جلسة 5 من يناير سنة 1960
برياسة السيد محمود إبراهيم إسماعيل المستشار، وبحضور السادة: أحمد زكي كامل، والسيد أحمد عفيفي، ومحمد عطية إسماعيل، وعادل يونس المستشارين.
----------------
(3)
الطعن رقم 1152 لسنة 29 القضائية
(أ، ب) أسباب إباحة الجرائم. الدفاع الشرعي.
شروط نشوء الحق.
وقوع فعل إيجابي يخشى منه المتهم وقوع جريمة من الجرائم التي يجوز فيها الدفاع الشرعي. صورة واقعة ينتفي بها هذا الشرط.
عذر تجاوز حدود الحق. مجال بحثه.
لا محل للكلام على تجاوز حدود الحق إلا مع افتراض قيام هذا الحق فعلاً.
(ج) خبير. محكمة الموضوع.
رأي الخبير. تقدير القوة التدليلية لتقرير الخبير أمر موضوعي. متى لا تلتزم المحكمة بندب خبير آخر؟ عند صحة استنادها إلى ما انتهت إليه من رأي.
الوقائع
اتهمت النيابة العامة الطاعن: بأنه: 1 - قتل عمداً جمعه طه أبو الحسن بأن أطلق عليه عياراً نارياً فأصابه بالإصابات الموضحة بتقرير الصفة التشريحية والتي أودت بحياته وكان ذلك مع سبق الإصرار والترصد، وقد اقترن ذلك بجناية أخرى هي شروعه في قتل أحمد جمعه طه عمداً بأن أطلق عليه عياراً نارياً قاصداً قتله وخاب أثر الجريمة لسبب لا دخل لإرادته فيه وهو عدم إحكام الرماية. 2 - أحرز سلاحاً مششخناً وذخيرة له بغير ترخيص. قررت غرفة الاتهام إحالته إلى محكمة الجنايات لمحاكمته بالمواد 231، 232، 234/ 2 من قانون العقوبات والمواد 1، 6، 26 من قانون السلاح. قضت محكمة الجنايات حضورياً عملاً بمواد الاتهام والمادة 32/ 2 عقوبات بمعاقبة الطاعن بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات. طعن المتهم في هذا الحكم بطريق النقض.... إلخ.
المحكمة
وحيث إن مبنى الوجه الأول من الطعن هو أن الحكم المطعون فيه شابه قصور وانطوى على مخالفة للقانون، ذلك أن الواقعة كما أوردها الحكم تدخل في نطاق الدفاع الشرعي عن النفس والمال لأن الظروف التي أحاطت بالطاعن من وجوده ليلاً في حقله ورؤيته شبحاً قادماً نحوه على الحد الفاصل بين زراعته وزراعة المجني عليه، ومناداته على هذا الأخير كي يتبين شخصيته وعدم سماعه صوته لبعد المسافة بينهما جعلته يعتقد المجني عليه لصاً يريد سرقة زرعه، فتخوف من خطر حال يتهدده في نفسه وماله مما ألجأه إلى الدفاع عنهما بإطلاق النار على المجني عليه فأصابه من الأمام، ولما تبين له شخصيته أعقبه ذلك ندماً وهماً، مما كان يوجب التصدي لمسئولية الطاعن والتقرير بانعدامها على أساس أن فعله دفاع مباح. ولا يغير من هذا النظر قول الحكم إن المجني عليه كان يسير في الطريق الذي تقع عليه زراعة الطاعن، لأن هذا الطريق كما يبين من أوراق الدعوى ليس إلا حداً فاصلاً بين زراعة الطاعن والزراعة المجاورة، بحيث لا يمكن لمن كان في مثل مكان الطاعن أن يميز في الظلام إذا كان المجني عليه يسير فعلاً في الجزء المزروع المملوك للطاعن، وقد أغفل الحكم التعرض لهذه الوقائع ليقول كلمته في قيام حالة الدفاع الشرعي أو أن الطاعن تجاوز حدود حقه على الرغم مما أورده من الظروف التي تظاهرها، بل اكتفى بالإشارة إلى أن مرور المجني عليه في الطريق الذي يقع فيه حقل الطاعن لا يجيز لهذا الأخير إطلاق النار عليه عمداً، وهذه الإشارة وردت مبهمة وهذا الإبهام حال بين المحكمة وبين استقصاء حالة الدفاع الشرعي التي ترشح لها واقعة الدعوى.
وحيث إن الحكم المطعون فيه بين واقعة الدعوى في قوله "إن المتهم الطاعن ذهب في ليلة 4 من سبتمبر سنة 1957 إلى حقله الكائن بزمام ناحية بني عليج مركز أبنوب مديرية أسيوط وقبع هناك ليحرس زراعته، وفي ذات الليلة غادر محمد جمعه طه وأخوه أحمد جمعه طه دارهما واتجها إلى حقلهما الذي يجاور حقل المجني عليه وكان ثانيهما يسير خلف أولهما، ولما اقترب هذا الأخير من حقل المتهم ناداه المتهم مستفسراً عن شخصيته فأجابه ذاكراً له اسمه ولكن صوته لم يصل إلى سمع المتهم وحسبه المتهم لصاً يريد سرقة ثمار زراعته فعمد إلى بندقيته ذات الماسورة المششخنة التي كان يحملها وصوبها ناحيته وأطلق منها عياراً نارياً قاصداً قتله فأحدث به إصابة لحقت منه مقتلاً، فصرخ محمد جمعه طه وعندئذ هب المتهم من مكانه وأسرع ناحية المصاب ولما رآه تبين أنه لم يكن لصاً وعرف فيه جاره في زراعته فندم على فعلته وشق جلبابه من فتحة الصدر حتى حافته السفلى ثم ركن إلى الفرار حتى أدرك داره وأوصد بابه، ولحق أحمد جمعه طه أخاه محمد جمعه طه فوجده مصاباً وقد أخبره أخوه بما كان من أمر المتهم حياله فعاد أحمد جمعه طه إلى البلدة - بني عليج - ليبلغ الحادث، وقابله وكيل شيخ خفرائها عبد الرحمن فرغلي والخفير توني عبد الله أبو الحسن فأنهى إليهما أن المتهم أطلق النار على أخيه فذهب وكيل شيخ الخفراء إلى دار المتهم وهناك وجداه فقاده إلى دار نائب العمدة - حامد إمام علي - وانتقل نائب العمدة ووكيل شيخ الخفراء إلى مكان الحادث فوجد المجني عليه وسأله نائب العمدة الخبر فأجابه أن المتهم أطلق عليه النار، ثم قام شيخ الخفراء والخفير بتوصيل المتهم إلى نقطة البوليس، وفي طريقهم أفضى المتهم إليهما أن العيار انطلق عفواً من بندقية كان يحملها فأصاب المجني عليه، وزعم أحمد جمعه طه أن المتهم بعد أن أطلق العيار الناري الذي أصاب أخاه محمد جمعه طه أطلق عليه هو عياراً ثانياً صوبه ناحيته غير أن العيار لم يصبه، وفتش ضابط المباحث منزل المتهم فعثر على جلباب مشقوق من فتحة الصدر حتى الذيل، وتبين من تقرير الطبيب الشرعي أن محمد جمعه طه وجد مصاباً بعيار ناري من سلاح سريع الطلقات لحق الحرقفة اليمنى ونفذ إلى تجويف البطن وأحدث تهتكاً بالأمعاء ونزيفاً داخل البطن وكسوراً بعظمة الحوض بالفقرات العجزية، وأن المجني عليه توفي متأثراً بهذه الإصابة التي دلت معالمها على أن المتهم كان يحرز السلاح المششخن الذي أطلق منه القذيفة التي أصابت المجني عليه" وأورد الحكم على ثبوت الواقعة على هذه الصورة أدلة مستمدة من أقوال المجني عليه بالتحقيقات وأقوال الشهود ومن تقرير الطبيب الشرعي، ثم خلص الحكم إلى القول "إن المتهم رأى في الليل شخصاً يجتاز أمام حقله فحسبه لصاً يريد سرقة ثمار زراعته، فعمد إلى بندقيته وصوب منها عياراً ناحية ذلك الشخص قاصداً إصابته وإزهاق روحه فأصابه، ولما أن تبين شخصيته وعرف فيه المجني عليه الذي تربطه به روابط طيبة ندم على جرمه" ونفى الحكم توافر حالة الدفاع الشرعي فقال "ومن حيث إن المتهم لم يكن له أن يطلق النار على شخص مار بالطريق، وحتى مع التسليم الجدلي بأنه حسب هذا الشخص لصاً فإنه ما كان له أن يعتدي عليه طالما كان بعيداً عن ماله ولم يأت بعمل يمس نفسه". ولما كان يبين من الاطلاع على المفردات التي أمرت المحكمة بضمها تحقيقاً، لوجه الطعن أن المجني عليه كان يسير وقت الحادث ليلاً على الحد الفاصل بين حقله وحقل الطاعن الذي يحده من الجهة الغربية متجهاً إلى الناحية البحرية يتبعه أخوه أحمد جمعه أحمد وكان الطاعن جالساً القرفصاء على الحد الفاصل بين حقلهما، وبعد أن ناداهما الطاعن للإفصاح عن شخصيتهما انحرفا إلى الناحية القبلية الشرقية داخل زراعة المجني عليه، وما أن أصبح الأخير على مسيرة نحو عشرين قصبة من مكان الطاعن حتى أطلق عليه المذكور عياراً نارياً أصابه وهو داخل زراعته. لما كان ذلك، وكان يشترط لقيام حالة الدفاع الشرعي أن يكون قد وقع فعل إيجابي يخشى منه المتهم وقوع جريمة من الجرائم التي يجوز فيها الدفاع الشرعي سواء وقع الاعتداء بالفعل أو بدر من المجني عليه بادرة اعتداء تجعل المتهم يعتقد لأسباب معقولة وجود خطر حال على نفسه أو ماله أو على نفس غيره أو ماله، وإذن فإذا كان الثابت بالحكم أن الطاعن قد بادر إلى إطلاق النار على المجني عليه إذ رآه يمر أمام حقله ليلاً ولم يصل صوته إلى سمعه عندما ناداه مستفسراً عن شخصيته، وكان المجني عليه وقت إصابته في حقله هو وبعيداً عن زراعة الطاعن ودون أن يكون قد صدر من المجني عليه أو من غيره أي فعل مستوجب للدفاع، فلا يسوغ القول بأن هذا الطاعن كان وقتئذ في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو ماله - ومع انتفاء قيام حالة الدفاع الشرعي لا يصح اعتبار الطاعن متجاوزاً حدود حقه فيه، إذ لا يصح القول بهذا التجاوز إلا إذا وجد الحق ذاته. لما كان ما تقدم، فإن ما ينعاه الطاعن على الحكم المطعون فيه في هذا الصدد لا يكون له محل.
وحيث إن مبنى الوجه الثاني من الطعن هو أن الحكم المطعون فيه شابه قصور في البيان وفساد في الاستدلال، ذلك أن الدفاع عن الطاعن أثار أنه لم يكن يقصد إصابة المجني عليه بالعيار الذي انطلق منه، وقد أخطأ الحكم فهم ما دلت عليه أقوال المجني عليه ومن نقلوا عنه صورة الحادث، فقد أجمعوا على أن الطاعن أنكر تعمد إطلاق النار أصلاً بصرف النظر عن شخصية من أصابه العيار، غير أن الحكم أوّل رواية الشهود على خلاف ما قصدوه وهيئ له أنهم أرادوا نفي نسبة العمد إلى الطاعن فيما يتصل بشخص القتيل، مع أن حقيقة الشهادة تنصرف إلى نفي تعمد الإطلاق، هذا إلى أن الحكم استبعد في أكثر من موضع وجود ضغينة أو سبب يدعو الطاعن لارتكاب القتل، ولا يغير من هذا الاستدلال الفاسد ما أورده الحكم من نفي إمكان انطلاق العيار بغير قصد من الطاعن أو إطلاقه للإرهاب، ذلك أنه استند في هذا القول إلى ما ورد بالتقرير الطبي من إمكان حدوث إصابة القتيل بالصدر والتي رواها المجني عليه وأخوه مع أن المجني عليه لم يكن يستطيع تحديد الكيفية التي انطلق بها العيار نظراً إلى الظلام وبُعد المسافة على ما سلم به الحكم ذاته، أما أخو المجني عليه فقد انتهى الحكم إلى القول بأنه كان يسير خلف أخيه بحوالي عشرين قصبة وأنه حضر إلى مكان أخيه بعد إصابته، وبذلك لا تكون له شهادة يستدل بها على كيفية انطلاق المقذوف الناري، هذا فضلاً عن أنه لم يطلب إلى الطبيب الشرعي إبداء رأيه في الصورة الأخرى للحادث التي تنفي قصد الإطلاق أصلاً وقصد الإطلاق للإيذاء، ومن المقرر أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم برأيه في المسائل الفنية البحتة.
وحيث إن الحكم المطعون فيه حين عرض إلى تصوير الحادث قال: "ومن حيث إن المحكمة تجد من ظروف الحادث ما ينتفي معه انطلاق العيار عفواً وما يؤيد أن المتهم (الطاعن) قصد إصابة ذلك الشخص الذي مر ليلاً تجاه حقله إذ ثبت من أقوال المجني عليه أنه إذ كان يمر أمام حقل المتهم ناداه هذا الأخير مستفسراً عن اسمه فأجابه، غير أن صوته عند إجابته لم يصل إلى سمع المتهم فظنه لصاً يريد سرقة ثمار زراعته فأطلق عليه النار وأصابه ثم هرع المتهم إليه في المكان الذي أصيب فيه فلما تبين شخصيته ندم على فعلته وشق جلبابه.......، فسواءً بعد ذلك أكان المصاب هو المجني عليه أم غيره فإن الأمر يستوي في مساءلة المتهم عن جريمة القتل، لأنه إذ أطلق العيار الناري قصد إصابة ذلك الشخص الذي كان يمر أمام حقله فأصابه وعلى هذه الصورة لا يقام وزن لشخصية المجني عليه، ومن حيث إن النيابة العامة لخصت وقائع الدعوى وأقوال الشهود بما فيهم المجني عليه في مذكرة بعثت بها إلى الطبيب الشرعي الذي قرر أن الصفة التشريحية قد أوردت أن الحادث يمكن وقوعه على الصورة التي ذكرها المجني عليه" ثم عرض الحكم إلى ما أثاره الدفاع عن الطاعن من حيث مسار المقذوف فاطرحه بقوله: "ولما كانت حركات سير المجني عليه ليلاًً وما اقترن بها من تلفت إثر سماع مناداة المتهم لا يمكن معها القول بأن المجني عليه كان في وضع ثابت مستقر، وما كشف عنه الطبيب الشرعي من إمكان حصول الحادث على الصورة التي ذكرها المجني عليه تراه المحكمة صحيحاً ويحمل الدليل الذي يدحض ما ذهب إليه الدفاع في هذا الشأن"، ثم استبعد الحكم إطلاق العيار بقصد الإرهاب بقوله: "وإنه لو كان المتهم قد أطلق العيار بقصد الإرهاب لجعل فوهة السلاح في وضع تخرج فيه القذيفة إلى أعلا بعيدة عن ذلك الشخص الذي كان يجتاز الطريق، كذلك أيضاً فإنه لو كان السلاح على كتفه أو كان قد وضعه إلى جواره وانطلق عفواً لما أصاب المجني عليه" ثم استظهر الحكم نية القتل من عناصر سائغة تؤدي إلى ما رتبه عليها. لما كان ذلك، وكان لمحكمة الموضوع أن تتبين الواقعة على حقيقتها وأن ترد الحادث إلى صورته الصحيحة التي ارتسمت في وجدانها من جماع الأدلة المطروحة عليها والتي اطمأنت إليها ما دام ذلك سليماً متفقاً مع حكم العقل والمنطق. لما كان ذلك، وكان استخلاص الحكم حقيقة الواقعة وما استدل به من أدلة على ثبوتها في حق الطاعن على ما سلف البيان سائغاً وله أصله الثابت في الأوراق، فلا تقبل المجادلة في هذا الذي انتهت إليه المحكمة بما لها من سلطة التقدير، ولما كان للمحكمة كامل الحرية في تقدير القوة التدليلية لتقرير الخبير المقدم إليها دون أن تكون ملزمة بندب خبير آخر ما دام استنادها إلى الرأي الذي انتهى إليه هو استناد سليم لا يشوبه خطأ، فضلاً عن أنه يبين من الأوراق أن الطاعن لم يطلب إلى المحكمة أخذ رأي الطبيب الشرعي فيما ذهب إليه عن كيفية إطلاق المقذوف فلا يقبل منه النعي على المحكمة عدم إجابته إلى إجراء لم يطلبه. لما كان ذلك، وكان لا جدوى للطاعن فضلاً عما تقدم فيما يثيره في هذا الخصوص طالما أن العقوبة التي أوقعها عليه الحكم داخلة في حدود العقوبة المقررة لجريمة إحراز السلاح التي دانه الحكم بها، فإن هذا الوجه من الطعن يكون في غير محله.
وحيث إنه لذلك يكون الطعن برمته على غير أساس متعيناً رفضه موضوعاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق