الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 أبريل 2023

الطعن 53 لسنة 8 ق جلسة 28 / 3 / 1940 مج عمر المدنية ج 3 ق 47 ص 141

جلسة 28 مارس سنة 1940

برياسة سعادة محمد لبيب عطية باشا وكيل المحكمة وبحضور حضرات: محمد فهمي حسين بك وعبد الفتاح السيد بك ومحمد كامل الرشيدي بك ومحمد زكي علي بك المستشارين.

----------------

(47)
القضية رقم 53 سنة 8 القضائية

محكمة الموضوع. 

سلطتها في تحرّي نية العاقدين. العرف. متى يرجع إليه في تفسير العقود؟

-----------------
لقاضي الموضوع أن يتحرّى نية العاقدين من أي طريق يراه وليس عليه أن يرجع في ذلك إلى العرف إلا إذا كان القانون لا يوجد فيه نص يحكم العقد أو كان العقد ليس فيه ما يكشف عن قصد المتعاقدين منه أو كان ذلك مبهماً فيه. فإذا كانت محكمة الموضوع قد حصّلت من فهمها للواقع تحصيلاً سائغاً أن العاقدين قد قصدا من اتفاقهما أن يكون الاحتكام فيما يختلفان فيه إلى ما نص عليه في التعاقد، وكان التعاقد جلياً في ذلك لا لبس فيه، وليس فيه مساس بالنظام العام، ثم أجرت حكمها بمقتضى ذلك على النزاع القائم بين طرفي العقد فلا غبار على قضائها، ولا سبيل إلى محكمة النقض عليها فيه.


الوقائع

تتلخص وقائع هذا الطعن - على ما جاء في الحكم الابتدائي والحكم المطعون فيه وسائر المستندات المقدّمة وكانت من قبل تحت نظر محكمة الاستئناف - في أن المدعى عليه في الطعن كان له بشونة بنك مصر نحو 135 ألف أردب من بذرة القطن فاتفق مع جرجس عماد الذي توفى وإيلى عماد (إلياس جرجس عماد الطاعن) بموجب عقد عرفي مؤرّخ في 21 من سبتمبر سنة 1928 على أن يورّد لهما هذا المقدار من البذرة ليقوما بعصره واستخراج الزيت ورواسبه (الموسيلاج) والكسب منه ويبيعا هذه المنتجات لحسابه ويودعا الثمن ببنك مصر بعد خصم 26 قرشاً عن كل أردب نظير ما كلفهما العقد بالقيام به في هذه العملية. وقد قام بركات بك بتوريد 135175 أردباً من بذرة القطن لإلياس جرجس عماد. وقام المذكوران بعملية استخراج الزيت والكسب منها، ودفعا لإسماعيل جاد بركات بك مبالغ تحت الحساب لحين تصفيته نهائياً. ثم شجر الخلاف بين الطرفين، وكانت أوّل بوادره أن طلب الطاعن إلى بركات بك بخطاب تاريخه 7 من ديسمبر سنة 1929 أن يوقع له على مخالصة بمبلغ 450 جنيهاً و45 مليماً رصيد حسابه عنده، فرفض بركات بك ذلك ورفض الطاعن أن يدفع هذا المبلغ إلا إذا أمضيت المخالصة ببراءة ذمته، فسحب بركات بك على الطاعن لشركة بركات التجارية كمبيالة بهذا المبلغ المعترف به أدت إلى عمل برتستو على الطاعن، ورفع الأمر للقضاء المختلط فحكمت محكمة الاستئناف المختلطة في 30 من مارس سنة 1932 في القضية رقم 569 سنة 6 قضائية (وكان أدخل فيها بركات بك) بإلزام الطاعن لشركة بركات التجارية بمبلغ التحويل المسحوب مع فوائده وبرفض طلب الطاعن الحكم ببراءة ذمته قبل بركات بك ورفض طلب التعويض الذي وجهه قبله.
بعد ذلك رفع بركات بك على الطاعن وعلى جرجس عماد الدعوى الحالية أمام محكمة إسكندرية الابتدائية بصحيفة أعلنها في 22 من سبتمبر سنة 1932 وقيدها تحت رقم 706 كلي سنة 1932، وقد ذكر في تلك الصحيفة زيادة على الوقائع المتقدّم بيانها أن خصميه رفضا تسليمه باقي فواتير البيع الذي قاما به داخل القطر المصري وخارجه طبقاً لنص العقد، كما رفضا إخطاره عن مقدار الزيت والكسب المستخرج من البذرة المسلمة منه إليهما مع أنه طلب منهما ذلك بعدّة خطابات، ثم إنهما خالفا البند الثاني حرف "ف" من عقد 21 من سبتمبر سنة 1928 بقبولهما بضائع أجنبية للعصير أثناء وجود بضائعه عندهما. وجاء أيضا بصحيفة الدعوى أن الفواتير المقدّمة للمحكمة المختلطة في القضية رقم 569 سنة 6 قضائية تكشف عن أن لبركات بك قبل خصميه ما يزيد على 14000 جنيه لذلك فهو يطلب إلى المحكمة إلزامهما متضامنين بأن يقدّما له في مدى أسبوعين من تاريخ الحكم حساباً مؤيداً بالمستندات عن عملية عقد 21 من سبتمبر سنة 1928 وإلا يدفعا غرامة جنيهين عن كل يوم من أيام التأخير. وبعد فحص الحساب الذي يقدّم واعتماده منه يحكم عليهما متضامنين بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة مع الأمر بالنفاذ العاجل. وعند نظر القضية بجلسة التحضير قصر بركات بك طلباته مؤقتاً على الطاعن وقرّر وكيل المذكور أن الطاعن هو صاحب محل تجارة جرجس عماد وأنهما شخص واحد، ثم أحيلت القضية إلى المرافعة.
وفي 30 من يناير سنة 1933 حكمت محكمة إسكندرية الابتدائية بتعيين الخبير محمود المرسي أفندي لمراجعة كشوف الحساب بين الطرفين، فباشر هذا الخبير مأموريته وقدّم تقريراً أثبت فيه أن ذمة الطاعن بريئة، فطعن بركات بك على ذلك التقرير بعدّة طعون وقدّم تقريراً استشارياً للخبير زكريا هيبة أفندي ينقض تقرير الخبير المرسي أفندي، فرأت المحكمة أن تستبدل المرسي أفندي بخبير آخر وأصدرت حكماً في 22 من يونيه سنة 1935 عينت بمقتضاه مسيو "إيلى يورجيل" مدير شركة التسليف خبيراً لإعادة فحص الحساب. وقد جاء في ذلك الحكم ما يأتي:
"حيث إن المحكمة ترى من الاطلاع على تقرير الخبير المنتدب في الدعوى والطعون الموجهة ضدّه تعيين خبير لإعادة فحص الحساب بين الطرفين وتصفيته على أساس نصوص عقد الاتفاق المحرّر بين الطرفين بتاريخ 21 من سبتمبر سنة 1928 والمستندات المقدّمة منهما مع عدم تطبيق قواعد العرف التجاري إلا في الأحوال الغير المنصوص عنها صراحة في العقد المذكور، وعليه الاطلاع على تقريري الخبيرين المنتدب والاستشاري المقدّمين في الدعوى ومذكرات الخصوم وبالجملة بحث كافة الطعون وبيان ما فيها من الخطأ والصواب في حدود نصوص العقد والمستندات المقدّمة من الطرفين بحضورهما أو من ينوب عنهما، وذلك بعد أن يحلف الخبير المذكور اليمين القانونية طبقاً للمادة 225 فقرة ثانية من قانون الخبراء".
"وحيث إن المحكمة ترى من ماهية النزاع بين الطرفين أنه عن معاملة تجارية تستلزم خبرة فنية خاصة في تجارة البذرة وعصرها وطرق تصريف ما يستخرج منها من الزيوت والكسبة في الداخل والخارج، ولهذا ترى المحكمة نظراً لخلو كشف الخبراء المقرّرين أمام هذه المحكمة ومحكمة الاستئناف العليا من خبير تتوفر فيه هذه المؤهلات ويلم بهذه الأعمال أن تندب مسيو إيلى يورجيل".
باشر هذا الخبير مأموريته وقدّم تقريراً أثبت فيه أن لبركات بك قبل الطاعن مبلغ 3806 جنيهات و29 مليماً، فطلب هذا بلسان محاميه تأجيل الدعوى ليقدّم مستندات دالة على أن الخبير تربطه ببركات بك معاملة تجارية فأجابته المحكمة إلى طلبه وأجلت الدعوى، ثم عاد وطلب ضم قضيتين كان رفعهما بطلب ردّ نفس الخبير وقضى فيهما بالرفض وهما القضيتان رقم 333 و347 كلي إسكندرية سنة 1935 فقضت المحكمة بضم هاتين القضيتين وقد ضمتا فعلاً إلى ملف الدعوى، ولكن الطاعن لم يقدّم المستندات التي طلب التأجيل لتقديمها.
وفي 20 من يونيه سنة 1936 حكمت المحكمة حكماً حضورياً بإلزام الطاعن بأن يدفع لبركات بك مبلغ 3806 جنيهات و29 مليماً وفوائده بواقع المائة سبعة سنوياً اعتباراً من 29 من أكتوبر سنة 1934 تاريخ المطالبة الرسمية لحين السداد مع المصاريف المناسبة لهذا المبلغ وثلثمائة قرش مقابل أتعاب المحاماة وشملت الحكم بالنفاذ المعجل بلا كفالة.
استأنف الطاعن هذا الحكم أمام محكمة استئناف مصر بصحيفة أعلنها لخصمه في 8 أغسطس سنة 1936 وقيدها تحت رقم 966 سنة 53 قضائية طالباً للأسباب التي أوردها: (أوّلاً) وعلى وجه الاستعجال فيما يختص بالنفاذ المعجل بوجوب اشتراط الكفالة وإلزام المستأنف عليه بها مع إلغاء كافة إجراءات التنفيذ التي اتخذها ويتخذها المذكور قبله، وكذلك الحجوزات التي أوقعها، واعتبار جميع ذلك باطلاً وكأنه لم يكن. (وثانياً) فيما يختص بالموضوع إلغاء الحكم المستأنف ورفض دعوى بركات بك وإلزامه بكافة المصاريف والأتعاب عن الدرجتين.
وبجلسة 15 من سبتمبر سنة 1936 التي حدّدت لنظر هذا الاستئناف سمعت المحكمة طلبات ودفاع طرفي الخصومة ثم قضت بقبول الاستئناف شكلاً وفي موضوع النفاذ المعجل: (أوّلاً) بتعديل الحكم المستأنف وجعل النفاذ بشرط الكفالة. (وثانياً) بإلغاء إجراءات التنفيذ التي حصلت تنفيذاً للحكم المستأنف واعتبارها كأنها لم تكن. (وثالثاً) بإحالة الدعوى إلى جلسة 12 من أكتوبر سنة 1936 لتحضيرها.
وبعد أن تم التحضير أحيلت الدعوى إلى المرافعة وقد قدّم الطاعن لمحكمة الاستئناف تقريراً استشارياً من مسيو "سورفللى" أيد في نتيجته رأي الخبير محمود المرسي أفندي، وفي الجلسة الأخيرة المحدّدة للمرافعة سمعت طلبات وأقوال طرفي الخصومة، ثم أصدرت المحكمة بجلسة 19 من إبريل سنة 1938 حكمها في موضوع الدعوى برفض الاستئناف وتأييد الحكم المستأنف وألزمت المستأنف (الطاعن) بالمصاريف وبألف قرش مقابل أتعاب المحاماة للمستأنف عليه.
أعلن هذا الحكم للطاعن في أوّل مايو سنة 1938 فطعن فيه وكيله بطريق النقض في 31 من ذلك الشهر بتقرير أعلن للمدعى عليه في الطعن بتاريخ 6 من يونيه سنة 1938... إلخ.


المحكمة

وبما أن الطعن بني على وجهين يتلخصان فيما يأتي:
الوجه الأوّل - قد خالف الحكم المطعون فيه القانون باستبعاده العرف التجاري في تطبيق نصوص العقد المبرم بين طرفي الخصومة مع أن بعض تلك النصوص قد أشار صراحة وبعضها دلالة إلى ذلك العرف. كذلك خالف الحكم القانون حين قرّر أن ما ذكره في آخر البند الرابع من الاتفاق بشأن العرف وارد على حالة واحدة فلا يطبق في الحالات الأخرى إذ أن القاعدة القانونية تقضي بسريان العرف المتصل بموضوع التعاقد في جميع الأحوال التي لا تكون إرادة المتعاقدين قد استبعدته صراحة.
ويقول الطاعن إن مخالفة الحكم للقانون في هذا وفي ذاك قد بدا أثره في نواح ثلاث:
الناحية الأولى - قال الحكم إن مقادير الزيت والكسب المبينة في القائمتين رقم 2 و3 الملحقتين بعقد 21 من سبتمبر سنة 1928 لا تخضع للخصومات الواجب استنزالها من الثمن الإجمالي، مع أن هذه المقادير تعادل نصف المنتجات، ويجب أن تجرى عليها الخصومات لأن صفاتها تمت بعقود أثبتت في القائمتين والقائمتان ألحقتا بالعقد وصارتا جزءاً لا ينفصل عنه هما والعقود المشار إليها فيهما.
الناحية الثانية - رفض الحكم إجراء الخصومات عن المنتجات الأخرى مع أن العرف التجاري الذي نص صراحة في المادة الرابعة من عقد الاتفاق على سريانه على كافة البيوع كان يقتضي إجراء تلك الخصومات المتنازع عليها إذ هي من شرائط أداء الثمن والثمن هو أحد أركان البيع. ثم إن في النصوص الأخرى لعقد الاتفاق ما يفهم منه تحكيم العرف فقد جعل مثلاً تسليم منتجات البذرة على أبواب مصنع الطاعن لما يباع في مدينة الإسكندرية وفي القبارى لما يباع داخل القطر وعلى ظهر السفينة لما يباع في الخارج، وفي هذا دلالة ظاهرة على أن ما يتجاوز هذه المراحل من أعباء ونفقات لا يتحملها الطاعن بل يتحملها خصمه. وهذا هو حكم العرف المصطلح عليه. فهو إذن كان ملحوظاً بين المتعاقدين حين أبرما اتفاق 21 من سبتمبر سنة 1928.
الناحية الثالثة - إنه لو فرض ولم يأت في عقد الاتفاق ما يحتم اتباع العرف فإن المادة 245 مدني والمادة 29 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية تقضي بذلك.
الوجه الثاني - قد أخطأ الحكم المطعون فيه في تطبيق القانون. ذلك أنه انصرف عن حكم عقد الاتفاق المبرم بين طرفي الخصومة ومسخه حين ذهب إلى أن الالتزامات التي على عاتق الطاعن تعدو عملية عصر البذرة واستخراج منتجاتها مع أنها لا تعدوها. أما تصريف تلك المنتجات فإن عمل الطاعن بشأنها هو بصفته نائباً عن المطعون ضدّه ولحسابه. ولقد نتج عن هذا الخطأ في تكييف العلاقة القانونية بين المتعاقدين وعن مسخ حكم الاتفاق المبرم أن اعتبر الحكم أن الطاعن هو البائع في حين أنه وكيل عنه وحمّله المبالغ التي ألزمه بها على هذا الأساس.
هذا هو مبنى الطعن المقدّم.
عن الوجه الأوّل:
وبما أن جل ما يعتمد الطاعن عليه في هذا الوجه هو أن العقد المبرم بينه وبين خصمه في 21 من سبتمبر سنة 1928 تسمح نصوصه إما تصريحاً وإما تلميحاً بالرجوع فيما يختلفان عليه إلى حكم العرف التجاري، وأنه حتى لو فرض وأن نصوصه لا تسمح بذلك فإن القانون يقتضي هذا الرجوع.
وبما أنه فيما يتعلق بما يدّعيه الطاعن من انفراج نصوص العقد لإقحام أحكام العرف التجاري قد فصلت محكمة الموضوع في هذه النقطة ببيان واف ليس فيه أية ثغرة سواء أكان من ناحية اتساق المنطق أن من ناحية صحة الاستناد. فقد حللت تلك النصوص تحليلاً وتفهمت مراميها جملة وتفصيلاً ثم جزمت بأن المتعاقدين لم يريدا قط إلا تحكيم عقدهما في كل خلاف ولم ينصرفا إلى العرف إلا في ناحية واحدة أورداها في آخر البند الرابع من العقد وهي خاصة بكيفية دفع ثمن ما يباع في الخارج من المنتجات. فقد ذكر أن الدفع يكون عندئذ تلقاء مستندات الشحن طبقاً للعرف. هذا ما حصّلته محكمة الموضوع من فهمها للواقع في الدعوى ولم يلحق تحصيلها أي عيب كما تقدّم. ولقد رشحت لهذا الفهم بما أوردته في حكمها التمهيدي الصادر في 22 من يونيه سنة 1935 بتعيين مسيو إيلى يورجيل خبيراً في الدعوى حيث حدّدت في ذلك الحكم مأموريته في فحص الحساب بأن تكون "على أساس نصوص عقد الاتفاق والمستندات مع عدم تطبيق قواعد العرف التجاري إلا في الأحوال الغير المنصوص عنها صراحة في العقد المذكور". وكان مثار هذا التحديد ما وجه من المطاعن على تقرير الخبير السابق محمود المرسي أفندي. ومن تلك المطاعن أنه ناهض بالعرف نصوص العقد الصريحة، وقد باشر الخبير إيلى يورجيل مأموريته، ولم يعترض الطاعن وقت تنفيذها على أنها كانت محدّدة ذلك التحديد، وهنا تنكشف ضآلة حجته التي أوردها في الشق الثاني من الوجه الأوّل بأن القانون يقتضي الرجوع للعرف حتى لو لم تسمح نصوص العقد بذلك الرجوع، وهو قول عائم لا يؤخذ به، إذ لا شبهة إطلاقاً في أن العرف لا يكون الموئل الهادي للقاضي إلا عندما تستغلق عليه نصوص القانون، وكذلك عندما يسكت المتعاقدون عن تنظيم تعاملهم في ناحية مما تعاقدوا عليه أو ينظمونه في غموض.
وبما أنه متى استبان أن العرف لا يرجع إليه فيما سكت عنه القانون أو فيما انصرف عن تبيانه المتعاقدون أو أشاروا إليه في غموض - متى استبان ذلك، وكانت محكمة الموضوع في الدعوى المطروحة قد حصّلت من فهمها للواقع تحصيلاً سليماً - على ما تقدّم بيانه - ما قصده المتعاقدان من اتفاق 21 من سبتمبر سنة 1928 وهو أن لا يكون الفيصل في خلافهما سوى نصوص ذلك الاتفاق، ورأت تلك المحكمة أن تلك النصوص على جلاء لا يحتمل أي لبس وفيها كل الغناء، ثم هي لا يشوبها مساس بالنظام العام فأجرت حكمها على النزاع القائم، فإن قضاءها لا يلحقه أي غبار. ولا سبيل لمحكمة النقض لتتبع ما ينعاه عليه الطاعن من عيوب لأنه إنما يحاول بذلك طرح مسائل موضوعية على محكمة القانون.
عن الوجه الثاني:
وبما أن ما ذهب إليه الطاعن في هذا الوجه من انصراف الحكم المطعون فيه عن مقتضى عقد الاتفاق بتكييفه بأنه عقد تعدو التزاماته العملية الصناعية التي هي وحدها مهنة الطاعن - هذا القول مردود بأن محكمة الموضوع قد استظهرت في حدود اختصاصها الموضوعي من نصوص العقد الصريحة ما قصده العاقدان ومؤيدة نظرها في ذلك بأسانيد لا عيب فيها ومستخلصة استخلاصاً صحيحاً من المستندات المقدّمة في الدعوى بأنه تعاقد يشمل عملية صناعية ترتبط بها عملية تجارية حدّدت فيهما جميعاً واجبات وحقوق كل من المتعاقدين تحديداً جلياً. وقد ذهبت في عنايتها بتفهم هذه الواجبات والحقوق أن استعرضتها واحداً بعد الآخر، وجلت كل ما أثير حولها من تأويل في المرافعات والمذكرات، ونفت ما ادّعاه الطاعن فيما ادّعى من أن نفقات بيع المنتجات أبعدها العقد كما أبعدها العرف عن عاتق الطاعن. ومن أظهر ما تركزت فيه حجج الحكم الابتدائي المؤيدة أسبابه من محكمة الاستئناف عن أهم نقط النزاع ما أورده ذلك الحكم في الفقرات الآتية:
"وحيث عن المسألة الأولى المتعلقة بالعمولة وهي التي يتقاضاها الوسيط الذي سعى في إتمام الصفقة فالمحكمة ترى إلزام المدّعى عليه بها إذ فضلاً عن أن الخبير المنتدب أخيراً قد قال بهذا الرأي فإن نصوص العقد الرقيم 21 من سبتمبر سنة 1928 الذي هو قانون المتعاقدين تؤيد هذا المذهب تأييداً تاماً إذ جاء بالفقرة الثانية من البند الأوّل ما يأتي: "ويتعهد محل ج. عماد وولده (المدّعى عليه) أن يبيع لحساب إسماعيل بركات بك بعد الحصول على الموافقة منه أو من وكيله كل المحصولات التي تنتج من العصر إلخ". كما جاء بالبند الثالث ما نصه: "يتكلف محل ج. عماد وولده بالبذرة الموجودة في أكياس بداخل شون بنك مصر، وأن يقوم شخصياً بجميع المصاريف اللازمة اعتباراً من محل وجودها وبداخل الشون المذكورة لغاية ما تباع المحصولات التي تنتج من عصر البذرة المذكورة". وجاء بالبند الخامس ما يأتي: "وأما البيوع التي تحصل في القطر المصري فتكون بضمانة محل ج. عماد وولده الذي يقرّر من الآن بمقتضى هذا بأنه ضامن متضامن مع المشتري ووكيل له إلخ". وجاء في البند السادس ما يأتي: "يجب أن تباع المحصولات بمعرفة محل ج. عماد وولده وباسمه ولكن لحساب حضرة إسماعيل بركات بك، وكل المسئوليات التي تنتج من الضمانات الملقاة على عاتق البائع تلقى على عاتق محل ج. عماد وولده الذي يضمن شخصياً وبماله الخاص بدون أن يتحمل حضرة إسماعيل بركات بك بشيء ما عدا الخصم المنصوص عنه بالبند الثاني فقرة ثالثة". وجاء بالبند الثامن ما يأتي: "وبخصوص أجر محل ج. عماد وولده عن أتعابه ومصاريفه وضمانه ومسئوليته يتعهد إسماعيل بك أن يعطي محل ج. عماد وولده 26 قرشاً عن كل أردب بذرة قطن في كل الكمية التي قدرها 153000 أردباً إلخ". فمن هذه النصوص يتضح بجلاء أن المدّعى عليه أخذ على عاتقه عملية الإنتاج وما استلزم ذلك من مصاريف حتى تمام بيعها الذي التزم به كذلك نظير أجر 26 قرشاً عن الأردب الواحد. ولا جدال في أن العمولة التي يطالب بها المدّعى عليه هي عمل تقتضيه إجراءات البيع ومن مقدّماتها، ومتى كان المدّعى عليه قد أخذ على نفسه بذل المصاريف حتى تمام البيع، فليس له والحالة هذه التخلي عنها وقد ألزمته بها النصوص المتقدّم ذكرها مقابل الجعل الذي قدّر له".
"أما حجة المدّعى عليه في إضافة تلك العمولة على جانب المدّعي فترجع إلى أن هذه الأجرة لا تدفع إلا في الثغر الأجنبي المعدّ لتسليم البضاعة المباعة فيه، لهذا فهو غير ملزم بها ارتكاناً على أن مسئوليته تقف عند السفينة بالإسكندرية. أما ما يتم بعد ذلك من إجراءات فمصاريفه على عاتق المدّعي. واستند في ذلك على نص البند الثالث الذي جاء في ذيله ما نصه "أما شحن المحصولات فتكون فرانكو أورين بالنسبة إلى زبائن الإسكندرية وفرانكو قبارى لعملاء داخل القطر المصري، وفرانكو بور إلى الإسكندرية بالنسبة للعملاء في الخارج". كما استند على العرف التجاري المنصوص عنه بالبند الرابع من العقد".
"وحيث إن كون تلك العمولة تدفع في الثغور الأجنبية التي يحصل فيها تسليم البضاعة فهذا لا يغير من طبيعتها شيئاً ولا يبدل من موقف المدّعى عليه إزاءها إذ هي رغم هذا عمل من مستلزمات البيع وأمر تمهيدي لإبرامه، وعملية البيع إطلاقاً، أي سواء كانت في داخل القطر أو خارجه، من أخص واجبات المدّعى عليه، ومصاريفها واقعة عليه بصريح النصوص التي تقدّم ذكرها. ولا علاقة للعبارة التي يرتكن عليها المدّعى عليه في ذيل البند الثالث والتي صار إثباتها فيما تقدّم بموضوع العمولة إذ أن هذه العبارة تشير إلى كيفية شحن البضائع المصدّرة للخارج ولا شأن لأجر الوسيط في إتمام الصفقة بعملية الشحن والنولون المستحق عليها. أما ما يقضي به العرف التجاري الذي جاء ذكره في ذيل البند الرابع من العقد فلا محل لتطبيقه هنا إذ لا ينصب هذا حسب منطوق ذلك البند إلا على بيان الطريقة التي بمقتضاها يدفع الثمن ليس غير ولا يستقيم ما يذهب إليه المدّعى عليه مخالفاً لهذا من أن العرف التجاري قد قصد به هنا أن تكون البيوع كلها خاضعة للعرف التجاري. وذلك لسببين: (أوّلهما) أن تلك البيوع قد نص عليها صراحة بمشتملاتها في غير موضع من العقد بتفصيل لا يدع مجالاً لأي تدخل للعرف التجاري المدّعى به. (ثانيهما) أن البند الخامس الذي يقول عنه المدّعى عليه إن طريقة دفع الثمن قد نص عليها فيه بكل إسهاب وأن لا محل والحالة هذه إلى الالتجاء إلى ذكر العرف التجاري بهذا الخصوص، فهذا البند ينص في الواقع عن كيفية أداء الثمن من حيث ضمان المدّعى عليه به إذا ما عجز المشترون عن أدائه في الميعاد المحدّد".
هذا ا ذكره الحكم الابتدائي عن بعض أقلام النزاع وفيها يبدو ما حصّلته محكمة الموضوع واقعياً من "أن عملية البيع إطلاقاً أي سواء أكانت في داخل القطر أم خارجه من أخص واجبات المدّعى عليه (الطاعن) ومصاريفها واقعة عليه بصريح النصوص التي تقدّم ذكرها". وفيها يبدو أيضاً تقدير محكمة الموضوع للنص الصريح الوارد في البند السادس من عقد الاتفاق والذي جاء به "بأنه يجب أن تباع المحصولات بمعرفة محل ج. عماد وولده وباسمه، ولكن لحساب حضرة إسماعيل بك بركات، وكل المسئوليات التي تنتج من الضمانات الملقاة على عاتق البائع تلقى على عاتق محل ج. عماد وولده الذي يضمن شخصياً وبماله الخاص بدون أن يتحمل حضرة إسماعيل بركات بشيء ما عدا الخصم المنصوص عنه في البند الثاني فقرة ثالثة".
وبما أنه يبين من هذا الذي كشفت عنه محكمة الموضوع في هذه الفقرات، وأيضاً مما كشفت عنه في سائر فقرات الحكم أن ما نعاه الطاعن من خطأ المحكمة في تطبيق القانون بمسخ العقد المبرم بين طرفي الخصومة لا صحة له إطلاقاً. فالوجه الثاني من الطعن لا أساس له أيضاً.
وبما أنه يتعين بهذا رفض الطعن برمته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق