26 - يجب أولاً أن تكون الدعوى التي رفعت أمام إحدى الجهتين القضائيتين هي بعينها التي رفعت أمام الجهة الأخرى بمعنى أن تكون عن نفس الموضوع le même object ولنفس السبب la même cause، وأن تكون بين الخصوم أنفسهم entre les mêms parties، فإذا انعدم واحد من هذه الثلاثة أصبح هناك دعويان مختلفتان، وأصبح المدعي حرًا، بعد أن قدم إحداهما إلى القضاء المدني، أن يقدم الأخرى إلى القضاء الجنائي – جارو (ج 1 ن 184 ص 399) – فستان هيلي ج 4 ن 1716 – 1717 - مانجان (ج 1 ن 18) - فللي ص 215 – لبواتفان مادة (3 ن 24 ولكن في أي الأحوال يحصل الاختلاف في الموضوع وفي السبب وفي الخصوم؟
ضرب لنا القضاء أمثلة عدة في هذا، ونبدأ هنا بقضاء المحاكم الفرنسية ثم نتبعه بقضاء المحاكم المصرية.
( أ ) القضاء الفرنسي:
27 - فإذا رفع الزوج دعوى الطلاق أو الحيلولة séparation de corps أمام المحكمة المدنية وذلك بسبب زنا زوجته (وهذا في الشرائع المسيحية) فإن لهذا الزوج الحق أيضًا في رفع الدعوى المدنية أمام المحاكم الجنائية بسبب الجريمة نفسها لتحكم بالتعويض وبالعقوبة التي تطلبها النيابة العمومية - نقض 22 يونيه سنة 1850 سيريه 50 – 1 – 629 وداللوز 50 – 1 – 208.
28 - وإذا بدد شريك بعض أموال الشركة وترتب على ذلك أن رفع الشريك الآخر دعوى مدنية على شريكه المبدد يطلب فسخ الشركة، ورفع أيضًا دعوى أمام المحكمة الجنائية يطلب تعويضًا مقابل نصيبه فيما بدده شريكه، فإن دعوى الفسخ أمام المحكمة المدنية لا تمنع من نظر دعوى التعويض أمام المحاكم الجنائية - نقض أول إبريل سنة 1865 و 6 يوليه سنة 1878.
29 - وفي قضية أخرى أوقع دائن حجز ما للمدين لدى الغير على أموال من حق مدينه، وعند المطالبة بتثبيت الحجز طلب أن يحكم له برد مبلغ كان مدينه قد استلمه نيابة عنه بصفته وكيلاً، وكان هذا أمام المحكمة المدنية.
بعد ذلك رفع الدائن المذكور دعوى خيانة أمانة أمام المحكمة الجنائية عن هذا المبلغ الأخير الذي استلمه عنه مدينه بصفته وكيلاً.
هنا تساءلت محكمة النقض: هل الدعوى الجنائية مقبولة؟ ثم أليس الغرض من هذه المطالبة المزدوجة أمام المحكمتين المدنية والجنائية رد المبالغ التي سلمت للمدين بصفته وكيلاً عن الدائن ؟
انتهت محكمة النقض في ذلك إلى أن مبدأ (اختيار أحد الطريقين) لا يمكن تطبيقه إلا في حالة ما إذا كان الطلبان الموجهان من شخص واحد وإلى نفس الخصوم متحدين في السبب، وفي الموضوع، وأن الحالة المعروضة عليها، وهي رفع دعوى الجنحة بعد الدعوى المدنية أساسها فعل جديد un fait nouveau وهو تبديد مبالغ بعد قبضها الأمر الذي يقع تحت طائلة قانون العقوبات وأن الغرض منها هو دفع المبلغ المبدد ولو من طريق الإكراه البدني على سبيل تعويض الجريمة بخلاف التعويضات التي للمحكمة أن تقضي بها، وعلى ذلك فليس بين الدعوى المدنية والدعوى الجنائية اتحاد في الطلب identité de démandes فالدعوى الجنائية مقبولة - نقض 16 أغسطس سنة 1851 المجلة ن 341.
30 - وحدث أن تعهد شخص تحت شرط جزائي بعدم تقليد بعض قوالب معينة moulages ولكنه مع ذلك قلدها، فهنا دعويان: دعوى المطالبة بالشرط الجزائي ودعوى التقليد: أساسهما فعل واحد ولهما أيضًا سبب واحد إلا أن الموضوع فيهما يختلف، فإحداهما لا يطلب فيها إلا الشرط المتفق عليه، والأخرى موضوعها المطالبة بالتعويض المبني على التقليد، وفعل التقليد لم يكن إلا شرطًا في الاتفاق بينما هو يكوّن في الدعوى الجنائية السبب الأصلي لرفعها.
وبناءً على هذا قضت محكمة النقض بأنه لا محل لتطبيق مبدأ (اختيار أحد الطريقين) في هذه الحالة وأنه في رفض دعوى التقليد بسبب أن نفس الطلب قدم إلى المحكمة التجارية تجاهل لقواعد اختصاص القضاء الجنائي - نقض 7 مايو سنة 1852 المجلة ن 149.
31 - وفي حالة تشبه الحالة التي وردت في حكم 16 أغسطس سنة 1851 السالفة الذكر (فقرة 29)، حالة المطالبة بمبلغ واحد ولكن باعتبارين مختلفين:
أولاً: المطالبة بحساب.
وثانيًا: الادعاء بتبديد، ففي الأولى طلب رد ما في الذمة، وفي الثانية تعويض ضرر ناشئ عن الجريمة.
هنا قررت محكمة النقض أن ليس ثمت اتحاد في الطلبين، وقررت أن مبدأ (اختيار أحد الطريقين) لا يصح التمسك به ضد المدعي المدني الذي يطالب أمام القضاء الجنائي بتعويض الضرر الذي أصابه عن الجريمة إلا في حالة ما إذا كانت الدعوى المرفوعة من المدعي المدني أمام القضاء المدني موضوعها نفس المطالبة بتعويض الضرر الناشئ عن الجريمة.
وعلى ذلك إذا رفع شخص دعوى أمام المحاكم المدنية على وكيله يطالبه فيها بالحساب عن عمل أداه له، جاز له رغمًا عن ذلك أن يدعي مدنيًا أمام المحكمة الجنائية ليطالب بمبلغ ادعى تبديده وذلك لاختلاف الموضوع في الدعويين، إذ أن الأولى كانت مطالبة بحساب أما الثانية فادعاء بتبديد - نقض 6 أغسطس سنة 1852 المجلة ن 267 – داللوز 1853 - 1 – 70، وراجع أيضًا حكمًا صادرًا في 19 مايو سنة 1893 داللوز 1895 - 1 - 405 -
32 - والطعن بالتزوير في ورقة أمام المحكمة المدنية لا يمنع من طلب تعويض عن هذا التزوير أمام المحكمة الجنائية، لأن موضوع الدعوى الأولى بطلان الورقة المزورة وموضوع الدعوى الثانية تعويض الضرر الناشئ عن تزويرها - العرابي بك في تحقيق الجنايات (ج 1 ص 168).
33 - أن من يحرض امرأة متزوجة على هجر منزل الزوجية لتقيم معه، يجوز أن ترفع عليه دعوى التعويض أمام المحكمة المدنية ولو أن هناك إجراءات جنائية ضده عن جريمة الزنا، لأن دعوى التعويض تستند إلى مبدأ الضرر وليس إلى جريمة الزنا - محكمة أكس 7 يونيه سنة 1882 سيريه (83 – 2 – 218).
34 - لا تطبق قاعدة (اختيار أحد الطريقين) في حالة ما إذا رفع أحد الشركاء دعوى أمام المحكمة التجارية يطلب إبطال التصفية وتعيين مصف جديد، ويطلب بالتبعية دفع المبلغ الذي يتناسب مع الحصة التي قدرت له في رأس مال الشركة، ثم قام هذا الشريك وقاضي بقية الشركاء بعد ذلك أمام محكمة الجنح وطالب بتعويض عن بعض أعمال يعتبرها خيانة أمانة - باريس 2 ديسمبر سنة 1874 – سيريه (75 – 2 – 169) وتعليق فيللي.
35 - إذا رفع المدعي المدني دعواه ضد الفاعل الأصلي أمام المحكمة المدنية فإن ذلك لا يمنعه من الدخول ضد الشريك في الدعوى العمومية أمام المحكمة الجنائية، وذلك لاختلاف الأشخاص - النقض الفرنسي 15 يونيه سنة 1866.
(ب) القضاء المصري.
36 - ذهبت محكمة النقض المصرية مذهب زميلتها الفرنسية في قضية كانت تتعلق بالمطالبة بقيمة كمبيالات اتضح أثناء سير الدعوى أنها مزورة أعطيت للبائع بدلاً من كمبيالات صحيحة، وكانت الكمبيالات ثمنًا لبضاعة حصل تسليمها بالفعل، وبعد انتهاء الدعوى المدنية أقام البائع نفسه مدعيًا مدنيًا في دعوى جنحة مباشرة أقامها على المشتري الذي أعطاه بدلاً من الثمن الكمبيالات التي ظهر تزويرها فيما بعد.
وقضت محكمة النقض بأن حكم المحكمة المدنية الذي قضى بإلزام المشتري بدفع ثمن البضاعة لا يحول دون أن يقيم البائع دعواه الجنائية ليطلب التعويض بسبب هذا التزوير وذلك لاختلاف الموضوع في الدعويين - نقض أول يونيه سنة 1918 المجموعة الأهلية (س 20 ص 2 و 3 ع 2) والذي يلفت النظر في حكم محكمة النقض أنها كونت رأيها على أمرين:
الأول: أن المدعى المدني عند رفع دعواه المدنية التي يطالب فيها بقيمة الكمبيالات، كان يجهل أن هذه الكمبيالات مزورة، وهذه سنتناولها عند بحث ركن العلم (فقرة 40 وما بعدها).
الثاني: أن البائع، وإن كان قد حكم له في النزاع المدني بقيمة المبالغ المذكورة في الكمبيالات المزورة، وهي ثمن البضاعة، لأنه تمكن من إقامة الدليل على صحة التسليم وعدم حصوله على ثمنها، إلا أن هذا الظرف ليس من شأنه تحويل صفة دعواه من مطالبة بدين (وهو موضوع الدعوى المدنية) إلى دعوى تعويض (وهو موضوع الدعوى الجنائية) وهو الأمر الذي لم يطرح أمام المحكمة المدنية.
37 - وإذا حملت الزوجة سفاحًا كان للزوج الحق في نفي نسب المولود بدعوى اللعان والحصول منها على تعويض نظير الزنا بالدعوى المدنية، ودعوى اللعان أمام المحكمة الشرعية لا تمنع رفع الدعوى المدنية أمام المحكمة الجنائية لاختلاف الدعويين في الموضوع.
38 - إذا رفع المدعي دعوى مدنية على وكيله يطالبه فيها بتقديم حساب له عن مدة وكالته ثم شطبها بعد أن أقر له الوكيل بما في ذمته فطالبه بما أقر به فامتنع عن الدفع، جاز له أن يرفع دعواه مباشرة إلى القضاء الجنائي بطلب التعويض لاختلاف السبب في الدعويين لأنه في دعواه المدنية كان يطلب الحساب، أما في الدعوى الجنائية فإنه يطلب تعويضًا عما لحقه بسبب التبديد فلا يوجد والحالة هذه اتحاد في السبب (مصر الكلية دائرة الجنح المستأنفة حكم 5 مايو سنة 1929 غير منشور) وقد استند الحكم على موسوعات كاربنتييه (ج 2 ص 340 ن 395 و 397 و 405 – 407)، واستند أيضًا على حكم محكمة النقض السابق ذكره في البند (29) من هذا البحث.
39 - إلا أن محكمة النقض ذهبت إلى عدم قبول دعوى جنحة مباشرة مرفوعة من المدعي المدني بتزوير عقد بواسطة تحريره على ورقة ممضاة على بياض لسبق رفع دعوى أمام المحكمة المدنية ببطلان هذا العقد لتحريره في حالة سكر، وقالت أن الاختلاف بين الدعويين اختلاف ظاهري في الشكل فقد والغرض الحقيقي منهما واحد - نقض 18 إبريل سنة 911 المجموعة (س 12 ص 172 ع 90).
ويعلق العرابي بك على هذا الحكم بأن الدعويين مختلفان في السبب - العرابي بك (ج 1 ص 169) حاشية (5 من ص 168).
الشرط الثاني:
40 - زيادة على ما تقدم فإنه من المتفق عليه في فرنسا أنه يجب أن يختار الشخص أي الطريقين المدني أو الجنائي، وهو عالم بأن له مطلق الحرية في هذا الخيار، وبعد ظهور جميع ظروف الدعوى جلية أمامه، وهذا ما يسمى بشرط العلم.
41 - فإذا ما رفع شخص دعواه أمام المحكمة المدنية ولم يكن قد ظهر له بعد أن للدعوى صبغة جنائية بل كانت غير موجودة عند رفع دعواه المدنية، جاز له بعد ذلك، ولو أنه اختار من قبل الطريق المدني، أن يعود إلى رفع دعواه أمام المحاكم الجنائية - راجع في ذلك فستان هيلي (ج 2 ن 618) وحكم النقض الفرنسي المنشور في سيري 1832 – 1 – 666، وراجع جارو (ج1 ن 184 ص 401) - فللي ص (215).
42 - ويقول في ذلك جارو:
(إن الاختيار (ويقصد اختيار أحد الطريقين المدني أو الجنائي) الذي يحدد مركز رافع الدعوى يجب أن يحصل بعد أن يعرف المدعي حقيقة الظروف ويقف على السبب، وقاعدة اختيار أحد الطريقين مبناها قبول الطرفين للمحكمة التي رفعت أمامها الدعوى أولاً، والمفروض في كل عقد توافق الإرادتين، فينتج من هذا أنه في حالة ما إذا رفعت الدعوى أمام المحكمة الاعتيادية وظهر من أصولها أنها مدنية محضة ثم تبين بعد ذلك ظهور أشياء كانت لم تزل مجهولة وتسبب عن ظهورها إكساب الدعوى صبغة جنائية، في هذه الحالة يجب أن تقبل الدعوى أمام القضاء الجنائي، لأن الدعوى ولو أن موضوعها واحد بين نفس الخصوم إلا أنها في الحقيقة مؤسسة على سببها الأول fondé sur une autre Cause – شرح جارو في تحقيق الجنايات (1 ن 184 جـ 401).
43 - ويوافق جارو في رأيه فستان هيلي إذ يقرر هذا الأخير:
(إنه لأجل الحيلولة دون اتخاذ الطريق الجنائي بعد المدني يشترط أن يحصل اتخاذ الطريق المدني مع محض الاختيار ومعرفة السبب، فلا يصح أن يذهب المجني عليه ضحية جهله بما لم يكن في مقدور أحد أن يعرفه، ولا يصح أن يفرض عليه معرفة شيء لم يوجد ولم يخلق بعد، لأنه يمكن أن يكون غير عالم بالوقائع التي تعطى الفعل صبغة جنائية عندما رفع دعواه (أي الدعوى المدنية) فلماذا نحرمه من رفع دعوى (ويقصد الدعوى الجنائية) لم تفلت منه إلا بسبب خطأ بسيط لم يكن يعلمه)
ثم أضاف الشارح المذكور
(فإذا كان مبنى الجريمة فعل جديد، وإذا كان المدعي لم يختر دعواه وهو على تمام العلم بسببها، في هذه الحالة يظل الطريق الجنائي مفتوحًا أمامه)، فستان هيلي (ج2 ن 618 ص 67، 68).
44 - وضربوا لذلك مثلاً حالة صاحب الوديعة والمودع لديه، فإن صاحب الوديعة إذا طالب المودع لديه بالوديعة أمام المحكمة المدنية، ثم ظهر له بعد ذلك أنها بددت، جاز له أن يترك دعواه ويرفعها ثانيًا أمام المحكمة الجنائية، لأنه عندما رفع دعواه الأولى المدنية كان يجهل وجود التبديد، فلم يكن أمامه من سبيل إلا الطريق المدني، ومن جهة أخرى فإن سبب الدعوى قد تغير إذ أن سبب الأولى هو الوديعة وسبب الثانية هو التبديد - المرجعين السابقين - فللي ص (215).
45 - وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض المصرية في حكم أول يونيه سنة 1918 السالف ذكره في بند (36) من هذا البحث حيث جاء في حيثيات حكمها:
(وحيث إنه لا يجوز التمسك ضد المدعي المدني بالقاعدة القائلة بأن من يختار الطريق المدني لا يصح له أن يلجأ إلى الطريق الجنائي، وذلك لأن رافع النقض كان يجهل وجود التزوير فلذا لم يكن من سبيل أمامه سوى الطريق المدني - ومن ثم لا يمكن اعتباره أنه كان حرًا في اختيار أحد أمرين لم يكونا قد توفرا بعد أمامه).
46 - ويرى جارو، زيادة على ما تقدم، أن النيابة العمومية إذا رفعت الدعوى العمومية في أثناء دعوى مدنية كان قد رفعها المجني عليه فيجوز لهذا الأخير أن يترك دعواه أمام المحكمة المدنية، وهي الدعوى التي وجب إيقافها بالدعوى العمومية، ليدخل بصفة مدعٍ مدني أمام المحكمة الجنائية.
ويعلل ذلك جارو بأن رفع النيابة للدعوى العمومية يعتبر أنه شيء أو فعل جديد un fait nouveau لم يكن يتوقعه المدني بل ويغير من مركزه فلا يمكن القول بأنه استعمل حق الخيار الذي منحه له القانون وهو عالم بحقيقة الحال - جارو (جـ 1 ن 184 ص 402).
47 - وبعض الشراح عندنا لا يوافق على هذا الرأي ويقول أنه يخالف نص المادة (239) جنايات التي تحرم رفع الدعوى المدنية إلى المحكمة الجنائية بعد رفعها للمحكمة المدنية ولم تميز بين حالة رفع الدعوى العمومية من النيابة أو من المدعي المدني مباشرة.
وقد تقدم أن رفع الدعوى المدنية أمام المحاكم المدنية لا يحرم المدعي المدني من التبليغ عن الجريمة للنيابة العمومية، كما لا يمنع النيابة العمومية من رفع الدعوى العمومية بناءً على هذا التبليغ ولكنه يحرم المدعي من الدخول بصفة مدعٍ مدني في هذه الدعوى - العرابي بك (جـ1 ص169)، وهو يحيل على النقض الفرنسي في 17 يونيه سنة 846، 6 يوليه سنة 1866 ولبوا اتفاق مادة (3 ن 21).
الشرط الثالث:
48 - يجب أن تكون الجهة القضائية التي رفع إليها الأمر جهة مختصة، فإذا قضت المحكمة المدنية بعدم اختصاصها يمكن للمدعي أن يجدد دعواه إما أمام القضاء الجنائي وإما أمام القضاء المدني المختص - راجع جرانمولان في تحقيق الجنايات (جـ 1 ص 83 ن 134 فقرة (2)).
49 - إلا أن هذا الرأي محل بحث
لأن محكمة اميان (راجع حكمها الصادر في 23 أغسطس سنة 1863) قضت بوجوب التمييز بين الاختصاص المطلق بالنسبة لنوع القضية والاختصاص النسبي بسبب المكان، وقررت أن لا أهمية لعدم اختصاص المحكمة التي رفعت لها الدعوى ما دام يمكن رفعها لمحكمة أخرى من نوعها، فإن المدعي المدني الذي أخطأ في توجيه دعواه تبقى له حرية رفع الدعوى للمحكمة المختصة، وما دام الطريق المدني الذي اختاره أولاً لم يزل مفتوحًا أمامه فلا تكون له الحرية في تركه والالتجاء للطريق الآخر.
50 - إلا أن محكمة النقض الفرنسية رفضت هذا الرأي ولم تقبله وكذلك لم يقبله الشراح بناءً على أنه لا يوجد في القانون الفرنسي نص يقضي بعدم قبول الدعوى المدنية أمام المحاكم الجنائية بعد رفعها للمحاكم المدنية، وإنما قرر القضاء هذه القاعدة بناءً على قواعد العدالة التي تقضي بعدم جواز التنقل بالمتهم من اختصاص لآخر والتنازل إضرارًا به عن المحكمة التي رفعت لها الدعوى أولاً، وهذا غير متوافر في حالة الحكم بعدم الاختصاص لأن المدعي لم يترك باختياره الطريق الذي اتخذه أولاً بل أن هذا الطريق أقفل في وجهه فعاد إلى حالته التي كان عليها قبل رفع الدعوى فيجوز له رفعها إلى المحكمة الجنائية - العرابي بك (ص 171) الجزء الأول - منجان (ج ان 26) - فللي (ص 215) - جارو (ج ا ن 184 ص 402).
51 - ويرجح العرابي بك القضاء الذي ذهبت إليه محكمة أميان ويقول أن مجرد اتخاذ المدعي المدني الطريق المدني مع علمه بالجريمة وقدرته على اتخاذ الطريق الجنائي يفيد تنازله عن هذا الطريق الأخير، وخطؤه في اختيار المحكمة المختصة من بين المحاكم المدنية التي انحصر فيها حقه لا ينبنى عليه إلا تصحيح هذا الخطأ، وما دام أن الطريق المدني الذي اختاره ما زال مفتوحًا أمامه فليس له أن يعدل عنه ويتخذ الطريق الجنائي بعد أن سقط حقه فيه.
ويترجح هذا الرأي على الأكثر في القانون المصري إذا اعتبرنا الأسباب التي بنى عليها الرأي الآخر إذ بنوه على أن قاعدة أنه لا يجوز رفع الدعوى المدنية للمحاكم الجنائية بعد رفعها للمحاكم المدنية لم تقرر بنص صريح في القانون، وإنما المحاكم هي التي قررتها بناءً على قواعد العدل فوجب حصرها في الحدود التي تقتضيها الأسباب التي بنيت عليها، وقد قال جارو صراحة أن رأي محكمة اميان كان يمكن قبوله لو أن المبدأ كان مقررًا بنص صريح في القانون، وقد تقرر هذا المبدأ صراحة في القانون المصري بالمادة (239) جنايات فلا محل لتضييق دائرة تطبيقه - العرابي بك (جـ 1 ص 171).
52 – وأخيرًا، هل قاعدة (اختيار أحد الطريقين) من النظام العام؟
53 - قضت بعض المحاكم الفرنسية بأن القاعدة ليس مبناها النظام العام فلا يمكن الدفع بها لأول مرة أمام محكمة الاستئناف - راجع حكم محكمة بوردو الصادر في 15 نوفمبر سنة 1888 سيريه (1889 - 2 – 239).
54 - ويرى نشأت بك عدم الأخذ بهذا الرأي لوجود القاعدة بنص صريح في القانون المصري بخلاف حالها في القانون الفرنسي - نشأت بك في تحقيق الجنايات (جـ 1 ص 371).
55 - ويقول العرابي بك أن عدم قبول الدعوى المدنية أمام المحاكم الجنائية لسبق رفعها أمام المحاكمة المدنية ليس من النظام العام فلا يجوز للمحكمة أن تحكم به من تلقاء نفسها بل لا بد وأن يتمسك به المتهم ويبديه قبل الدخول في الموضوع - العرابي بك (جـ 1 ص 172)، وهو يحيل على النقض الفرنسي 8 يوليه سنة 1853 و 26 إبريل سنة 1884 - وجارو (جـ 1 ن 185) ولبواتفان مادة (3 ن 22)، ونحن نميل إلى هذا الرأي لوجاهته،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق