جلسة 16 مايو سنة 1935
برياسة سعادة عبد العزيز فهمى باشا وبحضور حضرات: مراد وهبة بك ومحمد
فهمى حسين بك وحامد فهمى بك وعبد الفتاح السيد بك المستشارين.
------------------
(266)
القضية
رقم 6 سنة 5 القضائية
جنسية:
(أ ) القوانين التي لا يصح التحدي بها في صدد الجنسية.
(ب) قانون. عنوانه. لا يجوز التحدي به.
(حـ) امرأة أجنبية. تزوّجها من عثماني من أهل مصر. التحاقها
بالجنسية العثمانية. عدم اكتسابها أهلية زوجها الخاصة. كيف تكتسبها؟
(د) ماهية الجنسية.
(هـ، و) امرأة أجنبية.
تزوّجها من عثماني من أهل مصر. التحاقها
بالجنسية العثمانية. بقاؤها على هذه الجنسية حتى بعد الطلاق. طلاقها من قبل 5
نوفمبر سنة 1914. متى تعتبر مصرية؟
(ز) حق الحكومة في التصريح لغير المصري الجنسية بدخول الديار
المصرية أو عدم التصريح. لا تدخل للمحاكم فيما تقرّره الحكومة من ذلك.
(ح) نقض وإبرام.
طلب قدم لمحكمة الموضوع من شأنه أن يرفض. حكم عدم
الاختصاص يشمل الرفض. نقد الحكم من هذه الناحية. غير منتج.
(المواد 1و 2 و3 و7 من قانون الجنسية الصادر في سنة 1926 والمادة
الأولى من قانون الجنسية الصادر في سنة 1929)
-------------------
1 - لا يجوز في صدد موضوع الجنسية المصرية التحدي بالمادة الثالثة
من قانون العقوبات الصادر في سنة 1904 لأن المصريين في عرف قانون العقوبات لا يقتصر
الحال فيهم على سكان مصر من العثمانيين، بل إنهم هم كافة سكان مصر من عثمانيين
مصريين أصليين وعثمانيين آخرين وأجانب غير عثمانيين ممن ليس لدولهم اتفاقات تجعلهم
غير خاضعين لسلطة المحاكم الأهلية. كذلك لا يجوز في هذا الصدد التحدّي بالأمر العالي
الصادر في 9 أبريل سنة 1892 الشامل للائحة المستخدمين الملكيين في مصالح الحكومة
ولا بالأمر العالي الصادر في 29 يونيه سنة 1900 وعنوانه في نسخته العربية هو
"دكريتو بشأن من يعتبرون مصريين" ولا بالمادة العاشرة من لائحة
المستخدمين الملكيين الصادر بها أمر عال في 24 يونيه سنة 1901 ولا بقانون القرعة
العسكرية الصادر في 4 نوفمبر سنة 1902 فان صفة تلك القوانين أنها قوانين تقرّر
أهلية (Capacité) خاصة للعثمانيين الذين تتوافر فيهم شروط خاصة أو تقرّر تكليفا خاصا
على العثمانيين الذين تتوافر فيهم شروط خاصة. فكل شخص من العثماني الجنسية لا
تتوافر فيه تلك الشروط الخاصة فلا تحصل له تلك الأهلية الخاصة ولا يلتزم بهذا
التكليف الخاص مهما يكن قد استوطن مصر استيطانا لم يبلغ في مدّته حدّ المشروط.
2 - لا يجوز التحدي بعنوانات القوانين فان هذه العنوانات يضعها في العادة
العمال المكلفون بطبع القوانين ونشرها وليس لها أقل قيمة، بل المعوّل عليه هو نصوص
القوانين ذاتها.
3 - المرأة الأجنبية
الجنسية متى تزوّجت من عثماني من أهل مصر أو من غيرهم فإنها تفقد جنسيتها الأصلية
وتلتحق بالجنسية العثمانية، إلا أن مجرّد زواجها وإن كان يكسبها جنسية زوجها فانه
لا يصيرها من فورها كمثل زوجها تماما فيها أهليته الخاصة، لأن اكتسابها جنسية
زوجها شيء واكتسابها تلك الأهلية شيء آخر لا يمكن أن يحصل لها إلا إذا توافرت فيها
شروط تلك الأهلية.
4 - الجنسية هي من المعاني المفردة البسيطة التي لا تحتمل التخليط
ولا التراكب. والقانون الدولي ما كان يعرف شيئا اسمه جنسية عثمانية مصرية ولا
عثمانية عراقية أو حجازية أو سورية، ولا يعرف الآن شيئا اسمه جنسية فرنسية تونسية
أو فرنسية جزائرية ولا اسمه جنسية إنجليزية اسكتلاندية. ذلك بأن الجنسية فرع عن
السيادة (Souveraineté) ولازم من لوازمها، وللسيادة وحدانية يهدمها الإشراك والتخليط.
5 - الأصل في الحق المكتسب هو بقاؤه ما لم يظهر كاسبه الرغبة في العدول
عنه. فالمرأة الأجنبية التي تزوّجت من عثماني من أهل مصر أو من غيرهم فالتحقت
بالجنسية العثمانية تبقى على هذه الجنسية العثمانية حتى بعد طلاقها ولا ترتد
بمجرّد الطلاق إلى أصل جنسيتها التي كانت قبل الزواج.
6 - الأجنبية التي تزوّجت من عثماني من أهل مصر، ثم طلقت منه قبل 5
نوفمبر سنة 1914 سواء أبقيت على الجنسية العثمانية التي التحقت بها أم اختارت
الرجوع لجنسيتها القديمة يتعين لاعتبارها مصرية الجنسية أن تتوافر فيها الشروط الواردة
بالمواد 1 و2 و3 و7 من قانون الجنسية المصرية الأوّل الصادر في سنة 1926 أو المادة
الأولى من قانون الجنسية المصرية الثاني الصادر في سنة 1929. فاذا لم تتوافر فيها
تلك الشروط فإنها لا تعتبر مصرية الجنسية.
7 - الحكومة المصرية وحدها هي صاحبة الشأن في التصريح لغير المصريى
الجنسية بدخول الديار المصرية أو عدم التصريح. وما تقرّره من هذا هو أمر راجع
لسلطتها العليا التي ليس للمحاكم التدخل فيها.
8 - إذا كان طلب التعويض عن الضرر المزعوم لحوقه بمن امتنعت
الحكومة، في حدود سلطتها وحقها، عن التصريح له بدخول القطر المصري من شأنه أن
يرفض، وكان الظاهر من حكم محكمة الموضوع أنها بدل أن ترفضه جعلت قضاءها بعدم
الاختصاص شاملا أيضا له، فان مصلحة المحكوم ضدّه في نقد الحكم من هذه الجهة مصلحة
نظرية صرف لا يؤبه لها ما دام إسقاط التعويض من اللوازم الحتمية التي تلزم عن كون
الطالب غير مصري وعن كون الحكومة لها الحق المطلق في عدم التصريح له بدخول الديار
المصرية الأمرين اللذين هما العلة في عدم الاختصاص.
الوقائع
تتلخص وقائع الدعوى بحسب ما يؤخذ من الحكم المطعون فيه وما أشار إليه
من المستندات فيما يلى:
حضرة الطاعنة الست
جاويدان هانم كانت مجرية الجنسية وقد تزوّجها سموّ الخديوي السابق عباس حلمي الثاني
بعقد زواج شرعي تم على يد قاضى مصر في 28 فبراير سنة 1910 ثم طلقها بإشهاد شرعي
بتاريخ 7 أغسطس سنة 1913 أمام رئيس محكمة إسكندرية الشرعية. وعقب طلاقها غادرت
الديار المصرية واستمرّت خارجها إلى أن كانت سنة 1931، إذ رفعت وهي في الخارج
الدعوى الحالية في 11 نوفمبر من السنة المذكورة على وزارة الداخلية لدى محكمة مصر
الابتدائية الأهلية تقول فيها إنها باعتبارها مصرية قد طلبت من المفوّضية المصرية
ببرلين ومن الحكومة المصرية في مصر جواز سفر مصري يسمح لها بالعودة إلى مصر
والإقامة فيها، ولكن الحكومة لم تجبها إلى طلبها هذا مع أن الدستور المصري يقضي
بأن المصريين لدى القانون سواء، وأنهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية
والسياسية لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين، كما يقضى بأنه لا
يجوز إبعاد مصري من الديار المصرية ولا أن يحظر على مصري الإقامة في جهة مّا، ولا
أن يلزم بالإقامة في مكان معين إلا في الأحوال المبينة في القانون. ثم تقول إنه
لإباء الحكومة عليها الدخول لمصر قد بقيت في البلاد الأجنبية للآن ولم تستطع أن
تنظر فيما لها بمصر من الشئون الخاصة؛ وقد أصابها من هذا ضرر بليغ، ولذلك فهي تطلب
الحكم على وزارة الداخلية (أوّلا) بأن تدفع لها مبلغ 40000 جنيه تعويضا عن حرمانها
من التمتع بحقوقها وحرمانها من العودة إلى مصر والإقامة بها (وثانيا) بأن تسلم
إليها جواز سفر لتدخل بمقتضاه الديار المصرية وتقيم بها وإلا كانت ملزمة بأن تدفع
لها تعويضا قدره عشرة جنيهات عن كل يوم من أيام التأخير مع إلزامها بالرسوم
والمصاريف الخ. وهذه الدعوى قيدت بجدول محكمة مصر برقم 384 سنة 1932. وبعد نظرها
حكمت فيها تلك المحكمة بتاريخ 21 مايو سنة 1932 بعدم اختصاص المحاكم الأهلية
بنظرها، وألزمت المدّعية بالمصاريف وبمبلغ 500 قرش مقابل أتعاب المحاماة.
استأنفت حضرة الست
جاويدان هانم هذا الحكم لدى محكمة استئناف مصر الأهلية، وقيدت استئنافها بجدولها
برقم 148 سنة 50 قضائية. وبعد نظره حكمت المحكمة في 30 يونيه سنة 1934 بقبول
الاستئناف شكلا وبرفضه موضوعا وبتأيد الحكم المستأنف وبالزام المستأنفة بالمصاريف
وبمبلغ 500 قرش أتعاب محاماة لوزارة الداخلية.
وقد أعلن هذا الحكم إلى
الطاعنة في 21 نوفمبر سنة 1934، فطعنت فيه بطريق النقض بتاريخ 27 من الشهر المذكور
بتقرير أعلن إلى وزارة الداخلية في أوّل ديسمبر سنة 1934، وقدّم طرفا الخصومة
المذكرات الكتابية في الميعاد القانوني، وقدّمت النيابة مذكرتها في 12 مارس سنة
1935.
وبجلسة يوم الخميس
الموافق 2 من شهر مايو سنة 1935 المحدّدة لنظر هذا الطعن سمعت الدعوى على الوجه
المبين بمحضر الجلسة ثم تأجل النطق بالحكم لجلسة اليوم.
المحكمة
بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا.
حيث إن الطعن رفع صحيحا
في الميعاد عن حكم قابل له فهو مقبول شكلا.
وحيث إن مبنى الطعن أن
محكمة الاستئناف أخطأت في تطبيق القانون. ذلك بأنها مع كونها أثبتت في حكمها أن
حضرة الست الطاعنة قد اكتسبت جنسية زوجها، وأن هذه الجنسية التي اكتسبتها بالزواج
لا تفقد بالطلاق، فقد أصرت على تأييد الحكم المستأنف لسبب ذكرته بقولها: "إن الخديوي
عباس كان وقت زواجه عثمانيا فاكتسبت الأميرة جاويدان جنسيته العثمانية، وبقيت
محتفظة بالجنسية العثمانية بعد الطلاق، ولم تعمل شيئا لاكتساب الجنسية
المصرية". وما دامت الأميرة جاويدان غير مصرية فلا يحق لها التمتع بأحكام
قانون الجنسية المصرية وأحكام الدستور المصري. ثم عللت المحكمة ذلك بقولها
"إنه في تاريخ زواج الأميرة جاويدان بسموّ الخديوي وفى تاريخ طلاقها منه كانت
مصر تابعة للدولة العثمانية ولم يكن لها قوانين جنسية خاصة". ثم تعقب حضرة
الطاعنة على هذا في تقريرها مبينة وجه خطأ المحكمة فتقول إن الشارع المصري فرّق في
قوانين عدّة بين المصري وغير المصري عثمانيا كان أو غير عثماني (كذا)، ثم تورد
النصوص القانونية المصرية التي تعتمد عليها فتقول: إنها هي (أوّلا) المادة الثالثة
من قانون العقوبات الأهلي الصادر في سنة 1883 (وثانيا) الأمر العالي الصادر في 9
أبريل سنة 1892 الشامل للائحة تعيين المستخدمين الملكيين في مصالح الحكومة
(وثالثا) الأمر العالي الصادر في 29 يونيه سنة 1900 وعنوانه في نسخته العربية هو:
"دكريتو بشأن من يعتبرون مصريين" وعنوانه في نسخته الفرنسية:
"Décret portant attribution de nationalité égyptienne à diverses catégories
des personnes"
أي "دكريتو يخوّل
الجنسية المصرية لبعض طوائف من الأشخاص" (ورابعا) المادة العاشرة من لائحة
المستخدمين الملكيين الصادر بها أمر عال في 24 يونيه سنة 1901 (وخامسا) قانون
القرعة العسكرية الصادر في 4 نوفمبر سنة 1902. ثم تقول حضرة الطاعنة - بعد إيرادها
نصوص الأوامر العالية المشار إليها وعنوانات بعضها - إن قانون الجنسية المصرية
الأوّل الصادر في 26 مايو سنة 1926 قد أتى في مواده الأولى والثانية والثالثة - مع
اضطراب عباراتها - بتفريق ظاهر بين المصري والعثماني، كما أن قانون الجنسية
المصرية الثاني وهو رقم 19 لسنة 1929 أعلن في مادته الأولى أنه يعتبر داخلا في الجنسية
المصرية بحكم القانون: (أوّلا) أعضاء الأسرة المالكة (وثانيا) كل من يعتبر في تاريخ
نشر هذا القانون مصريا بحسب حكم المادة الأولى من الأمر العالي الصادر في 29 يونيه
سنة 1900 (وثالثا) من عدا هؤلاء من الرعايا العثمانيين الذين كانوا يقيمون عادة في
القطر المصري في 5 نوفمبر سنة 1914 وحافظوا على تلك الإقامة حتى تاريخ نشر هذا
القانون.
ثم تستخلص حضرة الطاعنة
من كل ذلك أنها قد صارت بالزواج مصرية مثل سموّ الخديوي عباس تماما، وأنها بعد
طلاقها بقيت مصرية، وأنه يحق لها أن تتمتع بأحكام الدستور المصري، وأن قضاء محكمة
الاستئناف بأنها أجنبية لا تتمتع بهذه الأحكام وبأن للحكومة المصرية منعها من دخول
مصر، كما هو مقتضى حقها وسلطتها العليا في منع الأجانب من دخول ديارها، هو قضاء
خاطئ قانونا. ولذلك تطلب نقض حكمها المطعون فيه.
هذا
وحيث إن محكمة الاستئناف لم تذكر في حكمها ذلك السبب المنقول في تقرير
الطعن، بل ذكرت في مواضع متفرّقة من الحكم ما ملخصه أن حضرة الست جاويدان هانم
بزواجها بسموّ الخديوي السابق أصبحت جنسيتها عثمانية كجنسيته كما أنها بعد طلاقها
منه بقيت عثمانية كذلك وهى غير حاصلة على ما يوفر لها شروط اكتساب الجنسية المصرية
بحسب قانوني سنة 1926 وسنة 1929، بل هي من وقت طلاقها في سنة 1913 إلى 5 نوفمبر
سنة 1914 تاريخ انفصال مصر عن تركيا، ومن بعد هذا التاريخ غير حاصلة إلا على
الجنسية العثمانية فقط فهي أجنبية الجنسية ولا يمكن اعتبارها مصرية الجنسية حتى
يسوغ لها التحدي في دعواها الحالية بأحكام الدستور المصري.
وحيث إنه فيما يتعلق
بالمادة الثالثة من قانون العقوبات الصادر في سنة 1904 (لا قانون العقوبات الأوّل
الصادر في سنة 1883 كما ذكر في تقرير الطعن سهوا) فان التحدّي بالمادة المذكورة لا
يجدى في الدعوى الحالية لأن المصريين في عرف قانون العقوبات لا يقتصر الحال فيهم
على سكان مصر من العثمانيين؛ بل إنهم هم كافة سكان مصر من عثمانيين مصريين أصليين
وعثمانيين آخرين وأجانب غير عثمانيين ممن ليس لدولهم اتفاقات تجعلهم غير خاضعين
لسلطة المحاكم الأهلية.
وحيث إن التحدّي
بالعنوانين العربي أو الفرنسي لدكريتو 29 يونيه سنة 1900 غير مجد أيضا، فان
عنوانات القوانين يضعها في العادة العمال المكلفون بطبع القوانين ونشرها وليس لها
أقل قيمة، بل المعوّل عليه هي نصوص القوانين ذاتها.
وحيث إنه - فيما يتعلق
بقانون 29 يونيه سنة 1900 المذكور وبغيره من القوانين المصرية الأخرى الصادرة قبل قانوني
الجنسية والتي تعتمد عليها حضرة الطاعنة - فان مما ينبغي التذكير به أن مصر كانت
تابعة للدولة العثمانية ولم يكن لها شخصية دولية مستقلة قائمة بذاتها ولا جنسية
دولية خاصة، بل كانت شخصيتها الدولية فانية في شخصية الدولة العثمانية، وعلاقاتها
الخارجية بيد تلك الدولة إلا مقدارا يسيرا خلص ليدها في بعض الشئون التجارية
وغيرها. وكانت جنسيتها هي الجنسية العثمانية، وقانون جنسيتها في علاقتها بالدول
الأجنبية هو قانون الجنسية العثمانية. غير أن مصر، وهى جزء من بلاد الدولة
العثمانية تابع لها دوليا، قد كان لها استقلال داخلي فكان لها جيش خاص لا يشترك في
شيء مع جيش الدولة إلا من حيث الاعتبار النظري دون العملي، وكان لها نظام خاص
للتشريع وللإدارة وللقضاء متميز في كلًّ تمام التميز عن أنظمة الدولة العثمانية. والجيش
والتشريع والإدارة والقضاء كل أولئك يقتضى عمالا يقومون بالعمل. ولئن كان في القيام
بذلك العمل مغرم فكان فيه كثير من المغنم. لذلك كان الناس يستبقون إلى الخدمة
الحكومية بمصر - كما هو الشأن فيها للآن - إما إرضاء لشهوة وطنية أو سدّا لما يحيق
بالمتبطلين منهم من عوز. وبينما مصر على تلك الحال كان الرجل من العثمانيين -
تركيا كان أو عراقيا أو سوريا أو أرمنيا أو روميا - بمجرّد نزوله بأرضها يتطلع إلى
مركز من مراكز رجال التشريع أو إلى وظيفة في الإدارة أو القضاء، وسنده الذى يدلى
به أنه عثماني ككل المصريين. فاذا ما طلب إليه أن يقوم بالخدمة العسكرية في الجيش المصري
احتج بأنه أدّى تلك الخدمة بالجيش العثماني أو أنه دفع لخزانة الدولة العثمانية
الإتاوة التي تعفيه من تلك الخدمة، وبأن الجيش المصري ما دام جزءا من الجيش العثماني
- ولو في الاعتبار النظري - فيكون أدّى واجبه كعثماني وله مزاحمة العثمانيين
المصريين في مصر ومشاركتهم في الحقوق السياسية وحق التوظف في مختلف جهات حكومتها.
كان لهذا الاحتجاج بعض الوجاهة ولكنه كان فيه نبوّ عن منطق العدل. وكان لا بد من
فض هذا الإشكال بقوانين تحدّد الحدود وتبين من هم العثمانيون الذين لهم التمتع في مصر
بحق التوظف وبالحقوق السياسية ومن عليهم الخدمة في جيشها، فوضعت الحكومة المصرية
فعلا في قانوني الاستخدام الصادرين في سنة 1892 وسنة 1901 الشروط اللازم توافرها
في العثماني حتى يسوغ له التوظف في مصر. وقاعدة هذين القانونين وضعتها الحكومة
أيضا بالنسبة لعمال القضاء الأهلي (Officiers de justice) في قانون سنة 1893 الخاص
برجال القضاء وعماله. ثم وضعت قانون 29 يونيه سنة 1900 خصيصا لبيان الشروط اللازم
توفرها في العثماني حتى يسوغ له التمتع بحقوق الانتخاب في مصر. ووضعت في قانون
القرعة العسكرية الصادر في 4 نوفمبر سنة 1902 الشروط الواجب توفرها في العثماني
حتى تلزمه الخدمة العسكرية في مصر. فتلك القوانين جميعا لا شأن لها ألبتة بجنسية
المصريين المعتبرة في العلاقات الدولية من حيث تقريرها أو كسبها أو فقدها فان
جنسية مصرية قائمة بذاتها لم يكن لها وجود، بل كانت جنسية المصريين الدولية هي
الجنسية العثمانية المقرّرة بالقانون العثماني الصادر في سنة 1869 الذى ما كانت
مصر تملك فيه صرفا ولا عدلا، بل هي قوانين محلية صرف حاصل ما فيها إجمالا أن من
يتمتعون في مصر بحقوق الاستخدام أو حقوق الانتخاب أو يكون عليهم أداء الخدمة
العسكرية فيها هم العثمانيون الثابتة إقامتهم بمصر من سنة 1264 هجرية - سنة 1848
إفرنكية (وهى سنة أوّل تعداد للسكان حصل في آخر عهد المغفور له محمد على) ثم
العثمانيون المولودون بمصر المقيمون بها أو العثمانيون المتوطنون بها من خمس عشرة
سنة على الأقل. وبالجملة فان صفة تلك القوانين أنها قوانين تقرّر أهلية (capacité) خاصة للعثمانيين الذين
تتوافر فيهم شروط خاصة أو تقرّر تكليفا خاصا على العثمانيين الذين تتوافر فيهم
شروط خاصة. فكل شخص من العثماني الجنسية لا تتوافر فيه تلك الشروط الخاصة فلا تحصل
له تلك الأهلية الخاصة ولا يلتزم بهذا التكليف الخاص مهما يكن قد استوطن مصر
استيطانا لم يبلغ في مدّته حدّ المشروط.
وحيث إنه لا محل للنزاع
في أن المرأة الأجنبية الجنسية متى تزوجت بعثماني من أهل مصر أو من غيرهم فإنها
تكتسب جنسيته العثمانية - لا محل للنزاع فان المادة السابعة من قانون الجنسية العثمانية
جاء نصها هكذا: "المرأة التي هي من تبعة الدولة العلية وتزوّجت بأجنبي تستطيع
أن ترجع إلى تابعيتها الأصلية بتقديمها الاستدعاء بذلك في ظرف ثلاث سنوات بعد موت
رجلها...". وهذه المادة التي لم يرد غيرها في شأن المرأة تتزوّج بآخر من غير
جنسيتها ليست نصا في أن العثمانية إذا تزوّجت أجنبيا تفقد جنسيتها العثمانية
وتلتحق بجنسية زوجها. وإنما هي نص في بيان ما يجب على تلك المرأة بعد موت رجلها
إذا أرادت أن تعود للجنسية العثمانية. وتحرير المادة بهذه الكيفية يفيد بإشارته أن
من المقرّر في ذهن واضع هذا التشريع ومن المسلم به عنده أن زواج المرأة من أي
جنسية كانت بأجنبي عن جنسيتها يفقدها جنسيتها الأصلية ويلحقها بجنسية زوجها، وأن
هذه القاعدة ما دام مسلما بها عنده فقد استغنى عن التنصيص عليها لا في شأن
العثمانية تتزوّج أجنبيا ولا في شأن الأجنبية تتزوّج عثمانيا. ولهذا فقد أصابت محكمة
الاستئناف إذ قالت إن زواج الأجنبية بالعثماني يفقدها جنسيتها ويلحقها بجنسيته
العثمانية وإنه لا يمنع من ذلك عدم النص عليه في قانون الجنسية العثمانية، خصوصا
وأنه - كما قالت تلك المحكمة - قد صدرت أوامر متكررة من الدولة العثمانية تفسر
قانونها على هذا النحو.
وحيث إنه لا محل أيضا
للنزاع في كون الأجنبية التي كسبت الجنسية العثمانية بزواجها من عثماني تبقى
عثمانية بعد طلاقها ولا ترتد بمجرّد الطلاق إلى أصل جنسيتها الأجنبية التي كانت
قبل الزواج - لا محل للنزاع ما دام الأصل في الحق المكتسب هو بقاؤه ما لم يظهر
كاسبه الرغبة في العدول عنه. وإذا كانت عبارة التشريع العثماني قد اقتصرت على صورة
إرادة المرأة الرجوع لجنسيتها الأصلية بعد وفاة زوجها فقط فإنها لا تعارض مقتضى
ذلك الأصل ولا تمس به أي مساس.
وحيث إن محل النزاع فقط
هو ما تريد حضرة الطاعنة - بالعبارات المضطربة الواردة بتقريرها - ما تريد حضرتها
أن تقوله من أنها بمجرّد زواجها بسموّ الخديوي فقد اكتسبت لا جنسيته العثمانية
فحسب، بل اكتسبت أيضا مصريته وكل حقوقه كمصري، وأن المصرية هي صفة خاصة أو جنسية
خاصة دلت عليها تلك القوانين المصرية السابقة الإشارة إليها وعنوان بعضها، وأن اكتسابها
جنسيته العثمانية وصفته أو جنسيته المصرية صيرها عثمانية مصرية، كما أنها
باكتسابها مصرية زوجها صارت حتما وبقوّة القانون مصرية الجنسية بحسب المواد 1 و2
و3 من قانون الجنسية الصادر في سنة 1926، وخصوصا بحسب المادة الأولى من قانون
الجنسية المصرية الصادر في سنة 1929.
وحيث إن الجنسية هي من المعاني
المفردة البسيطة التي لا تحتمل التخليط ولا التراكب. والقانون الدولي ما كان يعرف
شيئا اسمه جنسية عثمانية مصرية ولا عثمانية عراقية أو حجازية أو سورية ولا يعرف
الآن شيئا اسمه جنسية فرنسية تونسية أو فرنسية جزائرية ولا اسمه جنسية إنجليزية
أسكتلندية. ذلك بأن الجنسية فرع عن السيادة (Souverainité) ولازم من لوازمها وللسيادة وحدانية يهدمها الإشراك والتخليط. كما أن
تلك القوانين المصرية الصادرة لغاية سنة 1902 لا شأن لها - كما سلف القول -
بالجنسية ولا ترتب للمصريين شيئا من الجنسية الدولية (أي المعتبرة دوليا).
وحيث إنه مع التقرير بأن
حضرة الطاعنة بزواجها قد فقدت جنسيتها الدولية وهي الجنسية المجرية وكسبت جنسية
زوجها المعتبرة دوليا أي الجنسية العثمانية، ومع التقرير أيضا بأنها بزواجها بمصري
وإقامتها بأرض مصر قد وضعت قدمها في مبدأ الطريق الذى كان يوصلها إلى أن تكون يوما
مّا عثمانية حاصلة على الأهلية المقرّرة في تلك القوانين المصرية، إلا أن مما لا
يسلم به ألبتة ما تدّعيه من أن السيدة الأجنبية مثلها إن كانت مثلها تزوّجت في سنة
1910 بأحد أفراد العثمانيين من سكان مصر المولودين أو المقيمين فيها من زمن طويل
فان مجرّد زواجها كان يصيرها من فورها كمثل زوجها تماما فيها أهلية التوظف في الحكومة
المصرية وأهلية الانتخاب لو كان للنساء في مصر حقوق الانتخاب - لا يمكن التسليم
بذلك لأن اكتسابها جنسية زوجها شيء واكتسابها تلك الأهلية شيء آخر بالمرة لا يمكن أن
يحصل لها إلا إذا أقامت بمصر الزمن المقرّر لحيازة تلك الأهلية. وما تقرّره
المحكمة الآن ما كان يصدق فقط في حق الأجنبية تتزوّج مصريا، بل إنه كان يصدق أيضا
في حق العثمانية الأرمنية أو التركية أو العراقية أو السورية تتزوّج مصريا، إذ هذه
الزوجة العثمانية، ما دامت هي لم تكن من أهالي القطر المصري السابقين ولا ولدت فيه
ولا أقامت به قبل زواجها خمس عشرة سنة، فإنها ما كانت تستطيع بمجرّد زواجها
ومجيئها إلى الديار المصرية للإقامة بها مع زوجها أن تدّعى حقا في وظائف الحكومة
ولا في الانتخاب (لو كان للنساء حقوق فيه) بعلة أن زوجها عثماني حائز في مصر
للأهلية اللازمة للتمتع بذلك الحق.
وحيث إن اعتبار أن تلك
القوانين الخاصة تسبغ على الزوجة الأجنبية أو العثمانية بمجرّد زواجها ذات الأهلية
الحاصلة من قبل لمن تزوّجها من العثمانيين المصريين ليس إلا ضربا من التقدير
التصوّري (fiction) الذى لا يغنى من الواقع شيئا. وهو في عدم صحته يشبه عدم صحة رأى من
يزعم مثلا أن المرأة المصرية الجنسية الآن إذا تزوّجت بإنجليزي فكسبت بزواجها
الجنسية الإنجليزية فانه يصبح لها حتما كل حقوقه السياسية، فيكون لها حق إعطاء
صوتها في الانتخابات العامة وأن تنتخب هي لمركز نيابي ما دام لزوجها هذا الحق حتى
لو فرض وأن في إنجلترا قانون انتخاب يقضى بأن لا يكون ناخبا أو نائبا إلا من كانت
سنه كذا أو كذا وكان اسمه مقيدا سنين معلومة بجداول الانتخابات في الصورتين وكان
يدفع لخزانة الدولة مبلغ كذا أو كذا من الضريبة - يصبح لها هذا الحق ولو كانت هي
لم تبلغ السنّ المقرّرة في أية الصورتين، وليس اسمها في الجدول ولا تدفع شيئا من
الضرائب بل كان زوجها وحده الحائز لكل هذه الشروط. ولا شك أن مثل هذا الزعم ظاهر
البطلان.
وحيث إنه يبين من ذلك أن
حضرة الطاعنة بمجرّد إقامتها بمصر من عهد زواجها في سنة 1910 إلى طلاقها في سنة
1913 لا تستفيد أدنى فائدة من التحدّي بتلك القوانين الخاصة، بل كل شأنها أنها
بزواجها قد كسبت الجنسية العثمانية فقط.
وحيث إن تركيا قد استقلت
بشئونها والجنسية العثمانية لا وجود لها بمصر، ومصر أيضا استقلت بجنسيتها، فقوانين
الجنسية المصرية هي وحدها التي إليها المرجع في معرفة ما إذا كانت حضرة الطاعنة
مصرية الجنسية الآن أم لا.
وحيث إن المواد 1 و2 و3
من قانون الجنسية المصرية الأوّل الصادر في سنة 1926 واضحة المعنى ولا شيء فيها
يجعل حضرة الطاعنة مصرية الجنسية، بل إنه على العكس من هذا قد تكلمت المادة
السابعة منه على مثل حالة حضرتها تماما - أي حالة من كان عثمانيا مقيما بمصر قبل 5
نوفمبر سنة 1914 ولكنه غادرها ولم يحافظ على الإقامة بها لغاية التاريخ المذكور -
فقضت بأن من في هذا الوضع يجوز له أن يطلب من الحكومة المصرية اعتباره مصريا ولكن
يكون لوزير الداخلية الحق المطلق في رفض طلبه. فاذا كانت حضرتها طلبت اعتبارها
مصرية وكانت الحكومة المصرية رفضت فهي في حال من هذا الرفض بمقتضى ذلك النص الصريح.
وحيث إنه فيما يتعلق
بقانون الجنسية المصرية الثاني الصادر في سنة 1929 الذى تتمسك حضرة الطاعنة بمادته
الأولى فان الأوصاف التي أوردتها تلك المادة وجعلتها ضابطا لمن يعتبرون مصريي
الجنسية بقوّة القانون لا شيء منها متحقق في حضرتها. فلا هي من أعضاء الأسرة
المالكة وقت نشر قانون سنة 1929 لأن سموّ الخديوي السابق كان طلقها وانقطعت
علاقتها بالأسرة المالكة قبل نشر ذلك القانون بست عشرة سنة، ولا هي ممن كانوا وقت
نشر ذلك القانون يعتبرون مصريين بحكم المادة الأولى من قانون 29 يونيه سنة 1900 أي
بسبب كونها من سكان مصر من عهد تعداد سنة 1848 أو كونها مولودة في مصر ومقيمة بها
أو متوطنة بها فعلا من خمس عشرة سنة وإن لم تكن مولودة بها، ولا هي من الرعايا
العثمانيين الذين كانوا يقيمون عادة بالقطر المصري في 5 نوفمبر سنة 1914 وحافظت
على إقامتها فيه حتى تاريخ نشر القانون المذكور.
وحيث إنه يبين مما تقدّم
أن لا شيء في القوانين المصرية الصادرة لغاية سنة 1902 مفيدا في الطعن الحالي وأن
لا شيء في قانوني الجنسية المصرية يجعل حضرة الطاعنة مصرية الجنسية. وما دامت
حضرتها ليست مصرية الجنسية - كما قرّرت محكمة الاستئناف بحق - فالحكومة المصرية
وحدها هي صاحبة الشأن في التصريح لها بالعودة لمصر أو عدم التصريح وما تقرّره من
هذا هو أمر راجع لسلطتها العليا التي ليس للمحاكم التدخل فيها. وإذن فيكون قضاء
محكمة الاستئناف بعدم الاختصاص في هذا الصدد هو قضاء في محله ولا مخالفة فيه
للقانون. كما أنه على اعتبار أن حضرة الطاعنة لا زالت عثمانية الجنسية، فان
الأسباب المتقدّمة الخاصة بالجنسية وبحق الحكومة المطلق في التصريح لها بالعودة
وعدم التصريح من شأنها أيضا أن تجعل طلب التعويض المرتبط أشدّ الارتباط بمسألة
الجنسية من جهة وبذلك الحق المطلق الذى للحكومة من جهة أخرى هو طلب على غير أساس
ومتعين رفضه. فان كانت حضرة الطاعنة ترمى في طعنها إلى نقد حكم محكمة الاستئناف من
جهة انسحاب ما قضى به من عدم الاختصاص على ما يتعلق بالتعويض أيضا فان مصلحتها في هذا
النقد مصلحة نظرية صرفة لا يمكن الاعتداد بها ما دام إسقاط هذا التعويض من اللوازم
الحتمية التي تلزم عن كونها غير مصرية وعن كون الحكومة لها الحق المطلق في عدم
التصريح لها بدخول الديار المصرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق