الصفحات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 4 أبريل 2023

الطعن 48 لسنة 9 ق جلسة 29 / 2 / 1940 مج عمر المدنية ج 3 ق 34 ص 75

جلسة 29 فبراير سنة 1940

برياسة سعادة محمد لبيب عطية باشا وكيل المحكمة وبحضور حضرات: محمد فهمي حسين بك وعلي حيدر حجازي بك ومحمد زكي علي بك ومحمد كامل مرسي بك المستشارين.

------------------

(34)
القضية رقم 48 سنة 9 القضائية

(أ) إثبات. 

دليل. تعلقه بالأمر المطلوب إثباته لا بالمسئولية في حدّ ذاتها. مسئولية تعاقدية. إثبات مخالفة المتعهد لتعهده. بالبينة والقرائن. مسئولية جنائية أو تقصيرية. جريمة خيانة الأمانة. عقد الوديعة. زيادة قيمة المودع على ألف قرش. إثباته بالكتابة في غير الأحوال المستثناة. (المواد 214 - 234 مدني)
(ب) نقض وإبرام. 

القضاء بتأييد الحكم الابتدائي. النص في أسباب الحكم الاستئنافي على استبعاد مبلغ مما قضى به ابتدائياً. الطعن بذلك أمام محكمة النقض. لا يصح. سبب للالتماس.
(جـ) مسئولية. قبض. إدارة. 

المسئولية عن القبض. المسئولية عن الإدارة. مخالفة إحداهما للأخرى.

--------------
1 - إن الدليل لا ارتباط له بالمسئولية في حدّ ذاتها، وإنما يتعلق بذات الأمر المطلوب إثباته. فقد تكون المسئولية تعاقدية ومع ذلك يكون الإثبات فيها بالبينة والقرائن كما في حالة التعهد بعدم فعل شيء (Obligation de ne pas faire) عندما يرغب المتعهد له إثبات مخالفة المتعهد لتعهده. وقد تكون المسئولية جنائية أو تقصيرية ومع ذلك يكون الإثبات فيها بالكتابة حتماً بالنسبة للعقد المرتبط بها إذا كانت قيمته تزيد على ألف قرش في غير المواد التجارية والأحوال الأخرى المستثناة، كما هي الحال في جريمة خيانة الأمانة.
2 - إذا كانت محكمة الاستئناف قد قضت بتأييد الحكم الابتدائي وفي ذات الوقت نصت في أسباب حكمها على وجوب استبعاد مبلغ من المبالغ المحكوم بها ابتدائياً فلا يجوز التحدّي بذلك أمام محكمة النقض إذ هو من أسباب الالتماس.
3 - المسئولية عن القبض تختلف عن المسئولية عن الإدارة ولو أن عملية القبض تدخل في الإدارة. وذلك لأن مبنى المسئولية الأولى هو الغصب ومبنى الثانية العلاقة التعاقدية.


الوقائع

تتلخص وقائع هذه الدعوى - كما يؤخذ من الحكم المطعون فيه والأوراق الأخرى المقدمة بالملف وكانت من قبل تحت نظر محكمة الاستئناف - في أن المرحوم علي شعراوي باشا مورّث طرفي الخصومة توفى في 14 من مارس سنة 1922 وترك نيفاً وسبعة آلاف فدّان وقفها في حياته على ورثته وجعل كل مستحق ناظراً على حصته وكانوا جميعاً من السيدات عدا الطاعن وأخيه محمد بك الذي كان قاصراً. ولما كان الطاعن هو أرشد الورثة وكانت له ولأخيه محمد القاصر الحصة الكبرى في الوقف فقد مضى الطاعن - كما يقول باقي الورثة - يتصرف في المحصولات التي كانت موجودة بالأرض الموقوفة ويحّصل الأجر المستحقة للمورّث قبل وفاته مما يعتبر جميعه تركة، فنبت الخلاف بينه وبين باقي الورثة بسبب ذلك، وانتهى الأمر بأن اتفقوا جميعاً بعقد تاريخه 10 من يونيه سنة 1922 على أن يضع كل ناظر من الورثة يده على الأرض الموقوفة عليه ويتولى تجهيز المحصولات التي كانت بها وقت الوفاة ويبيعها ويعطي لكل وارث نصيبه فيها ويحصّل الأجر المتأخرة في ذمة المستأجرين على وقت الوفاة ويدفع لكل وارث نصيبه فيها أيضاً. واتفق الورثة على اعتبار الإجارات التي تبدأ في يونيه سنة 1921 وثلث الإجارات التي تبدأ في نوفمبر سنة 1921 من أموال التركة المستحقة للورثة حسب أنصبائهم في الميراث.
والظاهر أن هذا الاتفاق لم يدخل عملياً في دور التنفيذ. فرفعت السيدة هدى هانم هي وولداها محمد القاصر والسيدة بثنة هانم المطعون ضدّها في يوليه سنة 1922 دعوى مستعجلة أمام محكمة المنيا الجزئية ضدّ باقي الورثة، ومن بينهم الطاعن، طلبوا فيها الحكم بتعيين حراس قضائيين لاستلام أعيان التركة وأموالها والتصرف فيها طبقاً للاتفاق المحرّر بين الورثة في 10 من يونيه سنة 1922. وقد قضت محكمة المنيا في أوّل أغسطس سنة 1922 بتعيين كل ناظر من الورثة حارساً على الحصة الموقوفة عليه وأن يكون الطاعن حارساً على حصته وحصة أخيه محمد القاصر حتى يبلغ رشده. على أن يقوم كل حارس باستلام المحصولات الناتجة من حصته وتجهيزها واستلام المعدّ منها بالأجران والمخازن وبيع ذلك جميعاً وإيداع صافي الثمن بخزانة المحكمة لحساب جميع الورثة، وأن يستلم كل حارس جميع المنقولات والمواشي وأدوات الزراعة الموجودة في حصته لإدارتها وحفظها حتى ينتهي النزاع القائم بين الورثة. والظاهر أيضاً أن هذا الحكم لم ينفذ إذ ليس في الأوراق ما يدل على تنفيذه.
وفي 5 من سبتمبر سنة 1922 استصدرت السيدة هدى هانم وولداها والسيدات عائشة هانم ومنيرة هانم وشفيقة هانم أمراً من رياسة محكمة مصر الابتدائية ضد الطاعن بالحجز على جميع أوراق ودفاتر الدائرة بالصعيد ومصر وإسكندرية ورفعوا ضدّه دعوى طلبوا فيها إلزامه بأن يقدّم لهم حساباً عما قبضه وصرفه من إيرادات الأعيان المتروكة عن المورّث مع تثبيت الحجز التحفظي. وقد قضت محكمة مصر في 21 من مارس سنة 1923 بإلزام الطاعن بتقديم الحساب المطلوب وتثبيت الحجز التحفظي على الأوراق والدفاتر وندب خبير لفحصها ومعرفة ما في ذمة الطاعن لكل واحد من باقي الورثة.
استأنف الطاعن حكم محكمة مصر طالباً إلغاءه. ومحكمة استئناف مصر قضت في 27 من يونيه سنة 1923 بتأييد الحكم المستأنف فيما يتعلق بتثبيت الحجز على أوراق ودفاتر التركة وإلغائه فيما عدا ذلك ورفض دعوى المطالبة بالحساب. وكانت الدعوى مقيدة برقم 725 سنة 40 قضائية.
وقد بنت المحكمة حكمها سالف الذكر على أن الطاعن غير مسئول قبل باقي الورثة عن إدارته أموال التركة ولكن لكل وارث أن يطلع على الدفاتر المحجوزة ويتبين منها ما له وما عليه.
وتنفيذاً لما قرّرته محكمة الاستئناف اطلع الورثة على الدفاتر وطالبوا الطاعن بما تبين لهم أن ذمته مشغولة به لكل منهم، فرفعت السيدة هدى هانم وولداها بثنة هانم المطعون ضدّها ومحمد بك في 31 من يوليه سنة 1923 الدعوى رقم 1574 سنة 1923 كلي مصر ضدّ الطاعن طلبوا فيها الحكم بإلزامه بأن يدفع لهم مبلغ 17159 جنيهاً و736 مليماً قيمة ما حصّله لحسابهم من مال التركة من أثمان محصولات وأجر أطيان. ورفعت المرحومة السيدة شفيقة هانم مورّثة باقي المطعون ضدّهم في 23 من إبريل سنة 1924 الدعوى رقم 1375 سنة 1924 كلي مصر ضدّ الطاعن وهدى هانم طلبت فيها الحكم أصلياً بإلزام الطاعن بأن يدفع لها مبلغ 4812 جنيهاً و215 مليماً واحتياطياً إلزام هدى هانم بما تكون قد قبضته من هذا المبلغ. ثم رفعت السيدتان عائشة هانم ومنيرة هانم الدعوى رقم 112 سنة 1925 كلي مصر ضدّ الطاعن طلبت فيها الحكم بإلزامه بأن يدفع للأولى منهما مبلغ 981 جنيهاً و874 مليماً وللثانية مبلغ 782 جنيهاً و597 مليماً.
وفي 6 من ديسمبر سنة 1926 أصدرت محكمة مصر حكماً تمهيدياً في كل من تلك القضايا الثلاث قضى بندب ثلاثة خبراء للاطلاع على الدفاتر الموجودة بقلم الكتاب والتي تقدّم لهم من الخصوم لمعرفة حقيقة الأثمان التي بيعت بها المحصولات الشتوية وما حصل من الأجر المتأخرة المنّوه عنها في عقد 10 من يونيه سنة 1922 وبيان ما للمدّعين في ذمة المدّعى عليه مع تحقيق مقدار وأثمان المحصولات، وذلك بمعاينة الأطيان التي كانت منزرعة بها وما يجاورها من الأطيان المماثلة.
وفي 25 من مايو سنة 1929 أصدرت محكمة مصر حكماً تمهيدياً ثانياً في كل من تلك القضايا قضى بإعادة القضية للخبراء لتحقيق ما ادعاه المدعون من أن مبلغ 19819 جنيهاً الثابت تحصيله بمعرفة الطاعن في دفتر اليومية لم يدخل فيه شيء من ثمن المحصولات والأجر المطالب بها.
وفي 28 من مارس سنة 1931 قرّرت محكمة مصر ضم القضايا الثلاث بعضها إلى بعض وأصدرت فيها كلها حكماً تمهيدياً قضت فيه بإعادة القضايا إلى الخبراء للسير فيها طبقاً لما بينته بالأسباب. وقد باشر الخبراء عملهم وقدّموا تقريرهم. وفي أثناء نظر الدعوى تصالح كل من هدى هانم ومحمد بك مع الطاعن في 5 من أكتوبر سنة 1932 بعقد مستقل، وتنازل كل منهما عن دعواه قبله. وقد نص في كل عقد من عقدي الصلح على أن المحاسبة تمت بين الطرفين بموجب كشف أرفق بالعقد وموقع عليه من الطرفين. وبمقتضى هذا الصلح قبض الطاعن من هدى هانم مبلغ 4507 جنيهات و837 مليماً قيمة ما بقى له في ذمتها بعد خصم مالها في ذمته وقبض محمد بك من الطاعن 9845 جنيهاً و300 مليم قيمة ما ظهر له في ذمة الطاعن.
وفي 14 من مايو سنة 1934 قضت محكمة مصر في القضايا الثلاث: (أوّلاً) بإثبات تنازل هدى هانم ومحمد بك عن دعواهما في القضية رقم 1574 سنة 1923 كلي مصر وألزمتهما بمصاريفها. (ثانياً) بإلزام الطاعن بأن يدفع للسيدة بثنة هانم المطعون ضدّها مبلغ 3605 جنيهات و300 مليم والفوائد بسعر 5% سنوياً من 3 من أكتوبر سنة 1933 لحين السداد مع المصاريف المناسبة و500 قرش مقابل أتعاب المحاماة. (ثالثاً) بإلزام الطاعن بأن يدفع للسيدة شفيقة هانم مورّثة باقي المطعون ضدّهم مبلغ 2458 جنيهاً و219 مليماً والمصاريف المناسبة و500 قرش مقابل أتعاب المحاماة. (رابعاً) بإلزام الطاعن بأن يدفع للسيدتين منيرة هانم وعائشة هانم مبلغ 2671 جنيهاً و253 مليماً مع المصاريف المناسبة و500 قرش مقابل أتعاب المحاماة ورفضت ما عدا ذلك من الطلبات.
استأنف الطاعن حكم محكمة مصر أمام محكمة استئناف مصر ضدّ بثنة هانم والمرحومة شفيقة هانم ومنيرة هانم وعائشة هانم.
ومحكمة استئناف مصر قضت في 3 من فبراير سنة 1935 بعدم قبول الاستئناف شكلاً بالنسبة للسيدتين عائشة هانم ومنيرة هانم وبقبوله شكلاً بالنسبة للسيدتين بثنة هانم وشفيقة هانم، كما قرّرت في 15 من ديسمبر سنة 1935 مناقشة الخصوم فيما هو لازم تنويراً للدعوى. وقد نفذ هذا القرار بسماع أقوال الطرفين ثم توفيت المرحومة السيدة شفيقة هانم وحل محلها ورثتها المطعون ضدّهم عدا الأولى.
وفي 16 من إبريل سنة 1939 قضت محكمة استئناف مصر بتأييد الحكم المستأنف مع إلزام الطاعن بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة.
وقد أعلن حكم الاستئناف إلى الطاعن بناء على طلب السيدة بثنة هانم في 24 من مايو سنة 1939.
وفي 22 من يونيه سنة 1939 قرّر الأستاذ وهيب دوس بك المحامي بصفته وكيل الطاعن أنه يطعن بطريق النقض والإبرام في حكم محكمة استئناف مصر سالف الذكر للأسباب التي ذكرها في تقريره وزادها بياناً في المذكرات المقدمة منه... إلخ.


المحكمة

ومن حيث إن الطاعن يبنى طعنه هذا على.......
الوجه الأوّل - بطلان جوهري في الحكم وخطأ في تطبيق القانون:
ويقول الطاعن في بيان هذا الوجه إنه كان من بين أقلام الحساب المتنازع عليها مبلغ 19511 جنيهاً و795 مليماً قال الخبراء إن تحصيله بمعرفة الطاعن ثابت من دفتر اليومية ولم يكن من مأمورية الخبراء أن يقولوا من الذي حصّل هذا المبلغ أهو الطاعن أم أي شخص آخر. وقد أنكر الطاعن قبض هذا المبلغ أو أنه لم يعترف بقبضه فكان لزاماً على المطعون ضدّهم أن يقيموا الدليل القانوني على أنه هو الذي قبضه، ومعرفة نوع هذا الدليل تتوقف على تحديد نوع مسئولية الطاعن عن القبض، فإذا كانت مسئولية تعاقدية وجب أن يكون الدليل كتابياً أو إقراراً، وإن كانت مسئولية عن جنحة كان الدليل هو البينة والقرائن. وقد قصرت محكمة الاستئناف في بيان هذه المسئولية حتى يتبين ما إذا كانت قد أخذت في إثباتها بالدليل القانوني أو لم تأخذ. وإنه بفرض أنها اعتبرت الطاعن مسئولاً عن فعل هو جنحة فكان واجباً عليها أن تبين في أسباب حكمها سبب هذا التكييف الذي هو في الواقع تكييف خاطئ. على أن الطاعن يرى أن مسئوليته عن القبض هي مسئولية تعاقدية لا تثبت بالقرائن التي استندت إليها محكمة الاستئناف.
الوجه الثاني - قصور معيب في الأسباب وخطأ في الإسناد.
ويقول الطاعن في بيان تفريعات هذا الوجه:
1 - إن محكمة الاستئناف أثبتت في أسباب حكمها وجوب استبعاد مبلغ 225 جنيهاً و941 مليماً مما قضى به ابتدائياً لكل من السيدتين بثنة هانم وشفيقة هانم وهو قيمة نصيب كل منهما في مبلغ 2065 جنيهاً و745 مليماً الذي أضيف بدون مبرر على حساب الطاعن، ورغما من هذا فإنها قضت بتأييد الحكم المستأنف، فيكون قضاؤها للسيدتين بثنة هانم والمرحومة شفيقة هانم بنصيبهما في مبلغ 2065 جنيهاً و745 مليماً هو قضاء لا يستند إلى أسباب.
2 - إن محكمة الاستئناف ذكرت في أسباب حكمها أنها تعتبر عدم إنكار الطاعن قبضه مبلغ 19511 جنيهاً و795 مليماً من أول الأمر، وسكوته عن دفع مسئولية القبض عن نفسه، وسيره في الدعوى سنين عديدة متخذاً لنفسه دفاعاً آخر لا يدل على الإنكار - اعتبرت كل ذلك اعترافاً منه بأساس المسئولية.
ويقول الطاعن في هذا الصدد إن الاعتراف لا يصح أن يؤخذ استنتاجاً من مجرّد السكوت عن الإنكار، وإن ما نسبته محكمة الاستئناف إلى الطاعن من عدم الصياح بالإنكار لا يطابق الواقع الثابت في المذكرات المقدّمة منه أمام المحكمة الابتدائية وأمام محكمة الاستئناف، واستند إلى فقرات ذكرها منقولة عن تلك المذكرات... إلخ.
الوجه الأوّل:
من حيث إن محصل هذا الوجه أن المحكمة الاستئنافية لم تبين نوع المسئولية التي ألزمت بمقتضاها الطاعن بنصيب المطعون ضدّهم في مبلغ 19511 جنيهاً و795 مليماً فلم تقل إنها كانت مسئولية تعاقدية أم مسئولية تقصيرية (délictuelle) إلى آخر ما سبق ذكره في تلخيص هذا الوجه.
ومن حيث إنه لا حاجة بمحكمة الاستئناف إلى أن تعرض لبيان نوع مسئولية الطاعن على الصورة التي يرغبها ما دام أنها قد اعتبرته مسئولاً وأثبتت عليه ما ألزمته به بالدليل المقبول قانوناً. على أن محكمة الاستئناف قد أبانت بعبارة لا تحتمل الشك أن مسئولية الطاعن هي مسئولية تقصيرية إذ قالت "ومن حيث إن دعوى المستأنف عليهما في مطالبة المستأنف بنصيبهم الشرعي في هذا المبلغ بنيت على أن المستأنف قبض هذا المبلغ فالقبض حينئذ هو أساس المسئولية". وقالت في موضع آخر: "لو كان المستأنف لم يقبض المبلغ المذكور لصاح في وجه الورثة بذلك وأنكر أساس المطالبة وهو القبض". ولا ترى هذه المحكمة محلاً لزيادة الإيضاح بأكثر مما قالته محكمة الاستئناف.
ومن حيث إن الطاعن يخلط بين المسئولية والدليل، ويرتب على هذا الخلط أنه متى كانت المسئولية تعاقدية كان الدليل كتابياً أو بالإقرار وإن كانت تقصيرية أمكن أن يكون الإثبات بالبينة والقرائن. وهو فيما يذهب إليه غير مصيب، لأن الدليل لا يتعلق إلا بما هو مطلوب إثباته (المواد 214 - 234 من القانون المدني) ولا يرتبط بالمسئولية في ذاتها. فقد تكون المسئولية تعاقدية كالتعهد بعدم فعل شيء (obligation de ne pas faire) ومع ذلك يكون الإثبات بشأنها بالبينة والقرائن عندما يرغب المتعهد له إثبات مخالفة المتعهد لتعهده، وقد تكون المسئولية تقصيرية أو جنائية، كما هو الحال في جريمة خيانة الأمانة، ومع ذلك يكون الإثبات بشأنها بالكتابة بالنسبة للعقد الذي ترتبت به الوديعة متى كان الشيء المودع تزيد قيمته على ألف قرش في غير الأحوال التجارية.
وحيث إنه فيما يتعلق بإثبات قبض الطاعن مبلغ 19511 جنيهاً و795 مليماً فإن هذا القبض الذي تم في صورة الغصب هو أمر جائز إثباته قانوناً بالبينة والقرائن إذ أنه لم يخرج عن كونه واقعة مادية. فإذا كانت محكمة الاستئناف قد أخذت في إثباته بالقرائن فلا تكون قد خالفت القانون. فهذا الوجه إذن لا أساس له.
عن الوجه الثاني:
وحيث إن الطاعن ينعى على محكمة الاستئناف في تفريعات هذا الوجه أوّلاً أنها قضت بتأييد الحكم الابتدائي مع أنها نصت في أسباب حكمها على وجوب استبعاد مبلغ 225 جنيهاً و941 مليماً مما قضى به ابتدائياً لكل من السيدتين بثنة هانم والمرحومة شفيقة هانم.
وحيث إن هذا التحدّي لا يصح الاستناد إليه في الطعن بطريق النقض والإبرام، ومحله الطعن بطريق الالتماس، وقد سلك الطاعن هذا الطريق فعلاً. على أن مصلحة الطاعن في هذا التحدّي سواء أكانت عن طريق النقض أم عن طريق الالتماس قد انعدمت باستبعاد المطعون ضدّهم لهذا المبلغ مما قضى به لهم.
وحيث إن الطاعن ينعى أيضاً في هذا الوجه على محكمة الاستئناف أنها نسبت إليه خطأ أنه لم ينكر مسئوليته عن قبض مبلغ 19511 جنيهاً و795 مليماً واستنتجت من سكوته عن دفع المسئولية أنه معترف بالقبض حالة كونه قد أنكر تلك المسئولية أمام المحكمة الابتدائية وحالة كون الاعتراف لا يصح أن يؤخذ استنتاجاً بل يجب أن يكون صريحاً.
وحيث إن الحكم المطعون فيه يقول في هذا الصدد ما يأتي:
"ولو كان المستأنف لم يقبض المبلغ المذكور كما يدعي أخيراً لصاح في وجه الورثة بذلك وأنكر من أوّل الأمر أساس المطالبة وهو القبض، أما وهو لم يفعل، وقد سكت عن دفع أساس الدعوى الذي هو قبضه الإيجار ولم ينكره، بل سار في الدعوى وفي المرافعة سنين عديدة أمام الخبراء وأمام المحكمة متخذاً في دفاعه سبيلاً آخر لا يدل على إنكار القبض مع أنه الأولى بالتقديم لو كان صحيحاً لأنه إنكار لأساس الدعوى على أن المحكمة عندما كانت تتبع أدوار الدعوى وأقوال المستأنف فيها طول هذه المدّة الكبيرة ما كانت تشعر بأن هناك شكاً أو نزاعاً في قبض المستأنف مبالغ الإيجار المذكور...... حتى جاء بهذا الدفع لأوّل مرة في مذكرته لجلسة 27 أكتوبر سنة 1935 أمام هذه المحكمة إذ كان كل دفاعه قبل ذلك في هذا الشأن قد اقتصر على استبعاد مبلغ 19819 جنيهاً من الحساب وعدم إدخاله فيه بحجة أن هذا المبلغ لم يدخل في الدعوى ولم يطلبه الخصوم ولأنه مرفوع به دعوى أخرى، وليس في هذا الدفاع ما يدل على أنه ينكر قبض المبلغ المذكور، فسلوكه هذا وسيره مع هذا في الدعوى مراحل طويلة هو بلا شك اعتراف منه بأساس الدعوى الذي ينكره الآن".
وحيث إن محكمة الاستئناف عندما آخذت الطاعن بسكوته عن إنكار القبض لم تتجن عليه بل عاملته بإقراره في المذكرة المقدّمة منه لتلك المحكمة بعد حجز القضية للحكم في جلسة 27 من أكتوبر سنة 1935 إذ هو يقول فيها:
"... ولكن - على ما نعتقد - أمام خطأ قضائي خطير كان أساسه دائماً أن الدعوى استغرقت بالتفصيلات التي شغل الخصوم بها فشغلت بها المحكمة في أحكامها المتنوّعة وفات الجميع أثناء هذا الانشغال بالتفصيل أن أساس المسئولية في أهم جزء من الدعوى ليس له وجود بل والدليل مقدّم على نقيضه في نفس الملف وكان تحت نظر الخبراء طوال السنوات التي اشتغلوا فيها بتحضير تقريراتهم المطوّلة، ولعلنا لأوّل مرة نطرح هذا البيان على وجه التفصيل الذي يظهر منه وجه الصواب".
وحيث إنه فضلاً عما تقدّم فإن هذه المحكمة قد راجعت ما قدّمه الطاعن بملف الطعن من العبارات التي اقتطفها من مذكراته المقدّمة أمام المحكمة الابتدائية فلم تجد فيها إنكاراً صريحاً للقبض في ذاته، وكل ما فيها هو إنكار للمسئولية استناداً إلى حكم محكمة الاستئناف الصادر في 27 من يونيه سنة 1923 في الاستئناف رقم 725 سنة 40 قضائية الذي قضى بعدم توافر مسئولية الطاعن قبل باقي الورثة مسئولية ناشئة عن إدارة أموال التركة. ولا جدال في أن مسئولية القبض غير مسئولية الإدارة ولو أنها تتضمن القبض أيضاً لأن المسئولية الأولى مبناها الغصب أما الثانية فمبناها علاقة تعاقدية.
وحيث إن محكمة الاستئناف قد استنتجت اعتراف الطاعن بالقبض من اتخاذه دفاعاً يتعارض مع إنكار القبض، ومن سيره في الدعوى بهذا الدفاع مراحل طويلة، ولم تكن المحكمة مخطئة فيما ذهبت إليه إذ يكفي لتكوين هذه العقيدة أن يكون الطاعن لم يستأنف الحكم التمهيدي القطعي الصادر في 27 من مارس سنة 1931 الذي قضى بمسئوليته عن قبض مبلغ 19511 جنيهاً، وكلف الخبراء بتوزيعه على الورثة بل قبله ونفذه. وفي هذا الرضاء اعتراف ضمني بالمسئولية. وليس في هذا التقدير أية مخالفة للقانون أو للاستنتاج الصحيح لابتنائه على قرينة قانونية قاطعة.
وحيث إنه فضلاً عما تقدّم فإن المحكمة لم تقصد بما سمته "اعترافاً" الإقرار بمعناه القانوني (aveu) وهي لم تكن في حاجة إلى هذا الإقرار لإثبات قبض الطاعن المبلغ المحكوم به عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق