باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثامن من يوليه سنة 2023م،
الموافق العشرين من ذي الحجة سنة 1444 هـ.
برئاسة السيد المستشار / بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة
المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد
الجواد شبل وخالد أحمد رأفت دسوقي والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز ومحمد أيمن
سعد الدين عباس نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ محمـد ناجي عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 47 لسنة 43
قضائية دستورية
المقامة من
مجدي عبد الغني سيد أحمد
ضد
أولًا: رئيس الجمهوريــة
ثانيًا: رئيس مجلس الوزراء
ثالثًا: رئيس مجلس النواب
رابعًا: النائــب العـام
خامسًا: ورثة/ سيد أحمد أحمد؛ وهم:
1- ورثة/ فاطمة سيد أحمـــد
أ - أشرف أحمد توفيق محمد
ب - إيهاب أحمد توفيق محمد
ج - باهر أحمد توفيــــق محمد
2- ورثة/ عبد العال سيد أحمد أحمد؛ وهم:
أ - سيد عبد العال سيد أحمد
ب - هاني عبد العـال سيد أحمد
ج - جمال عبد العال سيد أحمد
د - أحمد عبد العـــال سيد أحمد
هـ - حسن عبد العــال سيد أحمد
و - محمد عبد العال سيد أحمد
ز - مرفت عبد العـال سيد أحمد
ح - أحمد عاطف عبد العزيز
3- مروة عاطف عبد العزيز محمد
4- نجوى عاطف عبد العزيز محمد
5- سليمان عبد القادر سليمان
-------------------
"الإجراءات "
بتاريخ الحادي عشر من مايو سنة 2021، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى
قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية نص المادة (49) من
القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث، المضافة بالقانون رقم 219 لسنة 2017،
فيما تضمنه من معاقبة كل من امتنع عمدًا عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي من
الميراث رضاءً أو قضاءً نهائيًّا.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم، أصليًّا: بعدم اختصاص
المحكمة بنظر الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قدمت هيئة قضايا
الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى. وقررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة
اليوم، وصرحت بمذكرات في أسبوعين، وانقضى الأجل دون تقديم مذكرات.
----------------
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى
وسائر الأوراق- في أن المدعى عليهم خامسًا أقاموا بطريق الادعاء المباشر،
أمام محكمة جنح قسم الدقي الدعوى رقم 5048 لسنة 2020، ضد المدعي وشقيقيه: محمد
ومصطفى، بطلب معاقبتهم بموجب نص المادة (49) من القانون رقم 77 لسنة 1943،
بشأن المواريث، المضافة بالقانون رقم 219 لسنة 2017، لامتناعهم عمدًا عن تسليم
المدعى عليهم حصصهم في مقابل الانتفاع بجزء من الأرض المملوكة لهم على الشيوع،
وإلزامهم بأداء تعويض مدني مؤقت. وذلك على سند من أن المدعين بالحق
المدني، والمدعي وشقيقيه يمتلكون بطريق الميراث - على الشيوع - عن جدهم المرحوم/
سيد أحمد أحمد، قطعة الأرض الواقعة بزمام الوراق، محافظة الجيزة، المبينة الحدود
والمعالم بصحيفة الجنحة المباشرة، وأن المدعي وأخويه قاموا بتاريخ 29/5/2000،
بإبرام عقد انتفاع لمساحة ألف متر منها لشركة الغاز الطبيعي للسيارات كار جاز،
لاستغلالها محطة غاز دون رضاهم، واحتفظوا بعائد هذا العقد لأنفسهم دون باقي
الورثة. فأقاموا أمام محكمة شمال القاهرة الابتدائية الدعوى رقم 4192 لسنة 2005
مدني كلي، ضد المدعي وأخويه وشركة كار جاز للمطالبة بحصتهم في مقابل الانتفاع بهذه
المساحة، وهي الدعوى التي صار الحكم فيها انتهائيًّا وواجب التنفيذ بقضاء محكمة
استئناف القاهرة - مأمورية شمال القاهرة - بجلسة 20/1/2016، في الاستئنافات أرقام
4228، و4265 لسنة 18 قضائية، و4270 لسنة 19 قضائية، بإلزام المدعي وشقيقيه بأن
يؤدوا للمدعى عليهم مبلغ (1914137.90) جنيهًا، كمقابل انتفاع عن أرض التداعي عن
الفترة من عام 2000 حتى تاريخ إيداع تقرير خبير الدعوى في فبراير 2012، وإذ
امتنعوا عمدًا عن تسليمهم حصتهم من الإرث، الثابتة لهم بموجب ذلك الحكم، فقد
أقاموا ضدهم ورئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة كارجاز بطريق الادعاء
المباشر الجنحة المار بيانها. تدوول نظر تلك الجنحة، وبجلسة 28/7/2020، قضت
المحكمة بعدم قبول الدعوى قبل رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة كارجاز،
فيما قضت غيابيًّا بمعاقبة كل من المدعي وأخويه بالحبس مدة سنة مع الشغل لكلٍ،
وتغريمهم مبلغ مائة ألف جنيه، وبالتعويض المدني. عارض المدعي في هذا الحكم، وبجلسة
27/1/2021، قضت المحكمة بقبول المعارضة شكلًا ورفضها موضوعًا وتأييد الحكم المعارض
فيه. لم يرتض المدعي الحكم المشار إليه، وطعن عليه أمام محكمة جنح مستأنف الجيزة
بالاستئناف رقم 6536 لسنة 2021، وبجلسة 14/4/2021، دفع المدعي بعدم دستورية نص
المادة (49) من القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث، المضافة بالقانون رقم 219
لسنة 2017، وإذ قدرت المحكمة جدية الدفع، وصرحت للمدعي بإقامة الدعوى الدستورية،
فأقام الدعوى المعروضة.
وحيث إنه عن الدفع المبدى من هيئة قضايا الدولة بعدم اختصاص المحكمة
بنظر الدعوى؛ على سند من أن حقيقة طلبات المدعي تنحل إلى إضافة حكم جديد إلى النص
المطعون فيه، مما مقتضاه إلزام السلطة التشريعية بتعديل ذلك النص على النحو الذي
يرتئيه، وهو ما يخرج عن اختصاص المحكمة الدستورية العليا، فإنه مردود؛ بأن المقرر
في قضاء هذه المحكمة أن ولايتها في مجال الرقابة القضائية التي تباشرها على
دستورية القوانين واللوائح، إنما تنحصر في إنزال حكم الدستور على النصوص القانونية
التي تطرح عليها، وتثور شبهة قوية في شأن مخالفتها لقواعده، سواء أُحيلت إليها هذه
النصوص مباشرة من محكمة الموضوع، أو عرضها عليها أحد الخصوم خلال الأجل الذى ضربته
له محكمة الموضوع بعد تقديرها لجدية دفعه بعدم دستوريتها، بما مؤداه أن المسائل
الدستورية دون غيرها هي جوهر رقابتها، وهى التي تجيل بصرها فيها بعـد إحاطتهـا
بأبعادهـا؛ ومن ثم فلا يمتد بحثها لسواهـا ولا تخوض في غيرها، وهو ما أضفى على
الدعوى الدستورية طبيعتها العينية باعتبار أن قوامها مقابلة النصوص التشريعية
المدعى مخالفتها للدستور، بالقيود التي فرضها لضمان النزول عليها، ومن ثم تكون هذه
النصوص ذاتها هي موضوع الدعوى الدستورية، أو هي بالأحرى محلها، وإهدارها بقدر
تعارضها مع أحكام الدستور هي الغاية التي تبتغيها هذه الخصومة، وقضاء المحكمة
الدستورية العليا في شأن هذه النصوص هو القاعدة الكاشفة عن حقيقة صحتها أو
بطلانها، ومن ثم لا يجوز أن تتناول هذه المحكمة - في مجال تطبيقها للشرعية
الدستورية - غير المسائل التي تدور حولها الخصومة في الدعوى الدستورية، إلا بالقدر
الذى يكفل اتصال الفصل فيها بالفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة
أمام محكمة الموضوع.
متى كان ذلك، وكان طلب المدعي ينصرف إلى القضاء بعدم دستورية النص
المطعون عليه فيما تضمنه من معاقبة كل من امتنع عمدًا عن تسليم أحد الورثة نصيبه
الشرعي من الميراث، لما ارتآه من أسباب لعدم دستورية هذا النص، انصبت في مجملها
على اتساع صياغة النص الجنائي على نحو يحول دون الوقوف على ماهية الفعل المؤثم
بموجبه، ومن ثم ينعقد الاختصاص بالفصل في دستورية هذا النص إلى هذه المحكمة، ويضحى
الدفع بعدم اختصاصها بالفصل في دستوريته غير سديد، حقيقًا بالالتفات عنه.
وحيث إن نص المادة (49) من القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث
المضافة بالقانون رقم 219 لسنة 2017، يجري على أنه:
مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها أي قانون آخر، يعاقب بالحبس
مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف
جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من امتنع عمدًا عن تسليم أحد الورثة نصيبه
الشرعي من الميراث، أو حجب سندا يؤكد نصيبا لوارث، أو امتنع عن تسليم ذلك السند
حال طلبه من أي من الورثة الشرعيين.
وتكون العقوبة في حالة العود الحبس الذي لا تقل مدته عن سنة.
ويجوز الصلح في الجرائم المنصوص عليها في هذه المادة في أي حالة تكون
عليها الدعوى ولو بعد صيرورة الحكم باتًّا.
ولكل من المجني عليه أو وكيله الخاص، ولورثته أو وكيلهم الخاص، وكذلك للمتهم
أو المحكوم عليه أو وكيلهما الخاص، إثبات الصلح في هذه الجرائم أمام النيابة أو
المحكمة بحسب الأحوال.
ويترتب على الصلح انقضاء الدعوى الجنائية ولو كانت مرفوعة بطريق
الادعاء المباشر، وتأمر النيابة العامة بوقف تنفيذ العقوبة إذا تم الصلح أثناء
تنفيذها، ولا يكون للصلح أثر على حقوق المضرور من الجريمة.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية -
مناطها ارتباطها عقلًا بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون
الحكم في المسألة الدستورية المطروحة على هذه المحكمة لازمًا للفصل في الطلبات
الموضوعية المطروحة على محكمة الموضوع. متى كان ذلك، وكان البين من الأوراق أن
المدعي قُدّم إلى المحاكمة الجنائية بطريق الادعاء المباشر أمام محكمة جنح الدقي
في الجنحة رقم 5048 لسنة 2020، لما نسب إليه من الامتناع عمدًا عن تسليم الورثة -
المدعى عليهم خامسًا - أنصبتهم الشرعية في مقابل الانتفاع بقطعة الأرض الشائعة
بينهم، المبينة بالأوراق، والتي آلت إليهم ميراثًا عن جدهم، وكان الحكم الجنائي
الصادر من محكمة الجنح في الدعوى الموضوعية، قد قضى بحبس المدعي مدة سنة وغرامة
مائة ألف جنيه والتعويض المؤقت، جزاء هذا الامتناع؛ إعمالاً لنص المادة (49) من
قانون المواريث المشار إليه؛ ومن ثم فإن الفصل في دستورية هذا النص يكون ذا أثر
وانعكاس أكيد على قضاء محكمة الجنح المستأنفة في الجنحة المطروحة عليها، بما يقيم
للمدعي مصلحة شخصية ومباشرة في الدعوى المعروضة، ويتحدد نطاقها في نص الفقرة
الأولى من المادة المطعون عليها، دون سائر فقراتها الأخرى.
وحيث إن المدعي ينعى على النص المطعون عليه، في النطاق المحدد سلفًا،
مخالفة نصوص المواد (5 و53 و54 و95 و96) من الدستور؛ وذلك لغموض مضمونه، والتجهيل
بأحوال انطباقه، وعدم تحديد الركنين: المادي والمعنوي لهذه الجريمة، مما أدى
لاختلاف أحوال تطبيقه بين المحاكم، والإخلال بأصل البراءة وضمانات المحاكمة
المنصفة، والحق في الحرية الشخصية، والنيل من مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، والحق
في المساواة بين المخاطبين بهذا النص الجنائي، ولافتقاده إلى الضرورة المبررة
للتجريم، بما يؤدي إلى تقطيع الروابط الأسرية.
وحيث إن هذه المناعي في جملتها غير سديدة؛ ذلك أن المقرر في قضاء هذه
المحكمة أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علائق
الأفراد فيما بين بعضهم البعض، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، فإن هذا القانون
يفارقها في اتخاذه الجزاء الجنائي أداة لحملهم على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها،
أو التخلي عن تلك التي ينهاهم عن مقارفتهـا، وهو بذلك يتغيّا أن يحدد من منظور
اجتماعي، ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على
أفعالهم لا يكون مخالفــًا للدستور، إلا إذا كان مجاوزًا حدود الضرورة التي
اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مبررًا من وجهة اجتماعية
انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية. ومن ثم يتعين على المشرع، حين يقدر وجوب
التدخل بالتجريم حماية لمصلحة المجتمع، أن يجري موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع
والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وضمان حريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى.
وحيث إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات المنصوص عليه
في المادة (95) من الدستور، إنما يتحدد على ضوء عدة ضمانات، يأتي على رأسها وجوب
صياغة النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفـاء فيها أو غموض، فلا تكـون
هـذه النصـوص شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع، متصيّدًا باتساعها أو بخفائها
من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وهى ضمانات غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص
العقابية على بيّنة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيًا لها، بل اتساقًا معها
ونزولاً عليها. وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركنًا ماديًّا لا
قوام لها بغيره، يتمثل أساسًا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحًا
بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء، في زواجره ونواهيه، هو مادية
الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيًّا كان هذا الفعل أم سلبيًّا، ذلك أن العلائق
التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال
ذاتها، في علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم
وعلته، وهى التي يتصور إثباتها ونفيها، وهى التي يتم التمييز على ضوئها بين
الجرائم بعضها عن بعض، وهى التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها
وتقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن
محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعًا
واضحًا، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة
من وراء ارتكابها؛ ومن ثَمَّ تعكس هذه العناصر تعبيرًا خارجيًّا وماديًّا عن إرادة
واعية، وبالتالي لا يتصور - وفقًا لأحكام الدستور - أن توجد جريمة في غيبة ركنها
المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم،
والنتائج التي أحدثها بعيدًا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، ولازم ذلك أن كل مظاهر
التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته -
تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكًا خارجيًّا مؤاخذًا عليه
قانونًا، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير
عنها خارجيًّا في صور مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
وحيث إن افتراض أصـل البراءة الذي نص عليه الدستور في المادة (96)
منه - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - يُعد أصلًا ثابتًا يتعلق بالتهمة
الجنائية، وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها، وقد
غدا حتمًا عدم جواز نقض البراءة بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة،
وتتكون من مجموعها عقيدتها، حتى تتمكن من دحض أصل البراءة المفروض في الإنسان، على
ضوء الأدلة المطروحة أمامها، التي تثبت كل ركن من أركان الجريمة، وكل واقعة ضرورية
لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبًا فيها، وبغيــــر ذلك لا
ينهدم أصل البراءة.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة، أنه لا تجوز معاملة المتهمين
بوصفهم نمطًا ثابتًا، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في
قالبها، بما مؤداه: أن الأصل في العقوبة هو تفريدها لا تعميمها، وتقرير استثناء من
هذا الأصل - أيًّا كانت الأغراض التي يتوخاها - مؤداه: أن المذنبين جميعهم تتوافق
ظروفهم، وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني إيقاع جزاء في
غير ضرورة، بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، وبما يقيد الحرية
الشخصية دون مقتضى، ذلك أن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية، مناطها أن يباشر كل
قاضٍ سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديرًا لها، في الحدود المقررة قانونًا،
فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبرًا لآثار الجريمة من منظور موضوعي
يتعلق بها وبمرتكبها، وأن حرمان من يباشرون تلك الوظيفة من سلطتهم في مجال تفريد
العقوبة بما يوائم بين الصيغة التي أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها في كل حالة
بذاتها، مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض
بالحياة، ولا يكون إنفاذها إلا عملًا مجردًا يعزلها عن بيئتها، دالًّا على قسوتها
أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامدًا فجًّا منافيًا لقيم الحق والعدل.
وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق أنها سلطة
تقديرية، يتمثل جوهرها - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - في المفاضلة بين
البدائل المختلفة وفق تقديره لتنظيم موضوع محدد، فلا يختار من بينها إلا ما يكون
منها عنده مناسبًا أكثر من غيره لتحقيق الأغراض التي يتوخاها. وكلما كان التنظيم
التشريعي مرتبطًا منطقيًّا بهذه الأغراض - وبافتراض مشروعيتها - كان هذا التنظيم
موافقًا للدستور.
وحيث إن الدستور يعتبر مآبًا لكل سلطة وضابطًا لحركتها. والأصل في
النصوص التي يتضمنها أنها تؤخذ باعتبارها مترابطة فيما بينها، وبما يرُدُّ عنها
التنافر والتعارض، ويكفل اتساقها في إطار وحدة عضوية تضمها، ولا تفرق بين أجزائها،
بل تجعل تناغم توجهاتها لازمًا. وكان الدستور إذ نص في المادة (35) على أن الملكية
الخاصـــة مصونة، وحق الإرث فيها مكفول ، فقد دل بذلك على أن ما يؤول للعباد
ميراثًا في حدود أنصبتهم الشرعية، يعتبر من عناصر ملكيتهم التي لا يجوز لأحد أن
ينال منها. وأن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن مقتضى صون الدستور للحق في الملكية
الخاصة يتسع للأموال بوجه عام، ومن ثم انصرافها إلى الحقوق الشخصية والعينية
جميعًا، بما تغله من منفعة مالية بحسبانها من بين العناصر الإيجابية للذمة
المالية، وكان مؤدى ذلك أن تنبسط هذه الحماية الدستورية على ما يؤول للوارث من حصة
مالية سواء تعلقت بملكية الرقبة، أو بغلة الحصة التي آلت إليه بطرق الميراث، أو
أية منفعة تنتج عنها.
متى كان ذلك، وكان المشرع في سعيه لتوطيد وحماية الحق في الإرث لكونه
أحد مصادر الملكية الخاصة المكفول بنص المادة (35) من الدستور، قد واجه ظاهرة
استشرت في المجتمع في العديد من الشرائح الاجتماعية، يجنح فيها البعض من
الورثة وغيرهم ممن يضعون أيدِيَهم على التركة أو سندات إثباتها،
إلى حرمان مستحقي حصة الوراثة من حقهم في الإرث، لأسباب مُنْبتَّة الصلة باستحقـاق
الميراث، وكذلك ما تمليه عادات فاسدة تسود في بعض البيئات المغلقة من حرمان
النسوة من تسلم حقوقهن في الإرث، أو غل أيديهن عن السندات المثبتة لحقوقهن، أو غير
ذلك من الأسباب التي تُقعِد المستحقين عن المطالبة بحقهم في الميراث، فتصدى المشرع
بالنص المطعون فيه لهذه الظاهرة، وأقام سياجًا من الحماية الجنائية، يرد به هذا
الاجتراء على حقوقهم الشرعية، فعاقب بموجب هذا النص كل من امتنع عمدًا عن تسليم
أحد الورثة نصيبه الشرعي من الميراث، أو حجب سندًا يؤكد نصيبًا لوارث، أو امتنع عن
تسليم ذلك السند حال طلبه من أيّ من الورثة الشرعيين، فإنه بذلك يكون قد استهدف
تحقيق مصلحة اجتماعية جوهرية، حرص الدستور على التأكيد عليها في المادة (35) منه،
قوامها صون الحق في الملكية الخاصة بصفة عامة، وضمان الحق في الإرث على وجه
الخصوص، وكانت غاية المشرع من ذلك تفعيل الحماية الدستورية لانتقال الأموال
بالميراث وصون هذا الحق. إذ كان ذلك، فإن النص المطعون فيه يكون قد أصاب مصلحة محل
حماية دستورية، متخذًا وسيلة قانونية مبررة، قاصدًا من ذلك تحقيق الصالح العام،
وتوطيد دعائم الشرعية الدستورية، الأمر الذي يبرر له التدخل بتجريم تلك الأفعال
لإضفاء الحماية عليها.
وحيث إن المشرع - بما له من سلطة تقديرية - اتخذ من فعل الامتناع عن
تسليم نصيب الوارث من التركة مناطًا لوقوع الجريمة، قاصدًا من ذلك أن يلقي
التزامًا عامًّا على كل من يحوز- سواء أكان وارثًا أم لم يكن- نصيبًا يُستحق
ميراثًا لغيره، أن يسلمه إليه، كما ألقى التزامًا على كل من يحوز سندًا يؤكد هذا
النصيب، أن يظهره لمستحقي الحصــــة الموروثــــة، وأن يُسلم هــــذا السند متى
كان متعينًا عليه تسليمه. وهـــو التزام يمتد إلى كل حق موروث، سواء أكان عقارًا
أم منقولًا، وسواء أكان ذا قيمة مالية أم أدبية، في أحوال استحقاقه بطريق الميراث
الشرعي. لما كان ذلك، وكان الالتزام بتسليم الأموال تتحدد معالمه، وتنضبط أحكامه
بالقواعد العامة الحاكمة لهذا الالتزام، وقوامه أن يكون الحق المالي محقق الوجود،
معين المقدار، حال الأداء، فإذا لم تتوافر في الحصة الموروثة أو مستنداتها الشروط
السالفة، فلا ينهض التسليم التزامًا على حائزها، حتى ينحسم أمرها رضاءً أو قضاءً
بحكم واجب النفاذ؛ ذلك أن الالتزام بتسليم الوارث حصته أو المستندات الدالة عليها،
إنما يخضع لأحكام القوانين الموضوعية والإجرائية الحاكمة لاستحقاق الحقوق المدنية
وتسليمها.
ولا مجال لمجاراة المدعي فيما نعى به من أن قعود المشرع عن اختيار فعل
كالاستيلاء مناطًا لوقوع هذه الجريمة يمثل عيبًا دستوريًّا، لكون ذلك مردودًا بأن
المشرع - بما له من سلطة تقديرية - قد أقام هذه الجريمة على فعل الامتناع، وهو فعل
واضح الدلالة على نحو يُمكّن المخاطب بأحكامه من الوقوف على موجباته، بما ينفي عنه
قالة التجهيل؛ ذلك أن الامتناع مناط وقوع الجريمة المؤثمة بالنص المطعون فيه، إنما
ينضبط بسائر الضوابط القانونية لجرائم الامتناع العمدية، إذ لا يقع إلا من حائز
المال الموروث، متى كان في سلطته القانونية والفعلية الوفاء بالتزامه
بالتسليم، وما يوجبه ذلك - ابتداء - من العلم باستحقاق الوارث الحصة الموروثة أو
سندها، وخلوها من المنازعة القانونية، واتجـاه إرادة الحائز للمال الموروث
إلى الحيلولة دون تسليم الوارث حصته من المال، أو المستندات الدالة عليه.
ليكون النكول عما أوجبه النص امتناعًا عمديًّا عن أداء واجب قانوني، تحددت معالمه
على نحو قاطع.
وحيث إنه في شأن النعي على النص المطعون عليه الإخلال بأصل البراءة
وضمانات المحاكمة المنصفة، والحق في الحرية الشخصية، والنيل من مبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات، فمردود من وجهة أولى: أن المشرع لم يعف النيابة العامة من إقامة الدليل
على امتناع الحائز عمدًا عن تسليم الحصة الموروثة أو مستنداتها. ومن وجهة ثانية:
لم يمنع المتهم بهذه الجريمة من مواجهة سائر الأدلة القائمة ضده نفيًا وتشكيكًا،
فلم يحل بينه وبين حقه في نفي سائر عناصرها بطرق الإثبات كافة، سواء ما تعلق منها
بنفي قيام الالتزام الموجب لتسليم الحصة الموروثة أو سندها، أو المنازعة في قدرته
على الوفاء بهذا التسليم، أو في إثبات قيامه بالتسليم - فعلًا - بطرق الإثبات
القانونية كافة، ومن جهة ثالثة: أسند المشرع الفصل في هذه الجريمة إلى جهة القضاء
العادي المنصوص عليها في الدستور، بما تتمتع به من استقلال وحَيْدةٍ، تنظمها
القواعد القانونية العامة للمحاكمة الجنائية التي تعقد الاختصاص للمحاكم الجنائية
المختصة بنظر الجنح، بما يوفر ضمانات المحاكمة المنصفة، ويحفظ الحق في الحرية
الشخصية، في إطار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.
وحيث إنه عما نعى به المدعي من إخلال النص المطعون فيه بمبدأ المساواة
بين المخاطبين بأحكامه، فلما كان النص المشار إليه قد أحاط بسياج الحماية الجنائية
سائر أحوال الامتناع عن تسليم الورثة نصيبهم، أو السندات الدالة عليها، أو حجبها
عنهم، مساويًا في ذلك بين كل من يمتنع عن أيّ من هذه الالتزامات، ولم يقصر حكمه
على امتناع الوارث فحسب، بل بسطه على كل من يحوز حصة ميراثية، أو سندًا مثبتًا
لها، ولو لم يكن وارثًا، ودون أن يقيم تمييزًا من أي نوع بين المخاطبين بأحكامه،
وإنما شمل حكمه - بعموم عباراته - كل أحوال الامتناع عن التسليم المقرر بموجب هذا
النص، دون الوقوف عند فرض بعينه من فروض تحقق الجريمة؛ ومن ثم فإن النعي بمخالفة هذا
النص لمبدأ المساواة يضحى قائمًا على غير سند، ويتعين - تبعًا لذلك - الالتفات عنه.
وحيث إنه في مجال تناسب العقوبة المرصودة في النص المطعون فيه لمن
يخالف أحكامه، متمثلة في عقوبتي: الحبس الذي لا تقل مدته عن ستة أشهر، والغرامة
التي لا تقل عن عشرين ألف جنيه، ولا تزيد عن مائة ألف جنيه، وأجاز للمحكمة أن
تكتفي بإحدى هاتين العقوبتين، ولم يحل بينها وبين سلطتها في وقف
تنفيذ أيهمـا أو كليهما؛ تحقيقًا لتفريد العقوبة لما يتناسب مع كل حالة على
حدة. وكانت هذه العقوبات قد اتسمت بالمعقولية، ولم تحل بين المحكمة الجنائية
وتفريدها بحسب جسامة كل فعل، وخطورة كل جانٍ، وأجاز الصلح في الجرائم المنصوص
عليها في هذه المادة، ولو بعد صدور الحكم البات فيها، فإنه يكون قد تخير عقوبات
انضبطت بتخوم الدستور، ووافقت أحكامه، وسلمت من مظنة انتهاكه، الأمر الذي يكون معه
هذا النعي قد قام على غير سند، متعينًا طرحه.
وحيث إنه عما نعى به المدعي على النص المطعون فيه قطع الروابط
الأسرية، والنيل من السلام الاجتماعي، فمردود بانتفاء الصلة بين عقوبة واجهت فعلًا
مؤثَّمًا يرتكبه وارث أو حائز لنصيب موروث، على نحو ما تقدم بيانه، وبين روابط
أسرية قوامها الدين والأخلاق والوطنية، تلتئم بتوافرها، وتتبدد بانحسارها، وليس
لها من صلة بمن تسول له نفسه الاجتراء على حقوق مالية لغيره من الورثة، فشأن ذلك
أن تكون مواجهته بنصوص عقابية تردعه، بعدما أخفقت الروابط الأسرية الحقة في تقويمه.
وحيث إن النص المطعون فيه لا يخالف أي حكم آخر في الدستور، ومن ثم فإن
المحكمة تقضي برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق