باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الرابع من يناير سنة 2025م،
الموافق الرابع من رجب سنة 1446ه.
برئاسة السيد المستشار/ بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة
المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم ومحمود محمد غنيم والدكتور عبد العزيز محمد
سالمان وطارق عبد العليم أبو العطا وعلاء الدين أحمد السيد وصلاح محمد الرويني
نواب رئيس المحكمة
وحضور السيدة المستشار/ شيرين حافظ فرهود رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ عبد الرحمن حمدي محمود أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 84 لسنة 34
قضائية دستورية، بعد أن أحالت محكمة القضاء الإداري - الدائرة الأولى - بحكمها
الصادر بجلسة 28/ 6/ 2011، ملف الدعوى رقم 42208 لسنة 64 قضائية
المقامة من
1- مصطفى محمود محمد الروبي 2- مجدي أحمد قاسم باشا
3- ياسر مصطفى إسماعيل أحمد 4- طه محمد طه عبد الكريم دويدار
5- توفيق إبراهيم محمد الجوهري 6- عزة محمد محمود الوكيل
7- ناصر محمود السيد مقلد 8- أحمد محمد جمال عبد الواحد جودة
9- روضة إبراهيم عبد الغفار حماده 10- ماجدة سعد عبد العظيم عيسى
والمتدخلين هجوميًّا:
1- أحمد إمام خليل القصيفي 2- عايدة أسعد مطر
3- حلمي عبد الحكيم محمد عبد الرحمن 4- علاء عبد الوهاب محمد محمود
5- عاطف علي ماهر محمود 6- رأفت المغاوري عبد الرحمن
7- محمد جاد عبده أبو خليوة
ضد
1- وزير العدل
2- رئيس اللجنة الدائمة للمحاكم الاقتصادية
-----------------
" الإجراءات "
بتاريخ التاسع عشر من مايو سنة 2012، ورد إلى قلم كتاب المحكمة
الدستورية العليا ملف الدعوى رقم 42208 لسنة 64 قضائية، بعد أن قضت محكمة القضاء
الإداري - الدائرة الأولى - بجلسة 28/ 6/ 2011، بوقف الدعوى، وإحالة أوراقها إلى
المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية البند (4) من المادة الثالثة من قرار
وزير العدل رقم 6928 لسنة 2008، بشروط وإجراءات القيد في جداول خبراء المحاكم
الاقتصادية بوزارة العدل، وقواعد الاستعانة بهم.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قدم المدعون في
الدعوى الموضوعية مذكرة، طلبًا للحكم، أصليًّا: بعدم دستورية الفقرة الثانية من
المادة (9) من قانون إنشاء المحاكم الاقتصادية الصادر بالقانون رقم 120 لسنة 2008،
فيما تضمنته من تخويل وزير العدل سلطة تحديد شروط وإجراءات القيد والاستعانة
بجداول خبراء المحاكم الاقتصادية بقرار يصدر منه، وسقوط قرارات وزير العدل أرقام:
6928 لسنة 2008 و2747 لسنة 2014 و4143 لسنة 2019، واحتياطيًّا: بعدم دستورية نص
البند (4) من قراري وزير العدل رقمي: 2747 لسنة 2014 و4143 لسنة 2019، وقررت
المحكمة إصدار الحكم بجلسة اليوم.
-------------------
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق -
في أن المدعين في الدعوى الموضوعية أقاموا أمام محكمة القضاء الإداري - الدائرة
الأولى - الدعوى رقم 42208 لسنة 64 قضائية ضد المدعى عليهما بطلب الحكم، أولًا:
بصفة مستعجلة: بوقف تنفيذ قرار وزير العدل رقم 6928 لسنة 2008 بشروط وإجراءات
القيد في جداول خبراء المحاكم الاقتصادية بوزارة العدل وقواعد الاستعانة بهم، مع
ما يترتب على ذلك من آثار، وقبول قيد المدعين كخبراء في جدول المحاكم الاقتصادية،
وفي الموضوع: أولًا: بإلغاء القرار المطعون فيه. ثانيًا: بإلزام المدعى عليهما بأن
يؤديا إليهم مبلغ 101 جنيه على سبيل التعويض المؤقت؛ على سند من القول بأنهم
محامون مشتغلون بالمهنة، وقد صدر قرار وزير العدل رقم 6928 لسنة 2008 المار ذكره،
وتضمنت شروط القيد ألا يكون طالب القيد من المشتغلين بمهنة المحاماة، وإذ نشرت
الوزارة إعلانًا بفتح باب القيد في جداول الخبراء أمام المحاكم الاقتصادية، فقد
تقدم عدد من المدعين بطلبات للقيد في هذه الجداول كأمناء تفاليس، وقوبلت طلباتهم
بالحظر الوارد بالقرار المشار إليه، فتقدموا بتظلم إلى وزير العدل، وإذ لم يستجب
لتظلمهم؛ فأقاموا دعواهم بالطلبات السالفة البيان.
وقد تدخل هجوميًّا طالبو التدخل، وقبلت المحكمة تدخلهم، وتراءى لها أن
قرار وزير العدل رقم 6928 لسنة 2008 المشار إليه، فيما تضمنه من حظر قيد المشتغلين
بمهنة المحاماة كخبراء أمام المحاكم الاقتصادية، تحوطه شبهة عدم الدستورية،
لإخلاله بمبدأ المساواة الذي أقرته جميع المواثيق الدولية والدساتير المصرية، فقضت
المحكمة بوقف الدعوى وإحالة أوراقها بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل
في دستورية البند (4) من المادة الثالثة من قرار وزير العدل رقم 6928 لسنة 2008
بشروط وإجراءات القيد في جداول خبراء المحاكم الاقتصادية بوزارة العدل، وقواعد
الاستعانة بهم.
وحيث إن المادة (9) من قانون إنشاء المحاكم الاقتصادية الصادر
بالقانون رقم 120 لسنة 2008، بعد تعديلها بالقانون رقم 156 لسنة 2024، تنص على أنه
للدوائر الابتدائية والدوائر الاستئنافية ودوائر الجنايات الاقتصادية بدرجتيها
بالمحاكم الاقتصادية أن تستعين برأي من تراه من الخبراء المتخصصين المقيدين في
الجداول التي تعد لذلك بوزارة العدل، ويتم القيد في هذه الجداول بقرار من وزير
العدل... ويصدر بشروط وإجراءات القيد والاستعانة بالخبراء المقيدين بالجداول قرار
من وزير العدل. وتحدد هذه الدوائر، بحسب الأحوال، الأتعاب التي يتقاضاها الخبير
وذلك وفقًا للقواعد التي يصدر بها قرار من وزير العدل.
وتنص المادة الثالثة من قرار وزير العدل رقم 6928 لسنة 2008 بشروط
وإجراءات القيد في جداول خبراء المحاكم الاقتصادية بوزارة العدل، وقواعد الاستعانة
بهم، على أنه يشترط فيمن يقيد بجداول خبراء المحاكم الاقتصادية:
1- ........... 2-................3-...............
4- ألا يكون من المشتغلين بمهنة المحاماة.
5- .............
وتنص المادة الثالثة من قرار وزير العدل رقم 2747 لسنة 2014 بتعديل
قرار وزير العدل رقم 6928 لسنة 2008 بشروط وإجراءات القيد في جداول خبراء المحاكم
الاقتصادية بوزارة العدل، وقواعد الاستعانة بهم، على أنه يشترط فيمن يقيد بجداول
خبراء المحاكم الاقتصادية:
1- ........... 2-................3-...............
4- ألا يكون من المشتغلين بمهنة المحاماة.
كما تنص المادة الثالثة من قرار وزير العدل رقم 4143 لسنة 2019 بشروط
وإجراءات القيد في جداول خبراء المحاكم الاقتصادية بوزارة العدل، وقواعد الاستعانة
بهم، على أن يشترط فيمن يقيد بجداول خبراء المحاكم الاقتصادية:
1- ....... 2-.........3-.........
4- ألا يكون من المشتغلين بمهنة المحاماة.
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن المصلحة في الدعوى - وهي شرط لقبولها- مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى
الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية مؤثرًا في الطلبات الموضوعية
المرتبطة بها، المطروحة على محكمة الموضوع، ويستوي في شأن توافر المصلحة أن تكون
الدعوى قد اتصلت بالمحكمة عن طريق الدفع أو عن طريق الإحالة، والمحكمة الدستورية
العليا هي وحدها التي تتحرى شرط المصلحة في الدعوى الدستورية، للتثبت من شروط
قبولها، بما مؤداه أن الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا لا
تفيد بذاتها توافر المصلحة، بل يتعين أن يكون الحكم في المطاعن الدستورية لازمًا للفصل
في النزاع المثار أمام محكمة الموضوع. متى كان ذلك، وكانت رحى الخصومة الموضوعية
تدور حول طلب المدعين والخصوم المتدخلين، وهم من المشتغلين بالمحاماة، أحقيتهم في
القيد بجداول خبراء المحاكم الاقتصادية بوزارة العدل، وكان عدد من المدعين في
الدعوى الموضوعية، ومن الخصوم المتدخلين، قد تقدموا بطلبات للقيد في تلك الجداول
إلا أن طلباتهم قوبلت بالرفض، استنادًا إلى نص البند (4) من المادة الثالثة من
قرار وزير العدل رقم 6928 لسنة 2008؛ ومن ثم فإن الفصل في دستوريته من شأنه أن
يُرتب انعكاسًا على الطلبات المطروحة في الدعوى الموضوعية وقضاء محكمة الموضوع
فيها، وهو ما تتوافر به المصلحة في الدعوى المعروضة، ويتحدد نطاقها في البند (4)
من المادة الثالثة من القرار المشار إليه.
وحيث إن نطاق الدعوى الدستورية - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة-
وإن تحدد أصلًا بالنصوص القانونية التي تعلق بها الدفع بعدم الدستورية المثار أمام
محكمة الموضوع أو تلك الواردة بحكم الإحالة، إلا أن هذا النطاق يتسع كذلك لتلك
النصوص التي يضار المدعون من تطبيقها عليهم إذا كان فصلها عن النصوص التي اشتمل
عليها متعذرًا، وكان ضمها إليها كافلًا الأغراض التي توخاها المدعون بدعواهم
الموضوعية، فلا تحمل إلا على مقاصدهم ولا تتحقق مصلحتهم الشخصية بعيدة عنها. متى
كان ما تقدم، وكان نص البند (4) من المادة الثالثة من قرار وزير العدل رقم 6928
لسنة 2008، ونص البند (4) من المادة الثالثة من قراري وزير العدل رقمي 2747 لسنة
2014 و4143 لسنة 2019، المشار إليها، تضمنت جميعها حكمًا واحدًا مؤداه أنه يُشترط
للقيد في جداول خبراء المحاكم الاقتصادية ألا يكون طالب القيد من المشتغلين بمهنة
المحاماة، وكان الأصل المقرر بنص المادة الثانية من القانون المدني أن كل تشريع
لاحق يعتبر مُلغيًا للتشريع السابق بالقدر الذي يتحقق فيه التعارض بينهما، وكان نص
هذه المادة يفترض تشريعين تعاقبا في الزمن واختلفا في المضمون؛ إذ إن القول
بالتعارض بين تشريعين يفترض أن يكون ألحقهما قد أتى بقواعد قانونية جديدة تُعدل
القواعد القانونية القديمة أو تلغيها، فإذا كانت القاعدة القانونية الجديدة هي
ذاتها القاعدة القانونية القديمة، فإن القاعدتين تلتقيان في مضمون واحد، ولا
تختلفان في آثارهما؛ ليقتصر دور القاعدة القانونية الجديدة على مجرد ترديد الحكم
المقرر بالقاعدة القانونية التي استصحبتها.
وحيث إن الأصل في الرقابة القضائية على دستورية القوانين هو ربطها
بالنصوص القانونية التي طُبقت على الأنزعة الموضوعية في المجال الزمني لسريانها،
وكانت القاعدة القانونية التي أوردها نص البند (4) من المادة الثالثة من قرار وزير
العدل رقم 6928 لسنة 2008، هي ذاتها الواردة بقرار وزير العدل رقم 2747 لسنة 2014،
الملغى بقرار وزير العدل رقم 4143 لسنة 2019، فإنه يكون من غير المتصور أن يستقل
النص المحال بذاتيته ليحدث في مواجهة خصوم الدعوى الموضوعية آثارًا غير تلك التي
يرتبها النصان الآخران في مواجهتهم؛ ومن ثم فإن نطاق الدعوى المعروضة يمتد إلى نص
البند (4) من المادة الثالثة من قراري وزير العدل رقمي 2747 لسنة 2014 و4143 لسنة
2019.
وحيث إن حكم الإحالة ينعى على النص المحال، فيما تضمنه من حظر قيد
المشتغلين بالمحاماة بجداول الخبراء أمام المحاكم الاقتصادية، أسوة بأقرانهم ممن
تتوافر فيهم شروط القيد بهذه الجداول، انطواءه على تمييز غير مبرر، وإخلالًا بمبدأ
المساواة.
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الرقابة على دستورية
القوانين واللوائح؛ من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، إنما
تخضع لأحكام الدستور القائم، دون غيره؛ إذ إن هذه الرقابة إنما تستهدف، أصلًا، صون
الدستور المعمول به، وحمايته من الخروج على أحكامه، وأن نصوص هذا الدستور تمثل
دائمًا القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد
النظام العام، التي يتعين التزامها، ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات،
باعتبارها أسمى القواعد الآمرة، وعلى ذلك فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على النص
المحال والنصين اللذين امتد إليهما نطاق الدعوى في ضوء أحكام الدستور الصادر بتاريخ
18/ 1/ 2014، باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.
وحيث إن من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الدستور وإن
قرن العدل بكثير من النصوص التي تضمنها، وخلا في الوقت ذاته من كل تحديد لمعناه،
فإن مفهوم العدل - سواء بمبناه أو أبعاده - يتعين أن يكون محددًا من منظور
اجتماعي، باعتبار أن العدل يتغيا التعبير عن تلك القيم الاجتماعية التي لا تنفصل
الجماعة في حركتها عنها، والتي تبلور مقاييسها في شأن ما يعتبر حقا لديها، فلا
يكون العدل مفهومًا مطلقًا باطراد، بل مرنًا ومتغيرًا وفقًا لمعايير الضمير
الاجتماعي ومستوياتها، وهو بذلك لا يعدو أن يكون نهجًا متواصلًا منبسطًا على أشكال
من الحياة تتعدد ألوانها، وازنًا بالقسط تلك الأعباء التي يفرضها المشرع على
المواطنين، فلا تكون وطأتها على بعضهم عدوانًا، بل تطبيقها فيما بينهم إنصافًا،
وإلا كان القانون مُنهيًا للتوافق في مجال تنفيذه، وغدا إلغاؤه لازمًا.
وحيث إن الدستور قد حرص في المادة (4) منه على النص على مبدأ تكافؤ
الفرص، باعتباره إلى جانب مبدأي العدل والمساواة أساسًا لبناء المجتمع وصيانة
وحدته الوطنية، ومن أجل ذلك جعل الدستور بمقتضى نص المادة (9) منه تحقيق تكافؤ
الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز، التزامًا دستوريًّا على عاتق الدولة، لا
تستطيع منه فكاكًا. وقوام هذا المبدأ - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن الفرص
التي كفلها الدستور للمواطنين فيما بينهم تفترض تكافؤها، وتدخل الدولة إيجابيا
لضمان عدالة توزيعها بين من يتزاحمون عليها، وضرورة ترتيبهم، من ثمَّ، فيما بينهم
على ضوء قواعد يمليها التبصر والاعتدال، وهو ما يعني أن موضوعية شروط النفاذ إليها
مناطها تلك العلاقة المنطقية التي تربطها بأهدافها، فلا تنفصل عنها.
وحيث إن الإخلال بالمساواة أمام القانون، التى كفلها الدستور - على ما
استقر عليه قضاء هذه المحكمة - يتحقق بأي عمل يهدر الحماية القانونية المتكافئة،
تتخذه الدولة سواء من خلال سلطتها التشريعية أو عن طريق سلطتها التنفيذية، بما
مؤداه أن أيًّا من هاتين السلطتين لا يجوز لها أن تفرض تغايرًا في المعاملة ما لم
يكن مبررًا بفروق منطقية يمكن ربطها عقلًا بالأغراض التي يتوخاها العمل التشريعي
الصادر عنها، وليس بصحيح أن كل تقسيم تشريعي يعتبر تصنيفًا منافيًا لمبدأ
المساواة، بل يتعين دومًا أن يُنظر إلى النصوص القانونية باعتبارها وسائل حددها
المشرع لتحقيق أغراض يبتغيها، فلا يستقيم إعمال مبدأ المساواة أمام القانون إلا
على ضوء مشروعيتها، واتصال هذه الوسائل منطقيًّا بها، ولا يتصور من ثمَّ أن يكون
تقييم التقسيم التشريعي منفصلًا عن الأغراض التي يتغياها المشرع، بل يرتبط جواز
هذا التقسيم بالقيود التي يفرضها الدستور على هذه الأغراض، وبوجود حد أدنى من
التوافق بينها وبين طرائق تحقيقها، ويستحيل بالتالي أن يكون التقدير الموضوعي
لمعقولية التقسيم التشريعي منفصلًا كليًّا عن الأغراض النهائية للتشريع، وأن إعمال
مبدأ المساواة أمام القانون رهن بتوافر الشروط الموضوعية التي يحدد المشرع على
ضوئها المراكز القانونية التي يتكافأ بها أصحابها أمام القانون، على أن يكون
مفهومًا أن موضوعية هذه الشروط مرجعها إلى اتصال النصوص التي تقتضيها بالحقوق التي
تتناولها، بما يؤكد ارتباطها عقلًا بها من خلال تعلقها بطبيعة هذه الحقوق
ومتطلباتها في مجال ممارستها. ومجرد عمومية القاعدة القانونية وتجردها، وإن كان
لازمًا لإنفاذ أحكامها، فإن التمييز التشريعي المناقض لمبدأ المساواة أمام القانون
لا يقوم إلا بهذه القواعد ذاتها.
وحيث إن ما نص عليه الدستور في المادة (12) من اعتبار العمل حقًّا،
مؤداه ألّا يكون تنظيم هذا الحق مناقضًا لفحواه، وأن يكون فوق هذا اختيارًا حرًّا،
والطريق إليه محددًا وفق شروط موضوعية مناطها ما يكون لازمًا لإنجازه، متوخيًا
دومًا تطوير أنماط الحياة وتشكيلها في اتجاه التقدم، معززًا برامج رائدة تزيد من
خبرة العامل وتنميها، وتكفل خلق مناخ ملائم يكون العمل في إطاره إسهامًا وطنيًّا،
وواجبًا.
وحيث إن الشروط التي يتطلبها المشرع لمزاولة حرفة أو مهنة بذاتها لا
يجوز تقريرها بعيدًا عن متطلبات ممارستها، بل يتعين أن ترتبط عقلًا بها، وأن يكون
فرضها لازمًا لأداء المهام التي تقوم عليها، كامنًا فيها، ملتئمًا مع طبيعتها،
منبئًا عن صدق اتصالها بأوضاعها، وإلا كان تقرير هذه الشروط انحرافًا عن مضمونها
الحق، والتواءً بمقاصدها، وإرهاقًا لبيئة العمل ذاتها، وما ينبغي أن يهيمن عليها
من القيم التي تعلو بقدر العمل، ولا تخلّ بطبيعة الشروط التي يقتضيها، وبوجه خاص
كلما دل تطبيقها على مناهضتها لتكافؤ الفرص، أو تمييزها في التعامل دون مقتضٍ بين
المتزاحمين على العمل، أو إنكارها لحقهم في الأمن -اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا- أو
إضرارها بالظروف الأفضل لضمان حريتهم وكرامتهم، أو عدوانها على الحق في تدريبهم
مهنيًّا.
وحيث إن ما تقدم مؤداه أن لكل حق أوضاعًا يقتضيها وآثارًا يرتبها، من
بينها - في مجال حق العمل - ضمان الشروط التي يكون أداء العمل في نطاقها منصفًا
وإنسانيًّا ومواتيًا، فلا تنتزع هذه الشروط قسرًا من محيطها، ليكون مبناها
التحامل، أو لتناقض بفحواها ما ينبغي أن يرتبط صدقًا وحقًّا وعقلًا بالأوضاع
الطبيعية لأداء العمل.
وحيث إنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة - وعلى ما تقضي به المادة
(198) من الدستور، والمادة الأولى من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة
1983- أن المحاماة، في أصلها وجوهر قواعدها، مهنة حرة يمارسها المحامون وحدهم في
استقلال، لا سلطان عليهم في مزاولتها والنهوض بتبعاتها لغير ضمائرهم وحكم القانون،
وكان قانون المحاماة قد قرن استقلالهم باستقلال السلطة القضائية، فاعتبر المحامين
شركاء لها يعينونها على إيصال الحقوق لذويها في إطار من سيادة القانون وقيم العدل
التي يكفلون من خلالها الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم.
وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق أنها سلطة
تقديرية، ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتعتبر تخومًا لها
لا يجوز اقتحامها أو تخطيها، وكان الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية بتنظيم
موضوع معين، فإن ما تقره من القواعد القانونية في هذا النطاق لا يجوز أن ينال من الحقوق
التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو انتقاصها من أطرافها؛ ذلك أن إهدار هذه
الحقوق أو تهميشها عدوان على مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها. ولا
يجوز من ثمَّ أن يكون تنظيم هذه الحقوق اقتحامًا لفحواها، بل يتعين أن يكون منصفًا
ومبررًا.
متى كان ذلك، وكان الأصل في المحامين المشتغلين بالمهنة، أن تتوافر
لديهم الخبرة التي تكفل إحاطتهم إحاطة كاملة بفروع القانون المختلفة، وتمكنهم من
سبر أغوارها، وتقصي مدلولاتها، لا سيما أن مهنة المحاماة هي الأقرب اتصالًا من
غيرها بمفاهيم المنازعات القضائية ومقتضيات أعمال الخبرة فيها، بما لذلك من أثر في
معاونة قضاة المحاكم الاقتصادية على أداء رسالتهم، بمراعاة أن القيد في جداول
خبراء المحاكم الاقتصادية يتعين أن يكون النفاذ إليه متاحًا لمن يطرقون أبوابه،
ولا يتقيدون في ذلك بغير الشروط الموضوعية التي تؤهلهم لممارسة أعمال الخبرة أمام
تلك المحاكم، وليس من بين هذه الشروط عدم الاشتغال بمهنة المحاماة؛ إذ يُعد شرطًا
لا تقتضيه طبيعة هذا العمل، منافيًا لمقاصده، مقيمًا تمييزًا تحكميًّا منهيًّا
عنه؛ ومن ثم فإن الشرط الوارد بالنص المحال والنصين اللذين امتد إليهما نطاق هذه
الدعوى، بحرمانه المحامين المشتغلين بهذه المهنة من القيد بجداول الخبراء أمام
المحاكم الاقتصادية، قد جاء متجاوزًا قيمة العدل، مجترئًا على مقتضيات تكافؤ
الفرص، مهدرًا الحق في العمل، مناقضًا لمبدأ المساواة، مخلًّا باعتبار مهنة
المحاماة، بما يخالف أحكام المواد (4 و9 و12 و53 و198) من الدستور؛ مما لزامه
القضاء بعدم دستورية النصوص المار بيانها.
وحيث إنه عن طلب المدعين أمام هذه المحكمة الحكم بعدم دستورية الفقرة
الثانية من المادة (9) من قانون إنشاء المحاكم الاقتصادية المار ذكره، وسقوط
قرارات وزير العدل السالفة البيان، فإن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن ولايتها في
مجال الفصل في المسائل الدستورية التي تُطرح عليها، مناطها اتصالها وفقًا للأوضاع
المنصوص عليها في المادة (29) من قانونها؛ وذلك إما بإحالة هذه المسائل إليها
لتقول كلمتها فيها، وإما من خلال دفع بعدم دستورية نص قانوني يبديه الخصم أثناء
نظر النزاع الموضوعي، وتقدر محكمة الموضوع جديته لترخص بعدئذٍ لهذا الخصم - خلال
أجل لا يجاوز ثلاثة أشهر - برفع دعواه الدستورية في شأن النصوص التي تناولها هذا
الدفع، ولم يُجِز المشرع - بالتالي - الدعوى الأصلية التي ترفع مباشرة أمام
المحكمة الدستورية العليا سبيلًا للطعن بعدم دستورية النصوص التشريعية، وهذه
الأوضاع الإجرائية تُعد من النظام العام باعتبارها من الأشكال الجوهرية التي تغيا
بها المشرع مصلحة عامة حتى ينتظم التداعي في المسائل الدستورية بالإجراءات التي
حددها. لما كان ذلك، وكان طلب المدعين المبدى بجلسة هذه المحكمة القضاء بعدم
دستورية النص التشريعي وسقوط القرارات الوزارية سالفة الذكر، إنما ينحل إلى دعوى
أصلية بعدم الدستورية بما يناقض طريقي الدفع والإحالة اللذين استلزمتهما -دون
الدعوى المباشرة- المادة (29) من قانون المحكمة الدستورية العليا للتداعي فيما
يطرح عليها من مسائل دستورية، وهو ما يتعين معه الالتفات عن هذا الطلب.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص البند (4) من المادة الثالثة من قرارات
وزير العدل أرقام: 6928 لسنة 2008 و2747 لسنة 2014 و4143 لسنة 2019 بشروط وإجراءات
القيد في جداول خبراء المحاكم الاقتصادية بوزارة العدل، وقواعد الاستعانة بهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق