الصفحات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

الأربعاء، 5 نوفمبر 2025

الدعوى رقم 67 لسنة 33 ق دستورية عليا "دستورية" جلسة 4 / 10 / 2025

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الرابع من أكتوبر سنة 2025م، الموافق الثاني عشر من ربيع الآخر سنة 1447ه.
برئاسة السيد المستشار/ بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد شبل وخالد أحمد رأفت دسوقي والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز ومحمد أيمن سعد الدين عباس نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ عبد الرحمن حمدي محمود أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 67 لسنة 33 قضائية "دستورية"، بعد أن أحالت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية، بحكمها الصادر بجلسة 4/7/2010، ملف الدعوى رقم 11044 لسنة 60 قضائية.
المقامة من
فتحية عبد السلام بركات
ضد
رئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي
------------
الإجراءات
بتاريخ السادس من أبريل سنة 2011، ورد إلى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا ملف الدعوى رقم 11044 لسنة 60 قضائية، نفاذًا لحكم محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية الصادر بجلسة 4/7/2010، بوقف الدعوى، وإحالة أوراقها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية نص البند (1) من المادة (111) من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة اليوم.
---------------
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل –على ما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق– في أن المدعية في الدعوى الموضوعية، أقامت أمام محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية الدعوى رقم 11044 لسنة 60 قضائية، ضد المدعى عليه، طالبة الحكم بوقف تنفيذ ثم إلغاء القرار السلبي بالامتناع عن صرف معاشها المستحق عن مورثتها رقية محمد عيد النوري، الموقوف صرفه اعتبارًا من 1/5/2003، مع ما يترتب على ذلك من آثار، أخصها: رد ما سبق خصمه من هذا المعاش؛ تأسيسًا على أنها استحقت معاشًا عن والدتها المتوفاة عام 1972، مقداره (168 جنيهًا)، وبتاريخ 1/5/2003، أُوقف صرف هذا المعاش، إذ كانت تعمل بالشركة الشرقية للأقطان، ولا يجوز لها الجمع بين المرتب والمعاش، وأن ما آل إليها من معاش عن مورثتها أصبح حقًّا مكتسبًا بالتقادم الطويل لمرور أكثر من خمسة عشر عامًا، وذلك بمراعاة أن ما يملكه الأصل يملكه الفرع. وبجلسة 4/7/2010، حكمت المحكمة بوقف الدعوى، وإحالة الأوراق إلى هذه المحكمة للفصل في دستورية نص البند (1) من المادة (111) من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975. وأحال هذا الحكم، في بيان مناعيه على النص المحال، إلى ما صدر عن المحكمة الدستورية العليا من أحكام تجيز الجمع بين الأجر والمعاش، باعتبارهما مختلفين مصدرًا وسببًا. وارتأى حكم الإحالة أن حظر الجمع بينهما، على النحو الوارد بالنص المُحال، قد جاء مخالفًا للدستور والمبادئ المستقرة في قضاء المحكمة الدستورية العليا، مما يترتب عليه تعطيل حق العمل، وإفراغ الحق في المعاش من مضمونه.
وحيث إن البند (1) من المادة (111) من قانون التأمين الاجتماعي، الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 –بعد أن استبدل به نص المادة (5) من القانون رقم 47 لسنة 1984- ينص على أنه "يوقف صرف معاش المستحق في الحالات الآتية:
1- الالتحاق بأي عمل والحصول منه على دخل صاف يساوى قيمة المعاش أو يزيد عليه، فإذا نقص الدخل عن المعاش صرف إليه الفرق، ويقصد بالدخل الصافي مجموع ما يحصل عليه العامل مخصومًا منه حصته في اشتراكات التأمين الاجتماعي والضرائب في تاريخ التحاقه بالعمل ثم في يناير من كل سنة".
وحيث إن المصلحة في الدعوى الدستورية، وهي شرط لقبولها، مناطها –على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة– أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يؤثر الحكم في المسألة الدستورية على الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع، ويستوي في شأن توافر المصلحة أن تكون الدعوى قد اتصلت بالمحكمة عن طريق الدفع أو عن طريق الإحالة، والمحكمة الدستورية العليا هي وحدها التي تتحرى توافر شرط المصلحة في الدعوى الدستورية للتثبت من شروط قبولها، بما مؤداه أن الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا لا تفيد بذاتها توافر المصلحة، بل يتعين أن يكون الحكم في المطاعن الدستورية لازمًا للفصل في النزاع المثار أمام محكمة الموضوع، فإذا لم يكن للفصل في دستورية النصوص التي ثارت بشأنها شبهة عدم الدستورية لدى محكمة الموضوع انعكاس على النزاع الموضوعي فإن الدعوى الدستورية تكون غير مقبولة. متى كان ذلك، وكان النزاع المردد أمام محكمة الموضوع مداره وقف تنفيذ وإلغاء القرار السلبي بالامتناع عن صرف معاش المدعية المستحق عن مورثتها رقية محمد عيد النوري –الموقوف صرفه اعتبارًا من 1/5/2003-، مع ما يترتب على ذلك من آثار، أخصها: رد ما سبق خصمه من هذا المعاش، وكان الثابت بالأوراق أن المدعية قد استحقت معاشًا عن والدتها المتوفاة بتاريخ 20/2/1972، بصفتها ابنة لا تعمل وغير متزوجة، واستمرت في صرف هذا المعاش حتى عام 2003. وإذ تبين للهيئة -المدعى عليها في الدعوى الموضوعية- أن المدعية كانت تعمل بالشركة الشرقية للأقطان منذ تاريخ 1/2/1990 حتى انتهاء خدمتها بالإحالة إلى المعاش المبكر في 20/1/2000، واستحقاقها معاشًا عن نفسها، فقامت الهيئة بحصر إجمالي ما صرف للمدعية بدون وجه حق عن الفترة من 1/1/1992 حتى 20/1/2000، التي جمعت فيها بين دخلها من العمل والمعاش المستحق عن والدتها، وكان نص البند (1) من المادة (111) من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975، المستبدل به نص المادة (5) من القانون رقم 47 لسنة 1984، بما أوجبه من وقف صرف المعاش للمستحق حال التحاقه بعمل والحصول منه على دخل صاف يساوى قيمة المعاش أو يزيد عليه، فإذا نقص الدخل عن المعاش صرف إليه الفرق، هو النص الذي حال دون صرف المعاش للمدعية، المستحق عن والدتها المتوفاة؛ لحظره الجمع بين الدخل من العمل والمعاش، ومن ثم يكون للقضاء في دستورية هذا النص أثره وانعكاسه الأكيد على النزاع الموضوعي وقضاء محكمة الموضوع فيه، ويتحدد نطاق الدعوى المعروضة فيما تضمنه النص المُحال من وقف صرف معاش المستحق في حالة الالتحاق بأي عمل والحصول منه على دخل صافٍ يساوي قيمة المعاش أو يزيد عليه، فإذا نقص الدخل عن المعاش صُرف إليه الفرق، دون سائر أحكام النص الأخرى.
ولا ينال مما تقدم إلغاء النص المُحال –ضمن كامل أحكام قانون التأمين الاجتماعي المشار إليه– بموجب المادة السادسة من القانون رقم 148 لسنة 2019 بإصدار قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات؛ ذلك أن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن استبدال المشرع قاعدة قانونية بغيرها، أو إلغاءها، لا يحول دون الطعن عليها بعدم الدستورية من قبل من طبقت عليه خلال مدة نفاذها، وترتبت بمقتضاها آثار قانونية بالنسبة إليه، تتحقق بإبطالها مصلحته الشخصية المباشرة؛ ذلك أن الأصل في تطبيق القاعدة القانونية هو سريانها على الوقائع التي تتم في ظلها حتى إلغائها، فإذا أُلغيت هذه القاعدة أو حلت محلها قاعدة قانونية أخرى فإن القاعدة الجديدة تسري من الوقت المحدد لنفاذها، ويقف سريان القاعدة القديمة من تاريخ إلغائها، وبذلك يتحدد النطاق الزمني لسريان كل من القاعدتين، فما نشأ مكتملًا في ظل القاعدة القديمة من المراكز القانونية، وجرت آثارها خلال فترة نفاذها، يظل محكومًا بها وحدها. متى كان ذلك، فإن إلغاء النص المُحال بموجب أحكام القانون رقم 148 لسنة 2019 بإصدار قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات، لا يمنع هذه المحكمة من إعمال رقابتها الدستورية عليه، باعتباره قد طُبق على المدعية خلال فترة نفاذه، وترتبت بمقتضاه آثار قانونية بالنسبة إليها.
وحيث إن من المقرر أن الرقابة على دستورية القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، تخضع للدستور القائم دون غيره؛ إذ إن هذه الرقابة تستهدف –أصلًا– صون هذا الدستور، وحمايته من الخروج على أحكامه؛ لكون الطبيعة الآمرة لقواعد الدستور، وعلوها على ما دونها من القواعد القانونية، وضبطها للقيم التي ينبغي أن تقوم عليها الجماعة، تقتضي إخضاع القواعد القانونية جميعها –أيًّا كان تاريخ العمل بها– لأحكام الدستور القائم؛ لضمان اتساقها والمفاهيم التي أتى بها، فلا تتفرق هذه القواعد في مضامينها بين نظم مختلفة، يناقض بعضها بعضًا، بما يحول دون جريانها وفق المقاييس الموضوعية ذاتها التي تطلبها الدستور القائم شرطًا لمشروعيتها الدستورية. إذ كان ذلك، وكانت المناعي التي أثارتها محكمة الموضوع بشأن النص المُحال، تندرج تحت المطاعن الموضوعية التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي لقاعدة في الدستور، من حيث محتواها الموضوعي، ولئن كان النص المُحال في حدود نطاقه المتقدم قد صدر قبل العمل بالدستور القائم، فإنه ظل ساريًا ومعمولًا بأحكامه، حتى ألغي بالقانون رقم 148 لسنة 2019 المار ذكره، فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على دستورية هذا النص في ضوء أحكام الدستور الصادر سنة 2014 باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أنَّ كل تنظيم تشريعي لا يصدر عن فراغ، ولا يعتبر مقصودًا لذاته، بل مرده إنفاذ أغراض بعينها يتوخاها، وتعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التي أقام المشرع عليها هذا التنظيم، باعتباره أداة تحقيقها، وطريق الوصول إليها.
وحيث إن أحكام قانون التأمين الاجتماعي، الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975، قد توخت إنشاء صندوقين لتأمين المشمولين بأحكامه في مستقبل أيامهم، عند تقاعدهم، أو عجزهم، أو مرضهم، وكفالة الحقوق المتفرعة من المزايا التأمينية المبينة بنصوصه لأسرهم بعد وفاتهم. وكانت الأموال التي يتلقاها مباشرة عن هذين الصندوقين الأشخاص المستحقون للمعاش، المبينون حصرًا في الباب التاسع من هذا القانون، عند وفاة المؤمن عليه أو صاحب المعاش، لا تعتبر من الحقوق المالية التي كسبها عضو الصندوق واختص بها قبل وفاته، ولا يتصور -من ثمَّ- أن يكون قد تركها لغيره، ولا أن يقوم الورثة مقام مورثهم فيها، وكانت الحقوق المالية التي لا يكتمل وجودها قبل وفاة من يدعيها، وكذلك الحقوق التي لا يجوز لشخص أن ينقلها إلى غيره حال حياته، لا يتصور توريثها، وكان الأصل في الحقوق هو إضافتها إلى أسبابها، فلا يستقل وجودها عنها، وكان المشرع قد كفل شكلًا من أشكال التعاون بين أعضاء الصندوقين وأسرهم، بما يدنيهم من التغلب على صعابهم التي تتصل بعوارض الحياة؛ من مرض أو تقاعد أو وفاة، ويقيم إطارًا لهذا التعاون من خلال موارد الصندوق التي ينميها، ويسهم أعضاؤه فيها، وتدعمها الدولة كذلك من ميزانيتها. ولما كان الحق في المعاش إنما ينشأ عن القانون مباشرة دون أن يمر بذمة المورث، فلا يعتبر تركة بأية حال، ويتم توزيعه وفقًا للأنصبة والأحكام المقررة بقانون التأمين الاجتماعي، بوصفه نظامًا للتكافل الاجتماعي، وليس بوصفه إرثًا يخضع لقواعد الميراث المقررة في الشريعة الإسلامية، وهو ما مؤداه أن النص المُحال -الذي انتظم أحوال وقف المعاش المستحق عن الوالدين- لا يكون متعلقًا بحق الإرث المكفول بنص المادة (35) من الدستور.
وحيث إن الحق في المعاش، إذا توافر أصل استحقاقه وفقًا للقانون، إنما ينهض التزامًا على الجهة التي تقرر عليها، وهو ما تؤكده قوانين التأمين الاجتماعي، على تعاقبها، إذ يتبين منها أن المعاش الذي تتوافر بالتطبيق لأحكامها شروط اقتضائه عند انتهاء خدمة المؤمن عليه وفقًا للنظم المعمول بها، يعتبر التزامًا مترتبًا بنص القانون في ذمة الجهة المدينة. وإذا كان الدستور قد خطا بمادته السابعة عشرة خطوة أبعد في اتجاه دعم التأمين الاجتماعي، حين ناط بالدولة أن تكفل لمواطنيها خدماتهم التأمينية الاجتماعية، بما في ذلك تقرير معاش لمواجهة بطالتهم أو عجزهم عن العمل أو شيخوختهم، في الحدود التي يبينها القانون، وأضفى حماية خاصة لأموال التأمينات والمعاشات، بحسبانها، وعوائدها، حقًّا للمستفيدين منها، فذلك لأن مظلة التأمين الاجتماعي، التي يمتد نطاقها إلى الأشخاص المشمولين بها، هي التي تكفل لكل مواطن الحد الأدنى لمعيشة كريمة لا تمتهن فيها آدميته، والتي توفر لحريته الشخصية مناخها الملائم، ولضمانة الحق في الحياة أهم روافدها، وللحقوق التي يمليها التضامن بين أفراد الجماعة التي يعيش في محيطها مقوماتها، بما يؤكد انتماءه إليها. وتلك هي الأسس الجوهرية التي لا يقوم المجتمع بدونها، والتي تعتبر المادة (8) من الدستور مدخلًا إليها.
وحيث إن الدساتير المصرية -على تعاقبها- قد حرصت على النص على التضامن الاجتماعي، باعتباره ركيزة أساسية لبناء المجتمع، وواحدًا من الضمانات الجوهرية التي ينبغي أن ينعم بها أفراده، وهو ما أكدته المادة (8) من الدستور القائم، التي ألزمت الدولة بتوفير سبل التضامن والتكافل الاجتماعي، بما يضمن الحياة الكريمة لجميع المواطنين، على النحو الذي ينظمه القانون. وفي سبيل تحقيق ذلك، ألزمت المادة (17) من الدستور الدولة بكفالة توفير خدمات التأمين الاجتماعي، وحق كل مواطن في الضمان الاجتماعي، إذا لم يكن متمتعًا بنظام التأمين الاجتماعي، بما يضمن له ولأسرته الحياة الكريمة، وتأمينه ضد مخاطر حالات العجز عن العمل والشيخوخة والبطالة، باعتبار أن مظلة التأمين الاجتماعي التي يحدد المشرع نطاقها –وعلى ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة– هي التي تكفل بمداها واقعًا أفضل، يؤمن المواطن في غده، وينهض بموجبات التضامن الاجتماعي التي يقوم عليها المجتمع، بما مؤداه أن المزايا التأمينية هي–في حقيقتها– ضرورة اجتماعية بقدر ما هي ضرورة اقتصادية، وأن غايتها أن تؤمن المشمولين بها في مستقبل أيامهم عند تقاعدهم أو عجزهم أو مرضهم، وأن تكفل الحقوق المتفرعة عنها لأسرهم بعد وفاتهم، وهي معانٍ استلهمها الدستور القائم بربطه الرفاهية والنمو الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية، حين أكد في المادة (27) منه أن النظام الاقتصادي يهدف إلى تحقيق الرخاء في البلاد من خلال التنمية المستدامة، والعدالة الاجتماعية، بما يكفل رفع معدل النمو الحقيقي للاقتصاد القومي، ورفع مستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر.
وحيث إن الدستور وإن جعل بمقتضى نص المادة (17) منه توفير خدمات التأمين والضمان الاجتماعي التزامًا دستوريًّا على عاتق الدولة، ليكون الوفاء به بحسب الأصل من خلالها، بيد أن التزامها في هذا الشأن بأن تكفل لمواطنيها ظروفًا أفضل في مجال التأمين والضمان الاجتماعي لا يعني أن تنفرد وحدها بصون متطلباتها، ولا أن تتحمل دون غيرها أعباءها، وإلا كان ذلك تقويضًا لركائز التضامن الاجتماعي التي يقوم عليها المجتمع. وإن الدستور وقد ناط بالدولة أن تكفل لمواطنيها خدماتهم التأمينية والاجتماعية، أضفى حماية خاصة لأموال التأمينات والمعاشات، بحسبانها، وعوائدها، حقًّا للمستفيدين منها، وإن اعتبر أموالها أموالًا خاصة، فإنها تتمتع بجميع أوجه وأشكال الحماية المقررة للأموال العامة، وإن ثمة التزامًا دستوريًّا على الدولة بضمانها، وهو ما يستوجب على المشرع العمل على حمايتها، ووضع الضوابط التي تضمن صرفها لمستحقيها دون غيرهم.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الأصل في سلطة المشرع، في موضوع تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية، جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم، لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزنًا، وليس ثمة قيد على مباشرة المشرع لسلطته هذه، إلا أن يكون الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة، تعتبر تخومًا لها ينبغي التزامها.
متى كان ما تقدم، وكان المشرع قد حصر في الباب التاسع من قانون التأمين الاجتماعي المشار إليه، المستحقين للمعاش، بعد وفاة المؤمن عليه أو صاحب المعاش، وحدد الشروط الواجب توافرها لكل فئة من فئات المستحقين في تاريخ وفاة المؤمن عليه أو صاحب المعاش، ونسب توزيع المعاش عليهم، وذلك وفقًا لأسس تأمينية وحسابات اكتوارية تحكمها فلسفة التكافل والتضامن الاجتماعي، واشترط لاستحقاق الابنة المعاش عن والديها - بوفاة أحدهما أو كليهما - ألا تكون متزوجة، ليكفل لها الحد الأدنى لمعيشة كريمة، لا تمتهن فيها آدميتها، وقرر امتداد هذا الاستحقاق للابنة -التي لا تعمل- حتى تاريخ زواجها وإعالة زوجها لها؛ حرصًا من المشرع على استمرار الإعالة القانونية، والحماية التأمينية -الممتدة والمستمرة- التي يقدمها نظام التأمين الاجتماعي للابنة في جميع حالاتها الاجتماعية، عزباء أو مطلقة أو أرملة؛ ترسيخًا للقيم الدينية والاجتماعية داخل الأسرة المصرية. ولما كان النص المُحال، في إطار تحديده للقواعد الحاكمة لوقف معاش المستحق، أوجب وقف صرفه، حال التحاق المستحق بعمل وحصوله منه على دخل صاف يساوي قيمة هذا المعاش أو يزيد عليه، وذلك لانتفاء علة استحقاقه، وتخلف مناط الاستفادة من الحماية التأمينية -المتمثل في انقطاع الدخل نتيجة وفاة العائل- في هذه الحالة، فإذا نقص الدخل عن المعاش صُرف إلى المستحق الفرق، الأمر الذي يكون معه النص المُحال قد وازن بين مصلحة المستحق في الحصول على دخل لا يقل عن المعاش المستحق له، وبين المصلحة العامة في قصر صرف المعاش على فئات المستحقين عن صاحب المعاش الأكثر احتياجًا، بما يصون أموال التأمينات باعتبارها أموالًا خاصة، ولكونها وعوائدها حقًّا للمستفيدين منها، تلتزم الدولة بحمايتها بأدوات مماثلة للحماية المقررة للمال العام، كافلة بتلك الحماية الاتزان المالي لأموال الصندوق وموارده، وصرف أمواله إلى مستحقيها، ليحقق في الوقت ذاته التضامن الاجتماعي، الذي اعتبره الدستور بمقتضى المادة (8) منه أساسًا لبناء المجتمع، وجعل تحقيقه واجبًا على الدولة؛ ومن ثم يدخل هذا النص بما يقرره من أحكام في إطار سلطة المشرع التقديرية في تنظيم الحق في التأمين والضمان الاجتماعي، وبيان قواعد تحديد المعاشات طبقًا لنص المادة (128) من الدستور، دون المساس بأصل الحق أو جوهره، بحسبانه القيد العام الضابط لسلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق والحريات، الذي قررته المادة (92) من الدستور، وبما لا يجاوز موازين القسط والاعتدال، محققًا التوازن بين مصالح الطرفين، متخيرًا من البدائل أنسبها وأكفلها لتحقيق الأغراض التي يتوخاها، الأمر الذي يبرأ به النص المُحال -محددًا نطاقًا على نحو ما سلف– من مظنة الإخلال بمبادئ التضامن الاجتماعي والعدالة الاجتماعية وتوفير خدمات التأمين الاجتماعي والحق في المعاش، المنصوص عليها في المادتين (8 و17) من الدستور.
وحيث إن الدساتير المصرية - على تعاقبها - قد حرصت على النص على حق العمل، باعتباره من حقوق الإنسان اللصيقة بالحق في الحياة، بل ويأتي تاليًا له، ولارتباطه الوثيق بكرامة الإنسان، وبالقيم الخلقية التي يقوم عليها التضامن الاجتماعي، وبحق الناس جميعًا في تطوير مجتمعهم وتنميته، وكونه مصدرًا لأجر عادل مُرض يكفل للفرد ولأسرته عيشة لائقة، ضمانًا لرفاهيته، وصونًا لحريته وأمنه الاقتصادي. وبحسبانه حقًّا ذا طبيعة مزدوجة، اقتصادية واجتماعية في آن واحد، فضلًا عن أنه حق تكاملي يتداخل مع غيره من الحقوق؛ فتارة أساسًا وتارة أخرى مكملًا لها. وهو ما أكدته المادة (12) من الدستور القائم، التي تنص على أن "العمل حق، وواجب، وشرف تكفله الدولة. ولا يجوز إلزام أي مواطن بالعمل جبرًا، إلا بمقتضى قانون، ولأداء خدمة عامة، لمدة محددة، وبمقابل عادل، ودون إخلال بالحقوق الأساسية للمكلفين بالعمل".
وحيث إن البين من أحكام الدستور، بما يحقق تكاملها ويكفل عدم انعزال بعضها عن بعض في إطار الوحدة العضوية التي تجمعها، وتصون ترابطها، أنه في مجال حق العمل والتأمين الاجتماعي، أكد الدستور -في المادة (12) منه- أن العمل حقٌّ لكل مواطن لا يجوز إهداره أو تقييده بما يعطل جوهره، وواجب يلتزم بمسئوليته والنهوض بتبعاته، وشرف يرنو إليه، وأنه –في الوقت ذاته- ليس ترفًا يمكن النزول عنه، ولا هو منحة من الدولة تبسطها أو تقبضها وفق مشيئتها لتحدد على ضوئها من يتمتعون بها أو يمنعون منها. وهو باعتباره كذلك، ولأهميته في تقدم الجماعة وإشباع احتياجاتها، ولصلته الوثيقة بالحق في التنمية بمختلف جوانبها، ولضمان تحقيق الإنسان لذاته، ولحرياته الأساسية، وكذلك لإعمال ما يتكامل معها من الحقوق، توليه الدولة اهتمامها، وتزيل العوائق من طريقه وفقًا لإمكاناتها، وبوجه خاص إذا امتاز العامل في أدائه وقام بتطويره.
وحيث إنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن حق العمل، الذي كفله الدستور الحالي في المادة (12) منه، لا يمنح تفضلًا، ولا يتقرر إيثارًا، بل يعتبر أداؤه واجبًا لا ينفصل عن الحق فيه، ومدخلًا إلى حياة لائقة، قوامها الاطمئنان إلى غد أفضل، وبها تتكامل الشخصية الإنسانية من خلال إسهامها في تقدم الجماعة وإشباع احتياجاتها، بما يصون للقيم الخلقية روافدها، وأن الحقوق جميعها -ومنها حق العمل- لا تنشأ إلا بتوافر متطلباتها؛ ذلك أن الشروط التي يفرضها المشرع لقيام حق من الحقوق تعتبر من عناصره، بها ينهض سويًّا على قدميه، ولا يتصور وجوده بدونها، ولا يكتمل كيانه في غيبتها، ومن ثم لا تنعزل هذه الشروط عن الحق الذي نشأ مرتبطًا بها، مكتملًا وجودًا بتحققها، ليكون العمل محققًا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية جوهر أسبابها.
لما كان ما تقدم، وكان المشرع بما ضمَّنه النص المُحال من أحكام، تتعلق بوقف المعاش في حالة التحاق المستحق بعمل وحصوله منه على دخل يساوي قيمة المعاش أو يزيد عليه، إنما يرمي إلى تشجيع المستحق على السعي في عمارة الأرض والالتحاق بعمل في حرفة أو مهنة في القطاع الخاص، أو وظيفة تنشئها الدولة، وفق إمكاناتها المتاحة، باعتبار العمل شرفًا لمن يلتمس الطريق إليه؛ ومن ثم فإن إحجام أو تقاعس المستحق، المؤهل للعمل والقادر عليه، عن الالتحاق بالعمل، بغية استمراره في صرف المعاش، إنما يُعد تجاوزًا للحدود المنطقية التي ينبغي -طبقًا للدستور- أن تكون إطارًا لحق العمل، وتعطيلًا لجوهره، وإضرارًا بمقومات المجتمع التي تأبى تعطل الطاقات وهدر الإمكانات وتبديد القدرات، وبحسبان تقرير المعاش يكون، وبحسب الأصل، لمواجهة العجز عن العمل أو البطالة أو الشيخوخة، بما مؤداه أن حظر جمع المستحق بين دخله من العمل والمعاش إنما يتصل اتصالًا وثيقًا بقيمة العمل وجدواه، وينعكس بالضرورة على كيان الجماعة، ويمس مصالحها العليا، صونًا لقوتها الإنتاجية، تحقيقًا للأغراض التي أرادها المشرع من تقريرها، وبهذه المثابة يكون ما تضمنه النص المُحال، باعتباره الوسيلة التي اختارها المشرع لتنظيم هذه المسألة، تنظيمًا متناسبًا مع الغاية التي رصدها، والهدف الذي سعى إلى بلوغه بتقرير هذه الأحكام، وكافلًا لتحقيقها، بما لا يتضمن مساسًا بالحق في العمل، الذي تُعد كفالته –على ما جرى به قضاء هذه المحكمة– ضمانة جوهرية لإسهام المُستحق كمواطن في الحياة العامة، التي غدت مشاركته فيها واجبًا وطنيًّا؛ ومن ثم فإن النعي على النص المُحال إهداره الحق في العمل يكون لغوًا، وفاقدًا سنده، حقيقًا به الرفض.
وحيث إنه عما ارتآه حكم الإحالة من إخلال النص المُحال بقضاء المحكمة الدستورية العليا -الصادر بجلسة 7/6/1997، في الدعوى رقم 52 لسنة 18 قضائية "دستورية": "بعدم دستورية الفقرتين الأولى والثانية من المادة (40) من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975"– بقالة إن الحق في المعاش لا يعتبر منافيًا للحق في الأجر؛ وليس ثمة ما يحول دون اجتماعهما باعتبارهما مختلفين مصدرًا وسببًا؛ فإنه مردود بأن القضاء المتقدم قد تأسس على أن الحق في المعاش يقوم -وفقًا للقواعد التي تقرر بموجبها وتحدد مقداره على ضوئها- عن مدد قضاها أصحابها في الجهات التي كانوا يعملون بها؛ وأدوا عنها حصصهم في التأمين الاجتماعي، وذلك خلافًا لأجورهم التي يستحقونها من الجهة التي التحقوا بالعمل بها؛ إذ تعتبر مقابلًا مشروعًا لجهدهم فيها، وباعثًا دفعهم إلى التعاقد معها، ليكون القيام بهذا العمل سببًا لاقتضائها؛ الأمر الذي يبين معه –بجلاء- أن ما أقرته هذه المحكمة، في حكمها السالف بيانه، إنما ينصرف إلى صاحب المعاش الذي التحق بعمل، وينصب على حق المؤمن عليه في المعاش عن المدد التي قضاها في الجهة التي كان يعمل بها، وسدد عنها حصته في اشتراكات التأمين الاجتماعي من راتبه، خلافًا لأجره الذي يستحقه من الجهة التي التحق للعمل بها بعد إحالته للمعاش، والذي يُعتبر مقابلًا مشروعًا لجهده فيها، ليكون القيام بهذا العمل سببًا لاقتضائه ذلك الأجر؛ الأمر الذي يكشف عن المغايرة والاختلاف بين المركز القانوني لصاحب المعاش الذي التحق بعمل وبين غيره من الفئات المستحقة عنه الذين عددتهم المادة (104) من قانون التأمين الاجتماعي المشار إليه.
وحيث إن النص المُحال، في حدود نطاقه المتقدم، لا يتعارض مع أي نص آخر من نصوص الدستور؛ الأمر الذي يتعين معه القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق