القضية رقم 183 لسنة 31 ق " دستورية " جلسة 1 / 4 / 2012
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الأحد، الأول من إبريل سنة 2012م،
الموافق التاسع من جماد الأول سنة 1433هـ.
برئاسة السيد المستشار / فاروق أحمد سلطان رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين:- على عوض محمد صالح وأنور رشاد العاصي وعبد
الوهاب عبد الرازق ومحمد عبد العزيز الشناوي والسيد عبد المنعم حشيش وبولس فهمي
اسكندر نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار / حاتم حمد بجاتو رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم183 لسنة 31
قضائية " دستورية ".
المقامة من
السيد / هشام ماهر محمد شوقي
ضد
1 - السيد رئيس الجمهورية
2 - السيد رئيس مجلس الوزراء
3 - السيد رئيس مجلس الشعب
4 - السيد وزير العدل
5 - السيد النائب العام
6 - السيد / عبد الله عبد الستار المداح
الإجراءات
بتاريخ الخامس من شهر سبتمبر سنة 2009 ، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى
قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالباً الحكم بعدم دستورية المادة رقم (337)
من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937، والمادة رقم (534) من قانون
التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة ، طلبت فيها الحكم أصلياً: بعدم قبول
الدعوى ، واحتياطياً: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها .
ونُظرت الدعوى ، على النحو المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار
الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل
في أنه بتاريخ 15/11/2005 قدمت النيابة العامة المدعى للمحاكمة الجنائية أمام
محكمة جنح المنتزه، بتهمة إعطائه للمدعى عليه الأخير بسوء نية شيكاً بنكياً لا
يقابله رصيد قائم وقابل للسحب مع علمه بذلك، وطلبت عقابه بالمادتين ( 336 و337) من
قانون العقوبات والمادة (534) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999.
وبجلسة 28/5/2006 قضت المحكمة غيابياً بحبس المدعى ثلاثة أشهر، فعارض في هذا
الحكم، وأثناء نظر معارضته دفع بعدم دستورية المادتين (337) من قانون العقوبات و
(534) من قانون التجارة المار ذكرهما، وإذ قدرت المحكمة جدية الدفع وصرحت للمدعى
بإقامة الدعوى الدستورية ، فقد أقام دعواه الماثلة .
وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت بعدم قبول الدعوى من وجهين، الأول:
يتعلق بالمادة (337) من قانون العقوبات، على سند من أن المحكمة الدستورية العليا
سبق لها أن قضت بجلسة 15/1/2006 في القضية رقم 118 لسنة 21 قضائية " دستورية
" بعدم قبول الطعن بعدم دستورية نص المادة رقم (337) من قانون العقوبات،
فضلاً عن أن هذا النص لم يعد مطبقاً اعتباراً من أول أكتوبر سنة 2005 تاريخ العمل
بأحكام الشيك في قانون التجارة الجديد . أما الوجه الثانى : فقد أستندت فيه هيئة
قضايا الدولة على أن المحكمة الدستورية العليا سبق أن أعملت رقابتها على نصوص
قانون التجارة سالف الذكر بما فيها المادة رقم (534) وقامت بفحص وتمحيص المناعى
المتعلقة بأحكام الشيك وبياناته وأجازت تلك النصوص.
وحيث إن هذا الدفع بوجهيه مردود، ذلك أن المستقر عليه في قضاء المحكمة
الدستورية العليا، أن الحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية يقتصر
نطاقها على النصوص التشريعية التى كانت مثاراً للمنازعة حول دستوريتها، وفصلت فيها
المحكمة فصلاً حاسماً بقضائها، أما ما لم يكن مطروحاً على المحكمة ، ولم تفصل فيه،
فلا تمتد إليه تلك الحجية . لما كان ذلك، وكان نطاق الدعوى رقم 118 لسنة 21 قضائية
دستورية ، قد تحدد بالطعن على دستورية الفقرة الثانية من المادة الأولى وعجز
الفقرة الأولى والثانية من المادة الثالثة من مواد إصدار قانون التجارة رقم 17
لسنة 1999، وقد انتهت المحكمة في قضائها إلى عدم قبول الدعوى ، دون أن تفصل في دستورية
نص أى من المادتين (337 ) من قانون العقوبات ، أو المادة (534) من قانون التجارة ،
كما لم تقرر في قضائها بأن النص الأخير يعتبر قانوناً أصلح للمتهم ، فإن حجية هذا
الحكم تظل مقصورة على هذا النطاق، ولا تمتد إلى ما يجاوزه، لتبقى المادة رقم (337)
من قانون العقوبات والمادة رقم (534) من قانون التجارة مطروحتين على هذه المحكمة
لتفصل في دستوريتهما، ومن ثم يغدو الدفع المبدى من هيئة قضايا الدولة في غير محله.
وحيث إن المدعى يطلب الحكم بعدم دستورية المادتين (337) من قانون
العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937 ، و (534) من قانون التجارة الصادر
بالقانون رقم 17 لسنة 1999، والتى تنص أولهما على أنه: " يحكم بهذه العقوبات
على كل من أعطى بسوء نية شيكاً لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب أو كان الرصيد أقل
من قيمة الشيك أو سحب بعد إعطاء الشيك كل الرصيد أو بعضه بحيث يصبح الباقى لا يفى
بقيمة الشيك أو أمر المسحوب عليه الشيك بعدم الدفع".
وتنص ثانيتهما على أن:-
1- "يعاقب بالحبس وبغرامة لا تجاوز خمسين ألف جنيه أو بإحدى
هاتين العقوبتين كل من ارتكب عمداً أحد الأفعال الآتية :-
(أ) إصدار شيك ليس له مقابل وفاء قابل للصرف.
(ب) استرداد كل الرصيد أو بعضه أو التصرف فيه بعد إصدار الشيك بحيث
يصبح الباقي لا يفي بقيمة الشيك.
(ج) إصدار أمر للمسحوب عليه بعدم صرف الشيك في غير الحالات المقررة
قانوناً.
(د) تحرير شيك أو التوقيع عليه بسوء نية على نحو يحول دون صرفه.
2-............ 3-............ 4-............".
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن شرط المصلحة الشخصية
المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة الدستورية من جوانبها
العملية وليس من معطياتها النظرية ، وهو كذلك يقيد تدخلها في هذه الخصومة ، فلا
تفصل في غير المسائل الدستورية التى يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعى . ويتحدد
مفهوم هذا الشرط باجتماع عنصرين: أولهما: أن يقيم المدعى – في حدود الصفة التى
اختصم بها النص الطعين – الدليل على أن ضرراً واقعياً قد لحق به، سواء كان مهدداً
بهذا الضرر، أم كان قد وقع فعلاً. ثانيهما: أن يكون هذا الضرر عائداً إلى النص
المطعون فيه، وليس ضررًا متوهماً أو منتحلاً أو مجهلاً، فإذا لم يكن هذا النص قد
طبق أصلاً على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان
الإخلال بالحقوق التى يدعيها لا يعود إليه، دلّ ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة
، إذ أن إبطال النص التشريعى في هذه الصور جميعها لن يحقق للمدعى أى فائدة عملية
يمكن أن يتغير بها مركزه القانونى بعد الفصل في الدعوى الدستورية عما كان عليه
قبلها.
وحيث إن النيابة العامة كانت قد أسندت إلى المدعى أنه بتاريخ
31/1/2005 أعطى بسوء نية للمدعى عليه الأخير شيكاً لا يقابله رصيد قائم وقابل
للسحب مع علمه بذلك، وقدمته للمحاكمة الجنائية بجلسة 5/11/2005، وطلبت عقابه
بالمادتين (336،337) من قانون العقوبات والمادة (534) من قانون التجارة الصادر
بالقانون رقم 17 لسنة 1999. وإذ كان المقرر في قضاء هذه المحكمة أن قانون التجارة
المشار إليه قد تفرد بتنظيم أحكام الشيك المدنية والجزائية معا، وأن نص المادة
(337) من قانون العقوبات، الذى تضمن تجريم اعطاء شيك بدون رصيد، قد أُلغى بمقتضى
نص الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 17 لسنة 1999 بإصدار قانون التجارة
المعدل. لما كان ذلك، وكان المقرر قانوناً عملاً بنص المادة (5) من قانون
العقوبات، أن يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها، إلا أنه
يستثنى من ذلك حالة صدور قانون أصلح للمتهم بعد وقوع الفعل وقبل صدور حكم حائز
لقوة الأمر المقضى ، فإنه يغدو جديراً بالاتباع دون غيره، وبالتالى ينحصر مجال
سريان القانون الأحدث على الأفعال اللاحقة لنفاذه، فلا يسرى بأثر رجعى كلما كان
أشد وقعاً على المتهم، كما يسرى القانون الأحدث على وقائع كان يؤثمها قانون سابق،
كلما كان القانون الجديد أكثر يسراً للمتهم، فينشئ له مركزاً جديداً من خلال رد ما
ارتكبه إلى دائرة المشروعية .
لما كان ما تقدم، وكانت القوانين الجزائية التى تجرى مقارنتها ببعض
تحديداً لأصلحها للمتهم، تفترض اتفاقها جميعاً مع أحكام الدستور، وتزاحمها على محل
واحد، وتفاوتها فيما بينها في عقوباتها، فلا تغلب من صور الجزاء التى تتعامد على
المحل الواحد، إلا تلك التى تكون في محتواها أو شرائطها أو مبلغها أقل بأساً من
غيرها، وأهون أثراً. وترتيباً على ما سلف، فإذا كان القانون الملغى ، الذى ارتكب
في ظله الفعل، غير دستورى ، امتنع تطبيق القانون الجديد على الوقائع التى حدثت قبل
صدوره، وإلا كان إعمال النص الجديد على الوقائع السابقة على نفاذه انتهاكاً لقاعدة
شرعية الجرائم والعقوبات، إذ سوف ينسحب في هذه الحالة على أفعال غير مؤثمة ، وبذلك
فإن قاعدة القانون الأصلح للمتهم لا تطبق إلا بافتراض دستورية القانونين الأقدم
والأحدث. وينبنى على ذلك، أن تتوافر للمدعى مصلحة في الطعن بعدم دستورية نص المادة
(337) من قانون العقوبات، حتى لو كان مخاطباً بنص المادة (534) من قانون التجارة ،
إذا عُدّ قانونا أصلح له، لأن من شأن القضاء بعدم دستورية المادة (337) من قانون
العقوبات أن يزول عن فعله الوصف التجريمى ويغدو فعلاً مباحاً.
وحيث إن هذه المحكمة بما لها من هيمنة على الخصومة الدستورية وتوجهيها
لإجراءاتها ، وبمراعاة ما قصده المدعى منها ، يقتضيها أن تُدْخِل في نطاق المسائل
الدستورية التي تدعى للفصل فيها ، ما يكون من النصوص القانونية مرتبطاً ارتباطاً
لازماً بالنصوص المطعون عليها، حتى ولو لم يتضمنها الدفع بعدم الدستورية المبدى من
المدعى . لما كان ذلك، وكانت جريمة إعطاء شيك لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب
التى نسبتها النيابة العامة للمدعى ، تفترض تجريم المشرع لهذا الفعل من خلال
العقوبة التى فرضها على من أتاه، وبالتالى تنحصر مصلحة المدعى في الطعن على
العقوبة المقررة لارتكاب هذه الجريمة فقط، والواردة بصدر المادة (336) من قانون
العقوبات، والتى نصت على عقوبة الحبس محددة بحديها الأدنى والأقصى ، دون بقية نص
المادة المذكورة ، ليكون النص المطعون عليه ترتيباً على ما تقدم وفى حدود ما سلف
هو: " يعاقب بالحبس كل من أعطى بسوء نية شيكاً لا يقابله رصيد قائم وقابل
للسحب". دون باقى أحكام المادتين ( 336 ، 337) من قانون العقوبات.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة ، قد جرى على أن الأصل المقرر بنص المادة
الثالثة من قانون المرافعات المدنية والتجارية ، هو ألا تقبل أى دعوى لا تكون
لرافعها فيها مصلحة قائمة يقرها القانون، أو مصلحة محتملة بالشروط التى بينها. وقد
أحال قانون المحكمة الدستورية العليا بنص مادته الثانية والعشرين إلى أحكام قانون
المرافعات جميعها كافلاً سريانها على الدعاوى والطلبات التى تقدم إليها بشرط ألا
يكون قانونها متضمناً لتنظيم خاص على خلافها؛ وألا يكون تطبيقها منافياً لطبيعة
اختصاص المحكمة والأوضاع المقررة أمامها. وكلا الشرطين منتفيان في نطاق المصلحة
الشخصية المباشرة التى يعد توافرها من الشروط الجوهرية التى لا تقبل الدعوى
الدستورية في غيبتها. لما كان ذلك، وكان افتراض تطهير نص المادة (337) من قانون
العقوبات، محدداً نطاقه على نحو ما سلف، من عوار عدم الدستورية يتيح إعمال نص
المادة (534) من قانون التجارة ، فيما لو تم اعتباره قانوناً أصلح للمدعى ، فتتحقق
له بذلك مكنة دفع ضرر محقق، وهو مناط توافر المصلحة المحتملة وفقاً لنص المادة
الثالثة من قانون المرافعات.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة في شأن كل قانون أصلح للمتهم يصدر بعد وقوع
الفعل – وقبل الفصل نهائياً في الدعوى المقامة بشأنه – مؤداه أن سريان القانون
اللا حق في شأن الأفعال التى أثمها قانون سابق، وإن اتخذ من المادة الخامسة من
قانون العقوبات موطئاً وسنداً، إلا أن صون الحرية الشخصية التى كفلتها المادة (41)
من دستور سنة 1971 والتى تتطابق معها المادة (8) من الإعلان الدستورى الصادر في 30/3/2011،
هى التى تقيم هذه القاعدة وترسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها،
ذلك أن كل قانون جديد يمحو التجريم عن الأفعال التى أثمها القانون القديم إنما
ينشئ للمتهم مركزاً قانونياً جديداً، ومن ثم يحل القانون الجديد- وقد صار أكثر
رفقاً بالمتهم وأعون على صون الحرية الشخصية – محل القانون القديم، فلا يتزاحمان أو
يتداخلان، بل ينحى ألحقهما أسبقهما. متى كان ذلك، وكانت الفقرة (1) من المادة
(534) من قانون التجارة سالف الذكر تنص على الآتى : " يعاقب بالحبس وبغرامة
لا تجاوز خمسين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب عمداً أحد الأفعال
الآتية : (أ) إصدار شيك ليس له مقابل وفاء قابل للصرف." وهو ما يتبين منه أنه
وإن كان قانون التجارة قد أتاح للمحكمة القضاء بالحبس والغرامة معا، إلا أنه أجاز-
في الوقت ذاته- الحكم بإحدى هاتين العقوبتين، ومن ثم فإنه في حالة المدعى ، يكون
من شأن تطبيق نص قانون التجارة المطعون عليه أن يتاح لمحكمة الموضوع إبدال عقوبة
الغرامة بعقوبة الحبس، مما يعتبر قانوناً أصلح للمتهم، بحسبانه يعبر عن قيم حديثة
تبناها المجتمع بعد ما أجاز استبدال عقوبة أقل قسوة وهى الغرامة بعقوبة الحبس
المطلق، وبذلك يكون المدعى مخاطباً بنص المادة (534) من قانون التجارة وتترتب له
مصلحة في الطعن على نص البند (أ) من الفقرة (1) من تلك المادة ، دون سائر فقراتها
وبنودها.
وحيث إن المقرر في قضاء
المحكمة الدستورية العليا، أن حماية هذه المحكمة للدستور، إنما تنصرف إلى الدستور
القائم، إلا أنه إذا كان هذا الدستور ليس ذا أثر رجعى ، فإنه يتعين إعمال أحكام
الدستور السابق الذى كان القانون المطعون عليه نافذاً في ظل أحكامه، طالما أن هذا
القانون قد عُمل بمقتضاه إلى أن تم إلغاؤه خلال مدة سريان ذلك الدستور. متى كان
ذلك، وكان نص المادة (337) من قانون العقوبات المطعون عليه، قد تم إلغاؤه بموجب
الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 17 لسنة 1999 بإصدار قانون
التجارة المعدل سالف الذكر، قبل نفاذ الإعلان الدستورى الصادر بتاريخ 30 مارس سنة
2011 بعدة سنوات، فلا يمكن الاحتكام إلى ما ورد بذلك الإعلان الدستورى فيما يتعلق
بنص المادة (337) من قانون العقوبات، وإنما يتعين الاحتكام بشأنه إلى الأحكام التى
تضمنها دستور سنة 1971، وذلك خلافاً للمادة (534) من قانون التجارة الجديد، التى
وإن عمل بها قبل صدور الإعلان الدستورى سالف الذكر، إلا أنها ما زال معمولاً بها
في ظل ذلك الإعلان. لما كان ذلك، وكان قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الطبيعة
الآمرة لقواعد الدستور وعلوها على ما دونها من القواعد القانونية ، تقتضى إخضاع
تلك القواعد جميعها- وأيا كان تاريخ العمل بها – لأحكام الدستور، لضمان اتساقها
والمفاهيم التى أتى بها، فلا تتفرق هذه القواعد في مضامينها بين نظم مختلفة يناقض بعضها
البعض، بما يحول دون جريانها وفق المقاييس الموضوعية ذاتها التى تطلبها الدستور
القائم كشرط لمشروعيتها الدستورية . وترتيباً على ما تقدم، فإن نصوص الإعلان
الدستورى الصادر في 30 مارس سنة 2011، تعتبر الوثيقة الدستورية الحاكمة لنص المادة
(534/1) من قانون التجارة .
وحيث إن المدعى ذهب إلى أن نص
المادة (534) من قانون التجارة لا يختلف في مضمونه عن المادة (337) من قانون
العقوبات وإن تباينا في الشكل، وينعى بالسبب الأول على المادتين المشار إليهما عدم
تحديد جريمة الشيك بدون رصيد مما أدى إلى تجهيلها وإبهام بعض جوانبها، بما يحول
بين المخاطبين بها وإدراك حقيقة الأفعال التى يتعين عليهم تجنبها، كما يحجب محكمة
الموضوع عن إعمال قواعد من ضبطة تحدد أركان الجريمة وتقرر عقوبتها، لأن توقيع
العقوبة يجب أن يتم بناء على قانون يكون مبيناً للفعل الإجرامى والعقوبة الواجبة
التطبيق، وألا يكون قد خرج على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، خاصة وأن قانون
التجارة القديم لم يستخدم مصطلح الشيك، أو حق الحامل عليه، ولم يتعرض لتداول
الشيك، ولم ينظم الوفاء به، كما لم يحط بالنتائج المترتبة على عدم الوفاء، ولم
يبين الحقوق والواجبات التى يرتبها الشيك، بين المتعاملين به، فضلاً عن أن التنظيم
الوارد بذلك القانون في المادتين ( 191 ، 193 ) يتعلق بالحوالات الواجبة الدفع
بمجرد الاطلاع عليها؛ والأوراق المتضمنة أوامر دفع، وكلها لا تعد من قبيل الشيكات،
وبذلك فإن النص على التجريم المار ذكره، ورد غامضاً غير محدد بما يخالف المادة
(66) من دستور سنة 1971.
وحيث إن هذا النعى غير سديد،
ذلك أن المقرر في قضاء هذه المحكمة ، أن غموض النص العقابي يعنى أن يكون مضمونه
خافياً على أوساط الناس باختلافهم حول فحواه ومجال تطبيقه وحقيقة ما يرمى إليه،
فلا يكون محددا بطريقة قاطعة الأفعال المنهي عن ارتكابها، بل مجهلاً بها ومؤدياً
إلى إبهامها ، إذ أن غموض النص العقابي يعوق محكمة الموضوع عن إعمال قواعد صارمة
جازمة تحدد لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا لبس فيه. وإذا كان تقدير
العقوبة وتقرير أحوال فرضها هو مما يدخل في نطاق السلطة التقديرية التى يمارسها
المشرع في مجال تنظيم الحقوق، إلا أنه يتعين أن يكون النص العقابى قاطعا لا تتداخل
معانيه فيما بينها أو تتشابك. لما كان ذلك، وكان نص المادة (337) عقوبات والمادة
(534) من قانون التجارة قد رهن تأثيم فعل اعطاء شيك بسوء نية لا يقابله رصيد قائم
وقابل للسحب، بعدم وجود ذلك الرصيد، كما حدد أوصاف الرصيد الذى يتعين توفره في حساب
الساحب لنفى الجريمة ، وهو أن يكون قائماً عند اعطاء الشيك بمقدار المبلغ المدون
به، وأن يكون قابلاً للسحب، فإن خولفت هذه الشروط، قام الركن المادى للجريمة ،
وبذلك يكون النصان المطعون عليهما قد عينا الأفعال موضع التأثيم، وهى اعطاء شيك
بسوء نية لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب مع العلم بذلك ، وحددا على نحو دقيق
أوصاف الرصيد الذى يدرأ عن الساحب وصف الجريمة .
