باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثامن من نوفمبر سنة 2025م، الموافق
السابع عشر من جمادى الأولى سنة 1447ه.
برئاسة السيد المستشار/ بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة
المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد
شبل وخالد أحمد رأفت دسوقي والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز ومحمد أيمن سعد الدين
عباس نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ عبد الرحمن حمدي محمود أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 17 لسنة 44
قضائية "دستورية" بعد أن أحالت محكمة جنوب بنها الابتدائية "محكمة
الجنح المستأنفة"، بحكمها الصادر بجلسة 24/2/2022، ملف الجنحة المستأنفة رقم
3218 لسنة 2022 جنوب بنها
المقامة من
النيابة العامة
ضد
1- عمر عبد الفتاح علي السيد
2- شاكر عبد الفتاح علي السيد
3- محمد عبد الفتاح علي زايد
4- مروة عبد الفتاح علي زايد
-------------
الإجراءات
بتاريخ الثامن والعشرين من أبريل سنة 2022، ورد إلى قلم كتاب المحكمة
الدستورية العليا ملف الجنحة المستأنفة رقم 3218 لسنة 2022 جنوب بنها، بعد أن قضت
محكمة جنح مستأنف جنوب بنها بجلسة 24/2/2022، بوقف الاستئناف تعليقًا، وإحالة
الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية نص الفقرة الأولى من
المادة (369) من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937، المستبدل بها
نص المادة الأولى من القانون رقم 164 لسنة 2019، فيما تضمنه من جعل الحد الأدنى
لعقوبة الحبس سنتين.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قررت المحكمة
إصدار الحكم بجلسة اليوم.
-------------
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل –على ما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق- في
أن النيابة العامة قدَّمت المستأنف ضدهم، في الدعوى الموضوعية، إلى المحاكمة
الجنائية، أمام محكمة جنح مركز القناطر الخيرية في الجنحة رقم 9394 لسنة 2021،
بوصف أنهم بتاريخ 21/12/2020، دخلوا عقارًا في حيازة المجني عليها آيات رمضان
مصطفى، بقصد منع حيازتها بالقوة، وطلبت عقابهم بالمادة (369 /1) من قانون العقوبات
الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937، المستبدل بها القانون رقم 164 لسنة 2019.
وبجلسة 4/9/2021، قضت المحكمة، غيابيًّا، بحبس كل منهم سنتين مع الشغل وغرامة
خمسين ألف جنيه. عارض المحكوم عليهم في الحكم. وبجلسة 25/12/2021، قضت تلك المحكمة
بإلغاء الحكم المعارض فيه، وبراءة المتهمين من التهمة المنسوبة إليهم. استأنفت
النيابة العامة الحكم أمام محكمة جنوب بنها الابتدائية "محكمة الجنح المستأنفة"،
التي أضافت الفقرة الرابعة من المادة (369) المشار إليها إلى قيد الاتهام، وعدلت
الوصف ليصبح "دخلوا عقارًا صدر أمر قضائي من النيابة العامة بتمكين المجني
عليها المذكورة من حيازته وذلك بقصد منع حيازتها". وبجلسة 24/2/2022، قضت
بوقف الاستئناف تعليقًا، وإحالة الأوراق إلى هذه المحكمة للفصل في دستورية نص
الفقرة الأولى من المادة (369) من قانون العقوبات، المستبدل بها نص المادة الأولى
من القانون رقم 164 لسنة 2019، فيما تضمنه من جعل الحد الأدنى لعقوبة الحبس سنتين.
ونعى حكم الإحالة على النص المحال إخلاله بالحق في التقاضي، ومبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات، ومبدأ خضوع الدولة للقانون، وبقواعد المحاكمة المنصفة والعدالة
الاجتماعية؛ إذ حرم المحكمة الجنائية من سلطتها التقديرية في وقف تنفيذ عقوبة
الحبس التي يزيد حدها الأدنى على سنة، الأمر الذي يقوض سلطتها في تفريد العقوبة
متى رأت إلى ذلك سبيلًا، ويلزمها بتوقيع عقوبة غير مبررة وغير عادلة إن قامت لديها
مبررات إيقاف تنفيذها، فضلًا عن التمييز غير المبرر بين قواعد تفريد العقوبة في
هذه الجريمة وبين غيرها في بعض الجنايات التي يجوز، حال الحكم فيها بالإدانة، أن
تكون العقوبة هي الحبس مدة لا تزيد عن سنة، بما يتيح للمحكمة تطبيق نظام وقف تنفيذ
العقوبة، وذلك بالمخالفة لنصوص المواد (54 و92 و94 و96 و99 و184 و186) من الدستور.
وحيث إن نص المادة (369) من قانون العقوبات، المستبدل به نص المادة
الأولى من القانون رقم 164 لسنة 2019 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات الصادر
بالقانون رقم 58 لسنة 1937، يجري على أن:
" كل من دخل عقارًا في حيازة آخر بقصد منع حيازته أو بقصد ارتكاب
جريمة فيه أو كان قد دخله بوجه قانوني وبقي فيه بعد زوال سنده القانوني بقصد
ارتكاب شيء مما ذكر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على خمس سنوات
وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد على خمسمائة ألف جنيه.
...................
ويعاقب بذات العقوبة المبينة في الفقرة الأولى كل من دخل عقارًا صدر
حكم أو أمر قضائي بتمكين آخر من حيازته، وذلك بقصد منع حيازته أو الانتقاص منها
....".
وحيث إن المصلحة –وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية– مناطها أن يكون ثمة
ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم في المسألة
الدستورية المطروحة على هذه المحكمة لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة
بها، المطروحة أمام محكمة الموضوع، والمحكمة الدستورية العليا وحدها هي التي تتحرى
توافر شرط المصلحة في الدعوى المقامة أمامها أو المحالة إليها، للتثبت من شروط
قبولها. ولا تلازم بين الإحالة من محكمة الموضوع وتوافر المصلحة، فإذا لم يكن
للفصل في دستورية النصوص التي ثارت بشأنها شبهة عدم الدستورية لدى محكمة الموضوع
انعكاس على النزاع الموضوعي، فإن الدعوى الدستورية تكون غير مقبولة.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الفصل في دستورية العقوبة يطرح
على المحكمة الدستورية بحكم اللزوم العقلي النظر في دستورية النص التجريمي المعاقب
عليه؛ ذلك أن التلازم الحتمي بين التجريم والعقاب كتكوين قانوني يرتبط عنصراه
ارتباط قرار، لا ينفصل بعضه عن بعض، يستوجب ألا تقضي المحكمة في دستورية العقوبة
بعيدًا عن دستورية التجريم، بحسبان التجريم هو الأساس المسوغ للعقوبة، فيتعين على
المحكمة أن تجيل بصرها فيه لتمحص الفعل المعاقب عليه، من حيث استيفائه سائر
المقتضيات الدستورية للتجريم، ولتزن في ضوء ذلك معقولية العقوبة المرصودة له،
وتناسبها مع الفعل محل التأثيم. لما كان ذلك، وكانت المحكمة المحيلة قد عدَّلت قيد
التهمة ووصفها؛ بإضافة الفقرة الرابعة إلى مادة الاتهام المقدم بها المتهمون إلى
المحاكمة الجنائية، كما عدلت الوصف في الدعوى الموضوعية، ليصبح: "دخلوا
عقارًا صدر أمر قضائي من النيابة العامة بتمكين المجني عليها المذكورة من حيازته
وذلك بقصد منع حيازتها"؛ ومن ثم فإن القضاء في دستورية ما تضمنه نص الفقرتين
الأولى والرابعة من المادة (369) من قانون العقوبات، المستبدل بها نص المادة
الأولى من القانون رقم 164 لسنة 2019، المشار إليه، من أن كل من دخل عقارًا في
حيازة آخر بقصد منع حيازته، ومن دخل عقارًا صدر حكم أو أمر قضائي بتمكين آخر من
حيازته بقصد منع حيازته أو الانتقاص منها، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا
تزيد على خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد على خمسمائة ألف
جنيه، يكون ذا أثر وانعكاس أكيد على قضاء محكمة الموضوع في الاستئناف المطروح
عليها، مما تتحقق به المصلحة في الدعوى الدستورية المعروضة، وفيه يتحدد نطاقها،
دون غيره من أحكام أخرى وردت في الفقرتين المشار إليهما.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الدستور إذ نص في المادة (94)
منه على أن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة، وعلى خضوع الدولة للقانون؛
بحسبانه ضمانة أساسية لحماية الحقوق والحريات، فقد دل بذلك على أن الدولة
القانونية هي التي تتقيد في كافة مظاهر نشاطها - وأيًّا كانت طبيعة سلطاتها-
بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطًا لأعمالها وتصرفاتها في أشكالها
المختلفة؛ لأن الدولة القانونية هي التي توفر لكل مواطن في كنفها الضمانة الأولية
لحماية حقوقه وحرياته، بما يتوافق مضمونها مع الضوابط التي التزمتها الدول
الديمقراطية باطراد في مجتمعاتها، واستقر نهجها على التقيد بها في مظاهر سلوكها
على اختلافها، فلا تنزل بالحماية التي توفرها لمن يمارسونها عما يكون لازمًا لضمان
فعاليتها في إطار من المشروعية، وهى ضمانة يدعمها القضاء من خلال استقلاله وحصانته
لتصبح القاعدة القانونية محورًا لكل تنظيم، وحدًّا لكل سلطة، ورادعًا ضد العدوان.
وحيث إن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها
لتنظيم علائق الأفراد فيما بينهم، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، فإن هذا القانون
يفارقها في اتخاذه الجزاء الجنائي أداة لحملهم على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها،
أو التخلي عن تلك التي ينهاهم عن مقارفتها، وهو بذلك يتغيًّا أن يحدد من منظور
اجتماعي، ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على
أفعالهم لا يكون مخالفا للدستور، إلا إذا كان مجاوزًا حدود الضرورة التي اقتضتها
ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مبررًا من وجهة اجتماعية انتفت
عنه شبهة المخالفة الدستورية؛ ومن ثم يتعين على المشرع، حين يقدر وجوب التدخل
بالتجريم حماية لمصلحة المجتمع، أن يجري موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص
على أمنه واستقراره من جهة، وضمان حريات الأفراد وحقوقهم من جهة أخرى.
وحيث إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، المنصوص عليه
في المادة (95) من الدستور، إنما يتحدد على ضوء عدة ضمانات، يأتي على رأسها وجوب
صياغة النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه
النصوص شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع، متصيّدًا باتساعها أو بخفائها من يقعون
تحتها أو يخطئون مواقعها، وهى ضمانات غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية
على بيّنة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيًا لها، بل اتساقًا معها ونزولًا
عليها. وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركنًا ماديًّا لا قوام
لها بغيره، يتمثل أساسًا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحًا بذلك
عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء، في زواجره ونواهيه، هو مادية الفعل
المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيًّا كان هذا الفعل أم سلبيًّا؛ ذلك أن العلائق التي
ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها،
في علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية؛ إذ هي مناط التأثيم
وعلته، وهى التي يتصور إثباتها ونفيها، وهى التي يتم التمييز على ضوئها بين
الجرائم بعضها عن بعض، وهى التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها
وتقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن
محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعًا
واضحًا، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة
من وراء ارتكابها؛ ومن ثَمَّ تعكس هذه العناصر تعبيرًا خارجيًّا وماديًّا عن إرادة
واعية، ومن ثمَّ لا يتصور -وفقًا لأحكام الدستور- أن توجد جريمة في غيبة ركنها
المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم
والنتائج التي أحدثها بعيدًا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، ولازم ذلك أن كل مظاهر
التعبير عن الإرادة البشرية -وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته-
تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكًا خارجيًّا مؤاخذًا عليه
قانونًا، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير
عنها خارجيًّا في صور مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أنه لا تجوز معاملة المتهمين
بوصفهم نمطًا ثابتًا، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في
قالبها، بما مؤداه أن الأصل في العقوبة هو تفريدها لا تعميمها، وتقرير استثناء من
هذا الأصل -أيًّا كانت الأغراض التي يتوخاها– مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق
ظروفهم، وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني إيقاع جزاء في
غير ضرورة، بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، وبما يقيد الحرية
الشخصية دون مقتضى؛ ذلك أن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية مناطها أن يباشر كل
قاضٍ سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديرًا لها، في الحدود المقررة قانونًا،
فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبرًا لآثار الجريمة من منظور موضوعي
يتعلق بها وبمرتكبها، وأن حرمان من يباشرون تلك الوظيفة من سلطتهم في مجال تفريد
العقوبة بما يوائم بين الصيغة التي أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها في كل حالة
بذاتها، مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض
بالحياة، ولا يكون إنفاذها إلا عملًا مجردًا يعزلها عن بيئتها، دالًّا على قسوتها
أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامدًا فجًّا منافيًا لقيم الحق والعدل.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد استقر- كذلك- على أن العقوبة التخييرية،
أو استبدال عقوبة أخف أو تدبير احترازي بعقوبة أصلية أشد، عند توافر عذر قانوني
جوازي مخفف للعقوبة، أو إجازة استعمال الرأفة في مواد الجنايات بالنزول بعقوبتها
درجة واحدة أو درجتين إذا اقتضت أحوال الجريمة ذلك التبديل، عملًا بنص المادة (17)
من قانون العقوبات، أو إيقاف تنفيذ عقوبتي الغرامة أو الحبس الذي لا تزيد مدته على
سنة، إذا رأت المحكمة من الظروف الشخصية للمحكوم عليه أو الظروف العينية التي
لابست الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بعدم العودة إلى مخالفة القانون على ما جرى به
نص المادة (55) من قانون العقوبات، إنما هي أدوات تشريعية يتساند القاضي إليها
-بحسب ظروف كل دعوى- لتطبيق مبدأ تفريد العقوبة؛ ومن ثم فإنه في الأحوال التي
يمتنع فيها إعمال إحدى هذه الأدوات فإن الاختصاص الحصري بتفريد العقوبة المعقود
للقاضي يكون قد استغلق عليه تمامًا، بما يفتئت على استقلاله ويسلبه حريته في تقدير
العقوبة، ويفقده جوهر الوظيفة القضائية وينطوي على تدخل محظور في شئون العدالة.
وحيث إن الدستور الحالي قد اعتمد بمقتضى نص المادة (4) منه مبدأ
المساواة، باعتباره إلى جانب مبدأي العدل وتكافؤ الفرص أساسًا لبناء المجتمع
وصيانة وحدته الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور في المادة (53) منه على كفالة
تحقيق المساواة لجميع المواطنين أمام القانون، في الحقوق والحريات والواجبات
العامة، دون تمييز بينهم لأي سبب، إلا أن ذلك لا يعنى -وفقًا لما استقر عليه قضاء
هذه المحكمة- أن تعامل فئاتهم على ما بينها من تفاوت في مراكزها القانونية معاملة
قانونية متكافئة، كذلك لا يقوم هذا المبدأ على معارضة صور التمييز جميعها؛ ذلك أن
من بينها ما يستند إلى أسس موضوعية، ولا ينطوي -من ثم- على مخالفة لنص المادتين (4
و53) من الدستور، بما مؤداه أن التمييز المنهى عنه بموجبهما هو ذلك الذى يكون
تحكميًّا، وأساس ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل لتحقيق أغراض
بعينها تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التي يسعى المشرع إلى تحقيقها من
وراء هذا التنظيم، فإذا كان النص المطعون عليه -بما انطوى عليه من تمييز- مصادمًا
لهذه الأغراض، بحيث يستحيل منطقًا ربطه بها أو اعتباره مدخلًا إليها؛ فإن التمييز
يكون تحكميًّا وغير مستند إلى أسس موضوعية، ومن ثم مجافيًا لمبدأ المساواة.
وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق أنها سلطة
تقديرية، يتمثل جوهرها -على ما جرى به قضاء هذه المحكمة- في المفاضلة بين البدائل
المختلفة وفق تقديره لتنظيم موضوع محدد، فلا يختار من بينها إلا ما يكون منها عنده
مناسبًا أكثر من غيره لتحقيق الأغراض التي يتوخاها. وكلما كان التنظيم التشريعي
مرتبطًا منطقيًّا بهذه الأغراض -وبافتراض مشروعيتها- كان التنظيم موافقًا للدستور.
وحيث إن المشرع في الفقرتين المحدد فيهما نطاق الدعوى المعروضة قد أثم
دخول عقار في حيازة آخر بقصد منع حيازته، وجرم دخول عقار صدر حكم أو أمر قضائي
بتمكين آخر من حيازته، وذلك بقصد منع حيازته أو الانتقاص منها، قاصدًا من هذا
الحظر ضمان أمن كل حائز لعقار وطمأنينته، وألا يتخلى عن حيازته بغير رضاه، ولا
يباغت بسلبها منه بغير الوسائل القانونية، وكان رائد المشرع في تأثيم هذين الفعلين
جنائيًّا توطيد أركان الشرعية القانونية، وتحقيق السكينة الاجتماعية، ذلك أن من
شأن تجريم هذين الفعلين أن يوصد أبواب الاعتداء على الحيازة الهادئة والمستقرة
والفعلية للعقارات، وتلك التي صدر حكم أو أمر قضائي بتمكين آخر من حيازتها، بما
يدرأ خطرًا كبيرًا عن أمن المجتمع وسلامته، فإن المشرع بهذا التجريم يكون قد
استهدف مصلحة اجتماعية جديرة بالحماية الجنائية.
لما كان ذلك، وكان المشرع قد حدد الركن المادي لصورتي الجريمة اللتين
تحدد بهما نطاق هذه الدعوى، على نحو قاطع لا لبس فيه ولا غموض، فجعل مناط وقوعهما
قيام الجاني بدخول عقار بقصد منع حيازته أو دخول عقار صدر حكم أو أمر قضائي بتمكين
آخر من حيازته بقصد منع حيازته أو الانتقاص منها، وهما فعلان عمديان يتعين أن يرتبطا
بنتيجة لازمة لارتكابهما، ويقارنهما قصد جنائي عام قوامه العلم بعناصر الركن
المادي لكليهما، وإرادة تحقيق النتيجة، فدل بذلك على استواء هذين النصين على مدارج
الشرعية الدستورية لتأثيم الأفعال في المواد الجنائية.
وحيث إنه في مجال تناسب العقوبة الجنائية المرصودة في النصين اللذين
تحدد فيهما نطاق هذه الدعوى مع الفعل المؤثم في كل منهما، فلما كان المشرع قد عاقب
مرتكب الجرمين بعقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين، ولا تزيد على خمس سنوات، وبغرامة
لا تقل عن خمسين ألف جنيه، ولا تزيد على خمسمائة ألف جنيه، فإنها تغدو عقوبة مبررة
تتناسب مع الأضرار الجسيمة المترتبة على ارتكاب الجريمتين؛ لمساسهما بأمن المجتمع
وتوافق مصالح أفراده من ناحية، واستقرار المراكز القانونية لهم على نحو ما تقضي به
الأحكام أو تفضي إليه القرارات القضائية من ناحية أخرى. لما كان ذلك، وكان المشرع
لم يحل بين المحكمة الجنائية وتقدير العقوبة الملائمة لهذين الجرمين، فوضع حدين
أدنى وأقصى لعقوبتي الحبس والغرامة، وأتاح لها تقدير العقوبة المناسبة بين هذين
الحدين، على اتساعهما، فتقدر لكل حال ما يناسبها، مراعية في ذلك جسامة الفعل؛ ومن
ثم فإن العقوبة التي رصدها المشرع لهاتين الجريمتين تكون قد استوفت مقتضيات
العقوبة في الدستور.
وحيث إنه عما نعى به حكم الإحالة على العقوبة المقررة بالنصين اللذين
تحدد بهما نطاق هذه الدعوى، من الإخلال بحق المحكمة الجنائية في استعمال الرأفة
والنزول بالعقوبة درجتين على النحو المقرر لها في مواد الجنايات بمقتضى المادة
(17) من قانون العقوبات، أو وقف تنفيذ عقوبة الحبس الذي لا يجاوز سنة في مواد
الجنح، وفق ما تنص عليه المادة (55) من القانون ذاته، فإنه مردود بأن تحديد المشرع
لأنواع الجرائم إنما يدخل في إطار سلطته التقديرية التي يحدد بها نوع الجريمة على
أساس خطورتها المجتمعية، ويقدر لكل منها عقوبتها التي تخضع لأدوات التفريد
التشريعي التي اختص بها كل نوع من الجرائم بما يناسبها، مراعيًا في ذلك أن العقوبة
الأصلية السالبة للحرية المقررة في مواد الجنايات – على غلظتها – قد يتراءى لمحكمة
الموضوع أخذ المحكوم عليه فيها بقسط من الرأفة يحتم النزول بالعقوبة درجة أو
درجتين، فإذا أجاز النزول إلى عقوبة الحبس الذي لا تزيد مدته على سنة واحدة أتاح
لها أن تشمله بإيقاف التنفيذ، ولا كذلك الحال في مواد الجنح الأهون في عقوبتها
الأصلية، والتي لا تجاوز الحبس والغرامة أو إحداهما، فإن مناط تفريد العقوبة فيها
يتحقق بوضعها بين حدين أدنى وأقصى، مع جواز إيقاف تنفيذ عقوبة الحبس الذي لا يجاوز
سنة واحدة، وإيقاف تنفيذ عقوبة الغرامة أيًّا كان مقدارها. لما كان ذلك، وكان نطاق
الدعوى المعروضة لم يتضمن نص المادتين (17 و55) من قانون العقوبات، فإن النعي على
عدم إعمالهما على العقوبة المقررة في الفقرتين الأولى والرابعة من المادة (369) من
قانون العقوبات المستبدلتين، يُعد انتحالًا لسلطة المشرع في تحديد أنواع الجرائم
وأدوات تفريد عقوبتها، ولزامه الالتفات عن هذا النعي في شقيه.
وحيث إن الفقرتين اللتين تحدد بهما نطاق هذه الدعوى لا تخالفان أي حكم
آخر في الدستور؛ فمن ثم تقضي هذه المحكمة برفض الدعوى.
وحيث إنه عما أثاره حكم الإحالة من طلب التصدي لباقي فقرات نص المادة
(369) من قانون العقوبات، فإن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن مناط إعمالها
لرخصة التصدي، المنصوص عليها بالمادة (27) من قانونها الصادر بالقانون رقم 48 لسنة
1979، يفترض وجود خصومة أصلية طُرح أمرها عليها وفقًا للأوضاع المنصوص عليها في
قانونها، وأن ثمة علاقة منطقية تقوم بين هذه الخصومة وما قد يُثار عرضًا من تعلق
الفصل في دستورية بعض النصوص القانونية بها؛ ومن ثم تكون الخصومة الأصلية هي
المقصودة بالتداعي أصلًا، والفصل في دستورية النصوص القانونية التي تتصل بها
عرضًا، مبلورًا للخصومة التي تدور مع الخصومة الأصلية وجودًا وعدمًا. وهذه المحكمة
لا تعرض لدستورية النصوص القانونية التي تقوم عليها الخصومة الفرعية إلا بقدر
اتصالها بالخصومة الأصلية وبمناسبتها، وشرط ذلك أن يكون تقرير بطلان هذه النصوص أو
صحتها مؤثرًا في المحصلة النهائية للخصومة الأصلية. متى كان ذلك، وكانت باقي فقرات
النص المشار إليه تجرم أفعالًا تغاير الفعل المنسوب إلى المتهمين في الدعوى
المحالة، وكان التصدي للفصل في دستورية تلك الفقرات غير ذي أثر على الخصومة
الأصلية في الدعوى الدستورية، أو على قضاء محكمة الموضوع؛ فإن هذا الطلب يغدو
حقيقًا بالالتفات عنه.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق