للدرجة التي تجعل أي شخص رشيد يشعر بالإهانة.[537]
665 - الاعتداء على الكرامة الشخصية عادة لا يأخذ شكل أفعال منفردة شأنه في ذلك شأن المعاملة القاسية والتعذيب. فالجريمة يمكن أن ترتكب كفعل واحد منفرد، ويمكن أن تكون أيضًا نتاج مجموعة أفعال، أو تراكم منها، ربما لا ترقى تلك الأفعال إلى مرتبة الاعتداء على الكرامة الشخصية إن نظرنا إليها منفردة. ووفقًا للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة:
خطورة فعل ما والآثار المترتبة عليه قد تنشأ إما عن طبيعة الفعل في حد ذاته أو عن تكرار الفعل أو عن مجموعة من الأفعال المختلفة التي إذا نظرنا إليها منفردة لن تشكل جريمة بالمعنى الوارد في المادة 3 من النظام الأساسي [للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة المؤرخ في عام 1993]. وإن شكل العنف وشدته ومدته، وحدة المعاناة البدنية أو النفسية/ المعنوية ومدتها، عناصر بمثابة أساس تحديد ما إذا كانت جرائم قد ارتكبت.[538]
666 - الإهانة والحط من الكرامة يجب أن يكونا فعلين "حقيقيين وجسيمين"، بيد أنه لا يلزم أن يكونا دائمين.[539] ولا يلزم وجود أغراض محظورة مثل تلك التي تتطلب توافرها جريمة التعذيب.[540]
667 - تعرف أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية الأركان المادية للاعتداء على الكرامة الشخصية بأنه فعل "يقوم مرتكب الجريمة بإذلال شخص أو أكثر أو الحط من قدره أو انتهاك كرامته" و"أن تبلغ شدة الإذلال والحط من القدر أو غيرهما من الانتهاكات حدًا يعترف به على وجه العموم بأنه اعتداء على الكرامة الشخصية".[541] في حين أن هذا التعريف هو من قبيل تكرار نفس المعنى، إلا إنه يقدم مؤشرًا على أن الانتهاك لا يتطلب وجود ألم نفسي/ معنوي أو بدني شديد (على غرار التعذيب)، ولكن يجب أن يكون الانتهاك كبيرًا حتى يمكن تمييزه عن مجرد الإساءة.[542] وينبثق هذا الفهم أيضًا عن المعنى العادي لمصطلح "الاعتداء".[543]
668 - وفقًا لأركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، فإن حظر الاعتداء على الكرامة الشخصية وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة يشمل الاعتداءات المرتكبة ضد الموتى.[544] وهذا الإيضاح مهم إذ تظهر النزاعات المسلحة التي نشبت مؤخرًا أنه ليس من غير المعتاد، حتى في الوقت الراهن، معاملة الرفات البشرية بطريقة فيها حط من الكرامة وإهانة. فعلى سبيل المثال، وثقت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عمليات تمثيل بالجثث.[545]
669 - كما توضح أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية أنه لا يلزم أن يكون الضحية واعيًا بتعرضه للمعاملة المهينة.[546] وصيغت النقطة الأخيرة لكي تغطي المعاملة المهينة المتعمدة لشخص فاقد الوعي أو لأشخاص من ذوي الإعاقة العقلية. وتشير أركان الجرائم أيضًا إلى أنه يجب الانتباه إلى الجوانب ذات الصلة بالخلفية الثقافية للشخص، وهي بذلك تغطي المعاملة المهينة لشخص من جنسية أو ثقافة أو دين معين، في حين أنها قد لا تكون بالضرورة مهينة لغيره.[547]
670 - لم تحاول أي من المحاكم الجنائية الدولية التمييز بين "المعاملة المهينة" و"الحاطة بالكرامة". تستخدم المادة 3 المشتركة كلا المصطلحين، الأمر الذي يوحي بأنهما قد يشيران إلى مفاهيم مختلفة، إلا أنهما في معناهما العادي متطابقان تقريبًا.[548] ومسألة ما إذا كان ثم تصور لمعاملة ما ترقى إلى مستوى الاعتداء على الكرامة الشخصية تمثل معاملة مهينة وغير حاطة بالكرامة (أو العكس بالعكس) هي في النهاية أمر لا طائل منها حيث إن المادة 3 المشتركة تحظر الفعلين كليهما. ويمكن أن يقال نفس الشيء عن "الاعتداء على الكرامة الشخصية" فيما يتعلق بالمفهومين الآخرين. ورغم استخدام المادة عبارة "على الأخص"، يصعب تصور "اعتداء" لا يمثل معاملة مهينة أو حاطة بالكرامة.
671 - ويثور السؤال عما إذا كانت المعاناة البدنية أو النفسية/ المعنوية لا بد أن تصل إلى حد معين من التبريح كي تشكل معاملة قاسية. وقد يوحي بذلك أن أحكام المخالفات الجسيمة تجرم المعاملة اللاإنسانية (أو القاسية) ولكن لا تجرم الاعتداء على الكرامة الشخصية. وهكذا يتداخل التعريفان اللذان وضعتهما المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة للمعاملة القاسية أو اللاإنسانية، والاعتداء على الكرامة الشخصية حيث يضم كلاهما عبارة "اعتداء جسيم على الكرامة الإنسانية". يتداخل المفهومان بالضرورة إلى حد معين. ووفقًا للظروف، فالمعاملة التي تعتبر حاطة بالكرامة أو مهينة قد تتحول إلى معاملة قاسية إذا تكررت على مدى فترة زمنية معينة أو إذا ارتكبت ضد شخص في وضع ضعيف على نحو خاص. ويمكن توصيف المعاملة الحاطة بالكرامة أو المهينة على أنها تعذيب إذا ارتكبت لغرض معين وسببت آلامًا مبرحة أو معاناة شديدة.
672 - تشمل الأفعال المحددة التي اعتبرتها المحاكم الجنائية الدولية بمثابة معاملة حاطة بالكرامة: الإجبار على التعري في العلن؛[549] والاغتصاب والعنف الجنسي؛[550] أو "الاستعباد الجنسي، ولا سيما اختطاف النساء والفتيات بوصفهن "زوجات أدغال"؛ أي الاستعباد الجنسي في صورة زواج"؛[551] أو استخدام المعتقلين كدروع بشرية أو كعمال لحفر الخنادق؛[552] أو الأوضاع غير الملائمة في مكان الحبس الانفرادي؛ أو الإكراه على أداء أفعال مذلة؛ أو الإجبار على قضاء الحاجة حال ارتداء الملابس؛ أو التخويف الدائم من التعرض للعنف البدني أو النفسي/ المعنوي أو الجنسي.[553]
673 - تشمل الأمثلة على المعاملة المهينة التي استخلصت من قرارات هيئات حقوق الإنسان ما يلي: معاملة الفرد أو معاقبته إذا كانت تلك المعاملة "تعرض ذلك الشخص للمهانة أمام الآخرين أو تدفعه إلى التصرف ضد إرادته أو خلاف ما يقتضيه ضميره"؛[554] وعدم السماح للسجين بتغيير ملابسه المتسخة؛[555] وقص شعر الشخص أو لحيته كنوع من العقاب.[556]
7-5. شرط المحكمة المشكلة تشكيلًا قانونيًا والتي تكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة
7-5-1. المقدمة
674 - تحظر المادة 3 المشتركة "إصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات دون إجراء محاكمة سابقة أمام محكمة مشكّلة تشكيلًا قانونيًا، وتكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة". تجسد هذا الحكم في البروتوكول الإضافي الثاني، كما أنه جزء من القانون الدولي العرفي.[557]
675 - يحظر ذاك الحكم القضاء "بإجراءات مستعجلة" والمحاكمات التي تجريها محاكم لا ينطبق عليها وصف المحاكم العادلة والمشكّلة تشكيلًا قانونيًا. بيد أن ذلك الحكم لا يوفر حصانة من المحاكمة على أي جريمة؛ إذ أنه لا يمنع اعتقال المشتبه بارتكابه جريمة ومحاكمته وإصدار الأحكام عليه ومعاقبته وفقًا للقانون.
676 - تشير المادة 3 المشتركة إلى "إصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات". ويعرف "الحكم" على أنه "الحكم القضائي الذي يصدر بشكل رسمي عن المحاكم بعد إدانة المدعى عليه جنائيًا؛ والعقوبة التي توقع على مرتكب الفعل غير المشروع جنائيًا".[558] وهذا يعني أن ضمان توفر محاكمة عادلة الوارد في المادة 3 المشتركة ينطبق على محاكمة ومعاقبة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم جنائية.
677 - قد يكون للمعاهدات الأخرى تأثير على الدول الأطراف فيما يتعلق "بتنفيذ العقوبات" الذي لا تحظره المادة 3 المشتركة. بادئ ذي بدء، البروتوكول الإضافي الثاني يقيد الحق في فرض عقوبة الإعدام وتنفيذها على من هم دون الثامنة عشر وقت ارتكاب الجريمة، وعلى أولات الأحمال، وأمهات الأطفال الصغار، على الترتيب.[559] ولا يحظر القانون الإنساني إصدار أحكام الإعدام أو تنفيذها على أشخاص آخرين. غير أنه يضع قواعد صارمة فيما يخص النزاعات المسلحة الدولية للإجراءات التي يمكن بموجبها إصدار أحكام الإعدام وتنفيذها.[560] وبالإضافة إلى ذلك، تحظر العديد من المعاهدات على الدول الأطراف فيها عقوبة الإعدام جملة وتفصيلًا.[561] وقد ألغت الكثير من الدول عقوبة الإعدام حتى على الجرائم العسكرية.[562]
7-5-2. المحاكم المشكلة تشكيلًا قانونيا
678 - استعيض عن شرط تشكيل المحاكم تشكيلًا قانونيًا بالشرط الذي ينص على أن تكفل المحاكم "الضمانات الأساسية للاستقلال والحيدة" الوارد في المادة 6(2) من البروتوكول الإضافي الثاني. وأخذت تلك الصياغة من المادة 84 من اتفاقية جنيف الثالثة، وفيها ينصب التركيز على قدرة المحاكم على إجراء محاكمات عادلة أكثر منه على كيفية إنشائها. وهذا الأمر يراعي واقع النزاعات المسلحة غير الدولية (انظر أيضًا الفقرتين 692 و693). وتورد أركان الجرائم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية تعريفًا للمحاكم المشكلة تشكيًلا قانونيًا بأنها المحاكم التي توفر "ضمانتي اﻻﺳـﺘﻘﻼل والنزاهة الأساسيتين".[563] ووفقًا لهذين النصين، فإن شرطي الاستقلال والنزاهة هما المعياران الأساسيان لتفسير معنى هذا المصطلح.
679 - ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المؤرخ في عام 1966 وغيره من معاهدات حقوق الإنسان على الحق في المحاكمة العادلة. وتبين تلك المعاهدات أنه كي تكون المحاكمة عادلة، يجب أن تجريها محكمة "مستقلة" و"نزيهة".[564] كما أوضحت هيئات حقوق الإنسان المبادئ الأساسية للمحاكمة العادلة وأن شرط المحاكم المستقلة والنزيهة لا غنى عنه.[565] تفسيرات تلك الجهات لذينك المصطلحين هي أيضًا تفسيرات متعلقة بسياق المادة 3 المشتركة، على الأقل فيما يخص المحاكم التي تديرها سلطات الدولة.
680 - وحتى تكون المحكمة مستقلة، يجب أن تكون قادرة على أداء مهامها دون تدخل من أي جهة حكومية أخرى ولا سيما السلطة التنفيذية.[566] ولذلك يجب أن يتمتع القضاة بضمانات الأمن الوظيفي.[567] وشرط الاستقلال لا يمنع بالضرورة أن تضم المحاكم أشخاصًا تابعين للأجهزة التنفيذية في الحكومة مثل أفراد القوات المسلحة، وذلك إذا ما توافرت التدابير التي تكفل أداءهم لمهامهم القضائية باستقلال وحيادية.
681 - لشرط الحياد شقان؛ أحدهما شخصي والآخر موضوعي. أولهما، وليكون القاضي محايدًا يجب ألا يتأثر في أحكامه بتحيز أو تحامل شخصي، وألاّ تكون لديه تصورات مسبقة بشأن القضية المعروضة عليه، وألا يتصرف بطريقة تخدم دون وجه حق مصالح طرف على حساب الآخر.[568] ثانيهما، يجب أن تكون المحكمة حيادية من وجهة نظر موضوعية، بمعنى أن يراها المراقب الرشيد حيادية.[569] وقد طبقت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا شقي شرط الحيادية سالفي الذكر.[570]
682 - ينطبق شرط استقلال السلطة القضائية، لا سيما عن السلطة التنفيذية، وشرط الحيادية الذاتية والموضوعية، بنفس القدر على المحاكم المدنية والعسكرية والأمنية الخاصة. وينبغي أن تكون محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية أو أمنية خاصة أمرًا استثنائيًا وأن تجرى في ظل ظروف توفر بصورة حقيقية الضمانات الكاملة للمحاكمة العادلة وفقًا لمقتضيات المادة 3 المشتركة.[571]
7-5-3. الضمانات القضائية اللازمة
683 - شهد المؤتمر الدبلوماسي لعام 1949 بعض الجدل بشأن ما إذا كان ينبغي إدراج قائمة بالضمانات في المادة 3 المشتركة أو الإشارة إلى بقية الاتفاقيات والضمانات الواردة فيها. واستبعد مقترح بالإشارة إلى الضمانات القضائية في اتفاقيات جنيف، بما في ذلك المادة 105 من الاتفاقية الثالثة.[572] وفي النهاية، اعتمدت الصياغة التي نصها "الضمانات القضائية اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة" دون سرد ضمانات محددة. غير أن المندوبين لم يتركوا باب التفسير مفتوحًا على مصراعيه إذ تنص الجملة على وجوب أن تكون الضمانات "لازمة في نظر الشعوب المتمدنة". واستعاضت المحكمة الجنائية الدولية في أركان الجرائم الصادرة عنها عن صيغة "لازمة في نظر الشعوب المتمدنة" بالصيغة "المسلم عمومًا بأنه لا غنى عنها بموجب القانون الدولي"،[573] وهو ما ينبغي أن تفسر عليه في الوقت الحاضر.
684 - لم تسرد المادة 3 المشتركة ضمانات قضائية محددة، ولكن المادة 6 من البروتوكول الإضافي الثاني سردت تلك الضمانات، ويتعين الآن تفسير شرط المحاكمة العادلة الوارد في المادة 3 المشتركة في ضوء تلك الأحكام ومقابلاتها من الأحكام العرفية.[574] وكما يستفاد من عبارة "بوجه خاص" الواردة في المادة 6، فهذه القائمة ليست قائمة حصرية ولكنها تبين الضمانات الدنيا للمحاكمة العادلة المسلم عمومًا بأنه لا غنى عنها بموجب القانون الدولي في وقتنا الراهن.[575] وتعتبر اليوم الضمانات القضائية المنصوص عليها في المادة 6 من البروتوكول الإضافي الثاني ضمانات عرفية.[576]
685 - بناءً على ما تقدم، تشتمل الضمانات القضائية، المسلم عمومًا بأنه لا غنى عنها في الوقت الحالي، على ما يلي ذكره، كحد أدنى:
- الالتزام بإعلان المتهم دون إبطاء بطبيعة وسبب الجريمة المنسوبة إليه؛[577]
- شرط حصول المتهم على جميع الحقوق والوسائل الضرورية للدفاع عن نفسه؛[578]
- الحق في ألا يدان أي شخص بجريمة إلا على أساس المسؤولية الجنائية الفردية؛[579]
- مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص (nullum crimen, nulla poena sine lege) وحظر توقيع أي عقوبة أشد من العقوبة السارية وقت ارتكاب الجريمة؛[580]
- الحق في افتراض براءة المتهم بجريمة؛[581]
- الحق في أن يحاكم المتهم بجريمة حضوريًا؛[582]
- الحق في ألا يجبر أي شخص على الإدلاء بشهادة على نفسه أو على الاعتراف بأنه مذنب؛[583]
- الحق في تنبيه المتهم بجريمة بالإجراءات القضائية وغيرها التي يحق له الالتجاء إليها وإلى المدد الزمنية التي يجوز له خلالها أن يتخذ تلك الإجراءات.[584]
لمزيد من التفاصيل بشأن هذه الضمانات القضائية، انظر التعليق على المادة 6 من البروتوكول الإضافي الثاني.
686 - تورد المادة 75 من البروتوكول الإضافي الأول قائمة مشابهة لها صلة أيضًا بهذا السياق.[585] وكلتا القائمتين مستوحاة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.[586] وتصنف المادة 75 ثلاثة ضمانات إضافية، ألا وهي:
- الحق في تقديم ومناقشة الشهود؛[587]
- الحق في طلب النطق بالحكم علنًا؛[588]
- الحق في عدم إقامة الدعوى أو توقيع العقوبة أكثر من مرة من ذات الطرف عن نفس الفعل أو التهمة "عدم جواز المحاكمة على ذات الجرم مرتين" (non bis in idem).[589]
687 - خلا البروتوكول الإضافي الثاني من الضمانين الإضافيين الأولين من بين الضمانات سالفة الذكر وذلك استجابة لرغبة بعض المندوبين في الإبقاء على اختصار القائمة بقدر الإمكان.[590] بيد أنه يمكن القول أنهما ينبغي أن يطبقا في النزاعات المسلحة غير الدولية بقدر ما هما ضروريان لأغراض المحاكمة العادلة، كما يظهران في الصكوك الرئيسية لحقوق الإنسان. أما الضمان الثالث، مبدأ عدم جواز المحاكمة على ذات الجرم مرتين (non bis in idem)، فلم يدرج حيث "لا يمكن تطبيق هذا المبدأ بين محاكم الدولة ومحاكم المتمردين".[591] وعلى ذلك يمكن بمفهوم المخالفة (a contrario) الاحتجاج بأنه ينبغي تطبيق المبدأ باعتباره حظرًا على جواز المحاكمة على ذات الجرم مرتين من حيث إقامة الدعوى أو توقيع العقوبة من نفس الطرف بنفس الطريقة حسبما جرت صياغة هذا المبدأ في المادة 75 من البروتوكول الإضافي الأول. المحاكمة الثانية عن نفس الفعل أو التهمة التي سبق أن صدر بشأنها حكم نهائي بتبرئة أو إدانة الشخص المعني ينبغي أن يعتبر أمرًا جائرًا.
688 - القائمتان الواردتان في البروتوكولين الإضافيين هما، كما أسلفنا القول، من قبيل التمثيل وليس الحصر. وأثرهما التراكمي في ضمان حصول المتهم على محاكمة عادلة. وينبغي تطبيق كل حق بالطريقة التي تكفل المحاكمة العادلة. وعلاوة على ذلك، تنص صكوك حقوق الإنسان على الحق في المحاكمة "دون تأخير لا مبرر له" أو "في غضون فترة زمنية مناسبة".[592] ويرد هذا المبدأ أيضًا في المادة 103 من اتفاقية جنيف الثالثة، ولكنه لا يرد في المادة 6 من البروتوكول الإضافي الثاني أو في المادة 75 من البروتوكول الإضافي الأول. بيد أن التأخير الذي لا مبرر له يمكن أيضًا أن يعيب المحاكمات في سياق النزاعات المسلحة غير الدولية، وعلى ذلك، ينبغي مراعاة ذلك عند تقدير مدى عدالة تلك المحاكمات.
7-5-4. محاكم عقدتها جماعات مسلحة من غير الدول
689 - من المعلوم في واقع العمل أن الجماعات المسلحة من غير الدول قد عقدت محاكم، تحديدًا لمحاكمة أعضائها عن جرائم جنائية متصلة بالنزاعات المسلحة.[593] ورغم إن إنشاء هذه المحاكم قد يثير قضايا تتعلق بالشرعية، إلا إن المحاكمات التي تجرى عبر هذه الوسائل قد تشكل بديلًا عن المحاكمات المستعجلة، وسبيلًا أمام الجماعات المسلحة للحفاظ على "القانون والنظام" وكفالة احترام القانون الإنساني.[594] وكثيرًا ما يطلب إلى الجماعات المسلحة كفالة احترام القانون الإنساني، على سبيل المثال من جانب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.[595]
690 - إن تطبيق نظرية مسؤولية القادة على النزاعات المسلحة غير الدولية يعزز هذا التقدير.[596] ووفقًا لهذه النظرية، يسأل قادة الجماعات المسلحة جنائيًا إذا كانوا على علم أو كان هناك من الأسباب ما يجعلهم على علم، بارتكاب مرؤوسيهم جرائم حرب، ولم يتخذوا جميع التدابير اللازمة والمناسبة في حدود سلطتهم لمعاقبة المسؤولين عن تلك الجرائم.[597] ورأت المحكمة الجنائية الدولية أن توافر نظام قضائي كان يمكن عن طريقه للقائد في الجماعات المسلحة من غير الدول أن يعاقَب على جرائم الحرب هو عنصر مهم في تطبيق هذه النظرية عمليًا.[598]
691 - هذه المحاكم، وإن لم تعترف الدول بشرعيتها، تخضع لشرط المحاكمة العادلة الوارد في المادة 3 المشتركة. ويستخلص هذا من الفقرة 1 من المادة 3 المشتركة التي تنص على أن "يلتزم كل طرف في النزاع بأن يطبق".
692 - تشترط المادة 3 المشتركة وجود "محكمة مُشكَّلة تشكيلًا قانونيًا". إذا كان من شأن هذا الأمر أن يشير حصرًا إلى المحاكم التي تشكلها الدول وفقًا لقوانينها الداخلية، فلن يكون بمكنة الجماعات المسلحة من غير الدولة الامتثال لهذا الشرط. ومن ثم ينعدم أثر تطبيق هذه القاعدة الواردة في المادة 3 المشتركة على "كل طرف في النزاع". وعلى ذلك ولإعمال هذا الحكم، يمكن القول بأن المحاكم تُشكل تشكيلًا قانونيًا ما دامت مشكلة وفقًا "لقوانين" الجماعة المسلحة.[599] ويمكن بديلًا عن ذلك أن تواصل الجماعات المسلحة العمل بالمحاكم القائمة التي تطبق التشريعات القائمة.
693 - وقد جرى الاعتراف بهذه الصعوبة في تفسير المادة 3 المشتركة في المؤتمر الدبلوماسي 1974-1977. ونتيجة لذلك، استعيض عن شرط المحكمة المشكلة تشكيلًا قانونيًا في البروتوكول الإضافي الثاني بشرط محكمة "تتوفر فيها الضمانات الأساسية للاستقلال والحيدة". وقد أُخذت الصيغة الواردة في البروتوكول الإضافي الثاني من المادة 84 من اتفاقية جنيف الثالثة ولم تلق أي معارضة من جانب المندوبين الحاضرين في المؤتمر.[600]
694 - وينبغي ألا تجرى أي محاكمات، سواء من جانب سلطات الدولة أو من جانب الجماعات المسلحة من غير الدول، إذا لم يكن بالإمكان توفير تلك الضمانات. وتبقى مسألة ما إذا كانت الجماعات المسلحة قادرة على عقد محاكمات تتوافر فيها تلك الضمانات من مسائل الواقع التي يجب تحديدها لكل حالة على حدة.[601] وإذا لم يتأت توفير محاكمة عادلة، يمكن النظر في أشكال أخرى للاحتجاز، لا سيما الاعتقال لأسباب أمنية (انظر القسم (ح)). وفي هذه الحالة، يجب احترام حظر الاحتجاز التعسفي.[602]
695 - يرمي التحليل الوارد أعلاه إلى تقييم مدى امتثال الجماعات المسلحة لمتطلبات المادة 3 المشتركة. وليس في هذه المادة ما يعني ضمنًا وجوب أن تعترف الدولة المعنية بنتائج المحاكمات أو الإجراءات القضائية الأخرى التي يجريها طرف من غير الدول في النزاع أو أن تضفي طابع النفاذ القانوني عليها. وهذا يتفق مع الفقرة الأخيرة من المادة 3 المشتركة فيما يتعلق بالوضع القانوني لتلك الأطراف.
7-6. العنف الجنسي
7-6-1 المقدمة
696 - المادة 3 المشتركة لم تحظر العنف الجنسي صراحةً، إلا أنها تحظره ضمنًا إذ تنص على الالتزام بالمعاملة الإنسانية وتحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، ولا سيما التشويه والمعاملة القاسية والتعذيب والاعتداء على الكرامة الشخصية.
697 - يستخدم مصطلح "العنف الجنسي" لوصف أي فعل ذي طابع جنسي يرتكب ضد أي شخص في ظروف قسرية.[603] وتشمل الظروف القسرية استخدام القوة أو التهديد باستخدامها أو الإكراه، كأن يرغم الشخص بسبب الخوف من التعرض لأعمال عنف أو حبس أو احتجاز أو إيذاء نفسي أو إساءة استعمال السلطة،[604] كما تشمل أيضًا الحالات التي يستغل فيها مرتكب الجريمة بيئة قسرية أو عدم قدرة الشخص على إبداء موافقة حقيقية.[605] ويمكن توجيه استخدام القوة أو التهديد باستخدامها أو الإكراه ضد الضحية أو أي شخص آخر.[606] وينطوي العنف الجنسي أيضًا على الأعمال ذات الطبيعة الجنسية التي يحمل الشخص على الانخراط فيها في الظروف المشار إليها أعلاه.[607]
698 - وينطوي العنف الجنسي على أعمال مثل الاغتصاب، والإكراه على الدعارة،[608] وهتك الحرمة[609]،[610] والاستعباد الجنسي، والحمل القسري، والتعقيم القسري.[611] وتشمل الأمثلة الأخرى المستقاة من أحكام المحاكم الجنائية الدولية على التعري القسري في العلن،[612] والتحرش الجنسي مثل التجريد القسري من الملابس،[613] وتشويه الأعضاء الجنسية.[614] ولقد اعتبر أيضًا أن العنف الجنسي يشمل أفعالًا مثل الزواج القسري، والخضوع القسري لفحص العذرية، والاستغلال الجنسي مثل الحصول على خدمات جنسية مقابل الغذاء أو الحماية، والإجهاض القسري،[615] والاتجار بالبشر لأغراض الاستغلال الجنسي.[616]
699 - وكما يبين لاحقًا، تظهر السوابق القضائية والأنظمة الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية أن العنف الجنسي قد يرقى إلى مستوى واحد أو أكثر من الأعمال المحظورة التي تسردها المادة 3 المشتركة. وفي الغالب، لا تدخل تلك الأعمال في نطاق إحدى فئات الأعمال التي تحظرها المادة 3 المشتركة فحسب، بل قد تشكل، على سبيل المثال، "اعتداءً على الحياة والسلامة البدنية" و "اعتداءً على الكرامة الشخصية" على السواء. وبالإضافة إلى ذلك، قد يقع العنف الجنسي في صورة تسلسل عدد من الأفعال المحظورة، على سبيل المثال، الاغتصاب المقترن بالقتل أو الإكراه على التعري في العلن.[617]
700 - تنص المادة 27(2) من اتفاقية جنيف الرابعة بصورة محددة على حماية النساء ضد الاغتصاب، والإكراه على الدعارة وهتك حرمتهن.[618] غير أنه في وقتنا الراهن، من المسلم به أن حظر العنف الجنسي لا يتضمن فقط العنف الموجه ضد النساء والفتيات ولكنه يشمل العنف ضد أي شخص بما في ذلك الرجال والفتيان.[619] وتحظر المادة (4)(2)(ه) من البروتوكول الإضافي الثاني والمادة 75(2)(ب) من البروتوكول الإضافي الأول الأعمال التي تنطوي على عنف جنسي بغض النظر عن جنس الضحية.[620] ويصدق ذات القول في ما أورده القانون الدولي العرفي.[621] كما تعرف الأنظمة الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية جرائم العنف الجنسي مستخدمةً في ذلك ألفاظًا محايدة من حيث التذكير والتأنيث.[622] وفي حين إن غالبية ضحايا العنف الجنسي في النزاعات المسلحة هم من النساء والفتيات، غالبًا ما يقع الرجال والفتيان أيضًا ضحايا للعنف الجنسي، لا سيما حين يودعون في مرافق الاحتجاز.[623]
7-6-2. حظر العنف الجنسي بموجب المادة 3 المشتركة
7-6-2-1. العنف الجنسي وشرط المعاملة الإنسانية
701 - تحظر المادة 3 المشتركة العنف الجنسي لأنه يشكل انتهاكًا للالتزام بالمعاملة الإنسانية للأشخاص الذين لا يشتركون مباشرةً في الأعمال العدائية. وتسرد المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة الاغتصاب والإكراه على الدعارة وهتك الحرمة كأمثلة على المعاملة التي تعتبر لاإنسانية. وعلى ذلك، ينبغي أيضًا اعتبار هذه الأفعال أفعالًا لاإنسانية في إطار المادة 3 المشتركة.[624]
7-6-2-2. العنف الجنسي وحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة التشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب
702 - يقع العنف الجنسي غالبًا في نطاق حظر "الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية" وقد تبين أنه يرقى إلى مستوى التعذيب والتشويه والمعاملة القاسية.
703 - ثبت لدى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن الاغتصاب وبعض أشكال العنف الجنسي الأخرى يمكن أن تشكل تعذيبًا. وقد استقرت المحكمتان، فضلًا عن بعض هيئات حقوق الإنسان، على أن الاغتصاب في حد ذاته يصل إلى الحد المطلوب من الشدة الذي يرقى بالفعل إلى مستوى التعذيب، إذ إنه ينطوي بالضرورة على الألم والمعاناة المبرحين.[625] وعلى سبيل المثال، قضت دائرة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية كوناراك بأن "العنف الجنسي يتسبب بالضرورة في ألم شديد أو معاناة، سواء بدنيًا أو نفسيًا/ معنويًا، وعلى هذا النحو يسوغ توصيفه على أنه فعل من أفعال التعذيب".[626] كما رأت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن إكراه المرء على مشاهدة الاعتداءات الجنسية على شخص يعرفه هو تعذيب للشخص الذي أُجبر على المشاهدة.[627]
704 - ولقد تقرر أيضًا أن أعمال العنف الجنسي ترقى إلى التشويه والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية. وخلصت الدائرة الابتدائية في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية برليتش، إلى أن "أي عنف جنسي يلحق بالسلامة البدنية والمعنوية للأشخاص عن طريق التهديد أو الترهيب أو القوة بشكل يحط من كرامة الضحية أو يهينها، يشكل معاملة لاإنسانية".[628] وثبت أيضًا أن التعقيم القسري يرقى إلى مستوى المعاملة القاسية.[629] وتشويه الأعضاء الجنسية مثال على التشويه في سياق العنف الجنسي.[630]
7-6-2-3. العنف الجنسي وحظر الاعتداء على الكرامة الشخصية
705 - يغطي حظر "الاعتداء على الكرامة الشخصية" الوارد في المادة 3 المشتركة أعمال العنف الجنسي. وقد تأكد هذا التفسير في وقت لاحق بإدراج بعض أعمال العنف الجنسي باعتبارها تشكل انتهاكًا للكرامة الشخصية في المادة (4)(2)(ه) من البروتوكول الإضافي الثاني وفي الأنظمة الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية. وتسرد المادة (4)(2)(ه) من البروتوكول الإضافي الثاني بشكل صريح "الاغتصاب والإكراه على الدعارة وكل ما من شأنه هتك العرض" على أنها أفعال تنتهك الكرامة الشخصية.[631] ويسرد النظامان الأساسيان للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الخاصة لسيراليون أيضًا الاغتصاب والإكراه على الدعارة وأي شكل من أشكال هتك الحرمة باعتبارها انتهاكًا للكرامة الشخصية بموجب المادة 3 المشتركة.[632]
706 - وقد قضت محاكم دولية في مناسبات عديدة بأن العنف الجنسي يندرج تحت فئة الاعتداء على الكرامة الشخصية، وبخاصة المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة. ومن أمثلة العنف الجنسي التي تقرر أنها معاملة حاطة بالكرامة أو مهينة الاغتصاب،[633] أو التعري القسري في العلن،[634] أو الاستعباد الجنسي ولا سيما اختطاف النساء والفتيات بوصفهن "زوجات أدغال"، أو الاستعباد الجنسي في صورة زواج،[635] أو الاعتداء الجنسي،[636] أو التعريض للخوف الدائم من التعرض للعنف البدني أو النفسي/ المعنوي أو الجنسي.[637] وفي قضية باغوسورا، رأت الدائرة الابتدائية للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن المتهم مذنب بالاعتداء على الكرامة الشخصية لارتكابه جريمة الاغتصاب التي تشكل انتهاكًا للمادة 3 المشتركة والبروتوكول الإضافي الثاني.[638]
707 - وأخيرًا، تجدر الإشارة أيضًا إلى أنه جرى التسليم بأن بعض أعمال العنف الجنسي ترقى إلى جرائم حرب قائمة بذاتها في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية وجرى إدراجها على هذا النحو في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.[639]
7-7. عدم الإعادة القسرية[640] بموجب المادة 3 المشتركة
708 - نظرًا للحقوق الأساسية التي تحميها المادة 3 المشتركة، ينبغي أن تفسر على أنها تحظر أيضًا على أطراف النزاع نقل الأشخاص الخاضعين لسلطتهم إلى سلطة أخرى حين يكون هؤلاء الأشخاص معرضين لخطر انتهاك هذه الحقوق الأساسية عند نقلهم. ويعرف الحظر على النقل المذكور باسم "عدم الإعادة القسرية".
709 - يحظر مبدأ عدم الإعادة القسرية، بمعناه التقليدي، نقل أي شخص من دولة إلى أخرى بأي شكل كان، إذا كان هناك أسباب قوية تدعو إلى الاعتقاد بأن الشخص سيتعرض لخطر انتهاك بعض الحقوق الأساسية على أرض تلك الدولة. وجرى التسليم بذلك، على وجه التحديد، فيما يتعلق بالتعذيب؛ أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة؛ أو الحرمان التعسفي من الحياة (لا سيما نتيجة إصدار أحكام إعدام دون توافر ضمانات أساسية للمحاكمة العادلة)؛ أو الاضطهاد على أساس العرق، أو الدين، أو الجنسية، أو الانتماء إلى فئة اجتماعية معينة، أو الرأي السياسي. ويرد مبدأ عدم الإعادة القسرية، مع بعض الاختلاف في النطاق، في عدد من الصكوك القانونية الدولية، بما في ذلك في القانون الإنساني وقانون اللاجئين وقانون حقوق الإنسان وبعض معاهدات تسليم المجرمين.[641] وهو أيضًا في جوهره مبدأ من مبادئ القانون الدولي العرفي.[642]
710 - لا تتضمن المادة 3 المشتركة حظرًا صريحًا للإعادة القسرية. بيد أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر ترى أن المحظورات القاطعة الواردة في المادة 3 المشتركة من شأنها أن تحظر أيضًا نقل الأشخاص إلى أماكن أو سلطات حين يكون هناك أسباب قوية تدعو إلى الاعتقاد بأنهم سيواجهون خطر التعرض للاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، مثل القتل أو التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة.[643] وقد قيل إن الحجج المؤيدة لاعتبار أن الالتزام بعدم الإعادة القسرية جزء من القانون الإنساني واجب التطبيق في النزاعات المسلحة غير الدولية "ضعيفة للغاية"،[644] إلا أن بعض الخبراء الحكوميين، في المقابل، قد أشاروا إلى أن هذا الالتزام "وارد ضمنًا في القانون الدولي الإنساني القائم".[645] وتحظر اتفاقيات جنيف التحايل على الحماية المستحقة للأشخاص المحميين في النزاعات المسلحة الدولية بنقلهم إلى طرف سام متعاقد غير ممتثل،[646] وعلى نفس النحو ينبغي عدم التحايل على القانون الإنساني واجب التطبيق في النزاعات المسلحة غير الدولية بنقل الأشخاص إلى طرف آخر في النزاع، أو إلى دولة أو منظمة دولية أخرى ليست طرفًا في النزاع.[647] ويمكن القول إن هذا يسري على جميع الضمانات الأساسية الواردة في المادة 3 المشتركة، بما في ذلك المعاملة الإنسانية، فضلًا عن حظر أخذ الرهائن وإصدار الأحكام دون توفير جميع الضمانات القضائية.[648] بيد أنه فيما يخص الحالة الأخيرة وبالنظر أيضًا إلى التفسير الأكثر تقييدًا في فقه حقوق الإنسان، فإن حظر عدم الإعادة القسرية يحتمل أن يقتصر في معظم الأحيان على المحاكمات التي يبين بجلاء عدم عدالتها.[649]
711 - هذا المنطق كرسته أيضًا، إلى حد معين، المادة 5(4) من البروتوكول الإضافي الثاني التي تلزم السلطات التي تقرر إطلاق سراح الأشخاص بأن تتخذ "التدابير اللازمة لضمان سلامتهم". وهو أيضًا المبدأ الذي جرى الاستناد إليه، ووضع موضع التنفيذ، فيما يتعلق بعودة أسرى الحرب امتثالًا للمادة 118 من اتفاقية جنيف الثالثة، رغم أن نص هذه المادة لا يشير صراحًة إلى عدم الإعادة القسرية.[650] أخيرًا وليس آخرًا، تنطوي المادة 1 المشتركة من اتفاقيات جنيف على الالتزام "بكفالة احترام" الاتفاقيات.[651] فإذا كان طرف في النزاع بصدد نقل محتجزين إلى سلطة أخرى حيث يكون المحتجزون في عهدتها معرضين لخطر انتهاك حقوقهم الأساسية التي تكفلها لهم المادة 3 المشتركة، فإن طرف النزاع هذا لم يكن قد بذل كل ما في وسعه لكفالة احترام المادة 3 المشتركة.[652]
712 - ما يعزز تفسير المادة 3 المشتركة على أنها تحظر الإعادة القسرية هو أن الحظر المطلق للتعذيب أو المعاملة القاسية أو الاعتداء على الكرامة الشخصية في المادة 3 المشتركة ينبغي أن يفسر "في ضوء الأحكام الموازية في قانون حقوق الإنسان".[653] ومنطق المادة 3 المشتركة هو ذات المنطق: فإذا كان الحظر المطلق في قانون حقوق الإنسان لا يوجب أن تمتنع السلطات عن إخضاع الأشخاص لهذه المعاملة فحسب، وإنما أيضًا يوجب أن تمتنع السلطات عن نقلهم إلى أماكن يتعرضون فيها لتلك المعاملة، لذا ليس ثمة حجة ألا تكون هذه هي الحال بموجب القانون الإنساني.[654] وعلاوة على ذلك، تبيَّن أيضًا في الفقه الدولي أن عدم الإعادة القسرية تشكل جزءًا لا يتجزأ من حماية بعض الحقوق - لا سيما الحق في عدم التعرض للتعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة، أو الحرمان التعسفي من الحياة – وهو ما خلصت إليه لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة حتى وإن لم يرد ذلك باعتباره حكمًا منفصلًا.[655]
713 - ومن حيث ماهية الأطراف الملزمة بحظر الإعادة القسرية، يقتضي منطق المادة 3 المشتركة أنه ليس فقط الدول هي التي تتقيد بالحظر وإنما الأطراف من غير الدول في النزاعات المسلحة غير الدولية أيضًا. والدافع وراء مبدأ عدم الإعادة القسرية هو النقل من سيطرة طرف من غير الدول إلى سيطرة سلطة أخرى (دولة أو غير دولة). فعلى سبيل المثال، المادة 3 المشتركة تحظر على الأطراف من غير الدول في النزاع إعادة الأشخاص إلى إقليم خاضع لسيطرة الخصم أو إلى طرف حليف غير الدول إذا كان ثمة خطر لتعرضهم لسوء معاملة في ذلك الإقليم أو على أيدي أعضاء ذلك الطرف.
714 - حين تحتجز القوات أو السلطات الأجنبية أشخاصًا أو تمارس سلطة وسيطرة عليهم، فإن مبدأ عدم الإعادة القسرية ينطبق على أي عملية نقل أفراد تنفذها هذه السلطات إلى إقليم أو سيطرة دولة أخرى (غالبًا الدولة المضيفة) أو منظمة دولية.[656] وإذا كانت القوات الأجنبية خاضعة لقيادة وسيطرة منظمة دولية، فإن حظر الإعادة القسرية ينبثق من القانون العرفي الملزم للمنظمات الدولية أيضًا، ومن استمرار انطباق التزامات الدول المساهمة بقوات في المنظمات الدولية وفقًا للقانون الإنساني وقانون حقوق الإنسان حتى حين تجرى تلك القوات عمليات في الخارج.[657] غير أن بعض الدول التي اشتركت قواتها في الخارج في عمليات نقل لم تقبل تطبيق مبدأ عدم الإعادة القسرية في تلك الحالات.[658] وكان هذا الموقف محل نقد من جانب هيئات حقوق الإنسان.[659] وترى اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن مبدأ عدم الإعادة القسرية ينطبق بغض النظر عن مسألة عبور الحدود. وما يهم لأغراض مبدأ عدم الإعادة القسرية بموجب المادة 3 المشتركة هو عملية نقل سيطرة تمارس على شخص ما.[660]
715 - ويترتب على حظر الإعادة القسرية أنه يجب على أطراف النزاع التي تخطط لإعادة أو نقل شخص إلى سيطرة سلطة أخرى أن تقيم بدقة وبحسن نية ما إذا كان هناك أسباب قوية تدعو إلى الاعتقاد بأن الشخص سيتعرض للتعذيب، أو غيره من ضروب سوء المعاملة، أو الحرمان التعسفي من الحياة، أو الاضطهاد بعد النقل. وفي حال كان هناك أسباب وجيهة تدعو إلى الاعتقاد بذلك، يجب عدم نقل الشخص إلا بعد اتخاذ تدابير من شأنها أن تزيل فعليًا هذه المخاطر. وينبغي أن يغطي التقييم سياسات وممارسات سلطات الاستلام، والظروف الشخصية والمخاوف الذاتية للشخص المحتجز،[661] استنادًا إلى مقابلات مع المحتجز، ومعرفة الدولة الحاجزة بممارسات الاحتجاز لدى سلطة الاستلام، ومعلومات من مصادر مستقلة.[662]
716 - في النزاعات المسلحة غير الدولية التي نشبت مؤخرًا، اتفق بعض الدول والمنظمات الدولية على نماذج مختلفة للرصد ما بعد النقل وطبقت العمل بها.[663] وفي معظم الحالات، كان المقصود أن تكون مدة الرصد متناسبة مع الفترة التي قدر أن المحتجز قد يتعرض خلالها لخطر الخضوع لمعاملة غير مشروعة. وقد منحت آليات رصد ما بعد النقل السلطة القائمة على عملية النقل حق الوصول إلى المحتجزين المنقولين، حتى يتسنى لها رصد راحتهم وبناء قرارات النقل المستقبلية على ما تتوصل إليه من نتائج، الأمر الذي أدى في بعض الحالات إلى تعليق عمليات النقل.[664] كما أجرت الدول والمنظمات الدولية المعنية نماذج مختلفة في مجال بناء القدرات فيما يتعلق بعمليات الاحتجاز، لا سيما معاملة المحتجزين. وإذا كانت هذه التدابير مطبقة فعليًا، فإنها تتماشى أيضًا مع الواجب الواقع على عاتق الدول بكفالة الاحترام حسبما هو وارد في المادة 1 المشتركة.
8. الاحتجاز دون إجراءات جنائية
717 - الاحتجاز هو أمر معتاد وقوعه في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، وتمارسه الدول والأطراف من غير الدول على السواء.[665] وتفرض المادة 3 المشتركة فيما يخص الإجراءات الجنائية المتعلقة بالاحتجاز ، التزامًا بالمحاكمة العادلة (انظر القسم (و)-5).
718 - يتناول هذا القسم الاحتجاز خارج إطار الإجراءات الجنائية، وهو ما يعرف أيضًا باسم الاعتقال. ويشير لفظ "الاعتقال" إلى الاحتجاز لأسباب أمنية في حالات النزاع المسلح، بما يعني الاحتجاز غير الجنائي لشخص استنادًا إلى التهديد الخطير الذي يشكله نشاطه على أمن السلطة الحاجزة فيما يتعلق بالنزاعات المسلحة.[666]
719 - تنظم اتفاقيتا جنيف الثالثة والرابعة هذا النوع من الاحتجاز بقدر كبير من التفصيل من حيث اتصاله بالنزاعات المسلحة الدولية.[667] أما فيما يخص النزاعات المسلحة غير الدولية، فلا تنطوي المادة 3 المشتركة ولا البروتوكول الإضافي الثاني على إطار مشابه بشأن الاعتقال.[668] ورغم ذلك يشترط القانون الدولي العرفي ألا يكون الاحتجاز تعسفيًا.[669] وعلى ذلك، يجب أن تتوافر أسس وإجراءات معينة للاحتجاز. غير أنه لم يستقر بعد على المضمون الدقيق لتلك الأسس والإجراءات في القانون الدولي.
720 - أصبح الافتقار إلى القواعد الكافية في القانون الإنساني واجب التطبيق في النزاعات المسلحة غير الدولية مسألة قانونية وحمائية. وتشير المادة 3 المشتركة إلى الاحتجاز بوجه عام بغية الإشارة إلى أنه يحق للأشخاص المحتجزين التمتع بالحماية التي تكفلها المادة. وسكتت المادة عن سرد الأسس والضمانات الإجرائية للأشخاص المعتقلين في نزاع مسلح غير دولي، رغم ذلك وكما أسلفنا، الاعتقال أمر تمارسه الدول والجماعات المسلحة من غير الدول على السواء. ويورد البروتوكول الإضافي الثاني الاعتقال صراحةً بما يؤكد على أنه شكل من أشكال الحرمان من الحرية تنطوي عليه النزاعات المسلحة غير الدولية. وعلى غرار اتفاقيات جنيف، لا يشير البروتوكول الإضافي الثاني أيضًا إلى أسس الاعتقال ولا إلى الحقوق الإجرائية.
721 - اعتمدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر على "الأسباب الأمنية الضرورية" باعتبارها أدنى معيار قانوني ينبغي الاستناد إليه في قرارات الاعتقال في النزاعات المسلحة غير الدولية. وجرى اختيار هذا المعيار إذ أنه يشدد على الطابع الاستثنائي للاعتقال، كما أنه يستخدم على نطاق واسع حال لجوء الدول إلى الاحتجاز غير الجنائي لأسباب أمنية. ويبدو أن المعيار مناسب أيضًا في النزاعات المسلحة غير الدولية العابرة للإقليم حيث تحتجز قوة (أو قوات) أجنبية أشخاصًا غير مواطنين في أراضي الدولة المضيفة، إذ ترتكز الصياغة على معيار الاعتقال واجب التطبيق في الأراضي المحتلة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.[670] ويعكس المعيار سمة أساسية من سمات القانون الإنساني ألا وهي الحاجة إلى تحقيق التوازن بين الاعتبارات الإنسانية من جهة والضرورة العسكرية من جهة أخرى.
722 - وفي إطار الجهود الرامية إلى معالجة عدم اليقين الناجم عن سكوت معاهدات القانون الإنساني عن إجراءات الحرمان من الحرية في النزاعات المسلحة غير الدولية، أصدرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في 2005 مبادئ توجيهية مؤسسية تحت عنوان "المبادئ والضمانات الإجرائية المتعلقة بالاحتجاز والاعتقال الإداري في النزاعات المسلحة وغيرها من حالات العنف".[671] وتستند هذه المبادئ التوجيهية إلى القانون والسياسات، ويراد تنفيذها على نحو يراعي الظروف المحددة القائمة. واستخدمت اللجنة الدولية للصليب الأحمر المبادئ التوجيهية في حوارها الميداني مع الدول والقوات الدولية والإقليمية والجهات الفاعلة الأخرى.
723 - فيما يخص عملية إعادة النظر من أجل تحديد مشروعية الاعتقال، تنص المبادئ التوجيهية الاثني عشر المحددة، ضمن جملة أمور، على وجوب إبلاغ الشخص بأسباب اعتقاله دون إبطاء وبلغة يفهمها. ويحق للشخص المعتقل أيضًا أن يطعن في مشروعية احتجازه في غضون أقل مدة ممكنة من التأخير.[672] ويجب أن تضطلع هيئة مستقلة وغير متحيزة بعملية إعادة النظر في مشروعية الاعتقال.[673] وتجدر الإشارة إلى أنه من الناحية العملية، يفترض التنظيم المحكم للطعن سبق تحقق العديد من الخطوات الإجرائية والعملية، بما في ذلك: 1) تزويد المعتقلين بأدلة كافية تدعم الادعاءات الموجهة ضدهم؛ 2) ضمان وضع الإجراءات التي تتيح للمعتقلين التماس أدلة إضافية والحصول عليها؛ 3) التأكد من فهم المعتقلين لمختلف مراحل عملية إعادة النظر في الاعتقال والعملية ككل. وفي الحالات التي تتسم فيها عملية إعادة النظر في الاعتقال بالطابع الإداري وليس القضائي، فإن ضمان شرطي استقلال الهيئة المنوطة بالعملية وعدم تحيزها اللازمين يتطلب اهتمامًا خاصًا. وينبغي توفير إمكانية الاستعانة بمدافع حيثما كان مجديًا، ويجوز أيضًا النظر في وسائل أخرى لضمان تقديم المساعدة القانونية المتخصصة.
724 - تنص المبادئ التوجيهية أيضًا على الحق في إعادة النظر بشكل دوري في مشروعية استمرار الاعتقال. وتلزم إعادة النظر الدورية السلطة الحاجزة بالتحقق مما إذا كان الشخص المحتجز لا يزال يشكل تهديدًا مؤكدًا للأمن، ومن ثم إطلاق سراحه إذا كان لا يشكل تهديدًا. وتنطبق على إعادة النظر الدورية أيضًا الضمانات المنطبقة على إعادة النظر الأولية.
725 - غير أنه حتى وقت كتابة هذه التعليقات، لا تزال مسألة تحديد المعايير والضمانات المطلوبة لمنع الاعتقال التعسفي في النزاعات المسلحة غير الدولية موضع نقاش وتتطلب مزيدًا من الإيضاح، وتتعلق تلك المسألة جزئيًا بمسائل لم تحسم بعد بشأن التفاعل بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.[674]
726 - في النزاعات المسلحة غير الدولية التي تنشب في إقليم إحدى الدول بين قواتها المسلحة وجماعة مسلحة من غير الدول أو أكثر، يشكل القانون الداخلي للدولة، والذي يستنير بالتزامات قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني، الإطار القانوني لإمكانية اعتقال أشخاص ترى الدولة أن نشاطهم يشكل تهديدًا أمنيًا خطيرًا.
727 - بيد أن مسألة ما إذا كان القانون الإنساني يعطي سلطة أو صلاحية أصيلة للاحتجاز لا تزال موضع نقاش.[675] وقد أدت هذه المسألة إلى نشوء جدل، لا سيما فيما يخص النزاعات المسلحة غير الدولية التي تنطوي على عنصر عابر للإقليم، أي النزاعات التي تقاتل فيها القوات المسلحة لدولة واحدة أو أكثر، أو القوات المسلحة لمنظمة دولية أو إقليمية، إلى جانب القوات المسلحة لدولة مضيفة في إقليم الأخيرة ضد جماعة أو أكثر من الجماعات المسلحة من غير الدول.
728 - وهناك رأي يقول أن الأساس القانوني للحرمان من الحرية في النزاعات المسلحة غير الدولية يجب النص عليه صراحة كما هي الحال في اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة بشأن النزاعات المسلحة الدولية.[676] وتذهب اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى الرأي القائل بأن القانون الدولي الإنساني العرفي ومعاهدات القانون الإنساني ينطويان على سلطة متأصلة تسوغ الاعتقال في سياق النزاعات المسلحة غير الدولية.[677] غير أنه يجب في جميع الأحوال، تمشيًا مع مبدأ الشرعية، أن يتوافر بالإضافة إلى ذلك تنظيم قانوني يتعلق بأسس وإجراءات الحرمان من الحرية في النزاعات المسلحة غير الدولية.[678]
9. الفقرة الفرعية (2): جمع الجرحى والمرضى والعناية بهم
9-1. المقدمة
729 - تسبغ المادة 3 المشتركة حماية واضحة المعالم على الجرحى والمرضى على الأرض(وتستوي معها في ذلك المادة 3 من اتفاقية جنيف الثانية التي أضافت "الغرقى") في أوقات النزاعات المسلحة غير الدولية، حيث إنها تنص على التزامين أساسيين بشأن هذه المسألة: الجرحى والمرضى يجب أن أ) يجمعوا، ب) ويعتنى بهم. وهذان الالتزامان، رغم إيجازهما، يمثلان أساس الحماية الشاملة للجرحى والمرضى في النزاعات المسلحة غير الدولية عند تفسيرهما مقترنين بالالتزامات وأشكال الحماية الأخرى التي تنص عليها المادة 3 المشتركة
730 - الآثار غير المباشرة لنزاع مسلح غير دولي على الصحة العامة قد "تشكل تهديدًا على صحة الأشخاص المتضررين أبلغ كثيرًا من التهديد الذي تشكله الإصابة العنيفة".[679] وتعوق النزاعات المسلحة الإمداد بمرافق الرعاية الصحية والأدوية، سواء للحالات الحادة أو المزمنة، ومن الممكن أيضًا أن تؤدي إلى انتشار مرض معدٍ، وتساهم في سوء التغذية، وتعطل التطبيق الفعال للطب الوقائي كحملات التطعيم، ورعاية صحة الأم والطفل.[680]
731 - جمع الجرحى والمرضى والعناية بهم ينطويان ضمنًا بالضرورة على احترامهم وحمايتهم. ويستخلص ذلك أيضًا من الالتزام العام الوارد في الفقرة الفرعية (1) بمعاملتهم معاملة إنسانية، مع الحظر الصريح لأفعال معينة. وعليه، أقر الالتزام باحترام الجرحى والمرضى وحمايتهم بحكم الواقع (de facto) منذ إقرار اتفاقيات جنيف المؤرخة في 1949.[681] وكذلك ينطوي التزاما الجمع والعناية ضمنًا على احترام أفراد الخدمات الطبية والمرافق الطبية ووسائل النقل الطبي وحمايتهم.[682] وذلك لأن احترام أفراد الخدمات الطبية ومرافق ووسائل النقل الطبي وحمايتهم أمر جوهري للتنفيذ الفعال لالتزامي جمع الجرحى والمرضى والعناية بهم.
732 - يضم البروتوكول الإضافي الثاني أحكامًا أكثر تفصيلًا متعلقة بالجرحى والمرضى، ولا سيما أشكال الحماية الصريحة لأفراد الخدمات الطبية ومرافق ووسائط النقل الطبي.[683] تعتبر أشكال الحماية التي ينص عليها البروتوكول الإضافي الثاني قد وردت ضمنًا في الالتزامين الأساسيين لجمع الجرحى والمرضى والعناية بهم: وبما أن أشكال الحماية تلك ضرورية لتنفيذ ذينك الالتزامين، فهي لا تنفصل عنهما.[684] ومع ذلك ارتئي أنه من المفيد تفصيل أشكال الحماية في البروتوكول الإضافي الثاني. وتعتبر هذه القواعد بصفة عامة أيضًا جزءًا من القانون الدولي العرفي.[685] وتنص اتفاقيات جنيف على التزامات مماثلة بشأن النزاعات المسلحة الدولية.[686]
9-2. الخلفية التاريخية
733 - كان التزاما جمع الجرحى والمرضى والعناية بهم جزءًا من النظام القانوني المعني بحماية هاتين الفئتين منذ ظهوره في عام 1864. وهذا أمر يتصور منطقيًا فقط بالنظر إلى أن ما ألهم مقترح هنري دونان بوضع اتفاقية دولية لتحسين حال الجنود الجرحى والمرضى كان الحالات المفزعة للجنود الجرحى والمرضى التي شهدها في أرض معركة سولفرينو، حيث ترك حوالي 40000 من الجنود النمساويين والفرنسيين والإيطاليين الذين سقطوا ضحايا في المعركة دون عناية.[687] ولقد شهد هذا النص المزيد من التفصيل في اتفاقيات جنيف المؤرخة في 1906 و1929 و1949،[688] ورغم ذلك، ظلت المبادئ الأساسية ثابتة، وهي عدم جواز الهجوم على الجرحى والمرضى والمنكوبين في البحار، وعدم تركهم يعانون دون عناية طبية.
734 - وفي عام 1949، امتد التزاما جمع الجرحى والمرضى والعناية بهم ليشمل المدنيين بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، وليشمل كذلك النزاعات المسلحة غير الدولية في المادة 3 المشتركة.
9-3. المناقشة
9-3-1. المخاطبون بالالتزامين
735 - ينطبق على كل طرف في النزاع، سواء كان من الدول أو غير الدول، التزاما جمع الجرحى والمرضى والعناية بهم. ويستخلص ذلك أيضًا من المادة 3(1) المشتركة، التي تنص على العبارة "يلتزم كل طرف في النزاع بأن يطبق". تجدر الإشارة إلى أن مدونات قواعد السلوك لعدد من الجماعات المسلحة تبين إدراكها أنها مقيدة بالتزامات الاحترام والحماية، وبالمثل جمع الجرحى والمرضى والعناية بهم.[689] وإضافة إلى ما تقدم، لم تدرج الأدلة العسكرية في معظمها تمييزًا فيما يتعلق بحماية الجرحى والمرضى يتوقف على طبيعة النزاع.[690]
9-3-2. نطاق التطبيق
9-3-2-1. فئات الأشخاص المحميين
736 - تنطبق هذه الفقرة الفرعية على الجرحى والمرضى، سواء كانوا من أفراد قوات مسلحة أو مدنيين. والتزاما جمع المرضى والجرحى والعناية بهم مكفولان للجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة التابعة للطرف نفسه بنفس قدر كفالتهما لأولئك التابعين للقوات المسلحة للعدو، وكذلك للجرحى والمرضى من المدنيين أيضًا. وكحد أدنى، يجب اعتبار المصابين بجراح أو مرض نتيجة النزاع المسلح، أو بسبب العمليات العسكرية أو المخلفات المتفجرة للحرب على سبيل المثال، وكذلك الأشخاص الذين تأثرت حالتهم الطبية أو تأثر حصولهم على العلاج بالنزاع، ضمن نطاق الحماية التي تسبغها المادة 3 المشتركة للجرحى والمرضى. ويمكن القول بأن حالة الشخص الطبية أو حصوله على العلاج قد تأثر بالنزاع عند تدمير مرفق طبي يعتمد علاج هذا الشخص على وجوده أو عندما لا يتمكن من الوصول إلى أفراد الخدمات أو المرافق الطبية التي يعتمد عليها بسبب النزاع أو عندما لا يتمكن من الحصول على الأدوية المهمة لعلاجه المستمر لأسباب تتعلق بالنزاع.
9-3-2-2. الجرحى والمرضى
737 - لا تحدد اتفاقيات جنيف بوجه عام والمادة 3 المشتركة بوجه خاص متى يعتبر الشخص "جريحًا" أو "مريضًا" من الناحية القانونية. فانطلاقًا من المعنى العادي للكلمتين، يعتبر الشخص جريحًا أو مريضًا إذا كان يعاني جرح أو مرض. صياغة المادة تتسع بما يكفي لاستيعاب مجموعة كبيرة من الحالات المرضية التي تتفاوت من حيث الشدة، سواء كانت جسمانية أو نفسية/ معنوية. ومن المقبول على نطاق واسع، وهو ما عبر عنه التعريف الوارد في المادة 8(أ) في البروتوكول الإضافي الأول، أنه لتصنيف شخص بأنه جريحٌ أو مريضٌ لأغراض القانون الإنساني، يجب أن يكون مستوفيًا لمعيارين مجتمعين: أولًا، حاجته إلى المساعدة أو العناية الطبية؛ وثانيًا، وجوب إحجامه عن الانخراط في أي عمل عدائي.[691]
738 - التعريف الوارد في المادة 8(أ) في البروتوكول الإضافي الأول يعكس فهمًا معاصرًا للفظي "جريح" و"مريض"، ما يقدم معيارًا مفيدًا لفهم نطاق الالتزامين المنصوص عليهما في المادة 3 المشتركة. ينبو عن المنطق تطبيق تعريف ما "للجرحى" أو "المرضى" في النزاعات المسلحة الدولية وآخر في النزاعات المسلحة غير الدولية؛ لذلك يبدو من الملائم استخدام التعريف الوارد في المادة 8(أ) من البروتوكول الإضافي الأول لأغراض المادة 3 المشتركة.[692] وأيضًا، فقد سبق تصور إدراج تعريفات مماثلة لتلك الواردة في المادة 8(أ) و8(ب) من البروتوكول الإضافي الأول في البروتوكول الإضافي الثاني.[693] ودفعت الرغبة في إيجاز النص بوجه عام اتخاذ قرار عدم إضافتها إلى النص النهائي للبروتوكول الإضافي الثاني في نهاية المطاف. ومع ذلك، لم يكن ثم اعتراض على التعريفات بالصورة التي هي عليها ولا على انطباقها في النزاعات المسلحة غير الدولية.[694]
739 - يعتمد إذًا الوضع القانوني لتقرير ما إذا كان الشخص جريحًا أو مريضًا على حالته الطبية وسلوكه أيضًا. تعريف القانون الإنساني للفظي "جريح" و"مريض" أوسع نطاقًا من المعنى العادي لتلك الكلمات وأضيق منهما في الوقت ذاته.[695] فهما أوسع نطاقًا لأنهما يشملان مجموعة واسعة من الحالات الطبية بالإضافة إلى الإصابات أو الأمراض التي قد لا تجعل الشخص جريحًا أو مريضًا وفقًا للمعنى الدارج لهذين اللفظين. وأضيق نطاقًا في الوقت ذاته لأن الإحجام عن الأعمال العدائية جزءٌ من شرط القانون الإنساني لاعتبار الشخص جريحًا أو مريضًا.
740 - من المفيد الإشارة إلى أنه لأغراض قانونية (في مقابل الأغراض الطبية، وتحديد العلاج الطبي المناسب)، ليس ثمة فارق بين أن يكون الشخص "جريحًا" أو "مريضًا" حسب المعنى الدارج للفظين حيث يشملان أيضًا كل الأشخاص الآخرين الذين بحاجة إلى علاج طبي عاجل.
741 - ولأغراضٍ قانونية أيضًا، فالمعيار الحاسم هو حاجة الشخص إلى مساعدة أو عناية طبية بالإضافة إلى إحجامه عن الأعمال العدائية. وما يهدف إليه النظام القانوني الذي يحمي الجرحى والمرضى هو الاستجابة إلى هذه الحاجة وإلى ما يصاحبها من ضعف معين. ويتسق هذا الفهم مع صياغة الجملة الأولى من المادة 8(أ) من البروتوكول الإضافي الأول، التي لا تحدد درجة معينة لشدة الجروح أو المرض، إنما تشير إلى الأشخاص الذين "يحتاجون إلى مساعدة أو رعاية طبية"، وتعدد مجموعة من الحالات على سبيل المثال. بالتالي، وما دامت الحالة الطبية هي المسألة موضع البحث، يتعين التوسع في تفسير لفظي "الجرحى" و"المرضى" لينطبقا على أي شخص بحاجة إلى المساعدة أو العناية الطبية دون متطلبات مقيدة مثل خطورة الحالة الطبية. ولم تحدد المادة أيضًا فارقًا بين المرض الحاد والمرض المزمن؛ والعامل الوحيد ذو الصلة هو الحاجة إلى المساعدة أو العناية الطبية فقط.[696] ويستتبع ذلك بالضرورة دخول ضحايا العنف الجنسي أو أي جرائم أخرى ضمن تعريف "الجرحى أو المرضى" بوصفهم أشخاصًا قد يحتاجون إلى المساعدة أو العناية الطبية. ويدخل ضمن ذات التصنيف أيضًا الحالات العقلية أو النفسية، بما فيها اضطرابات الضغط النفسي الذي يعقب الإصابة كانت تستلزم مساعدة أو عناية طبية.
742 - توضح الجملة الثانية من المادة 8(أ) من البروتوكول الإضافي الأول أن عبارة "الجرحى والمرضى" تشمل "حالات الوضع، والأطفال حديثي الولادة والأشخاص الآخرين... مثل ذوي العاهات وأولات الأحمال"، فقد يكون أولئك الأشخاص بحاجة إلى المساعدة أو العناية الطبية العاجلة. كل تلك الحالات مجرد أمثلة، ومسألة حاجة الشخص إلى المساعدة أو العناية الطبية أو عدم حاجته إليها هي دائمًا المعيار الحاسم.
743 - لا ترتبط الحاجة إلى عناية بمسألة نشوئها عن حالة طبية تسبق النزاع أو تتصل به حتى وإن لم يكن النزاع هو الذي أنشأها.[697] تعريف الجرحى والمرضى "لا يقتصر فقط على أولئك الأفراد المتضررين من النزاع الذين جرحوا أو مرضوا لأسباب متعلقة بالنزاع المسلح، لكنه يشمل كل الأشخاص الذين بحاجة إلى علاج طبي فوري".[698]
744 - وبالإضافة إلى شرط الحالة الطبية، يجب أن يحجم الشخص عن الأعمال العدائية ليصنف على أنه "جريح" أو "مريض" بالمعنى القانوني. وبناءً على ذلك، وعلى عكس الفهم الدارج للمصطلحين، الشخص الذي يستمر في المشاركة في أعمال عدائية لا يصنف جريحًا أو مريضًا بالمعنى القانوني بغض النظر عن مدى شدة حالته الطبية. وغالبًا ما يستوفي معظم المدنيين هذا الشرط. وعلى ذلك، يرتبط هذا الشرط لتصنيف الشخص جريحًا أو مريضًا بالمقاتلين على وجه التحديد حتى وإن كان معيارًا عامًا.[699]
745 - المقاتلون الجرحى أو المرضى الذين يواصلون رغم جرحهم أو مرضهم أداء الأدوار المعتادة في القوات المسلحة التي يتبعونها يجوز اعتبارهم مشاركين في أعمال عدائية. وكذلك، على سبيل المثال، المقاتل المصاب بحالة طبية بسيطة أو يتعافى من جرح في المعركة، ولكنه مع ذلك يقود شاحنة ذخيرة أو ينظف أسلحة، لا يتمتع بالحماية الممنوحة للجرحى والمرضى. لكن يجب أن يحصل ذلك الشخص على العناية الطبية اللازمة من قواته المسلحة. لكن إذا كان المقاتل يتلقى علاجًا من التهاب رئوي أو جروح تتطلب عناية طبية أو إشراف طبي مثلًا في عيادة للإسعاف الأولي أو مستشفى ولا يشارك في الأعمال العدائية، لا يجوز الهجوم عليه ويجب حمايته. ومن الناحية العملية قد تستطيع الأطراف المهاجمة مبدئيًا التمييز بين المقاتلين الجرحى أو المرضى ورفاقهم الأصحاء بدنيًا استنادًا إلى وجودهم في مرفق طبي للحصول على العلاج. فهؤلاء الأشخاص لهم الحق في الحصول على العناية الطبية التي تتطلبها حالتهم. وتزداد صعوبة التمييز بين من يتلقون العلاج وغيرهم أثناء الالتحام في القتال، لكن هناك عوامل أخرى مثل الوجود في مكان يبدو أنه مخصص كنقطة لجمع المصابين، أو عدم حمل سلاح، أو عدم القدرة على الحركة من دون مساعدة رفاق آخرين، كلها تدل على أن المقاتل لم يعد يشارك في أي عمل عدائي.
746 - عندما يجرح مقاتل أثناء الأعمال العدائية قد تأتي لحظة يجب على المهاجم فيها أن يتوقف في الحال عن الهجوم على ذلك الشخص ويبدأ في احترامه وحمايته. وفي ظروف القتال، قد يكون من الصعوبة البالغة التحديد بصورة مؤكدة ما إذا كان هذا الشخص جريحًا أو مريضًا بالمعنى القانوني لحظة إصابته، وعلى الأخص تحديد ما إذا كان قد أحجم عن الأعمال العدائية. وفي سياق الأعمال العدائية المستمرة، قد تتغير حالة المقاتل في غضون ثوانٍ من هدف مشروع إلى شخص جريح - وبالتالي إلى شخص مشمول بالحماية. وفي مثل تلك الحالات، وبالنظر إلى المدة الزمنية القصيرة التي يجرى خلالها التقدير الأولي، من الممكن أن ينصب التركيز ابتداءً على تبين ما إذا كان هناك علامات مرئية تدل على أن الشخص قد جُرح وأنه قد أحجم بعد ذلك عن أي عمل العدائي.
747 - المعيار المعني هنا هو ما إذا كان المقاتل الرشيد يعتبر أن الشخص قد أحجم عن الأعمال العدائية في ظل الظروف القائمة. على سبيل المثال، المقاتل الذي كان يشارك في قتال وأصيب لتوه بجرح إثر رصاصة أصابت الجزء السفلي من ساقه قد يواصل حمل السلاح، ومع ذلك فإنه قد يتوقف عن كل الأعمال العدائية بسبب مثل هذا الجرح البسيط نسبيًا الذي أصابه. يجب على القوة المهاجمة أن تتأهب لاحتمال أن يتراجع مقاتل مصاب عن الأعمال العدائية، ويجب أن تُكيف هجومها على هذا الأساس. في تلك الحالات، تتوقف سلطة استمرار مشاركة المقاتل على التقدير بحسن نية ما إذا كان الشخص المصاب بجرح قد أحجم عن الأعمال العدائية. الإحجام الظاهر للمقاتل الجريح أو المريض عن جميع أشكال الأعمال العدائية يضع نهاية لكل الأعمال العدائية ضده. لكن قد يكون من الصعب في بعض الحالات في أرض المعركة تحديد ما إذا كان الشخص الجريح قد أحجم عن الأعمال العدائية.
748 - الشخص الذي يواصل القتال لا يصنف جريحًا بالمعنى القانوني حتى إذا كان مصابًا بجرح شديد، وليس هناك التزام بالإحجام عن مهاجمة شخص جريح أو مريض بالمعنى الدارج إذا واصل المشاركة في أعمال عدائية. لأطراف النزاع توجيه أفراد قواتها المسلحة لمساعدتها في تقدير مثل تلك الحالات عن طريق إصدار وثيقة داخلية مثل "قواعد اشتباك" التي يجب أن تتفق مع القانون الإنساني.
749 - كما ذكرنا أعلاه، يجب احترام الجرحى والمرضى وحمايتهم. هذا المفهوم يقع من المادة 3 المشتركة في موقع القلب، وهذا ما عززته الألفاظ الصريحة الواردة في المادة 7 من البروتوكول الإضافي الثاني.[700] وفي هذا السياق، يفرض الالتزام باحترام الجرحى والمرضى كحد أدنى، حمايتهم من الهجوم وحظر قتلهم أو إساءة معاملتهم. وبالإضافة إلى ذلك، يجب حمايتهم بما يعني أنه يقع على عاتق جميع الأطراف التزامٌ بالنهوض للدفاع عنهم في محاولة لوقف أو منع إلحاق الأذى بهم، سواء كان ذلك من جانب أطراف من الغير أو من آثار استمرار أعمال عدائية أو من مصادر أخرى. على سبيل المثال، قد يفرض الالتزام بالحماية اتخاذ تدابير لتسهيل عمل أفراد الخدمات الطبية، لا سيما اتخاذ خطوات لتسهيل مرور الإمدادات الطبية.[701]
9-3-3 الالتزام بجمع الجرحى والمرضى
750 - أطراف النزاع ملزمون بجمع الجرحى والمرضى. ويجب تفسير لفظ "جمع" تفسيرًا موسعًا بحيث تتضمن الالتزام بالبحث عن الجرحى والمرضى وإجلائهم إلى موقع أكثر أمنًا[702] وذلك اتساقًا مع الأغراض الإنسانية للمادة 3 المشتركة والقانون الإنساني بشكل أعم. وعدم الوفاء بذلك الالتزام سيخلف العديد من الأشخاص في ميدان الأعمال العدائية، وهذا يناقض الغرض من هذه الفقرة الفرعية من المادة 3 المشتركة وهدفها. والهدف من هذه المادة هو نقل الجرحى والمرضى من منطقة الخطر المباشر وتمكينهم من تلقي الرعاية الطبية اللازمة بأسرع ما يمكن وفي ظروف أفضل وآمن. وينتفي مغزى البحث عن الجرحى والمرضى وجمعهم إذا لم يقترن بالتزام إجلائهم إلى مكان آمن. وينص القانون الدولي العرفي على الالتزام بالإجلاء مقترنًا بالتزامي البحث والجمع.[703]
751 - الالتزام بجمع الجرحى والمرضى وكذلك الالتزام بالبحث عنهم وإجلائهم هما التزامان ببذل عناية، أي يجب أن يكون تطبيقهما ببذل العناية اللازمة. ومعيار العناية اللازمة معيار نسبي، ويتوقف المضمون المحدد لما يلزم لتحقيق ذلك المعيار على الظروف.[704] وبالتالي يجب تحديد النقطة التي يكون من المناسب عندها بدء أنشطة البحث والجمع والإجلاء، والوسائل والإجراءات المتبعة، لكل حالة على حدة.
752 - الالتزام بجمع الجرحى والمرضى التزام مستمر، أي أنه ينطبق في الفترة التي يستمر فيها النزاع غير المسلح الدولي. وتلزم المادة 8 من البروتوكول الإضافي الثاني الأطراف باتخاذ كل الإجراءات الممكنة للبحث عن الجرحى والمرضى والمنكوبين في البحار وتجميعهم وحمايتهم "حيثما تسمح الظروف بذلك". وينص القانون الدولي العرفي على ذات الالتزام.[705] وحيثما وجد مؤشر على وجود جرحى ومرضى في المنطقة يجب البدء في أعمال البحث والجمع والإجلاء حيثما سمحت الظروف بذلك. والاحتمال الغالب أن يوجد جرحى ومرضى وخاصة بعد انتهاء أي اشتباك. وعبارة "خاصة بعد أي اشتباك" غير مذكورة في المادة 3 المشتركة لكن تنص عليها المادة 8 من البروتوكول الإضافي الثاني.[706] ويمكن استنتاج أن تطبيق المادة 3 المشتركة بحسن نية يفرض الالتزام بإجراء أعمال البحث والجمع والإجلاء بعد كل اشتباك إلا إذا وجدت مؤشرات واضحة بعكس ذلك.
753 - لا تستلزم المادة 3 المشتركة تعريض حياة القائمين بأنشطة البحث والجمع والإجلاء للخطر. فعلى سبيل المثال قد تمنع ظروف أمنية غير ملائمة من تنفيذ تلك الأنشطة لفترة من الزمن.[707] وعليه، لا يشترط الالتزام بإجراء أعمال البحث والجمع والإجلاء أثناء الاشتباك. لكن قد توجد استثناءات. فعلى سبيل المثال، إذا اتضح وجود جرحى في المنطقة أثناء حدوث اشتباك على الأرض، وتوافر لأحد الأطراف إمكانية جمعهم وإجلائهم جوًا، أو بأي وسيلة أخرى، دون تعريض أفراد ذلك الطرف لخطر جسيم، يجب على ذلك الطرف أن يطبق بحسن نية الالتزام بجمعهم وإجلائهم. وبالمثل، إذا توافرت موارد كبيرة من الموظفين والمهمات، يجب نشرهم حسب ما يمليه المنطق. وعلى العكس، إذا كانت الموارد شحيحة، فالاتفاقية لا تلزم الأطراف بعمل المستحيل، لكن عليهم عمل ما هو ممكن بالنظر إلى الظروف القائمة، مع مراعاة الموارد المتاحة كلها.
754 - نظرًا لأن العناية الطبية العاجلة تنقذ الحياة في غالب الأحيان، فمن الضروري البحث عن الجرحى والمرضى وجمعهم بأسرع ما يمكن.[708] وهكذا يقع في صلب الالتزام وجوب بدء أنشطة الإنقاذ بمجرد أن تسمح الظروف بذلك ويُحبّذ للأطراف إبرام اتفاقات خاصة تسمح بوقف مؤقت للقتال من أجل القيام بتلك الأنشطة.[709]
755 - ورغم أنه من الواضح أن أطراف النزاع المسلح غير الدولي هم المسؤولون عن البحث عن الجرحى والمرضى وجمعهم، لا تحدد المادة 3 المشتركة على من تحديدًا يقع الالتزام بالقيام بتلك الأنشطة ويتضمن النموذج النمطي الذي تصوره هذه المادة تنفيذ طرف أو أطراف النزاع الذين خلّف اشتباكهم جرحى أنشطة البحث والجمع والإجلاء. لكن في النزاعات المتعددة الأطراف، قد يعني ذلك وقوع الالتزام بالمساعدة في البحث عن الجرحى والمرضى وجمعهم على طرف لم يشارك في مواجهة معينة.
756 - إذا لم تكن موارد أحد أطراف النزاع كافية لتنفيذ أنشطة البحث والجمع والإجلاء، يجوز لذلك الطرف لكي يفي بالتزاماته بموجب المادة 3 المشتركة أن يطلب إلى المدنيين أو الهيئات الإنسانية تقديم المساعدة في تلك الجهود.[710] وبالمثل، عندما تتخطى احتياجات الجرحى والمرضى ما يستطيع أحد أطراف النزاع تقديمه، يجب على ذلك الطرف السعي نحو إجلائهم إلى مكان تتوافر فيه مرافق طبية. وإذا كان أحد الأطراف غير قادر على البحث عن الجرحى والمرضى وجمعهم وإجلائهم بنفسه، عليه أن يقدم كل المعلومات ذات الصلة لتمكين الآخرين من تنفيذ تلك المهام بأمان. وعليه، يجب على الأطراف تسهيل مرور آمن وكفء لوسائل النقل الطبية المستخدمة للجمع والإجلاء، وأفراد الخدمات الطبية المشاركين في تنفيذ النشاطين، وأي مهمات أخرى لازمة، وتوفير طرق وأوقات للنقل لا تعرض الموظفين أو وسائل النقل لخطر المناطق المزروعة بالألغام أو موانع أخرى.[711] وعلى سبيل المثال، على الأطراف أن تتخذ إجراءات لحماية العاملين في المجال الإنساني من أضرار الألغام وغيرها من المخلفات المتفجرة للحرب. وينص البروتوكولان الملحقان باتفاقيات جنيف على التزامات تعاهدية معينة بشأن أسلحة تقليدية محددة.
757 - الالتزامان بجمع الجرحى والمرضى والعناية بهم يستتبعان منطقيًا الالتزام على الأطراف المتعادية بأن تسمح بأنشطة الإجلاء والنقل إلى أماكن المرافق الطبية بأسرع ما يمكن. ولتنفيذ هذه الالتزامات يلزم على سبيل المثال تنفيذ إجراءات عند نقاط التفتيش لإتاحة أسرع عملية ممكنة لجمع الجرحى والمرضى وإجلائهم والعناية بهم ولتجنب التأخر غير الضروري لوسائل النقل الطبية. ويجب تنفيذ التفتيش الأمني بأسرع ما يمكن. فحتى التأخير القصير المدة، لأقل من ساعة، قد يكون مهلكًا.[712] عندما يرى طرف أنه من الضروري القبض على مصاب أو مريض أو احتجازه أثناء نقله إلى مرفق طبي، يجب عليه أن يفاضل بين أي تدابير أمنية وحالة المريض الطبية. ويجب عليه ألا تعوق تلك التدابير الأمنية الحصول على العناية الطبية اللازمة والملائمة، وعلى الطرف الذي يباشر عملية القبض أن يكفل العناية الطبية المستمرة للمقبوض عليه والمحتجز. وبالمثل، إذا قبض على شخص ينقل الجرحى والمرضى أو يقوم على العناية بهم، أو احتجز، يجب أيضًا كفالة نقل الجرحى أو المرضى إلى المرافق الطبية أو تقديم العناية الملائمة أثناء نقلهم.
758 - وعلى نفس المنوال، يجب على الأطراف الذين ينقلون جرحى الخصم ومرضاه إلى مرافق طبية بالقيام بذلك بأسرع وقت ممكن، ولا يجوز لهم تحت أي ظرف إطالة الرحلة عن عمد لأي أغراض لا تستلزمها الحالة الطبية للجرحى أو المرضى أثناء النقل.
759 - إذا كان أحد الأطراف غير قادر أو غير راغب في إجلاء الجرحى والمرضى، يجب الإسراع إلى منح تصريح إلى منظمات إنسانية غير متحيزة للقيام بذلك ويجب ألا يحجب ذلك التصريح تعسفيًا تحت أي ظرف.[713] تظهر الممارسات تكرر الطلب إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر على الأخص في إجلاء الجرحى والمرضى.[714]
760 - لم تنص المادة 3 المشتركة على الالتزام بجمع الموتى، ولكن نصت المادة 8 من البروتوكول الإضافي الثاني على التزامات بالبحث عن الموتى، وبمنع انتهاك حرماتهم، وبأداء المراسم الأخيرة لهم بطريقة كريمة. ينص القانون الدولي الإنساني العرفي على التزامات مماثلة.[715] فبموجب القانون الدولي الإنساني العرفي، يجب كذلك على أطراف النزاع اتخاذ كل الخطوات العملية للتحقق من هوية المتوفين وإعادة الجثث إلى الأسر كلما كان ذلك ممكنًا، لتدفن أو تحرق أو تقام لها الشعائر الجنائزية بشكل لائق.[716] ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالبحث عن الموتى وجمعهم. من الناحية العملية، يمكن البحث عن الموتى وجمعهم في نفس وقت البحث عن المرضى والجرحى وجمعهم، رغم اختلاف الإجراءات التي قد يتعين اتباعها.[717] وبالنظر إلى ما سبق، يجب إيلاء الأولوية للجرحى والمرضى حتى يتلقون علاجًا ملائمًا وفي الوقت المناسب.
9-3-4 الالتزام بالعناية بالجرحى والمرضى
761 - يتطلب الالتزام بالعناية بالجرحى والمرضى أن يتخذ أطراف النزاع خطوات فعلية لتحسين الحالة الطبية للجرحى والمرضى. وهذا الالتزام ينطبق على الأطراف من الدول ومن غير الدول على السواء، مثله في ذلك مثل الالتزامات الأخرى التي تنص عليها المادة 3 المشتركة. تتمتع بعض الجماعات من غير الدول بالقدرة على تقديم رعاية طبية متطورة، بينما لا يتوافر لجماعات أخرى إلا قدرات أولية محدودة. وفي جميع الأحوال، يجب على الجماعات من غير الدول أن تسعى إلى تطوير قدراتها بحيث تقدم العلاج بأفضل ما أوتيت من قدرة، مع تمكينها من ذلك. وعليها، مثلها في ذلك مثل الأطراف من الدول، التأكد من تدريب قواتها على الإسعافات الأولية. ولها أن تلجأ بالمثل إلى المساعدة الطبية التي تقدمها منظمات إنسانية غير متحيزة إذا لزم الأمر.
762 - الالتزام برعاية الجرحى والمرضى هو التزام ببذل عناية يعتمد مضمونه الدقيق على الظروف الخاصة بكل حالة على حدة.[718] فمن الواضح تمامًا أن الشخص المصاب إصابة بالغة يتطلب رعاية أكبر من تلك التي يتطلبها المصاب بإصابات طفيفة،[719] والطرف الذي تتوافر لديه إمدادات طبية كبيرة عليه أداء ما هو أكثر من الطرف الذي لا يمتلك سوى وسائل محدودة،[720] ويتوقع في حالة توافر أطباء مستوى أعلى من معايير الرعاية الطبية من ذلك المتوقع في ظروف لا يوجد فيها سوى مقاتلين محدودي التدريب.[721] ومن الجدير بالذكر أن الحكم المناظر في البروتوكول الإضافي الثاني والقانون العرفي يلزمان بتقديم الرعاية الطبية "جهد الإمكان ودون إبطاء".[722] ومن حيث المضمون، يقع الالتزام بموجب اتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الثاني والقانون الدولي العرفي بتقديم نفس نوع الرعاية الطبية وجودتها.
763 - الإسعافات الأولية ضرورية وغالبًا ما تكون سببًا في إنقاذ الحياة. ورغم ذلك، وبما أن الإسعافات الأولية قد يتطلب الأمر تقديمها في ميدان القتال بعد الاشتباك وأحيانًا أثناءه، يتضح السبب في عدم اشتراط المادة 3 المشتركة نفس معيار العلاج الواجب توفيره في ظروف أكثر أمانًا، أي بمجرد نقل الجريح أو المريض إلى وحدة طبية. وفي حين أن تقديم الرعاية الطبية وفقًا لأعلى المعايير هو المأمول، لا تشترط المادة 3 المشتركة إلا ما يمكن توقعه منطقيًا في الظروف القائمة مع النظر إلى عوامل مثل الظروف الأمنية والموارد المتاحة.
764 - وبالنظر إلى نوع الرعاية الطبية الواجب تقديمها بموجب المادة 3 المشتركة، وجودتها، فإن القاعدة الأساسية هي وجوب أن يتلقى الجريح أو المريض الرعاية الصحية التي تستلزمها حالته. ورغم عدم النص على تلك القاعدة صراحة في هذه المادة، فهي مقبولة بشكل عام وينص عليها البروتوكول الإضافي الثاني صراحة وتقابل ما أورده القانون العرفي.[723] ويمكن استخلاص إرشاد عام بشأن المعايير المهنية للسلوك الطبي واجبة التطبيق من النصوص والصكوك العامة واجبة التطبيق عالميًا التي تقرها الجمعية الطبية العالمية.[724] قد تتغير هذه المعايير بمرور الوقت وقد تختلف من دولة إلى أخرى. ومع ذلك، فبشأن معيار الرعاية الطبية، يتطلب الالتزام تقديم ذات العلاج الذي كان الممارس لمهنة الطب قدمها في تلك الظروف وبالنظر إلى حالة الشخص الطبية.[725]
765 - وفي جميع الأحوال، تقديم الرعاية وفقًا لأخلاقيات مهنة الطب،[726] ويستوجب ذلك تحديد الرعاية طبقًا لمبادئ الفرز دون غيرها.[727] وبالتالي يكون انتهاكًا للالتزام بالعناية بالجرحى والمرضى تمسك أي طرف على سبيل المثال بمنح الأولوية للمقاتلين المصابين بإصابات خفيفة على المدنيين أو أشخاص آخرين بحاجة ملحة إلى الرعاية الطبية، فالأسس الوحيدة المسموح بالتمييز في المعاملة على أساسها هي أسس طبية.[728]
766 - قد تختلف الاحتياجات الطبية للنساء والرجال والفتيات من مختلف الأعمار والخلفيات، وقد يتعرضون لمخاطر مختلفة تعوق تحقيق المساواة في الرعاية، أو يواجهون وصمة اجتماعية مختلفة متصلة بالإصابة أو المرض. وعليه فمن المهم عند تقييم الحاجات ذات الصلة بالرعاية الطبية أن تراعى الاعتبارات الخاصة بكل من النساء والرجال من مختلف الأعمار والخلفيات بما في ذلك وجهات نظرهم الشخصية، مع مراعاة القيود المحتملة مثل إمكانية الوصول المادي إليهم والأمن والقيود المالية والقيود الاجتماعية الثقافية بالإضافة إلى الحلول الممكنة.[729]
767 - وأخيرًا، فالرعاية الطبية بمعناها الحرفي، أي مجرد تقديم العلاج الطبي لجرح أو مرض فحسب، ليست كافية لتحسين حالة الجريح أو المريض. بل إنه من غير المجدي تقديم عناية صحية إذا لم يقدم إلى جانبها المناسب من المأكل والملبس والمأوى والظروف الصحية. وتلك هي الحال كذلك على الأخص عند علاج أشخاص يعانون من إصابات بالغة لمدة زمنية طويلة. وفي ضوء هدف المادة 3 المشتركة والغرض منها بالنص على الالتزام بالعناية بالجرحى والمرضى، يجب التوسع في تفسير الالتزام بألا يتعلق فقط بالعناية الطبية، بل يقرنها بتوفير المأكل والملبس والمأوى والظروف الصحية كحد أدنى، ما يساعد على تحسين حالة الجرحى والمرضى. وفي جميع الأحوال، فإن حرمان الجرحى والمرضى من تلك الأساسيات من شأنه أيضًا أن يصل في معظم الظروف إلى المعاملة اللاإنسانية منتهكًا الالتزام العام الذي تفرضه المادة 3 المشتركة.[730] وقد تستلزم العناية بالمرضى اتخاذ تدابير وقائية لكفالة الصحة الأساسية للسكان، لا سيما التطعيم ضد الأمراض المعدية.
9-3-5 الالتزامات الضمنية في الالتزام بجمع الجرحى والمرضى والعناية بهم
768 - لكي تتحقق الحماية للجرحى والمرضى، يجب حماية القائمين على البحث عنهم وجمعهم والعناية بهم، بالإضافة إلى حماية وسائل النقل الخاصة بهم ومعداتهم. وعليه يرد ضمنًا في المادة 3 المشتركة احترام أفراد الخدمات الطبية وحمايتهم، ومن المفهوم أن "حماية أفراد الخدمات الطبية هي شكل تابع من الحماية الممنوحة لكفالة الرعاية بالجرحى والمرضى".[731] وهذه القاعدة يعترف بها القانون الدولي العرفي الذي يحكم النزاعات المسلحة غير الدولية وتقننها المادة 9 من البروتوكول الإضافي الثاني.[732] تنتج هذه الحماية كذلك من الفقرة الفرعية الأولى من المادة 3 المشتركة، حيث تحمي أفراد الخدمات الطبية الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية. ولا يجوز تفسير فعل تقديم الرعاية الصحية إلى عضو في جماعة مسلحة من غير الدول على أنه فعل داعم لمسعى تلك الجماعة، ولا على أنه اشتراك في عمل عدائي. وعليه، لا يجوز توقيع العقاب على أفراد الخدمات الطبية لمجرد أنهم يقدمون العلاج أو العناية للجرحى والمرضى وفقًا لأخلاقيات مهنة الطب.[733] إن مضايقة أفراد الخدمات الطبية أو إنزال العقاب بهم بسبب ما يقومون به من عمل من شأنه أن يشكل انتهاكًا لالتزام العناية بالجرحى والمرضى حيث يعرقل تقديمها.
769 - وبالمثل، لا يجوز الهجوم على الوحدات الطبية ووسائل النقل الطبي، ويجب عدم جواز الهجوم عليها أيضًا عند استخدامها لنقل المقاتلين الجرحى.[734] أما إذا استخدمت لارتكاب أفعال عدائية، كنقل أسلحة أو مقاتلين أصحاء، فإنها تفقد الحماية من الهجوم. وعليه، يجب على أطراف النزاع اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لحماية الوحدات والمرافق الطبية ووسائل النقل الطبي من المخاطر الناشئة عن العمليات العسكرية. وتتضمن تلك الاحتياطات تجنب استخدامها بطرق تؤدي إلى فقدانها الحماية من الهجوم بغية ضمان استمرار قدرتها في جمع الجرحى والمرضى والعناية بهم. وإذا فقدت تلك الوحدات الحماية من الهجوم، يجب على أطراف النزاع توجيه إنذار ولا يجوز المضي قدمًا في الهجوم عليها إلا إذا أهمل ذلك الإنذار وانقضت مدة زمنية مناسبة من توجيهه، وفقًا للمادة 11(2) من البروتوكول الإضافي الثاني.[735] ويختلف ما يشكل مدة زمنية مناسبة حسب الظروف، لكن يجب أن تكون طويلة بما يكفي إما للسماح بإيقاف الأعمال غير المشروعة، أو بنقل الجرحى والمرضى وأفراد الخدمات الطبية الموجودين في الوحدة إلى مكان آمن. يسمح الإنذار كذلك للمرفق الطبي بالرد على اتهام غير قائم على أساس. ومع ذلك يمكن التخلي عن تحديد مدة زمنية إذا عرض سوء الاستخدام القوات المهاجمة لخطر مباشر على حياة أفرادها، وفي هذه الحالة يجب عليها الاستجابة دفاعًا عن نفسها. قد يحدث هذا على سبيل المثال عند اقتراب وسيلة نقل طبية من نقطة تفتيش وإطلاقها النار على الأشخاص الذين يحرسون تلك النقطة.[736]
770 - تعني هذه الالتزامات الضمنية أيضًا على سبيل المثال عدم سلب أو تدمير المرافق الطبية أو وسائل النقل الطبية اللازمة أو المستخدمة لتقديم الرعاية الطبية، فسلب المرافق الطبية يعوق تقديم العناية للجرحى والمرضى، وبالتالي يخل بمقتضيات هذه الفقرة الفرعية. ويتحقق وضع السلب حتى إذا كان مدفوع بحاجة أحد أطراف النزاع إلى الإمدادات الطبية. وعليه يجوز للأطراف اتخاذ تدابير للتأكد من أن المرافق الطبية ووسائل النقل الطبية لن تتعرض للسلب أو للنهب من الغير.
771 - بالإضافة إلى ما سبق، الدخول المسلح إلى المرافق الطبية بهدف تنفيذ عمليات تفتيش من شأنه إعاقة تقديم العناية الطبية، وعليه يجب أن تكون عمليات التفتيش العسكرية في المرافق الطبية إجراءً استثنائيًا ويجب تنفيذها بطريقة تحد من أي أثر سلبي على تقديم الرعاية إلى أدنى قدر. وإذا قبض على شخص، يجب كفالة استمرار الرعاية له. ويجب على الأطراف من أجل تجنب فقدان الحماية من الهجوم على المرافق الطبية أو وسائل النقل الطبية، ألا يتخذوا إجراءات تؤدي إلى ذلك. وتضم الإجراءات التي تؤدي إلى فقدان الحماية على سبيل المثال تخزين الأسلحة في المستشفيات (ويستثنى من ذلك أسلحة الجرحى والمرضى الذين يتلقون العلاج في المستشفى التي يحتفظ بها بصفة مؤقتة أثناء العناية بهم) أو استخدام سيارات الإسعاف لنقل أفراد أصحاء أو أسلحة أو ذخيرة.
772 - وإلى جانب ما سبق، من المفيد إمكانية تمييز القائمين على العناية بالمصابين والمرضى والمرافق الخاصة بهم حتى لا يتعرضوا لهجوم. ووضع علامات مميزة للمرافق الطبية، بتفويض ورقابة صحيحين، باستخدام شارة الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر أو الكريستالة الحمراء يسهل على الطرف المقابل وعلى العامة التعرف على تلك المرافق وتعزيز الحصول على العناية الطبية.
773 - سكتت المادة 3 المشتركة عن ذكر استخدام الشارات المميزة في النزاعات المسلحة غير الدولية، لكن المادة 12 من البروتوكول الإضافي الثاني حددت شروط الاستخدام المشروع للشارات لأغراض حمائية في النزاعات المسلحة غير الدولية:
يجب على أفراد الخدمات الطبية وأفراد الهيئات الدينية والوحدات ووسائل النقل الطبي، بتوجيه من السلطة المختصة المعنية، إبراز العلامة المميزة للصليب الأحمر أو الهلال الأحمر أو الأسد والشمس الأحمرين على أرضية بيضاء ووضعها على وسائط النقل الطبي ويجب احترام هذه العلامة في جميع الأحوال وعدم إساءة استعمالها.
774 - أثناء المفاوضات التي أدت إلى إقرار المادة 12 من البروتوكول الإضافي الثاني، لم يكن هناك اعتراض على فكرة جواز استخدام أفراد الخدمات الطبية التابعين للجماعات المسلحة من غير الدول الشارة على قدم المساواة مع الدول.[737] ويعني ذلك أن قيادة الجماعة يجب أن تكون في وضع يتيح لها الترخيص باستخدام الشارة المميزة ومراقبة ذلك الاستخدام. يحظر القانون الدولي العرفي إساءة استخدام الشارات المميزة التي تنص عليها اتفاقيات جنيف.[738] وتعني إساءة الاستخدام أن تستخدم الشارات لغرض خلافًا للأغراض التي وضعت من أجلها.[739] وعلاوة على ذلك، يجب أن تكون الشارة الحامية في صورتها البسيطة، أي يجب أن تحتوي على الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر أو الكريستالة الحمراء على خلفية بيضاء، ودون أي علامات أو كلمات إضافية.[740]
775 - تظهر الممارسة المعروفة للجنة الدولية للصليب الأحمر أن أفراد الخدمات الطبية التابعين لبعض الجماعات المسلحة يضعون شارة ذراع عليها صليب أحمر أو هلال أحمر، بينما هناك كثيرين آخرين لا يضعون تلك الشارة. وقد ترغب أطراف في التعريف بمواقع المرافق الطبية بإرسال إحداثياتها المحددة وفقًا للنظام العالمي لتحديد المواقع إلى الأطراف الأخرى.
776 - سواء اختارت القوات المسلحة التابعة لدولة أو الجماعات المسلحة من غير الدول أن تبين استخدام الشارة أم لا، فاحترامها لاستخدام خصومها إياه اهو أمر إلزامي لكفالة التمكين من جمع الجرحى والمرضى والعناية بهم. وفي ضوء ما سبق، يجب أن يكون من المفهوم أنه، إذا حمل أفراد الخدمات الطبية أسلحة خفيفة بغرض الدفاع عن النفس أو للدفاع عن الجرحى أو المرضى الذين يقومون على العناية بهم فقط، لا يستتبع ذلك فقدانهم الحماية من الهجوم، كما هي الحال في النزاعات المسلحة الدولية.[741] وعليه فإن واقع حمل أفراد الخدمات الطبية تلك الأسلحة لتلك الأغراض لا يعفي أطراف النزاع من احترامهم وعدم الهجوم عليهم. وللحفاظ على الحماية الممنوحة لهم، لا يجوز لأفراد الخدمات الطبية ارتكاب أي أفعال مضرة بالعدو.[742]
777 - أقر في بعض النزاعات المسلحة غير الدولية استخدام شارة بديلة لشارة الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر لتمييز الأفراد والمرافق الذين يقدمون الرعاية الصحية للسكان المدنيين على الأخص، مثلًا، البعثة الطبية في كولومبيا.[743] وفي جميع الأحوال، يجب احترام المرافق الصحية أو وسائل النقل الصحية وحمايتها بمجرد العلم بصفتها تلك حتى إذا لم تكن مميزة بشارة أو محددة بوسيلة أخرى توضح استحقاقها الحماية.[744]
778 - وفي النهاية، يجوز كذلك لأطراف النزاع إنشاء مناطق تخصص للعناية بالجرحى والمرضى بموجب اتفاقات خاصة طبقًا للمادة 3(3) المشتركة.[745] ويجب إنشاء تلك المناطق بموافقة الأطراف جميعهم وأن تكون منزوعة السلاح. أنشئت مثل تلك المناطق في عدد من النزاعات المسلحة غير الدولية.[746] ومن المهم تذكر أن الجرحى والمرضى وجميع أفراد الخدمات الطبية الذين يقدمون العلاج في تلك المناطق محميون في جميع الأحوال بسبب الإصابة أو المرض أو بسبب الدور الذي يؤدونه بوصفهم أفرادًا في الخدمات الطبية، ومن ثم فالحماية الممنوحة لهم ليست متوقفة على مجرد إنشاء المنطقة. أيضًا، يظل الأشخاص خارج هذه المناطق محميين طبقًا للقواعد العامة للقانون الإنساني. وعليه، حتى في حالة عدم إنشاء تلك المناطق، يجب احترام الجرحى والمرضى وأفراد الخدمات الطبية والمرافق الطبية، والمدنيين الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية، وحمايتهم. ويحظر توجيه هجوم ضد تلك المناطق.[747]
10. الفقرة 2: عرض الخدمات من جانب هيئة إنسانية غير متحيزة كاللجنة الدولية للصليب الأحمر
10-1. المقدمة
779 - تمنح المادة 3 المشتركة في فقرتها الثانية الهيئات الإنسانية غير المتحيزة الحق في عرض خدماتها على أطراف النزاعات المسلحة غير الدولية. ووردت الإشارة صريحة إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر باعتبارها مثالًا على الكيانات التي يحق التعويل عليها بشأن هذا الحكم. ويمكن ممارسة هذا الحق في مواجهة جميع أطراف النزاع بما في ذلك الأطراف من غير الدول.
780 - أحكام القانون الإنساني الأخرى التي تتناول هذا الموضوع هي التي تحدد الطريقة التي يجب ممارسة هذا الحق بها: إذ يتعين على المنظمات الإنسانية غير المتحيزة الحصول على الموافقة من أجل الاضطلاع بالأنشطة المقترحة. ومنذ عام 1949، تطور القانون الدولي إلى الدرجة التي لا يجوز معها لأي طرف من أطراف النزاعات المسلحة غير الدولية أن يتعسف في حجب الموافقة (انظر القسم (ي)-6-ب).
781 - سلمت الأطراف السامية المتعاقدة، بإقرارها هذه الفقرة وغيرها من الأحكام ذات الصلة، بأن الحق في عرض الخدمات، سواء بصدد نزاع مسلح دولي أو غير دولي، جدير بأن يشكل أساسًا راسخًا في القانون الدولي.[748] وهذا الأساس القانوني الواسع ليس بالأمر المستغرب، فهو يعكس ببساطة قاعدة بديهية مفادها أن كل نزاع مسلح بصرف النظر عن تصنيفه القانوني ينشأ عنه احتياجات إنسانية. ولذلك وبغض النظر عن التوصيف القانوني للنزاع المسلح، سلمت الدول بأن اللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها من الهيئات الإنسانية غير المتحيزة من المرجح أن تنهض بدور في تلبية تلك الاحتياجات، بحسبان ذلك مسألة حسمها القانون الدولي.
782 - إن رغبة الهيئات الإنسانية غير المتحيزة وقدرتها على الاستجابة للاحتياجات الإنسانية للمتضررين من النزاعات المسلحة غير الدولية لا يصرف النظر عن أن المسؤولية الرئيسية عن تلبية تلك الاحتياجات، وفقًا للقانون الدولي، إنما تقع على عاتق أطراف النزاع. وينبغي أن تكمل أنشطة الهيئات الإنسانية غير المتحيزة، عند الضرورة، جهود الأطراف في هذا الصدد.
783 - ولهذا السبب أيضًا ليس ثمة التزام قانوني على عاتق الهيئات الإنسانية غير المتحيزة بعرض خدماتها، كما يتضح من صيغة "يجوز.. أن تعرض" الواردة في المادة 3(2) المشتركة؛ بمعنى أنه يجوز لتلك الهيئات القيام بذلك وفقًا لسلطتها التقديرية.
784 - ورغم ما تقدم، على الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر (يشار إليها فيما يلي بعبارة "الجمعيات الوطنية") النظر بجدية في أي طلب تقدمه لها سلطاتها العامة للاضطلاع بأنشطة إنسانية تقع في نطاق ولايتها، على أن يكون ذلك بالامتثال للمبادئ الأساسية للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر (يشار إليها فيما يلي بلفظ "الحركة"). وينبع هذا الواجب من وضعها الخاص، المنصوص عليه في النظام الأساسي والنظام الداخلي للحركة[749] ودورها الفريد من نوعه في مساعدة سلطاتها العامة في المجال الإنساني. وترد المبادئ الأساسية في ديباجة النظام الأساسي الذي أقره المؤتمر الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر، ويجمع بين الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف لعام 1949 إلى جانب مكونات الحركة، وبالتالي، يمكن اعتباره ذا حجية.[750]
785 - ينبغي عدم الخلط بين الحق في عرض الخدمات، الذي يشار إليه أيضًا في بعض الأحيان بعبارة "حق المبادرة الإنسانية"، وبين ما يسمى "حق التدخل الإنساني"، أو بينه وبين "مسؤولية الحماية" وهما مفهومان مختلفان أثارا الكثير من الجدال، على سبيل المثال بشأن ما إذا كان القانون الدولي يبيح اتخاذ تدابير مثل التهديد باستخدام القوة أو استخدامها عندما تكون بواعز من اعتبارات إنسانية.[751] وبالمثل، فإن تحليل المادة 3(2) المشتركة يظل دون مساس بحق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في التصرف على النحو الذي يراه مناسبًا فيما يخص الأنشطة الإنسانية، وذلك على أساس ميثاق الأمم المتحدة المؤرخ في عام 1945 وتمشيًا مع أثر قراراته بموجب القانون الدولي. وينظم هذه المسائل القانون الدولي بصفة عامة والقانون الخاص باستخدام القوة (قانون شن الحرب (jus ad bellum)) بصفة خاصة. وبالتالي، يجب أن تبقى تلك الأنشطة منفصلة عن موضوع الأنشطة الإنسانية التي تنفذ في إطار المادة 3(2) المشتركة.
10-2. الخلفية التاريخية
786 - تسبق الأمثلة العملية على الأنشطة الإنسانية المنفذة في سياق النزاعات المسلحة غير الدولية إقرار المادة 3 المشتركة.[752] ولم تنظم أي أحكام تعاهدية عامة النزاعات المسلحة غير الدولية على هذا النحو قبل عام 1949.[753] ونتيجة طبيعية لذلك، لم ينظم أي نص في أي معاهدة الشروط التي يمكن في إطارها اقتراح الأنشطة الإنسانية وتنفيذها في النزاعات المسلحة غير الدولية. بيد أنه تبين أن غياب الإطار القانوني الدولي بشأن هذه المسألة لم يشكل في بادئ الأمر عائقًا أمام اللجنة الدولية للصليب الأحمر (التي تأسست في عام 1863) والجمعيات الوطنية (التي أنشئت فيما بعد) في نشر أنشطتها في عدد من النزاعات. غير أنه مع مرور الوقت، ازداد وضوح الحاجة إلى إطار معياري قائم على المعاهدات لتوضيح بعض المسائل الأساسية: أبرزها، هل يحق للهيئات الإنسانية عرض خدماتها في سياق نزاع مسلح غير دولي بحسبان ذلك مسألة من مسائل المعاهدات؟
787 - وعلى هذا الأساس، اعتمد المؤتمر الدولي العاشر للصليب الأحمر في عام 1921 قرارًا بشأن الإطار المعياري واجب التطبيق على اللجنة الدولية للصليب الأحمر والجمعيات الوطنية.[754] وحتى عام 1949، ظل هذا القرار هو الصك الرئيسي الذي ينظم الحق في عرض الخدمات.[755]
788 - ليس ثمة أثر لما صارت إليه المادة 3(2) في مراحل الصياغة التي سبقت انعقاد المؤتمر الدبلوماسي عام 1949. وأثناء المؤتمر، استخدمت مجموعة العمل الأولى صيغة مختلفة فيما يتعلق بالحق في عرض الخدمات: إمكانية عرض هيئة إنسانية غير متحيزة، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، خدماتها على أطراف النزاعات المسلحة غير الدولية مرهون بعدم اتفاق الأطراف على تعيين الدول الحامية وسير عملها.[756] كانت أنشطة الهيئة الإنسانية غير المتحيزة، في المشروع الأول، هي تلك التي أسندتها اتفاقيات جنيف إلى الدول الحامية.[757] غير أن مجموعة العمل الثانية أسقطت الإشارة إلى غياب الدول الحامية في مشروعيها، واستشرفت بدلًا من ذلك إمكانية قيام هيئة إنسانية غير متحيزة، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بعرض خدماتها ببساطة على "أطراف النزاع".[758]
10-3. الهيئات الإنسانية غير المتحيزة
10-3-1. عام
789 - يحق فقط "لهيئة إنسانية غير متحيزة" ("impartial humanitarian body") أن تعرض خدماتها بمفهوم هذا الحكم مع ما يترتب على ذلك من آثار قانونية. ولم تورد اتفاقيات جنيف تعريفًا لهذا المفهوم بالمخالفة للتعريف الذي ذهبت إليه لمفهوم "هيئة إنسانية غير متحيزة" ("impartial humanitarian organization") ”المتطابق جوهريًا معه والذي استخدمته المادة 9 المشتركة التي تتناول الحق في عرض الخدمات في النزاعات المسلحة الدولية. وتستخدم النسخة الفرنسية لاتفاقيات جنيف المتساوية في الحجية مصطلح ("organisme humanitaire impartial") في كل من المادة 3(2) المشتركة والمادة 9 المشتركة، ما يعزز الاستنتاج القائل بأن المصطلح الوارد في المادة 3(2) المشتركة والمصطلح الوارد في المادة 9 المشتركة يمكن اعتبارهما مفهومان متطابقان جوهريًا.
790 - حين أدرجت الأطراف السامية المتعاقدة تلك العبارة في نص المادة 3 المشتركة، كان ما يدور في خلدها في المقام الأول هو اللجنة الدولية للصليب الأحمر والجمعيات الوطنية باعتبارها أمثلة مألوفة لها. ومنذ عام 1949، ازدادت الهيئات التي تعتبر نفسها هيئات إنسانية غير متحيزة بالمعنى الوارد في المادة 3 المشتركة، والتي تعترف بها أطراف النزاعات المسلحة على هذا النحو، عددًا وتنوعًا زيادة كبيرة لتشمل بعض المنظمات غير الحكومية والمنظمات بين الحكومية على السواء.
791 - ليس هناك شرط بأن يقتصر نطاق أنشطة الهيئات على الأنشطة الإنسانية حتى تستوفي الشروط التي تجعل منها "هيئة إنسانية".[759] وعلى ذلك، فإن الهيئات التي كانت تركز فقط على الأنشطة الإنمائية قبل اندلاع النزاع المسلح يمكن أن تصبح فيما بعد هيئات إنسانية لأغراض المادة 3 المشتركة وذلك دون المساس بإمكانية متابعتها في الوقت عينه لتنفيذ أنشطة ذات طبيعة مختلفة في مكان آخر.
792 - تقضي المادة 3 المشتركة بأن تكون الجهة الراغبة في عرض خدماتها "هيئة" إنسانية غير متحيزة. وبالتالي، فإن أفرادًا لا تربطهم علاقة متينة حتى وإن ساهمت أنشطتهم في تخفيف المعاناة الإنسانية لا يستوفي ذاك الشرط وفقًا لهذه المادة. وتلك هي الحال أيضًا فيما يخص الأشخاص العاديين الراغبين في الانخراط في أنشطة خيرية. ويجب أن تتمتع "الهيئة" بحد أدنى من البناء الهيكلي حتى تكون قادرة على أداء وظائف الهيئات الإنسانية. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تكون الهيئة في جميع الأوقات قادرة على الامتثال للمعايير المهنية للأنشطة الإنسانية،[760] وإلا جابهت، على الصعيد العملي خطر تشكك السلطات التي تعرض عليها خدماتها في طبيعتها غير المتحيزة والإنسانية.
793 - تحتاج الهيئات الإنسانية إلى موارد مالية من أجل تمويل موظفيها وعملياتها وشراء السلع والخدمات الضرورية. ولذلك، فإن التعامل في الأموال لا يمكن بحال اعتباره سببًا لانحسار الطابع "الإنساني" عن الهيئة، وعن أنشطتها. وعلاوة على ذلك، ليس هناك ما يحول دون توطيد الهيئة علاقتها مع جهات اقتصادية فاعلة مثل الشركات الخاصة أو المملوكة للدولة، شريطة أن تستمر في العمل كهيئة إنسانية غير متحيزة. وتتضمن الأمثلة على هذا النوع من العلاقات ما يلي: حالة بيع جهة اقتصادية فاعلة لديها القدرة على تقديم الخدمات الإنسانية، مثل شركات الطيران التجارية التي تستخدم لنقل مواد الإغاثة، خدماتها للهيئات الإنسانية غير المتحيزة لقاء ربح؛ أو تقديم تلك الجهات خدماتها للهيئات الإنسانية غير المتحيزة بلا مقابل، على سبيل المثال، في إطار برامج المسؤولية الاجتماعية المشتركة.