وحيث إن ما ذهب إليه المدعى
بشأن عدم تناول قانون التجارة القديم أحكام الشيك، غير سديد، ذلك أن المادة (128)
من القانون المذكور نصت على أن " الكمبيالة المسحوبة لدفع قيمتها عند الاطلاع
عليها تكون واجبة الدفع بمجرد تقديمها". كما تناول الفصل السابع من القانون
ذاته السندات التى تحت أذن والسندات التى لحاملها وغيرها من الأوراق التجارية ،
وتضمنت المادة (191) النص على أوراق الحوالات الواجبة الدفع بمجرد الاطلاع عليها،
وبذلك تكون المواد المذكورة قد كشفت عن خصائص الشيك وحددت أركانه القانونية ، وإذا
كان الشيك أداة وفاء يقوم مقام النقود ومن ثم وجب أن يكون مستحق الدفع لدى
الاطلاع، وهو المعبر عنه في المادة (191) المار ذكرها بالحوالة الواجبة الدفع
بمجرد الاطلاع عليها. بما يعنى أن قانون التجارة القديم تضمن الاشارة إلى الشيك
بمعناه الذى استقر عليه. ولا ينال مما تقدم أن القانون المذكور لم ينص صراحة على
تعبير "الشيك" عند ما تناول الحوالات الواجبة الدفع بمجرد الاطلاع
عليها، لأن المشرع الجنائى عندما اختص الشيك بالحماية الجنائية ، فقد كان ذلك من
قبيل التخصيص الذى يضيق من نطاق النص التجارى ويحدد على وجه الدقة الفعل الجنائى
نافيا عنه التجهيل والإبهام متفقاً مع قاعدة شرعية الجرائم والعقوبات. لما كان
ذلك، فإن ما ذهب إليه المدعى من مخالفة النصين المطعون عليهما لأحكام المادة (66)
من دستور سنة 1971، والتى رددتها المادة (19) من الإعلان الدستورى الصادر في 30
مارس سنة 2011 يعد غير صحيح جديراً بالالتفات عنه.
وحيث إن المدعى ينعى على
النصين المذكورين افتراضهما سوء نية مصدر الشيك بمجرد توافر علمه بعدم وجود رصيد
مقابل للشيك في تاريخ إصداره، فضلاً عن إلزامه بمتابعة حركة الرصيد لدى المسحوب
عليه للتيقن من إمكانية الوفاء بقيمة الشيك حتى يتم صرفه، مع عدم الاعتداد بالباعث
في الجريمة أو بطلان التصرف، كما لم يتيحا للمتهم إمكانية الدفع بعدم توافر أركان
الجريمة ، وأوجبا على المحكمة توقيع العقوبة دون البحث في مدى توافر تلك الأركان،
وبذلك يكون النصان سالفى الذكر قد خالفا أصل البراءة المقرر دستورياً، والذى لا
يجوز نقضه بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة وتتكون منها عقيدتها، بما
يخالف المواد (1/67 ، 69 ، 165 ، 166 ) من دستور سنة 1971.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه
المحكمة ، أن افتراض براءة المتهم يمثل أصلاً ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية ،
وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى إمتداد إجراءاتها، وقد غدا حتميا
عدم جواز نقض البراءة بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة وتكِّون من
مجموعها عقيدتها حتى تتمكن من دحض أصل البراءة المفروض في الانسان على ضوء الأدلة
المطروحة أمامها، والتى تثبت كل ركن من أركان الجريمة ، وكل واقعة ضرورية لقيامها،
بما في ذلك القصد الجنائى بنوعيه إذا كان متطلبا فيها، وبغير ذلك لا ينهدم أصل
البراءة . لما كان ما تقدم، وكان البين من النصين المطعون فيهما أن المشرع آثر أن
يجعل من الشيك أداة وفاء فورية في مجال التخالص عن الحقوق المالية ، معملاً بذلك
سلطته التقديرية في الاختيار بين البدائل المتاحة ، وتحديد الوسائل القانونية
المناسبة للوفاء، وقيمة كل وسيلة بما يحقق الصالح العام، ولذا أوجب على مستخدمى
الشيك باعتباره أداة وفاء، أن يضمنوا ذلك الوفاء لحظة اعطاء الشيك، وأن يكون واجبا
السداد بمجرد الاطلاع عليه، تأكيداً لقوة الشيك في التداول، خاصة بطريق التظهير
بين أفراد متعددين لا تربطهم صلة بالعلاقة الشخصية القائمة بين مصدر الشيك
والمستفيد الأول منه، وبذلك يكون المشرع قد لجأ إلى سلطته التقديرية في تكريس نظام
قانونى مبدئى لا غنى عنه للمجتمع، وأحاطه بسياج من الحماية القانونية بموجب
القانون الجنائى ، الذى كفل حماية جنائية للشيك تلزم المتعامل به عدم إصداره إلا
في حالة وجود رصيد لدى المسحوب عليه. وإذ ارتبط التأثيم في نص المادتين (337)
عقوبات و(534) من قانون التجارة المطعون عليهما بهذا الحكم، وجعلا منه مناط الركن
المادى للجريمة ، وأقاما الركن المعنوى على أساس علم المتهم بواقعة عدم وجود رصيد
قائم وقابل للسحب، وارادته اقتراف هذه الجريمة ، كما لم يحولا بين المحكمة وبين
سلطاتها في استجلاء علم المتهم بهذه الواقعة ، والتأكد من استيفاء الشيك شروطه
الشكلية ، وسلامة صدوره من الساحب دون أن يعترى إرادته إكراه أو تدليس، وأسباب
امتناع البنك المسحوب عليه عن الصرف، مع استظهار أمر الرصيد بالنسبة للوجود
والكفاية والقابلية للصرف، والتحقق من حالة الضرورة ، والقوة القاهرة التى تنتفى
معها المسئولية الجنائية للساحب، ومدى توفر سوء نيته، وبذلك لا يكون النصان
المطعون عليهما قد انطويا على إخلال بأصل البراءة ، أو افترضا سوء النية ، وإنما
ارتكنا في التأثيم على أفعال من ضبطة محددة بدقة ، مع إتاحة كافة السبل القانونية
للمتهم لدحض ما نسب إليه، أو تحقيق دفاعه كاملا في هذا الشأن ، وبالتالى تنتفى
قالة الحيلولة بين المحكمة وبين إعمال سلطاتها في تحقيق الواقعة بكافة أركانها،
ويضحى نعى المدعى على النصين المطعون عليهما بمخالفتهما نصوص المواد (1/67 ، 69 ،
165 ، 166) من دستور سنة 1971، والتى تتطابق معها المواد ( 20 ، 22 ، 46 ) من
الإعلان الدستورى الصادر في 30 مارس 2011، غير سديد.
وحيث إن المدعى ينعى على
النصين المطعون عليهما إهدارهما للملكية الخاصة بما يخالف نص المادتين ( 32 ، 34 )
من دستور سنة 1971، ذلك أن العمل قد جرى على أن إصدار الشيكات يتم مقابل إبرام
صفقات تجارية ، أو تقديمها كضمان، أو لتسوية مديونية ، وقد لا تتحقق تلك الصفقات،
أو لا تسوى المديونية الصادر بشأنها الشيكات، فلا يكون أمام الساحب سوى أداء
قيمتها منعاً من إيقاع العقاب به، بالرغم من أحقيته في إيقاف صرف هذه الشيكات .
وحيث إن هذا النعى مردود، ذلك
أن المقرر في قضاء هذه المحكمة ، أن الدستور إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة
كفل حمايتها لكل فرد، ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفى الحدود التى
يقتضيها تنظيمها، ليختص صاحبها دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها، وليلتمس من
الدستور وسائل حمايتها التى تعينها على أداء دورها، ولم يعد جائزاً بالتالى أن
ينال المشرع من عناصرها، أو يقيد من مباشرة الحقوق المتفرعة عنها في غير ضرورة
تقتضيها وظيفتها الاجتماعية التى يتحدد نطاقها بمراعاة الموازنة التى يجريها
المشرع – على هدى أحكام الدستور – بين طبيعة الأموال محل الملكية والأغراض التى
ينبغى توجيهها إليها على النحو الذى يحقق الصالح العام للمجتمع، تقديراً بأن
القيود التى تفرضها الوظيفة الاجتماعية على حق الملكية للحد من إطلاقه، لا تعتبر
مقصودة لذاتها، وإنما غايتها تحقيق الخير المشترك للفرد والجماعة . لما كان ذلك،
وكان المشرع قد استهدف أن يكون الشيك أداة وفاء قانونية تقوم مقام النقود في الوفاء
بالالتزامات، وبالتالى فإن من يقوم باستخدامها يجب أن يكون متبصراً عواقب هذا
الاستخدام، وقد أعمل المشرع سلطته التقديرية في إقرار نظام الشيك وأضفى حماية
جنائية على الإلتزام الوارد به، وذلك كله دون إلزام الأفراد على التعامل به، فقد
أتاح العديد من الوسائل القانونية التى تكفل لهم الوفاء بالتزاماتهم المالية دون
سلوك طريق إصدار الشيك،وبما يتناسب مع تعاملاتهم، وترتيباً على ما سلف فإن النصين
المطعون عليهما لا يمثلان افتئاتاً على حق الملكية المحمى بنص المادتين ( 32 ، 34
) من دستور سنة 1971، والتى تقابلهما المادة (6) من الإعلان الدستورى الصادر بتاريخ
30 مارس 2011.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة ، أن الأصل عدم تزاحم صور الجزاء
على محل واحد، وألا يكون من أثر الجزاء العدوان دون مقتضى على حقوق الملكية
الثابتة لأصحابها، وأن الجزاء يجب أن يتناسب مع الأفعال التى أثمها المشرع، أو
حظرها، أو قيد مباشرتها، ذلك أن القانون الجنائى يحدد من منظور اجتماعى ما لا يجوز
التسامح فيه من سلوك الأفراد، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبررًا إلا
إذا كان مقيدا من وجهة اجتماعية بما يلزم لحمل الفرد على انتهاج طريقا سويا، وفى
الوقت ذاته يجب أن يتقرر للمحكمة الحق في تفريد العقوبة الموقعة على الجانى بما
يتناسب مع فعله، وبما يتيح لها إعمال بصرها في جسامة ما أرتكبه وخطورته الجنائية .
لما كان ذلك، وكانت العقوبة المقررة في المادة (337) من قانون العقوبات وهى الحبس
الذى يمتد من 24 ساعة حتى ثلاث سنوات، قد خلت من التجاوز، وسمحت للقاضى بالتدرج في
إيقاعها وفقاً لما يقدره من خطورة الجانى وجسامة ما أتاه، كما أتاحت للقاضى أن
يعمل أحكام وقف تنفيذ العقوبة المقررة في قانون العقوبات، متى ارتأى القضاء بالحبس
لمدة لا تزيد على سنة ، وقامت لديه مبررات ذلك. متى كان ما تقدم؛ وكانت العقوبة
المنصوص عليها في المادة (534) من قانون التجارة ، وهى الحبس وغرامة لا تجاوز
خمسين ألف جنيه أو إحدى هاتين العقوبتين، فقد استوفت عقوبة الحبس شرائطها
الدستورية كما سبق بيانه، أماعقوبة الغرامة فهى تتراوح بين الحد الأدنى ومقداره
مائة قرش، وحدها الأقصى المقدر بخمسين ألف جنيه، وهو ما يخول المحكمة إعمال سلطتها
التقديرية في تفريد العقوبة بمراعاة ظروف الواقعة وخطورة الجانى ، وتقدير ما تراه
مناسباً، بما في ذلك الالتفات تماما عن عقوبة الحبس، والاكتفاء بعقوبة الغرامة
بصلاحياتها الكاملة في تحديد مقدارها.
وحيث إن النصين المطعون
عليهما لا يخالفان أى أحكام أخرى من دستور سنة 1971 أو الإعلان الدستورى الصادر في
30 مارس سنة 2011.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى ، وبمصادرة الكفالة ، وألزمت المدعى
المصروفات ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة .