جلسة أول إبريل سنة 1943
برياسة حضرة عبد الفتاح السيد بك رئيس المحكمة وبحضور حضرات: حسن زكي محمد بك ومحمد زكي علي بك ومحمد كامل مرسي بك ونجيب مرقس بك المستشارين.
----------------
(37)
القضية رقم 66 سنة 10 القضائية
اختصاص:
أ - المواد 54 و55 و130 مدني. المقصود مما جاء بها. تعيين القانون الواجب تطبيقه بالنسبة للأجانب فيما يطرح على القضاء الأهلي من نزاع متعلق بالمسائل المعينة المنصوص عليها فيها. هل للمجالس الملية اختصاص في مسائل الوصية؟
ب وجـ - مواريث.
(ب) طبيعية أم إيصائية. الاختصاص بالفصل فيها بين جميع المصريين، مسلمين وغير مسلمين، للقضاء الشرعي.
(ج) متى يصح الاحتكام فيها إلى المجلس الملي؟ المقصود بالأحوال الشخصية التي من اختصاص المجلس الملي الفصل فيها. المواد المذهبية أو الروحية.
الوقائع
تتحصل وقائع هذه الدعوى في أن المرحوم داود يوسف مورث الطرفين توفي في 25 من أغسطس سنة 1933 وتبين أنه ترك وصيتين مكتوبتين بخطه ومسجلتين بالمجلس الملي الإنجيلي العام في 31 من مارس وأول يوليو سنة 1933 خص فيهما أولاده القصر رضا وراضي وفايقة وبنتيه سرية وستهم بما يملك. فأقام المطعون ضده الأول بولس داود يوسف أمام محكمة قنا الشرعية دعوى يطلب فيها الحكم ببطلان هاتين الوصيتين بناءً على القاعدة المقررة شرعاً وهي أن لا وصية لوارث بغير إجازة باقي الورثة. ورفع الموصى لهم بدورهم دعوى أمام المجلس الملي العام لطائفة الإنجيليين الوطنيين طلبوا فيها الحكم بصحة الوصيتين فحكم لهم بطلبهم، وعلى إثر ذلك رفع المطعون ضده الأول الدعوى رقم 37 سنة 1934 أمام محكمة قنا الابتدائية طلب فيها الحكم ببطلان الوصيتين وتثبيت ملكيته لنصيبه الشرعي وقدره قيراطان وجزء من تسعة من القيراط من أربعة وعشرين في الأطيان والعقارات والنقود والمنقولات وغيرها المخلفة عن المورث والتي بينها في عريضة دعواه. وفي 25 من يونيو سنة 1934 قررت المحكمة وقف الدعوى حتى يفصل في الدعوى الشرعية القائمة بين الطرفين في موضوع صحة الوصيتين آنفتي الذكر.
وبجلسة 20 من يناير سنة 1936 عدل المطعون ضده المذكور دعواه إلى القدر الذي حكمت به المحكمة الشرعية وهو أربعة قراريط وثلثان من القيراط.
وأقامت السيدة سرية داود يوسف أمام محكمة قنا الابتدائية الدعوى رقم 60 سنة 1936 قالت فيها إنها وإن كانت من ضمن الموصى لهم في الوصيتين سالفتي الذكر إلا أن الوصيتين غير جائزتين قانوناً، لأن جميع الموصى لهم من الورثة فالوصية لا تجوز لهم إلا بإجازة باقي الورثة فضلاً عن أن أخاها بولس داود يوسف صدر له من المحكمة العليا الشرعية بتاريخ 11 من مارس سنة 1935 حكم قاض بإبطال الوصية بالنسبة إليه، وبناءً على ذلك يكون لها أن تطلب الحكم لها بنصيبها الشرعي في الميراث وقدره قيراطان وثلث قيراط من أربعة وعشرين قيراطاً مما خلف المورث.
وأقامت كذلك السيدة ستهم داود يوسف أمام محكمة قنا الابتدائية الدعوى رقم 61 سنة 1936 تطلب فيها نصيبها الشرعي في الميراث للأسباب ذاتها المشار إليها في الدعوى الثانية.
وبجلسة 20 من يناير سنة 1936 قررت المحكمة ضم الدعويين رقمي 60 و61 سنة 1936 كلي قنا للدعوى رقم 37 سنة 1934 كلي قنا. وفي 25 من مايو سنة 1937 قضت المحكمة أولاً: ببطلان الوصيتين المؤرختين 31 من مارس وأول يوليو سنة 1933 والمسجلتين في 3 من إبريل و5 من يوليو سنة 1933. ثانياً: بتثبيت ملكية بولس داود يوسف (المطعون ضده الأول) لنصيبه الشرعي وقدره أربعة قراريط وستة عشر سهماً من أصل أربعة وعشرين قيراطاً في الأطيان والعقارات والنقود والمنقولات والمواشي والآلات الزراعية والذممات التي للمورث المرحوم داود يوسف قبل الغير والمشار إليها في عريضة دعواها الافتتاحية. ثالثاً: بتثبيت ملكية سرية داود يوسف لنصيبها الشرعي وقدره قيراطان وثمانية أسهم من أربعة وعشرين قيراطاً في الأعيان والمنقولات والذممات السابق ذكرها. رابعاً: بتثبيت ملكية ستهم داود يوسف لنصيبها الشرعي وقدره قيراطان وثمانية أسهم من أربعة وعشرين قيراطاً فيما تقدم ذكره. خامساً: بكف منازعة وصي الخصومة (الطاعن) لكل من بولس داود يوسف وأختيه سرية وستهم داود يوسف كل في نصيبه المتقدم ذكره وبتسليم نصيب كل منهم إليه وإلزامه بصفته بمصاريف الدعاوى الثلاث وأتعاب المحاماة 250 قرشاً لبولس داود يوسف و500 قرش لكل من سرية وستهم داود يوسف ورفضت طلب النفاذ.
فاستأنف الطاعن هذا الحكم أمام محكمة استئناف أسيوط طالباً إلغاء الحكم المستأنف بكامل أجزائه بما في ذلك القرار الصادر في 25 من يونيه سنة 1934 ورفض دعوى المستأنف عليهم الثلاثة الأول (المطعون ضدهم الثلاثة الأول) مع إلزامهم بالمصاريف وأتعاب المحاماة عن الدرجتين ومع حفظ كافة الحقوق. وفي 15 من يونيو سنة 1940 قضت المحكمة بقبول الاستئناف شكلاً وبرفضه موضوعاً وبتأييد الحكم المستأنف وإلزام الطاعن بالمصاريف وبمبلغ عشرة جنيهات مقابل أتعاب المحاماة.
أعلن هذا الحكم إلى الطاعن في 3 من أغسطس سنة 1940 فقرر وكيله الطعن فيه بطريق النقض في أول سبتمبر سنة 1940 بتقرير أعلنه إلى المطعون ضدهم... إلخ... إلخ..
المحكمة
وحيث إن أوجه الطعن تتحصل فيما يأتي: -
الوجه الأول - قضى الحكم المطعون فيه باختصاص المحاكم الأهلية بالنظر في موضوع وصايا غير المسلمين وقصر اختصاص محاكمهم الدينية في حالة اتحاد ملة الخصوم على أهلية الموصي وصيغة الوصية، مع أن الوصية بكل ما يتعلق بها بما في ذلك موضوعها معتبرة في مصر من عهد الفتح الإسلامي إلى الآن من مسائل الأحوال الشخصية وداخلة في اختصاص المجلس الملي التابع له الموصي.
الوجه الثاني - أخطأ الحكم في تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية على وصايا المصريين غير المسلمين فحكم بأن الوصية لوارث لا تصح إلا إذا أجازها باقي الورثة، ولا تصح لأجنبي إلا إذا خرجت من ثلث التركة، وترتب على ذلك أن قضى بإبطال الوصيتين المتنازع عليهما وهما صادرتان من إنجيلي وطني لأولاده، وبذلك خالف الحكم القوانين المعمول بها والقاضية باختصاص المجلس الملي الإنجيلي بالنظر في وصايا الإنجيليين صحة وبطلاناً طبقاً لقانون أحوالهم الشخصية الذي يجيز الوصية لوارث بدون قيد ولا شرط.
الوجه الثالث - يقول الحكم الابتدائي - وقد أيده في ذلك الحكم المطعون فيه - إنه وإن كان القانون لم ينص في أحكامه العامة بالنسبة إلى الوصية على قاعدة عدم جواز الوصية لوارث إلا بعد إجازة باقي الورثة إلا أنه وضع أحكاماً تدل على احترامه لها واعتبارها حكماً واجب الاتباع، فوضع لأحكام تصرفات المريض مرض الموت المنصوص عليها في المادتين 254 و255 من القانون المدني الأهلي حكم الوصية السابق ذكره على اعتبار أن التصرفات الإنشائية المنجزة التي تصدر من المريض مرض الموت تعتبر من قبيل الوصية فتأخذ حكمها. وقد نحا الشارع هذا النحو أيضاً في الفقرة التي أضافها إلى المادة 55 من القانون المدني بالقانون رقم 79 الصادر في 10 من يونيو سنة 1933 للمحافظة على حقوق المشترين والدائنين المرتهنين حسني النية بسبب تجاوز النصاب الشرعي أو عدم إبقاء القدر المفروض شرعاً. ويقول الطاعن إن خطأ الحكم في هذا كله ظاهر، لأن الشارع إذا كان قد اتخذ بعض الأحكام المقررة في الشريعة الإسلامية في مسألة بيع المريض مرض الموت وأجراها على هذه المسألة بالذات وأدمجها في قانونه المدني فليس معنى ذلك أنه أراد تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على وصايا المسيحيين، بل إن الشارع أخذ من أحكام بيع المريض ما اعتبره من عيوب الرضا فنص عليه في الباب الخاص بالمتعاقدين لا في باب الوصية والمواريث، واقتبس ما جاء في الفقرة المضافة إلى المادة 55 من التشريع الفرنسي.
الوجه الرابع - قضت المحكمة الابتدائية بوقف الدعوى حتى يفصل في الدعوى الشرعية القائمة بين الخصوم في موضوع الوصيتين المتنازع عليهما فكان ذلك قضاء منها باختصاص جهات الأحوال الشخصية بالنظر في موضوع الوصايا صحة وبطلاناً، ولكنها تناقضت عندما قضت بعد ذلك باختصاصها وببطلان الوصيتين المذكورتين. ويقول الطاعن إنه تمسك بهذا التناقض أمام محكمة الاستئناف فجاء الحكم خلواً من الرد على هذا الدفاع.
الوجه الخامس - جاء الحكم المطعون فيه، إذ قضى ببطلان الوصيتين، مشوباً بالمخالفات الآتية: 1 - أن الوصية الثانية المؤرخة في 5 من يوليو سنة 1933 شملت 45 فداناً وكسر الفدان موصى بها للأعمال الخيرية، وهي صحيحة طبقاً للشريعة الإسلامية أو لقانون ملة الموصي إذ أنها لغير وارث وتخرج من ثلث التركة. 2 - يوجد بين الورثة من لم ينازع في الوصيتين وهما السيدة فائقة داود بنت الموصي والسيدة ستهم باخوم زوجته. وقد استأنف الوصي على الأولى الحكم الابتدائي القاضي بإبطال الوصيتين، ولما بلغت القاصر سن الرشد في أثناء نظر الاستئناف ومثلت فيه مستقلة لم تبد هي ولا السيدة ستهم باخوم أي مطعن على الوصيتين، فكان الواجب أن تبقيا نافذتين بالنسبة لهما. 3 - أبطل الحكم المطعون فيه الوصيتين إطلاقاً مع أن السيدتين ستهم وسرية بنتي الموصي أجازتا الوصيتين بعدم المنازعة فيهما إذ وضعتا اليد على القدر الموصى به لهما مفرزاً محدداً عقب وفاة الموصي.
الوجه السادس - أخطأ الحكم في تفسير القانونين رقمي 49 و91 لسنة 1937، ويقول الطاعن في ذلك إنه استند إلى هذين القانونين في تمسكه باختصاص المجالس الملية بنظر الوصايا والحكم فيها طبقاً لقوانينها لاتفاق نص المادة 28 من لائحة التنظيم القضائي للمحاكم المختلطة الصادرة في 24 من يوليو سنة 1937 مع المادة 2 من القانون رقم 9 لسنة 1937 المبين لاختصاص محاكم الأحوال الشخصية ومن بينها المنازعات والمسائل المتعلقة بالهبات والمواريث والوصايا. كما استند إلى أن المادة الثالثة من القانون رقم 91 لسنة 1937 التي اشتملت على نص المادة 29 من اللائحة المشار إليها نصت على الرجوع في أحكام الوصايا إلى قانون بلد الموصي وقالت في فقرتها الأخيرة "تشمل عبارة قانون البلد فيما يتعلق بتطبيق أحكام هذه المادة عدا ما تقدم كل قانون ديني تطبقه محكمة مصرية للأحوال الشخصية". ولكن المحكمة ردت على هذا بأن هذه النصوص خاصة بالأجانب أصحاب الامتيازات مع أنها في الواقع عامة تشمل أيضاً الأجانب غير الممتازين والمصريين جميعاً.
تلك هي أوجه الطعن:
وحيث إن أهم ما يدور حوله البحث فيما اشتمل عليه الطعن وأثاره الطرفان من المسائل القانونية هو معرفة ما إذا كان للمجالس الملية في مصر اختصاص في مسائل الوصية ومدى هذا الاختصاص.
وحيث إن ما يستخلص من كتب فقهاء الحنفية، وهم الذين عرضوا أكثر من سواهم لهذا الموضوع، هو أن ولاية المسلمين في دار الإسلام عامة تشمل الذميين كما تشمل المسلمين على السواء، وأن أهل الذمة خاضعون لأحكام الإسلام إلا فيما يقرون عليه من الأمور الخاصة بمعتقداتهم، وذلك يستتبع بطبيعة الحال أن يكون القاضي الشرعي قاضياً لجميع الأهلين، لا فرق في ذلك بين مسلم وذمي، إلا إذا تراضى المتخاصمون واتخذوا من رجال دينهم محكمين للفصل فيما يقوم بينهم من نزاع.
وحيث إن الفقهاء عدوا الوصية من المعاملات وجعلوا أحكام الإسلام الخاصة بها نافذة في أهل الذمة، على أساس أن الذمي بعقد الذمة ساوى المسلم في المعاملات والتبرعات، فكما أن الوصية فيما زاد على الثلث والوصية لبعض الورثة لا تجوز من المسلم مراعاة لحق ورثته، فكذلك لا تجوز من الذمي. ولم يكن ثمة خلاف بين الفقهاء على الإطلاق إلا فيما يتفرع عن تلك القاعدة الأساسية مما يتعلق بأغراض الوصية وأشخاص الموصى لهم، وهو ما لا محل للخوض فيه في هذه الدعوى.
وحيث إن الأحكام السابقة كانت على ممر العصور الإسلامية مطبقة باطراد حتى إن الذميين كانوا - على أساس التسليم بها والخضوع لها - يلجأون إلى مفتي الإسلام لاستفتائهم في تقسيم الميراث بينهم وفي صحة الوصايا الصادرة من المتوفين منهم فكانوا يفتونهم بمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية. وقد ظل الحال كذلك في مصر حتى أصبحت ولاية تابعة للدولة العثمانية فتأثرت بما يجرى فيها من تشريع عام.
وحيث إن الدولة العثمانية حينما استولت على القسطنطينية رأت لاعتبارات سياسية محضة أن تسلك مع الروم الأرثوذكس مسلكاً مغايراً للسياسة الإسلامية العامة، فتركت لبطريكهم ما كان له من سلطة قضائية عليهم، وظل الحال كذلك عهداً طويلاً حتى إذا ما استبانت الدولة سوء تأثير هذه السياسة في سلطانها على رعاياها أعلنت في 3 من نوفمبر سنة 1839 خط جلخانة واستهلته بالتنديد بمنهجها السابق، وهو عدم انقيادها إلى الأحكام الشرعية، ونوهت باعتزامها على اتباع تلك الأحكام في جميع الدعاوى ووضع التنظيمات الكفيلة بذلك، ثم أصدرت في 18 من فبراير سنة 1856 الخط الهمايوني وهو الذي يعد بحق دستور الحكم والنظام الإداري والقضائي في الدولة العثمانية. وقد تحدث هذا الخط عن مركز غير المسلمين فأبقى لهم في المادة الثانية امتيازاتهم الروحية (Les immunités et privilégiés spirituels) وعرض للدعاوى في المواد 16 و17 و18 وخصص المادتين الأوليين منها للدعاوى الجنائية والتجارية والمدنية المحضة وجعلها من اختصاص محاكم الدولة. أما باقي الدعاوى فقال بشأنها في المادة 18 "وأما الدعاوى الخاصة (Les procès spéciaux) مثل الحقوق الإرثية فيما بين شخصين من المسيحيين وباقي التبعة الغير المسلمة فتحال على أن ترى - إذا أراد أصحاب الدعوى - بمعرفة البطريك أو الرؤساء أو المجالس".
وحيث إنه يستفاد مما تقدم أن الخط الهمايوني أعاد الأمور إلى نصابها تجرى على حسب أحكام الشريعة الإسلامية، وأصبح التجاء أهل الذمة إلى رؤسائهم الدينيين من قبيل التحكيم ليس إلا.
وحيث إنه في 14 من أغسطس سنة 1861 صدرت لائحة تركات العيسويين وفيها نص صراحة على أن تركة المسيحي تقسم عند الخلاف بين الورثة أو وجود عديمي أهلية بينهم طبقاً لأحكام الشرع الإسلامي، كما احتوت على نص صريح "بأن الوصية بثلث المال لبعض الوجوه الخيرية تكون معتبرة لدى قضاة المحاكم الشرعية". ثم صدر في 3 من فبراير سنة 1891 منشور وزاري خاص بطائفة الروم الأرثوذكس بناءً على شكوى تقدمت من البطريكخانة ورد فيه أن الوصايا متى كان مصدقاً عليها من البطريك أو المتروبوليت أو البسقيوس تكون معتبرة بالمحكمة (والمقصود المحكمة الشرعية). وصدر في أوائل إبريل سنة 1891 منشور ثان خاص بالأرمن وقد ودر فيه أمر باتباع ما هو مرعى من الاستعلام من البطريكخانة عن أرباب المواريث في دعاواهم التي تنظر لدى المحاكم الشرعية. وصدر بعد هذين المنشورين منشور ثالث نص على تطبيق أحكامها المتعلقة باستدعاء رجال الدين لدى محاكم الدولة أو بدعاوى النفقات المتولدة عن الزواج على سائر الملل غير المسلمة.
وحيث إنه لا يمكن أن يستفاد من تطور هذا التشريع العثماني الدائر إلا أن طائفة الروم الأرثوذكس هي التي تقرر لها وحدها بمقتضى المنشور الأول عدم المساس بالوصية التي توجد بتركة من يتوفون من أتباعها متى توافرت فيها شروط معينة، أما بالنسبة إلى غير هذه الطائفة فليس في المنشورين التاليين ما يفيد معاملته على هذا النحو، إذ كل ما ورد فيهما جاء مقصوراً على أمور أخرى معينة، وفي هذا الدليل القاطع على بقاء الاختصاص في مسائل المواريث والوصية للقضاء الشرعي.
وحيث إن النظم الخاصة بالطوائف غير الإسلامية كانت متبعة في مصر باعتبارها ولاية عثمانية، ثم اكتسبت مصر تدريجياً في غضون تلك التبعية حق التشريع بمقتضى الفرمانات السلطانية المتوالية، فقد جاء الفرمان الصادر لإسماعيل باشا في 28 من يونيو سنة 1867 بمنحه لقب الخديوية والفرمانات التالية له مخولة مصر حق التشريع الداخلي في أوسع مدى، وكان من نتيجة ذلك أن أصدرت مصر ثلاثة تشريعات منظمة لثلاثة مجالس ملية وهي: أولاً: المجلس الملي لطائفة الأقباط الأرثوذكس في 14 من مايو سنة 1883 (وهو الذي عدل فيما بعد بالقانون رقم 3 لسنة 1912 وبالقانون رقم 19 لسنة 1927) ثانياً: المجلس الملي للإنجيليين الوطنيين في أول مارس سنة 1902. ثالثاً: المجلس الملي للأرمن الكاثوليك في 18 من نوفمبر سنة 1905. وعلى إثر زوال السيادة العثمانية عن مصر صدر القانون رقم 18 لسنة 1915، وقد جاء فيه "أن السلطات القضائية الاستثنائية المعترف بها حتى الآن في الديار المصرية تستمر إلى حين الإقرار على أمر آخر على التمتع بما كان لها من الحقوق عند زوال السيادة العثمانية... وعلى ذلك فإن السلطات القضائية المذكورة هي والهيئات التي بواسطتها تمارس تلك السلطات أعمالها يكون مخولاً لها بصفة مؤقتة جميع الاختصاصات والحقوق التي كانت تستمدها لغاية الآن من المعاهدات والفرمانات والبراءات العثمانية".
وحيث إنه يتضح مما ذكر أن الأمور في مصر كانت ولا تزال جارية على منوالين: أحدهما مساير لما كان عليه الحال في الدولة العثمانية بالنسبة إلى الطوائف العثمانية غير المسلمة، والثاني خاص بالطوائف المصرية التي صدرت بشأنها قوانين من الحكومة المصرية بما لها من حق التشريع.
وحيث إن الخصوم في هذه الدعوى مصريون أصلاً، وقد صدر بشأن الطائفتين اللتين ينتمون إليهما أو تنازعوا على الانتماء إليهما تشريع خاص، فليس الطاعن، والحال هذه، أن يرجع إلى التشريع العثماني. على أن هذا التشريع في حد ذاته خال من أي نص يخول المجالس الملية حق النظر في الوصايا، بل إن ما اشتمل عليه يؤيد اختصاص القضاء الشرعي في مسائل المواريث والوصايا وتطبيق الأحكام الشرعية فيها.
وحيث إنه مما يؤيد ذلك، فوق ما سبق ذكره عن التشريع العثماني، البراءات الصادرة من الدولة العثمانية بتعيين بطاركة لبعض الطوائف العثمانية في مصر مع تحديد مهامهم وحقوقهم وما لهم من اختصاص، وقد نشرت في سنة 1925 مع تقرير للمرحوم عبد الخالق ثروت باشا عن الطوائف المسيحية العثمانية في مصر وهي: أولاً: براءة تعيين بطريك طائفة السريان في 5 من جمادى الأولى سنة 1292. ثانياً: براءة تعيين بطريك الروم الأرثوذكس في 28 من رمضان سنة 1317. ثالثاً: براءة تعيين بطريك الأرمن الكاثوليك في أول رجب سنة 1319. رابعاً: براءة تعيين بطريك الروم الكاثوليك في 5 من جمادى الأولى سنة 1320 ويؤخذ من نصوص هذه البراءات جميعها أن اختصاص مجالس تلك الطوائف لا يخرج عن الأمور المذهبية أو الروحية ومسائل الزواج والطلاق والمسائل الكنسية. أما الوصايا فقد ورد ذكرها في هذه البراءات مقصوراً على ما كان منها صادراً لأغراض دينية أو خيرية. ومع ذلك فقد جعل النظر في كل نزاع حاصل بشأنها من اختصاص المحاكم الشرعية. وقد أشير بنوع خاص في براءة تعيين بطريك الروم الأرثوذكس إلى الوصية بالثلث إلى جهات دينية معينة، كما أشير في البراءات كلها إلى جواز سماع شهود مسيحيين لإثباتها لدى المحاكم الشرعية. ومن كل هذا يبين أن ما أرادت البراءات استظهاره في شأن الوصايا هو إجازة ما يكون منها قربة لدى المسيحيين رفعاً لكل لبس في هذا الصدد عند التقاضي، أما غيرها من الوصايا العادية فيبقى بطبيعة الحال خاضعاً للقواعد العامة النافذة في حق الأهلين جميعاً، يستوي في ذلك المسلمون وغير المسلمين.
وحيث إنه فضلاً عن ذلك فإن القول بتعميم تطبيق المنشورات الثلاثة الصادرة من الدولة العثمانية في سنة 1891 على المجالس الملية في مصر لا محل له ولا سبيل إليه، لأنها صدرت وقت أن كانت مصر صاحبة السلطان التام في تشريعها الداخلي، ولم يكن تبليغها إلى مصر على أساس أنها تابعة في هذه الناحية من التشريع للدولة العثمانية، بل لأن مصر ذاتها رأت، بمناسبة قضية خاصة بطائفة عثمانية لم يكن قد صدر بشأنها تشريع خاص في مصر، أن تستهدي بما هو جار العمل به في الدولة العثمانية في شأن أبناء هذه الطائفة، فبعث الباب العالي بالمنشورات الثلاثة مع إفادة إلى المعية السنية التي أبلغتها إلى نظارة الداخلية. ولا شك في أن عدم تبليغ هذه المنشورات من الدولة العثمانية من تلقاء نفسها وقت صدورها، كما كانت تبلغ الفرمانات، لذو مغزى يدل على أنها لا تمتد إلى مصر في مفعولها. هذا بصرف النظر عن قوتها من الناحية التشريعية وعن مدى ما جاء بأحدها دون الآخرين خاصاً بالوصايا.
وحيث إنه عن التعميم في حد ذاته فإن القول به كان نتيجة خطأ في ترجمة المنشور الثالث إلى اللغة الفرنسية. ذلك لأن ما ورد بهذا المنشور المقول بأنه جاء معمماً كل ما ورد في المنشورين السابقين بما في ذلك مسائل الوصية على سائر الطوائف غير الإسلامية ترجم على اعتبار أن ما ورد بالمنشورين السابقين خاصاً باستدعاء واستنطاق وتوقيف الرهبان وبدعاوى النفقات المتولدة عن عقد وفسخ الأنكحة قد ذكر بالمنشور الثالث على سبيل المثال بدليل استعمال لفظتي"Telles que" في الترجمة مع أن كتاب التبليغ الوارد إلى المعية السنية ينبئ قطعاً بأن ذكر هذه المواد إنما كان على سبيل الحصر لا التمثيل إذ جاء فيه أن ما عمم هو ما كان متعلقاً "relativement a" بالمسائل المذكورة. على أن النيابة العمومية فوق ذلك قدمت الصور الشمسية لأصول هذه المنشورات مع ترجمة المنشور الثالث وفيها القول الفصل بأن ما جاء به كان على سبيل الحصر، وأن ما ورد بالمنشور الأول خاصاً بالوصايا لم يكن من بين المسائل التي تناولها التعميم في المنشور الثالث.
وحيث إنه فضلاً عن كل ما ذكر فإن محكمة النقض السورية، وهي في بلد كان لعهد قريب جزءاً من الدولة العثمانية ذاتها تجري عليه نظمها وتشريعها بلا فارق أو تمييز، قد أخذت بهذا النظر ورأت أن مسائل الوصايا الواردة بالمنشور الأول مقصور أمرها على طائفة الروم الأرثوذكس بالشروط الواردة بالمنشور ذاته (حكم الدوائر المجتمعة في 27 من يناير سنة 1930 المنشور في غازيتة المحاكم المختلطة المصرية المجلد 21 ص 142 - 146).
وحيث إنه لا حاجة إلى البحث فيما إذا كان المنشور الأول قد اشتمل حقاً تخويل المجلس الملي لطائفة الروم الأرثوذكس حق النظر في الوصايا إطلاقاً - أي شكلاً وموضوعاً - دون تقيد بأحكام الشريعة الإسلامية، أم أن هذا الاختصاص مقصور على شكل الوصية أو النظر في صحتها فيما هو داخل في النصاب الجائز الإيصاء به بحسب الشريعة الإسلامية، كما يفهم ذلك من الإشارة في المنشور إلى تصديق رجال الدين على الوصية لإمكان اعتبارها بالمحكمة الشرعية. ذلك لأن هذا البحث غير مجد في هذه الدعوى بعد أن تبين مما سلف أن مفعول المنشور مقصور على طائفة الروم الأرثوذكس في الدولة العثمانية، وأنه لم يعمم على سواها من سائر الطوائف، وأن مصر فوق ذلك غير مقيدة به إطلاقاً. على أن ما ترى المحكمة لفت النظر إليه هنا أن لبراءة تعيين بطريك الروم الأرثوذكس في مصر من قبل الدولة العثمانية السابقة الإشارة إليها دلالتها الخاصة ومغزاها، لا في صدد ما قيل عن تعميم المنشور الأول فحسب بل وفيما يمكن أن يكون قد اشتمل عليه هذا المنشور من بيان لحقوق الطائفة ذاتها في الدولة العثمانية في مسائل الوصايا.
وحيث إنه بعد أن تمكنت مصر من الاتفاق مع الدول الأجنبية على إنشاء المحاكم المختلطة ظهرت لأول مرة القوانين المصرية في أسلوبها الحديث وصيغتها العامة، وقد اشتملت على نصوص خاصة بمسائل الأحوال الشخصية وبالمواريث والوصية وردت في لائحة ترتيب المحاكم المختلطة وقانونيها المدني والتجاري. وتنقسم هذه النصوص في مجموعها إلى ثلاثة أقسام: أولها خاص بالمواد الخارجة عن وظيفة القضاء المختلط، وقد وردت أحكامه في المادة 9 من لائحة الترتيب وكذا في المادة 4 من القانون المدني التي أتت ببيان عن المسائل التي يختص بها قاضي الأحوال الشخصية. وقد ألغيت هاتان المادتان فيما بعد بمناسبة اتفاقية مونترو بمقتضى القانون رقم 49 الصادر في 24 من يوليو سنة 1937 والمرسوم بقانون رقم 89 الصادر في 11 من أكتوبر سنة 1937 وحلت محلهما فيما يتعلق بمسائل الأحوال الشخصية المادة 39 من لائحة التنظيم القضائي الجديدة. وليس في النصوص آنفة الذكر ما يصح الاستناد إليه في صدد اختصاص المجالس الملية بالوصايا، إذ كلها جاء لغرض واحد: هو تعيين مواد الأحوال الشخصية الخارجة عن وظيفة القضاء المختلط. والقسم الثاني خاص بالتنازع الدولي في تطبيق القوانين، وقد ورد في المواد 77 و78 و190 من القانون المدني و10 و11 من القانون التجاري.
فالمادة 77 نصت على طريقة التوريث إطلاقاً أي بلا تفريق بين الإرث الطبيعي والإرث الإيصائي، وجعلتها خاضعة لقانون جنسية المتوفى، ثم استثنت منه حق الإرث في منفعة الأموال الموقوفة فأخضعته لأحكام التشريع المحلي. والمقصود بذلك حق المنفعة في الوقف الآيل بالعقد المسمى بالإجارتين الوارد ذكره في المادة 37 من القانون المدني المختلط، لأن انتفاع المستحق بالغلة ليس من الحقوق التي تورث عن الواقف بل طبقاً للائحة المؤرخة 7 من صفر سنة 1284 هجرية المشار إليها في المادة 37 المتقدم ذكرها المقابلة للمادة 18 من القانون المدني الأهلي التي جاءت بقواعد خاصة في توريث المنفعة ومنها المساواة التامة في ذلك بين الذكر والأنثى. أما المادة 78 فقد تحدثت عن أهلية الموصي لعمل الوصية وطريقة عملها وانعقادها، وأحالت في ذلك إلى قانون جنسية الموصي، وأتت في فقرتها الثانية بحكم يصون حقوق الدائنين والمشترين حسني النية حتى لا يضاروا بما قد يكون من تجاوز لما يريد قانون الجنسية بقاءه للورثة. وأحالت المادة 190 الخاصة بالأهلية كذلك إلى قانون الجنسية.
ونصت المادة 10 من القانون التجاري على شروط الأهلية لممارسة التجارة وقيدت ذلك في حدود معينة بقانون الأحوال الشخصية للتاجر، كما نصت المادة 11 بوجه خاص على أهلية النساء للتجارة وأرجعت الأمر في ذلك إطلاقاً إلى قانون الأحوال الشخصية أو بالأحرى قانون الجنسية.
وهذه المواد جميعها لم يعرض لها القانونان المدني والتجاري إلا من الناحية الدولية، وذلك بقصد معاملة الأجانب بقوانينهم الشخصية، أي بقوانين بلادهم، بدلاً من القانون الإقليمي. إذ ليس من شأن التشريع المختلط وقد وضع لمحاكم مصرية أن يعرض لأحكام قوانين مصرية أخرى مطلوب منه بحكم وظيفته احترامها والعمل على مقتضاها.
أما القسم الثالث فقد جاء بنصوص مؤسسة على الأحكام الشرعية، وهذه النصوص واردة في المواد 320 و321 و322 وهي خاصة ببيع المريض مرض الموت، وقد جعله القانون في منزلة الوصية، عملاً بالأحكام الشرعية، بحيث لا ينعقد صحيحاً إذا كان لوارث، ولا بأكثر من الثلث إذا كان لغير وارث، إلا بإجازة الورثة. وجاءت المادة 323 بنص يقصر حكم هذه المواد على البائع الخاضع في أهليته إلى القانون المحلي La loi locale أي الشريعة العامة على أن لا يضر ذلك بحقوق الغير حسني النية. وظاهر من هذه النصوص أنها وضعت على أساس أن المصريين عموماً من أي دين كانوا خاضعون في مسائل المواريث والوصية لأحكام الشريعة الإسلامية.
وحيث إن القانون الأهلي قد جاء على نمط القانون المختلط حاذياً حذوه مقتفياً أثره، فجاء بالمادة 16 من لائحة الترتيب الأهلية على نمط المادتين 9 من لائحة الترتيب المختلط و4 من القانون المدني الملغاتين وبالمواد 54 و55 و130 المقابلة للمواد 77 و78 و190 وبالمواد 254 وما بعدها المقابلة للمواد 320 وما بعدها من القانون المدني المختلط، وأتى في القانون التجاري بالمادتين 4 و5 المقابلتين للمادتين 10 و11 من القانون التجاري المختلط.
وحيث إن ما يجب تقريره أولاً تلك الحقيقة التاريخية التي لا شك فيها وهي أن القوانين الأهلية في عهد إنشاء المحاكم الأهلية وضعت أولاً باللغة الفرنسية ثم ترجمت إلى لغة البلاد، وقد كان لتطور الحوادث في مصر وإنشاء المحاكم الأهلية على نمط المحاكم المختلطة الأثر الفعال في ذلك، وإذن فلا مناص من الرجوع إلى النص الفرنسي كلما أشكل النص العربي للقانون.
وحيث إن ما جاء في المادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية هو تعيين المواد الخارجة عن اختصاص المحاكم الأهلية ومنها مسائل الأحوال الشخصية بصرف النظر عن الهيئات الأخرى المختصة بالفصل فيها، شأن المادة 4 الملغاة من القانون المدني المختلط. أما المواد 54 و55 و130 فقد أشارت إلى قانون الأحوال الشخصية بدلاً من قانون الجنسية في المواد المقابلة لها من القانون المختلط وجاءت الترجمة العربية لعبارة "d'après le statut personnel du défunt" الواردة في النص الفرنسي الأهلي كما يأتي: "على حسب المقرر في الأحوال الشخصية المختصة بالملة التابع لها المتوفى". أما باقي المواد فقد جاءت فيها ترجمة كلمتي Statut personnel سليمة لا شائبة فيها.
وحيث إن المقصود من هذه المواد جميعاً، ما ورد منها في القانون المدني وما ورد في القانون التجاري، هو تعيين القانون الواجب تطبيقه بالنسبة إلى الأجانب في مسائل معينة إذا ما اقتضى الأمر الرجوع إليها في نزاع مطروح أمام القضاء الأهلي، ولا شأن لهذه النصوص إطلاقاً بالتنازع الداخلي بين القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية، لأن الشارع هنا - كما هي الحال في القانون المختلط بل ومن باب أولى - لم يكن قط بحاجة إلى أن يعرض لنظم أو أحكام مصرية لا محيص لهيئة قضائية مصرية أخرى من اتباعها والعمل على مقتضاها دون حاجة لنص خاص في أي تشريع مصري آخر.
وحيث إنه متى كان الأمر كذلك فإنه لا سبيل لفهم مدلول الترجمة العربية إلا بالرجوع إلى النص الفرنسي الذي وضع به القانون ثم نقل منه إلى اللغة العربية. والنص المذكور كما سبق البيان يؤيد هذا النظر، ويدل على أن المقصود بما جاء في المواد 54 و55 و130 هو قانون الأحوال الشخصية للمتوفى، ولا دخل في ذلك للدين أو المذهب أو التنازع الداخلي بين أهل الأديان المختلفة في هذا الصدد. وكل ما يمكن أن يقال إن الشارع المختلط عبر في المادتين 77 و78 عن الأحوال الشخصية بقانون الجنسية مخالفاً في ذلك ما كان منه في النصوص الأخرى التي عرضت لقانون الأحوال الشخصية. وليس من فارق بين التعبيرين لأن المؤدى واحد والغرض منهما واحد، ولا فرق كذلك فيما كان من الشارع الأهلي من استعمال تعبيرين مختلفين المقصود منهما واحد وإن كان أحدهما قد جاء بتعريب غير موفق لكلمات "d'apres le statut personnel".
وحيث إن القول بأن المقصود مما جاء في النص العربي لتلك المواد هو المذهب أو الدين يتعارض كل التعارض مع التشريع السابق الصادر من مصر ذاتها قبل صدور القوانين الأهلية والعمل بها، فإن الأمر العالي الصادر في 24 من مايو سنة 1883 بإنشاء المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس راعى كل المراعاة تلك التقاليد المتبعة مع غير المسلمين من حيث قصر اختصاص رجال الدين على المسائل المذهبية وجعل اختصاصهم في مسائل المواريث إطلاقاً (أي طبيعية كانت أم إيصائية) مقيداً باتفاق الورثة واتحادهم مذهباً بصرف النظر عما إذا كان التقسيم يقع وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية أو غيرها إذ لا حاجة للبحث في ذلك. ولا سبيل للقول بأن الشارع المصري أراد في قانونه الأهلي أن يتنكب طريقة التشريع السابق، لأن القانون المدني، من جهةٍ، لم يكن موطناً لوضع قواعد للتنازع الداخلي في مسائل الميراث والوصية حتى يمكن أن يقال إنه أتى ناسخاً لتشريع صادر قبله، ولأن التشريع الصادر للأقباط الأرثوذكس أنفسهم بعد ذلك في سنتي 1912 و1927 قد جاء على نمط التشريع السابق ولم يحد عنه قيد أنملة في هذا الصدد.
وحيث إن القواعد المتعلقة بالأهلية تطبق على جميع المصريين من أي دين كانوا ولم تجئ أحكام قانون المجالس الحسبية الصادر في 23 من أكتوبر سنة 1925 إلى مقررة للأمر الواقع. وفي هذا ما يدل على أن المرجع في ذلك هو التشريع المصري الخاص بالأحوال الشخصية لا القانون المدني، كما يدل دلالة قاطعة على أن المادة 130 كالمادتين 54 و55 موضوعة للرجوع إليها في حالة التنازع بين القوانين من الناحية الدولية لا الداخلية.
وحيث إن الاعتراض بما ورد بقانوني المجلس الملي للإنجيليين الوطنيين الصادر في أول مارس سنة 1902 والأرمن الكاثوليك الصادر في 18 من نوفمبر سنة 1905 للقول بأن القانون الكنائسي هو الذي يجب تطبيقه في مسائل الوصايا إطلاقاً - هذا الاعتراض مردود. وذلك لأن المادة 21 من قانون المجلس الملي للإنجيليين الوطنيين - وهي التي جاءت المادة 16 من قانون المجلس الملي للأرمن الكاثوليك في الجوهر مماثلة لها - تنص على ما يأتي: "يختص المجلس العمومي بسماع وفصل جميع المسائل المتعلقة بإدارة الأوقاف الخيرية أو بالأحوال الشخصية التي تقع بين كنائس إنجيلية أو بين إنجيليين وطنيين، وكذلك المسائل المتعلقة بهم فيما يتعلق بهذه المواد. على أن هذا الاختصاص لا يتناول أية مادة من المواد التي لا يمكن الفصل فيها إلا بإحضار أشخاص غير إنجيليين وطنيين أمام المجلس بصفة خصوم في الدعوى ولا مسائل المواريث الخالية عن الوصية، (Succession ab intestat) إلا في حالة ما إذا قبل الخصوم التقاضي أمام المجلس المذكور". ومؤدى ذلك أن الاحتكام إلى المجلس الملي في مسائل المواريث لا يكون إلا استثناءاً في حالة الميراث الطبيعي. فإذا لم يتفق ذوو الشأن، وهم الورثة على حسب الشريعة الإسلامية باعتبارها مصدر الأحكام العامة في ذلك، على الاحتكام إلى هذا المجلس كان لا مناص من التقاضي أمام جهة الأحوال الشخصية ذات الولاية العامة وهي المحكمة الشرعية. يستوي في ذلك الميراث الطبيعي والإيصائي إذ هما مرتبطان كل الارتباط أحدهما بالآخر، ولا يمكن أن يتناول اختصاص المجلس الملي مسائل الوصايا إطلاقاً بحيث يكون الشخص الواحد في مسائل المواريث تابعاً لتشريعين مختلفين فيوصي وفقاً لأحكام أحدهما إذا ما أراد ذلك لأي غرض من الأغراض ثم يرثه ورثته طبقاً للتشريع الآخر وقد لا يجدون تركة يرثونها، وبهذا يكون في وسعه العبث في حال حياته بما أرادت شريعة التوريث العامة حفظه للورثة فتصبح حقوقهم مهما اختلفوا على الميراث مهدرة وكأنها لا وجود لها، مع أن القاعدة الأساسية العامة وفقاً للأحكام الشرعية التي لم يرد في القانون الوضعي ما يخالفها تقضي باحترام هذه الحقوق احتراماً تاماً لا سبيل لتحققه إلا إذا استطاع من تعنيهم تلك الأحكام من أصحاب الشأن الحيلولة دون المساس بها. ولا يمكن أن يفسر قصر اختصاص المجلس على الميراث الطبيعي عند الاتفاق واتحاد الملة بأن المجلس مختص بالوصايا إطلاقاً لمجرد اعتبارها من مواد الأحوال الشخصية، لأن ارتباطها بالميراث ارتباطاً وثيقاً يجعل أمر النظر في التركة راجعاً إلى تقديرهما معاً لا إلى الفصل بينهما والوصول بذلك إلى نتائج غير مقبولة أصلاً كما تقدم. على أن المقصود بالأحوال الشخصية التي من اختصاص المجلس لا يمكن أن يكون إلا المواد المذهبية أو الروحية التي لا تتصادم مع القواعد الأساسية العامة في التشريع والتقاليد المتبعة في ذلك إزاء الطوائف الملية جميعاً والتي لم يرد الشارع الخروج عنها بأي حال.
وحيث إنه لا محل للرجوع إلى الأحكام الواردة في المادتين 28 و29 من لائحة التنظيم القضائي المختلط الصادر بها القانون رقم 49 لسنة 1937 ولا إلى ما ورد بالقانون رقم 91 لسنة 1937 فإن ما ورد بهما خاص بالأجانب، والغرض منه وضع قواعد للتنازع الدولي ولا شأن له بالتنازع الداخلي بين جهات الأحوال الشخصية المصرية، والأحكام الواردة فيهما وإن كانت قد اشتملت على كثير من البيان والتفصيل فإنها - كالأحكام الواردة في المادتين 77 و78 من القانون المدني المختلط (54 و55 أهلي) - خاصة بالتشريع الذي يعامل الأجانب بموجبه، ولم يكن مقصوداً منها تنظيم حالة المصريين فيما بينهم إذ هذا مما يملكه المشرع المصري وما كانت مصر في حاجة إلى الاتفاق مع الدول بشأنه.
وحيث إنه يخلص مما تقدم:
أولاً - أن ما جاء بالمواد 54 و55 و130 من القانون المدني الأهلي لم يكن لوضع قواعد للتنازع الداخلي بل للتنازع الدولي، أي فيما يتعلق بالقانون الواجب تطبيقه بالنسبة إلى الأجانب في المسائل التي نصت عليها في هذه المواد.
ثانياً - أن المواريث عموماً، طبيعية كانت أم إيصائية، تكون وحدة غير قابلة للتجزئة وتسري الأحكام المتعلقة بها على جميع المصريين، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، وفق القواعد الشرعية الإسلامية باعتبارها الشريعة العامة.
ثالثاً - أن منشأ اختلاف وجهات النظر هو الخطأ في ترجمة المواد 54 و55 و130 من القانون المدني والمنشور الثالث الصادر من الدولة العثمانية في سنة 1891 فقد أدى الخطأ في ترجمة المواد المذكورة إلى خطأ آخر هو حسبان هذه المواد مرتبة لقواعد خاصة بالتنازع الداخلي في تطبيق القوانين في حين أنها كزميلاتها في القانون المختلط خاصة بالتنازع الدولي أي بغير المصريين جنسية، كما أدى خطأ الترجمة إلى الفرنسية في المنشور آنف الذكر إلى القول بتعميم أحكام هذا المنشور والمنشورين اللذين سبقاه على جميع المجالس الطائفية.
وحيث إنه لما تقدم تكون أوجه الطعن الأول والثاني والثالث والسادس في غير محلها.
وحيث إنه عن الوجه الرابع فإن الحكم ابتدائياً في الدعوى لبعض المطعون ضدهم بأنصبتهم الشرعية في التركة صدر في 25 من مايو سنة 1937 أي بعد أن قضت المحكمة الشرعية العليا بإبطال الوصيتين في 11 من مارس سنة 1935 وبهذا أصبح الكلام في الاختصاص والبحث فيه لدى القضاء الأهلي عديم الجدوى. على أن الحكم في الدعاوى التي رفعها لفيف من الورثة والتي صدر فيها الحكم المطعون فيه ما كان يقتضي الفصل فيها سوى تطبيق القاعدة القانونية الأساسية المعروفة وهي عدم صحة الوصية لوارث إلا بإجازة باقي الورثة أياً كانت جهة القضاء التي يثار النزاع أمامها بشأن الوصيتين. فإذا كان القضاء الأهلي أوقف الفصل في الدعوى حتى يفصل في الوصيتين من جهة القضاء الشرعي بعد أن أقيمت دعوى المطالبة ببطلانهما أمامه فليس في ذلك ما يفيد الحكم بعدم الاختصاص، بل كل ما في الأمر أن وقف الدعوى كان احتياطاً تفادياً من تضارب وجهات النظر.
وحيث إنه عن الوجه الخامس فإن ما ورد به خاصاً بإبطال الوصيتين إطلاقاً مع أن إحداهما مشتملة على قدر موصى به للأعمال الخيرية دفاع موضوعي لم يثره الطاعن أمام محكمة الموضوع حتى تنظر فيه. على أنه قد يكون المانع من إثارته لديها أن هذه المسألة فصلت فيها المحكمة الشرعية العليا في 11 من مارس سنة 1935 بإبطال الوصيتين إجمالاً فلما رفع الطاعن عنه التماساً للنظر في أمر الوصية للأعمال الخيرية قضت المحكمة ذاتها برفضه بتاريخ 13 من مايو سنة 1935. وكذلك عن الشطر الخاص بعدم منازعة السيدتين فائقة داود وستهم باخوم - وهما من الورثة - في الوصية، فإن الطاعن لم يثره أيضاً لدى محكمة الاستئناف. ولذا فلا سبيل للبحث في هذا الدفاع الموضوعي لأول مرة أمام محكمة النقض. وأما عن الشطر الخاص بالرضاء الضمني بالوصيتين المسند إلى السيدتين ستهم داود وسرية داود فإن الحكم المطعون فيه قد عرض لهذا الدفاع وفنده بناءً على ما أورده من أدلة ثم خلص إلى أن هاتين السيدتين كانتا تنازعان في الوصيتين. وإذ كان هذا التقدير موضوعياً فلا معقب على ما كان من محكمة الموضوع في شأنه.
(1) سبق لمحكمة النقض أن أصدرت حكماً في 21 يونيه سنة 1934 نشر بالجزء الأول من هذه المجموعة رقم 200 ص 454 وما بعدها قرر أن قانون الملة بالنسبة إلى المصريين غالباً ما يكون هو نفس الشريعة المحلية أي الشريعة الإسلامية، كما قرر أن وصية غير المسلم هي كوصية المسلم خاضعة لحكم الشريعة الإسلامية. وقد تدخل الشارع في الأمر بعد صدور الحكم الجديد فأصدر في سنة 1944 القانون رقم 25 سنة 1944 الذي نص فيه على أن قانون البلد بالنسبة إلى المواريث والوصايا هو الشريعة الإسلامية، كما عدل بالقانون رقم 26 سنة 1944 المادتين 54 و55 مدني فاستبدل بعبارة (الأحوال الشخصية المختصة بالملة) عبارة (قانون البلد).
(2) سبق لمحكمة النقض في حكم 21 يونيه سنة 1934 المتقدمة الإشارة إليه أن قالت: - إن التعبير "بالمواريث الخالية عن الوصية" هو خطأ شائع في ترجمة Successions ab intestat وترجمتها الصحيحة هي "المواريث الغير الآتية من طريق الوصية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق