جلسة 28 من فبراير سنة 1959
برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني والإمام الإمام الخريبي وعلي إبراهيم البغدادي مصطفى كامل إسماعيل المستشارين.
---------------------
(76)
القضية رقم 682 لسنة 3 القضائية
فصل الموظف
- احتواء ملف خدمة الموظف على ما يشيد بكفايته وأمانته واستقامته - لا يفيد ذلك أن قرار فصله غير قائم على سبب يبرره - ملف الخدمة ليس المصدر الوحيد لبيان حالة الموظف - اعتبار قرار الفصل سليماً ما دام الموظف لم يقم الدليل الايجابي على صدوره معيباً - عدم مسئولية جهة الإدارة عن التعويض عن هذا القرار.
إجراءات الطعن
في 17 من أبريل سنة 1957 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة سكرتيرية المحكمة عريضة طعن أمام هذه المحكمة قيد بجدولها تحت رقم 682 لسنة 3 القضائية في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الثانية) بجلسة 20 من فبراير سنة 1957 في الدعوى رقم 46 لسنة 8 القضائية المقامة من اللواء عبد الغني بركات ضد مجلس الوزراء ووزارة الداخلية، القاضي "برفض الدعوى، وألزمت المدعي المصروفات". وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين - للأسباب التي استند إليها في صحيفة طعنه - "قبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع إلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء بانتهاء الخصومة بالنسبة إلى طلب المدعي الأول، وبالتعويض المناسب بالنسبة لطلب المدعي الثاني، وإلزام الحكومة كامل المصروفات". وقد أعلن هذا الطعن إلى وزارة الداخلية في 7 من أغسطس سنة 1957، وإلى مجلس الوزراء في 10 منه، وإلى المطعون لصالحه في 15 منه، وبعد أن انقضت المواعيد القانونية المقررة دون أن يقدم أي من الطرفين مذكرة بملاحظاته عين لنظر الطعن أمام هذه المحكمة جلسة 15 من فبراير سنة 1958، وأبلغ الطرفان بميعاد هذه الجلسة، وفيها وفي الجلسات التالية حتى جلسة 17 من يناير سنة 1959 التي أجل إليها نظر الطعن سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات ذوي الشأن على الوجه المبين بمحضر الجلسة، ثم قررت إرجاء النطق بالحكم في الطعن إلى جلسة اليوم مع الترخيص في تقديم مذكرات خلال عشرين يوماً. وقد أودع المطعون لصالحه مذكرة انتهى فيها إلى طلب "قبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، والحكم: أصلياً - بإلغاء المرسوم الصادر بتاريخ 6 من أغسطس سنة 1953 بإحالة المطعون لصالحه إلى المعاش مع أحقيته في تسوية معاشه على أساس هذا الإلغاء، ومع الحكم له بتعويض مادي وأدبي قدره 15 ألف جنيه. واحتياطياً - بتعويض للمطعون لصالحه قدره عشرون ألفاً من الجنيهات نظير ما لحقه من أضرار مادية وأدبية، ومع الحكم بالمصروفات وأتعاب المحاماة". ثم أودع حافظة ومذكرة تكميلية صمم فيها على طلباته الواردة في مذكرته السابقة، كما قدمت الحكومة مستندات ومذكرات طلبت فيها الحكم برفض الطعن، وإلزام المدعي بالمصروفات وأتعاب المحاماة.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة، حسبما يبين من أوراق الطعن، تتحصل في أن المدعي أقام الدعوى رقم 46 لسنة 8 القضائية ضد كل من مجلس الوزراء ووزارة الداخلية أمام محكمة القضاء الإداري بعريضة أودعها سكرتيرية المحكمة في 4 من أكتوبر سنة 1953، طلب فيها الحكم "بإلغاء المرسوم الصادر بإحالة الطالب إلى المعاش بتاريخ 6 من أغسطس سنة 1953، وباعتباره كأن لم يكن، وبإعادة الطالب إلى وظيفته، مع إلزام المعلن إليهما بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة، مع حفظ كافة حقوق الطالب الأخرى". وذكر بياناً لدعواه إنه تخرج في مدرسة البوليس في شهر يوليه سنة 1918، والتحق بخدمة البوليس برتبة الملازم الثاني، وظل يتدرج في المناصب العسكرية والإدارية المختلفة حتى عين في 18 من ديسمبر سنة 1952 وكيلاً مساعداً لوزارة الداخلية، إلا أنه فوجئ بمرسوم إحالته إلى المعاش في 6 من أغسطس سنة 1953 الذي أبلغ إليه في 16 منه. وقد صدر هذا المرسوم مشوباً بإساءة استعمال السلطة؛ لأنه لم يستهدف مصلحة عامة تقتضيه ولم يستند إلى أسباب صحيحة تحمله؛ ومن ثم فإن يحق إلغاؤه واعتباره كأن لم يكن. وقد ردت الحكومة على هذه الدعوى بمذكرة طلبت فيها "الحكم برفض الدعوى، مع إلزام المدعي بالمصروفات والأتعاب". واستندت في ذلك إلى أنه بناء على ما عرضه السيد وزير الداخلية وعلى موافقة مجلس الوزراء صدر مرسوم في 6 من أغسطس سنة 1953 بإحالة المدعي إلى المعاش، وأنه من الأصول المقررة أن للإدارة الحق في فصل أي موظف من موظفيها، ما دامت تستهدف من قرارها الصالح العام، وذلك نتيجة لمسئوليتها عن أعمال موظفيها وما لها من حق في اختيار الصالح منهم، وأن القرارات الإدارية إنما تصدر بقصد تحقيق مصلحة عامة، وعلى من يدعي العكس أن يقيم الدليل على دعواه. والمدعي يطعن في مرسوم إحالته إلى المعاش ناعياً عليه أنه صدر مشوباً بإساءة استعمال السلطة، أي تحت تأثير دوافع شخصية، غير أنه لم يقدم أي دليل على ذلك سوى ما يقوله من أن عمله وملف خدمته لا شائبة عليهما، وهذه القرينة التي يستند إليها لو صحت لا تكفي لإهدار المرسوم المطعون فيه ولا تنهض وحدها دليلاً على صحة ما يذهب إليه؛ الأمر الذي يجعل دعواه فاقدة الأساس حقيقة بالرفض. وبجلسة 28 من نوفمبر سنة 1954 تقدم المدعي بطلب جديد هو إلزام المدعى عليهما بصفتهما بأن يدفعا له تعويضاً مقداره عشرون ألفاً من الجنيهات عن الأضرار التي لحقت به من جراء إنهاء خدمته، ثم أودع مذكرة في 13 من يونيه سنة 1956 استعرض فيها ماضيه منذ تخرجه من مدرسة البوليس في سنة 1918 حتى إحالته إلى المعاش بمرسوم 6 من أغسطس سنة 1953 الذي أبلغ إليه في 16 منه. وأبان أنه عندما صدر المرسوم بقانون رقم 181 لسنة 1952 في 14 من سبتمبر سنة 1952 في شأن فصل الموظفين بغير الطريق التأديبي لم يمس بسوء، بل إنه رقى إلى منصب وكيل الوزارة المساعد في 18 من ديسمبر سنة 1952 بعد انتهاء أجل التطهير، وأن وزارة الداخلية كانت قد درجت على عدم الدقة في اختيار أعضاء مأمورية الحج من ضباط وضباط صف وعساكر، مما خدش سمعة البلاد في الخارج، فرأى أن يدقق النظر في هذا الاختيار. وفي 24 من يونيه سنة 1953 اجتمعت لجنة عامة في الوزراء يرأسها وكيل الوزراء الدائم للنظر في اختيار أعضاء المأمورية من عسكريين ومدنيين، ثم شكلت لجنتان فرعيتان إحداهما برياسة المدعي لترشيح من تختاره من رجال البوليس، والأخرى برياسة غيره لترشيح من تختاره من الرجال المدنيين. وقد اجتمعت هاتان اللجنتان في يوم 26 من يونيه سنة 1953، ووقع الاختيار على سبعة ضباط أصليين وثلاثة احتياطيين على أساس الصلاحية العامة من واقع ملفات خدمتهم وسمعتهم. ثم حدث أن طلب السيد وزير الداخلية بالنيابة الترشيحات التي أجرتها لجنة الضباط، وهي لا تعدو أن تكون ترشيحات تخضع لرأي اللجنة العامة التي لم تكن قد عرضت عليها بعد، وأشر عليها في 5 من يوليه سنة 1953 باجتماع اللجنة ثانية ومراعاة الأسس السبعة التي أوضحها تفصيلاً. وكان من بين الضوابط التي وضعها وأمر باتباعها ما سبق أن قررته اللجنة ذاتها. وقد انعقدت اللجنة العامة ونفذت أمر السيد الوزير في شأن اختبار أعضاء البعثة، وفي اليوم التالي مباشرة أنهى السيد الوكيل الدائم للوزارة إلى المدعي أن السيد الوزير بالنيابة لا يرتاح إلى النهج الذي نهجته اللجنة الفرعية في الترشيح، وأنه يطلب إليه القيام بإجازة مدتها شهر، وأنه إذا أراد الإحالة إلى المعاش فإن الوزير على استعداد لأن يمنحه سنتين يضمان إلى معاشه يتقاضى خلالهما الفرق بين المرتب والمعاش، وقد آثر المدعي أن يقوم بالإجازة، وأبى ما عرضه عليه السيد الوكيل الدائم للوزارة من الإحالة إلى المعاش مهما اقترنت بميزات. وفي 11 من يوليه سنة 1953 ذكرت صحيفتان من الصحف اليومية أن الأسباب التي أقيم عليها قرار منح المدعي الإجازة تتحصل في أن السيد الوزير لاحظ أنه أقام ترشيحاته على أسس غير عادلة، وأنه اتبع سياسة التفرقة بين الضباط، وأنه ترتب على إعمال قواعد الترشيح التي وضعها السيد الوزير أن اختيرت طائفة من الضباط تختلف عمن رشحتهم اللجنة التي كان يرأسها المدعي. وقد كان عرض أعمال هذه اللجنة على السيد الوزير بالنيابة هو الفرصة الوحيدة التي تقابل فيها الاثنان. ونعى المدعي على المرسوم الصادر بإحالته إلى المعاش اتسامه بعيب الانحراف بالسلطة؛ الأمر الذي يجعله غير مشروع ويبرر القضاء بإلغائه، وأضاف إلى ذلك أنه إذا كان الأصل سلامة القرار الإداري وصدوره بدافع من المصلحة العامة، فإن عدم وجود باعث ظاهر ومعقول للقرار قد يؤدي إلى إلغائه بناء على عيب الانحراف، لا سيما إذا لم تقدم الإدارة دليلاً على هذا الباعث، كما أنه إذا كان الأصل أن القضاء الإداري لا يتصدى لبحث الملاءمة، إلا أنه إذا كان عدم الملاءمة من الجسامة بحيث لا يحتمل خلافاً فإنه يصلح سبباً لإلغاء القرار للانحراف، فقرار الفصل يعتبر مشوباً بعيب الانحراف بالسلطة لعدم الملاءمة الظاهرة فيه بين الخطأ والجزاء. وقد أسهم القضاء الإداري في تيسير إثبات عيب الانحراف بقسط وافر كما ثبتت له جديته ولم يقنع بمجرد القرائن السلبية، والمحكمة حرة في تقدير الدليل الذي يقدمه المدعي على الانحراف، ولها إن رأت وجهاً لذلك أن تطلب بيان المبررات التي بني عليها القرار المطعون فيه، وهذا عن طريق اعتبار الدليل الذي قدمه المدعي كافياً على الأقل لزحزحة قرينة المشروعية التي يتمتع بها القرار الإداري، فينتقل عبء الإثبات من عاتق المدعي إلى عاتق الإدارة. وبإنزال حكم القانون على واقعة الدعوى يبين أن السيد وزير الداخلية بالنيابة أبدى في 5 من يوليه سنة 1953 توجيهات معينة تجرى على أساسها الترشيحات لبعثة الحج، وقد اقترنت هذه التوجيهات بملاحظة واحدة هي قوله: "لاحظنا أن ثلاثة ممن وقع عليهم الاختيار من أعضاء مجلس إدارة نادي البوليس، وهذا يثير باقي الضباط"، ولم يكن المدعي عضواً في مجلس إدارة نادي البوليس، ولم تكن له به صلة إلا بوصفه ضابطاً كسائر الضباط، بل إنه كان رئيساً للضباط جميعاً يستوون لديه، لا يفرق بين أحد منهم إلا بقدر ما يتميز به في العمل والاضطلاع به، ولم يكن الترشيح قائماً على أساس العضوية في مجلس إدارة النادي، بل على أساس الصلاحية العامة المطلقة، فإذا كان قد تصادف أن اجتمعت هذه الصلاحية في بعض الضباط مع العضوية في مجلس إدارة النادي فما ذلك إلا لأن الضباط لا يجمعون على اختيار من يمثلهم في مجلس إدارة النادي إلا إذا كان الأصلح منهم. وإذا سلم جدلاً بأن مجرد الترشيح قد شابه عيب فهو لا ينفذ بذاته، وإنما الذي ينفذ هو أمر الوزير بعد عرض الأمر على اللجنة العامة، وقد كان لكليهما أن يعدلا في هذا الترشيح كيفما شاءا، كما أنه إذا كان الوزير قد رأى في الترشيح رأياً يختلف عما ارتأته اللجنة فلم يكن هذا إلا من قبيل اختلاف وجهات النظر، وهذا أمر جائز وليس فيه ما يضر بالصالح العام، ولا إذا لم يتكرر بما لا يمكن القول معه بأن التعاون بين الرئيس ومرءوسيه أصبح غير يسير. والثابت أن الصلة الوحيدة بين السيد الوزير وبين المدعي لم تقم إلا في شأن الترشيحات المتقدم ذكرها، وأن عدم رضاء الأول عن هذه الترشيحات كان هو السبب في إحالة الثاني إلى المعاش، مع أن حصر الخلاف بينهما في الترشيحات المشار إليها لا يعدو ذلك إلى شبهة تعذر التعاون بينهما. وهذا الخلاف ما كان يصح أن يكون محلاً لجزاء يوقع على المدعي أصلاً، وإذا صح فما كان يجوز أن يكون هذا الجزاء هو الإحالة إلى المعاش، وإذا تعذر التعاون فقد كان سبيل علاج هذه الحالة هو نقل المدعي إلى أي منصب آخر مماثل في الوزارة ذاتها أو في أية وزارة أخرى؛ ومن ثم فإن إحالته إلى المعاش لم تكن تستهدف اعتباراً يتعلق بالصالح العام، بل اعتباراً خاصاً قام في نفس الوزير نتيجة للخلاف بينه وبين المدعي في وجهة النظر، والإحالة إلى المعاش مقامة على هذا السبب تكون إجراء لا يتناسب مع السبب المذكور، بل إن عدم الملاءمة البينة في القرار الصادر بها تبدو صارخة موجبة لإلغاء هذا القرار، ومهما يكن من أمر القرار المطعون فيه بالإلغاء، حتى ولو لم تثبت عليه شائبة من شوائب الانحراف الذي يستتبع هذا الإلغاء، فإن القدر المتيقن هو أنه قرار صدر بغير مسوغ مما يستوجب التعويض عنه؛ فليس ثمت تعارض بين رفض طلب الإلغاء لعدم ثبوت الانحراف والاستجابة لطلب التعويض لعدم وجود المسوغ. وإذا كان الانحراف المؤدي إلى الإلغاء واقعة إيجابية تثبت على سبيل اليقين أو يستدل عليها عن طريق القرائن فإن انعدام المسوغ هو واقعة سلبية تثبت حتماً كلما امتنعت الإدارة عن التقدم بما يبرر قرارها. وإذا جاز إطلاق يد مجلس الوزراء بصفته السلطة العليا المهيمنة على مرافق الدولة في إدارة هذه المرافق والاستغناء عن خدمات القائمين عليها بغير الطريق التأديبي، فإن من حق الموظف من جهة أخرى ألا يبعد - دون تعويض - عن عمله الذي رتب على أساسه حياته، ما دام لم يثبت أن قرار الفصل كان له ما يبرره، بل إنه يستحق هذا التعويض حتى ولو كانت الإدارة قد أفصحت عن مسوغات الفصل، ما دامت هذه المسوغات لا تبرر الفصل بسبب انعدام التناسب بينها وبين هذا الجزاء، وإذا كانت أحكام القانون تقتضي منح الحكومة ممثلة في مجلس الوزراء الحق في فصل من ترى فصله من الموظفين، وعلى الأخص من يشغل منهم وظيفة ذات سلطة، إذا تعذر العمل معه أو ارتأت الحكومة أنه غير محل لثقتها أو لغير ذلك من الأسباب التي تتصل بالصالح العام بغير حاجة إلى بيان الأسباب، كما تقضي بأن تصرف الحكومة في هذا الشأن يعتبر صحيحاً ومنتجاً لآثاره إلى أن يقدم الموظف المفصول الدليل القاطع من عناصر ملف خدمته على أنه صدر عن غرض وهوى، فإن تعذر عليه إثبات ذلك ظل القرار صحيحاً ومنتجاً آثاره، إلا أن قواعد العدالة توجب تضمين الموظف المفصول في هذه الحالة الأخيرة عن الأضرار التي لحقته بسبب قرار الفصل أو الإحالة إلى المعاش إذا كان قد صدر بطريقة تعسفية وبغير مسوغ أو في وقت غير لائق. ولتفادي الحكم بالتعويض في هذه الحالة يجب على الحكومة أن تثبت أن قرار الفصل كان لأسباب جدية قائمة بذات الموظف تبرر إبعاده من الخدمة. فإن لم تفعل كان عليها أن تعوضه عن فصله تعويضاً شاملاً. وقد أحيل المدعي إلى المعاش وكان لا يزال باقياً على بلوغه سن الستين 25 يوم 8 شهر 3 سنة، وكان وكيلاً مساعداً لوزارة الداخلية، وله الحق في أن يأمل في الترقي حتى يبلغ درجة الوكيل الدائم براتب قدره 1800 ج سنوياً، وأن يستطيل به العمر إلى سن الخامسة والسبعين، كما أنه كان يتقاضى بدل ملابس وله الحق في اثنين من المراسلات يعملان له في العمل الذي يخصصه لهما: أحدهما طاه والآخر سائق لسيارته، وكان يقيم في مسكن أميري بأجرة شهرية قدرها تسعة جنيهات، وقد اضطر بسبب إحالته إلى المعاش إلى مغادرته إلى سكن آخر بأجرة قدرها 30 جنيهاً شهرياً. ومن هذه العناصر يمكن حساب الأضرار المادية التي حاقت به، وهو لا يستطيع لها دفعاً بحكم ثقافته والعمل الذي كرس له نفسه في خدمة الحكومة كضابط في البوليس لا يستطيع أن يستأنف حياته في نشاط جديد. أما الضرر الأدبي الذي أصابه في سمعته وكرامته فيبلغ مبلغاً جسيماً. وخلص من هذا إلى طلب "إلغاء المرسوم الصادر بإحالة المدعي إلى المعاش، وإلزام المدعى عليه بأن يدفع للمدعي تعويضاً عن هذه الإحالة، ومن باب الاحتياط إلزام المدعى عليه بأن يدفع للمدعي 20.000 من الجنيهات تعويضاً عن إحالته إلى المعاش، مع إلزام المدعى عليه في الحالتين بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة". وقد أودع المدعي بعد ذلك سكرتيرية المحكمة مذكرة أخرى في 26 من يناير سنة 1957 تناول فيها تفصيل بعض ما أورده في مذكرته السابقة، وأضاف إليه أن قرار إحالته إلى المعاش قد صدر مجرداً من الدافع المعقول الذي يتصل بالصالح العام، الأمر الذي يسمه بعيب الانحراف؛ ذلك أنه لا يجب لزاماً لأن يوصم القرار الإداري بعيب الانحراف أن يكون مصدره قد انبعث عن أسباب شخصية، بل يكفي أن يكون قد تنكب سبيل المصلحة العامة تحت أي مؤثر أو باعث. ويدخل في هذا المعنى عدم الملاءمة بين القرار الإداري والسبب الذي أقيم عليه، فليس صيحاً أن تقدير الملاءمة أمر يخضع لتقدير جهة الإدارة بغير معقب عليها؛ إذ محل ذلك أن يكون التعقيب على تقدير الإدارة أمراً يدخل في صميم اختصاها، أما إذا كان عدم الملاءمة من الوضوح والجسامة بحيث يكون ناطقاً بأن الأمر الإداري بعيد كل البعد عن أن يتناسب مع السبب الذي أقيم عليه فلا شبهة في أن القضاء الإداري يعمل رقابته على الأمر ويعيد الآثار التي ترتبت عليه إلى نصابها السليم. وقد اختتم المدعي مذكرته هذه بالتصميم على طلباته.
ومن حيث إن السيد مفوض الدولة قدم لمحكمة القضاء الإداري تقريرين بالرأي القانوني مسبباً ذكر فيهما أنه طلب إلى الوزارة إبداء رأيها في مدى صحة ما أظهره المدعي وفيما إذا كان تصرفه في اختيار أعضاء بعثة الحج لعام 1953 هو السبب الحقيقي لإحالته إلى المعاش مع تقديم المذكرة التي رفعت بشأنه إلى مجلس الوزراء، فأجابت بأن القوانين واللوائح لا تلزم الحكومة بالإفصاح عن أسباب الفصل في قرارات الإحالة إلى المعاش ما دامت تستهدف في إصدارها المصلحة العامة، وأنه واضح من ديباجة المرسوم الصادر بإحالة المدعي إلى المعاش أنه كان بناء على ما عرضه السيد وزير الداخلية وموافقة مجلس الوزراء، ولم ترفع مذكرة إلى المجلس في هذا الشأن. وأوضح السيد المفوض أن المفروض في قرارات الإحالة إلى المعاش غير المسببة أنها صدرت صحيحة وفي حدود المصلحة العامة، وأن على من يطلب إلغاءها لعيب إساءة استعمال السلطة أن يقم الدليل القاطع على ذلك. ولما كان المدعي لم يورد - في معرض بيانه لما شاب قرار إحالته إلى المعاش - دليلاً على هذا العيب سوى صور من ماضيه في الوظيفة، وهي لا تتصل بعيب إساءة استعماله السلطة ولا تفيد من قيامه، فإن ما ينعاه على هذا القرار يكون غير قائم على أساس سليم، مما يتعين معه رفض طلب إلغائه، ما دام القرار المذكور قد صدر غير مسبب، وما دامت الوزارة قد أصرت على موقفها السلبي في عدم الإفصاح عن أسبابه وكتمان هذه الأسباب. ولا يجدي المدعي أن يحاول تلمس الأسباب التي أدت إلى إحالته إلى المعاش وطرحها على المحكمة بقصد مناقشتها وإخضاعها لرقابتها؛ إذ يظل القرار المطعون فيه مصحوباً بقرينة المشروعية ويبقى سليماً حتى يثبت المدعي عيب الانحراف فيه، ولا يقبل منه التدليل على هذا الانحراف بعدم الملاءمة بين ما أسند إليه وما أوخذ به؛ إذ أن هذا هو تقدير موضوعي يخرج عن حدود رقابة المحكمة لمشروعية القرار. ولما كان ما يعيب القرار ويصمه بالانحراف هو صدوره من بواعث ذاتية ودوافع شخصية لا تمت إلى العمل بصلة، فإن اختلاف وجهات النظر حول القيام بعمل من أعمال الوظيفة لا يقوى على وصم القرار بالانحراف؛ ومن ثم فإن طلب الإلغاء يكون غير مستند إلى أساس سليم من القانون، ويتعين رفضه. أما طلب التعويض فإن المدعي على حق فيه؛ لأن إحالته إلى المعاش قبل بلوغه السن قد صدرت بغير مسوغ دون أن يأتي ما يستوجب إقصاءه عن الوظيفة التي كان يشغلها، ولا سيما أن ملف خدمته وتقاريره السرية تشهد له بالكفاية وحسن الخلق. وانتهى السيد مفوض الدولة من هذا إلى أنه يرى "الحكم برفض طلب الإلغاء، مع الحكم للمدعي بتعويض مناسب".
ومن حيث إن محكمة القضاء الإداري (الهيئة الثانية) قضت في هذه الدعوى بجلسة 20 من فبراير سنة 1957 "برفض الدعوى، وألزمت المدعي بالمصروفات"، وأقامت قضاءها على أن مجلس الوزراء هو الهيئة الإدارية العليا التي تهيمن على شئون الموظفين، وأن صالح العمل يتطلب إطلاق يد الحكومة في تنظيم المرافق العامة وإدارتها على أمثل وجه، وذلك باختيار أقدر الأشخاص على العمل في خدمة هذه المرافق، وإبعاد من ترى أنه غير صالح لأداء هذه الخدمة؛ ومن ثم كان من الطبعي أن ينفرد مجلس الوزراء بسلطة الإشراف على شئون الموظفين والتصرف في أمورهم؛ فيعين من يأنس فيه الصلاحية للنهوض بأعباء الوظيفة العامة، ويعزل من يرى أنه أصبح غير لائق لهذه المهمة قبل بلوغه السن المقررة للإحالة إلى المعاش متى توافرت لديه الأسباب التي تبرر هذا العزل، وذلك دون محاكمة تأديبية ودون أن يكون ملزماً بذكر الأسباب التي يؤسس عليها قراره في هذا الشأن، وهذا الحق أصيل ومطلق ولا يرد عليه إلا قيد حسن استعماله وفقاً لمقتضيات الصالح العام، أي خلوه من شائبة إساءة استعمال السلطة وعدم صدوره عن بواعث شخصية تنم عن الغرض أو الهوى؛ لأن سلطة مجلس الوزراء في فصل الموظفين من الخدمة قبل بلوغهم سن التقاعد ليست سلطة تحكمية لا حد لها ولا ضابط، وإنما هي سلطة تقديرية تجد حدها الطبعي في العلة القانونية التي أملتها وهي الصالح العام، فإذا انحرفت عن استهدافه جاء التصرف مشوباً بعيب إساءة استعمال السلطة وكان غير مشروع. والمفروض من قرارات الإحالة إلى المعاش غير المسببة أنها صدرت صحيحة وفي حدود المصلحة العامة، وعلى من يطلب إلغاءها لعيب إساءة استعمال السلطة أن يقم الدليل القاطع على ذلك، فإن أخفق في ذلك استمرت هذه القرارات سليمة صحيحة منتجة لآثارها القانونية. وقد صدر مرسوم إحالة المدعي إلى المعاش غير مسبب، وامتنعت الإدارة عن الإفصاح عن أسبابه، ولم يتمكن المدعي من إثبات أن السبب المباشر لإحالته إلى المعاش هو ما سماه سوء تفاهم بينه وبين وزير الداخلية بسبب اختيار أعضاء مأمورية الحج وترشيح اللجنة التي يرأسها لبعض أعضاء مجلس إدارة نادي البوليس. وإذ فشل في إثبات إساءة استعمال السلطة من جانب جهة الإدارة عند فصله من الخدمة فإن طلبه الخاص بالتعويض عن هذا الفصل ينهار هو كذلك بدوره، ولا سيما أنه إذا كان ملف خدمة المدعي وأوراق الدعوى تدل على كفايته فإنها لا تدل حتماً على صلاحيته التي تترخص جهة الإدارة في موازنتها بما لها من سلطة تقديرية؛ إذ من المسلم أن الكفاية هي أحد شروط الصلاحية وليست الصلاحية ذاتها. ومتى ثبت أن قرار الفصل قد بني على أسباب صحيحة قانوناً فإن ركن الخطأ الذي يقوم عليه طلب التعويض يكون غير متوافر، وبالتالي لا يكون ثمت محل لمسئولية الإدارة.
ومن حيث إن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة طعن في هذا الحكم بعريضة أودعها سكرتيرية هذه المحكمة في 17 من أبريل سنة 1957 طلب فيها "قبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع إلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء بانتهاء الخصومة بالنسبة إلى طلب المدعي الأول، وبالتعويض المناسب بالنسبة لطلب المدعي الثاني، وإلزام الحكومة كامل المصروفات". واستند في أسباب طعنه إلى أن الحكم قد أخطأ في استظهار وسائل عيب الانحراف القائمة بمرسوم إحالة المدعي إلى المعاش والتي احتواها ملف خدمته، وأنه يتعين القضاء بانتهاء الخصومة بالنسبة إلى طلب إلغاء هذا المرسوم لزوال مصلحته في هذا الطلب بسبب بلوغه سن الإحالة إلى المعاش أثناء نظر الدعوى وعدم جواز إعادته إلى وظيفته مع بقاء المرسوم المشار إليه معيباً ومشوباً بالانحراف، أما بالنسبة إلى طلبه الثاني الخاص بتعويضه عن الأضرار التي لحقت به من جراء فصله من الخدمة فإن أساس مسئولية الحكومة من قراراتها الإدارية هو قيام خطأ من جانبها؛ بأن يكون القرار غير مشروع، أي يشوبه عيب أو أكثر من العيوب المنصوص عليها في المادة الثامنة من القانون رقم 165 لسنة 1955 في شأن تنظيم مجلس الدولة، وأن يترتب عليه ضرر، وأن تقوم علاقة السببية بين الخطأ والضرر، فإن كان القرار مشروعاً؛ بأن كان سليماً مطابقاً للقانون، فلا تسأل عنه الإدارة مهما بلغ الضرر الذي يترتب عليه؛ إذ أن مسئوليتها لا تقوم على أساس تبعة المخاطر كأصل عام. والأصل أن الإدارة غير ملزمة بتسبيب قراراتها، وأنه يفترض في القرار غير المسبب أنه سليم وأنه صدر بدافع من المصلحة العامة، ويقع على عاتق طالب الإلغاء إثبات العكس؛ ومن ثم تنحصر مسئولية الإدارة في الدعوى الحالية في إمكان المدعي إثبات انحراف قرار فصله عن وجه الصالح العام. وبالرجوع إلى ملف خدمة المذكور يتضح أن به أدلة وقرائن كافية في مجموعها لدحض قرينة سلامة قرار فصله وإثبات انحرافه عن وجه المصلحة العامة مما يسمه بعيب عدم المشروعية ومخالفة القانون؛ إذ يشهد هذا الملف بأنه موظف كفء نزيه ومثل طيب للضباط وبصلاحيته التامة لمختلف الأعمال العسكرية والإدارية مما يؤهله لشغل المراكز الكبرى، وقد خلا مما يشينه أو يسئ إليه. وهذا الدليل يكشف عن عدم وجود سبب ظاهر لفصله من الخدمة. وقد دعيت الإدارة للإفضاء بأسباب فصله فرفضت الإفصاح عنها، وهذا يؤيد ما تحداها به المدعي من أنه لم يكن لديها سبب مشروع لفصله، وأن القرار الصادر بإحالته إلى المعاش لا يهدف إلى المصلحة العامة التي يجب أن يتغياها كل قرار صادر من الجهة الإدارية. ولما كان الثابت أن المدعي رقى إلى وظيفة وكيل وزارة الداخلية المساعد، وهي من الوظائف الرئيسية التي يقوم التعيين فيها على أساس الاختيار في وقت كان الجهاز الإداري فيه تحت سيطرة التطهير بالمرسوم رقم 181 لسنة 1952، وأنه إنما فصل لا استناداً إلى هذا القانون، بل فصلاً عادياً بغير الطريق التأديبي، فإن الظروف والملابسات التي تم فيها هذا الفصل توحي مجتمعة بأنه لا يستند إلى دافع معقول أو باعث ظاهر، وتدحض قيام سبب صحيح من الواقع أو من القانون يبرره، وبالتالي تتضافر الأدلة والقرائن على إسعاف المدعي في إقامة الدليل على انحراف القرار الصادر بفصله عن المصلحة العامة ومجافاته للغاية المشروعة. وهذا هو وجه الخطأ في تصرف الجهة الإدارية، وهو خطأ يستوجب المسئولية. وإذا كان من المحقق أن نتيجة هذا الخطأ هي الإضرار بالمدعي مادياً وأدبياً، فإنه يستحق تعويضاً مناسباً يجبر به كامل هذا الضرر. وإذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب، فإنه يكون قد خالف القانون، وتكون قد قامت به حالة من حالات الطعن في الأحكام أمام المحكمة الإدارية العليا.
ومن حيث إن المدعي أودع سكرتيرية المحكمة بعد حجز الطعن للحكم مذكرة بملاحظاته طلب فيها "قبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، والحكم: أصلياً - بإلغاء المرسوم الصادر بتاريخ 6 من أغسطس سنة 1953 بإحالة المطعون لصالحه إلى المعاش، مع أحقيته في تسوية معاشه على أساس هذا الإلغاء، ومع الحكم له بتعويض مادي وأدبي قدره 15 ألف جنيه. واحتياطياً - بتعويض للمطعون لصالحه قدره عشرون ألفاً من الجنيهات نظير ما لحقه من أضرار مادية وأدبية، ومع الحكم بالمصروفات وأتعاب المحاماة". وقد ردد المدعي في هذه المذكرة ما سبق أن أبداه في مذكرتيه السابقتين من وقائع تتعلق بماضي خدمته في الوظيفة وظروف اتصاله في يوم 5 من يوليه سنة 1953 بالسيد وزير الداخلية بالنيابة في شأن ترشيحات لجنة الضباط لأعضاء مأمورية الحج، واختلاف وجهتي نظرهما في الأسس التي تقوم عليها هذه الترشيحات، ثم تنفيذه لتوجيهات السيد الوزير وتبليغ وكيل الوزارة الدائم إياه في صبيحة اليوم التالي بعدم ارتياح الوزير لترشيحات لجنته وضرورة قيامه بإجازة والاستعداد لتسوية معاشه وإذاعة الصحف لأسباب قيامه بالإجازة، ثم إحالته إلى المعاش بعد ذلك، ورفعه دعواه الحالية، ورأي السيد مفوض الدولة برفض طلب الإلغاء وبالحكم له بالتعويض المناسب، ورفض محكمة القضاء الإداري لدعواه إلغاء وتعويضاً، ثم طعن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة لصالحه. وزاد على ذلك أن أحكام محكمة القضاء الإداري خلطت بين نظريات ثلاث:
(الأولى) نظرية إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها، وبمقتضاها يجب الحكم بالإلغاء والتعويض معاً. و(الثانية) نظرية التعسف في استعمال الحقوق الإدارية، وبمقتضاها يجب رفض الإلغاء مع الحكم بالتعويض. و(الثالثة) نظرية المخاطر التي بمقتضاها يجب رفض الإلغاء، مع الحكم بالتعويض، وهي تتفق مع النظرية الثانية من حيث النتيجة وإن اختلفت عنها في الأساس. وذكر أن الانحراف هو استخدام رجل الإدارة السلطة التي منحه إياها القانون بقصد تحقيق غرض غير الغرض الذي قصده القانون، وأن قرينة المشروعية عند عدم تسبيب قرار الفصل تقبل الدليل العكسي إذا استشف دليل الانحراف من ملف الدعوى أو من دلائل أخرى، ويعتبر رفض الإجابة على ما يطلبه القضاء من الإدارة من تفسيرات وإيضاحات دليلاً على الانحراف، وكذا اعتصامها بقرينة المشروعية وامتناعها عن إبداء الأسباب، كما أن انعدام الدافع المعقول يعد قرينة كافية على أن بواعث إصدار القرار مشكوك فيها، وكذلك الحال فيما يتعلق بشذوذ طريقة إصدار القرار وتنفيذه، وبالمثل يعتبر فصل الموظف الذي ينطق ملف بكفايته ونزاهته قرينة على الانحراف، وكذا عدم الملاءمة في القرار إذا بلغ حداً جسيماً ظاهراً، ففي هذه الحالات جميعاً يكون إلغاء القرار واجباً لاتسامه بعيب الانحراف، وهي كلها متوافرة في القرار الصادر بفصل المدعي من الخدمة؛ إذ الدافع المعقول لفصله منعدم، وطريقة حمله على الإجازة ثم إصدار قرار فصله غير عادية ولا طبعية، وملف خدمته ناصع البياض زاخر بكفايته ونزاهته، وعدم الملاءمة في القرار ظاهر لا يحتاج إلى بيان. ومهما يكن من أمر فإن القرار حتى إذا صدر سليماً قد يستوجب التعويض على أساس نظرية التعسف في استعمال الحقوق الإدارية بحيث يبسط عليه القضاء رقابة لا تصل إلى حد الإلغاء وإنما تقف عند حد التعويض، وذلك في حالة ما إذا أصدرت الإدارة قراراً سليماً من الناحية القانونية، إلا أنها أصدرته فجأة في وقت غير مناسب، وحالة عدم فائدة القرار، وحالة عدم الملاءمة فيه؛ كأن يخطئ الموظف في عمله خطأ مصلحياً يسيراً فيصدر قرار بفصله، أي بتوقيع جزاء عليه لا يتناسب في شدته مع خطئه البسيط، ولو فرض في الجدل أن حالة المدعي لا تندرج تحت إحدى صور الانحراف المختلفة، فإنه يظل مع ذلك مستحقاً التعويض على أساس نظرية التعسف؛ ذلك أن قرار فصله قد تضمن حالتين من حالات التعسف الثلاث أنفة الذكر، إذ أنه قرر مفاجئ من جهة، كما أن عدم الملاءمة فيه ظاهر بالنسبة إلى ما أسند إليه لو جاز اعتبار ما أسند إليه خطأ مصلحياً من جهة أخرى، وفضلاً عما تقدم فإن حالته تستحق التعويض طبقاً لنظرية المخاطر التي لا حائل من القانون يمنع من تطبيقها. وقد عطف المدعي بعد ذلك على الحكم المطعون فيه فناقش بعض حيثياته، وخلص منها إلى أن هذا الحكم قد أخطأ في رفض دعوى الإلغاء كما أخطأ في رفض دعوى التعويض، وأن الأسباب التي قام عليها تتعارض مع المبادئ القانونية المسلمة، وأنه قد أهدر بلا مبرر الملابسات التي استند إليها المدعي في إثبات دعواه مع سلامتها وقوة دلالتها، كما أبقى عبء الإثبات ملقى على عاتق هذا الأخير، وعلى الرغم من ملفه الناصع وقرائن دعواه الناطقة، كذلك خلط بين التعسف وبين عيب الانحراف. وتطرق المدعي من هذا إلى التصدي إلى طعن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة، فذكر أنه تضمن في الوقائع خطأ مزدوجاً بتأسيس رفض طلب الإلغاء على انتفاء المصلحة وبالاكتفاء بالتعويض استناداً إلى اتسام القرار بالانحراف. أما ما ذهب إليه من انتفاء مصلحة المدعي في طلب الإلغاء نظراً إلى بلوغه سن الإحالة إلى المعاش فمردود بأن هذه المصلحة قائمة في صورتين: (الأولى) مصلحة خاصة تتمثل في استحقاقه الفرق بين مرتبه السابق ومعاشه الحالي حتى تاريخ بلوغه سن الإحالة إلى المعاش وأحقيته في تسوية معاشه على أساس ضم المدة من تاريخ فصله حتى تاريخ بلوغه السن القانونية إلى مدة خدمته المحسوبة في المعاش، (الثانية) مصلحة عامة تقوم على إعلان الحقيقة القانونية بإصدار حكم الإلغاء بصرف النظر عن النتيجة العملية للحكم؛ لأن قضاء الإلغاء هو لصالح القانون قبل كل اعتبار. وأما خطأ الاكتفاء بالتعويض تأسيساً على عيب الانحراف فمرجعه إلى أنه ما دام الرأي قد انتهى إلى اتسام القرار بعيب الانحراف فإن النتيجة الطبعية لقيام هذا العيب هي وجوب الإلغاء علاوة على التعويض. ثم تناول المدعي بعد هذا بيان عناصر التعويض الذي يطالب به، المادي منه والأدبي، في كل من حالتي الحكم بالإلغاء أو الحكم بالتعويض فقط، وفصل ذلك تفصيلاً على أساس مختلف الفروض وشفع بيانه بالأرقام.
ومن حيث إن هذه المحكمة سبق أن قضت بأن علاقة الموظف بالحكومة هي علاقة تنظيمية تحكمها القوانين واللوائح، فمركز الموظف هو مركز قانوني عام يجوز تغييره في أي وقت؛ ومرد ذلك إلى أن الموظفين هم عمال المرافق العامة؛ وبهذه المثابة يجب أن يخضع نظامهم القانوني للتعديل والتغيير وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة لحسن سير تلك المرافق؛ ذلك أن الوظيفة العامة هي مجموعة من الاختصاصات يتولاها الموظف لصالح المرفق العام ويعهد بها إليه ليساهم في شئونه في سبيل تحقيق الأغراض المنشودة منه للمصلحة العامة التي تقوم الدولة على رعايتها. وتقليد الوظيفة العامة هو إسناد اختصاصاتها إلى الموظف الذي يولاها، وتعيين الموظف أياً كانت أداته لا يخلق الوظيفة، ولا يرتب للموظف حقاً فيها على غرار حق الملكية مثلاً، إذ هي ملك للدولة وإنما يقتصر أثر التعيين على وضع الموظف في مركز قانوني عام وإخضاعه لما تقرره القوانين واللوائح الخاصة بالوظيفة من قواعد وأحكام، وإفادته من مزاياها. ولما كانت الوظيفة تكليفاً للقائم بها كأصل مسلم، وهذا التكليف يتطلب من الموظف أن يكون صالحاً للقيام به، فإن بقاءه في الوظيفة - وهو رهين بهذا المناط - ليس حقاً ينهض إلى مرتبة الحقوق الدستورية، ولا يقاس على حق الملكية مثلاً، بل هو وضع شرطي منوط بصلاحيته للنهوض بأعباء الوظيفة العامة، وهو أمر يخضع لتقدير الحكومة القوامة على تيسير المرافق العامة، فتفصل من تراه أصبح غير صالح لذلك دون الاحتجاج بأن له أصل حق في البقاء في الوظيفة، ما دام ذلك قد تم بالشروط وفقاً للأوضاع التي قررها القانون وبغير إساءة استعمال السلطة. وحق الحكومة في فصل الموظفين هو حق أصيل لا شبهة فيه مرده إلى أصلين: (الأول) أصل طبعي رددته النصوص الدستورية هو وجوب هيمنة الحكومة على تسيير المرافق العامة على الوجه الذي يحقق المصلحة العامة. و(الثاني) أصل تشريعي يستند إلى الأوامر العالية والدكريتات والقوانين المتتابعة الصادرة في هذا الشأن، وقد رددته المادة 107 من القانون رقم 210 لسنة 1951 بشأن نظام موظفي الدولة التي عددت أسباب انتهاء خدمة الموظفين المعينين على وظائف دائمة، وذكرت من بينها في البند (4) العزل أو الإحالة إلى المعاش بقرار تأديبي، وفي البند (6) الفصل بمرسوم أو أمر جمهوري أو بقرار خاص من مجلس الوزراء، أي بغير الطريق التأديبي، وهذا الفصل بالطريق الأخير هو الذي أشارت إليه المادة الرابعة بند (5) من القانون رقم 112 لسنة 1946 الخاص بإنشاء مجلس الدولة، والمادة الثالثة بند (5) من القانون رقم 9 لسنة 1949 الخاص بمجلس الدولة، والمادة الثامنة بند (خامساً) من القانون رقم 165 لسنة 1955 في شأن تنظيم مجلس الدولة. وثبوت هذا الحق لمجلس الوزراء معناه تفرد الحكومة، وهي التي عينت الموظف، بتقدير صلاحيته للنهوض بأعباء الوظيفة العامة والاستمرار في تولي عملها، ولو أن هذا الحق لا يكون مشروعاً إلا إذا وقع الفصل لاعتبارات أساسها المصلحة العامة، واستند إلى أسباب جدية قائمة بذات الموظف؛ ذلك أنه لما كان الموظفون هم عمال المرافق العامة، فإنه يلزم أن تكون للحكومة الحرية في اختبار من تأنس فيهم الصلاحية لهذا الغرض، وفصل من تراه منهم أصبح غير صالح لذلك، وهذا من الملاءمات المتروكة لتقديرها بلا معقب عليها، ما دام قرارها قد خلا من عيب إساءة استعمال السلطة، فلم تستهدف سوى المصلحة العامة. ويقع عبء إثبات سوء استعمال السلطة على الموظف المفصول. وعيب إساءة استعمال السلطة المبرر لإلغاء القرار الإداري أو التعويض عنه يجب أن يشوب الغاية منه ذاتها؛ بأن تكون الإدارة قد تنكبت وجه المصلحة العامة التي يجب أن يتغياها القرار وأصدرته بباعث لا يمت لتلك المصلحة، أو استعملت السلطة التقديرية التي خولها إياها القانون لتحقيق غرض غير الذي استهدفه القانون بمنحها هذه السلطة. والأصل أن الإدارة غير ملزمة بتسبيب قراراتها ما لم يوجب عليها القانون ذلك. كما أن المفروض في هذه القرارات أنها تهدف في جميع الأحوال إلى المصلحة العامة، وإلى تحقيق ذات الغرض الذي منحت الإدارة من أجله سلطة إصدارها، وأنها قائمة على سببها المبرر لها؛ وبذا تحمل قرينة المشروعية التي لا تزايلها لمجرد عدم تسبيبها، ما لم يقم على دحض هذه القرينة الدليل العكسي ممن يطلب إلغاء تلك القرارات. ولم يوجب المشرع على الإدارة تسبيب قراراتها الصادرة بالإحالة إلى المعاش أو بالعزل بالتطبيق للفقرة الرابعة من المادة 107 من القانون رقم 210 لسنة 1951 بشأن نظام موظفي الدولة، أو بالفصل بالتطبيق للفقرة السادسة من هذه المادة؛ ومن ثم فلا سبيل إلى إلزامها بالإفصاح عن الأسباب التي حملتها على إصدار مثل هذه القرارات والتي قد ترى في كتمانها مصلحة عامة عليا تقدر خطورتها، أو رفقاً بالموظف المفصول بتجنيبه إذاعتها، وليس للقضاء الإداري - في حدود رقابته القانونية - أن يتطرق إلى بحث ملاءمة الفصل في هذه الحالة، حتى ولو كشفت الإدارة عن سببه، أو أن يتدخل في تقدير خطورة هذا السبب ومدى ما يمكن ترتيبه عليه من آثار؛ بإحلال نفسه محل السلطات الإدارية المختصة فيما هو متروك لتقديرها ووزنها، بل إن هذه السلطات حرة في تقدير أهمية الحالة والخطورة الناجمة عنها والأثر الذي يناسبها، ولا هيمنة للقضاء الإداري على ما تكون منه عقيدتها واقتناعها في شيء من هذا؛ ذلك أن نشاط هذا القضاء في وزنه للقرارات الإدارية ينبغي أن يقف عند حد المشروعية أو عدمها في نطاق الرقابة القانونية، فلا يجاوزها إلى وزن مناسبات القرار أو غير ذلك مما يدخل في نطاق الملاءمة التقديرية التي تملكها الإدارة وتنفرد بها بغير معقب عليها فيها. ومتى صدر القرار مطابقاً للقانون وخلا من إساءة استعمال السلطة، فإنه يكون صحيحاً سليماً مبرأ من العيوب، مما لا وجه معه لمساءلة الحكومة بتعويض عنه؛ لأن أساس هذه المسئولية هو وقوع خطأ من جانب الحكومة يجعل القرار الإداري غير مشروع؛ بأن يشوبه عيب أو أكثر من العيوب المنصوص عليها في قانون مجلس الدولة، وأن يترتب عليه ضرر، وأن تقوم علاقة سببية بين عدم المشروعية - أي بين خطأ الإدارة - وبين الضرر الذي أصاب الفرد. فإذا كان القرار سليماً مطابقاً للقانون فلا تسأل الإدارة عن نتائجه مهما بلغت جسامة الضرر الذي يلحق الفرد من تنفيذه لانتفاء ركن الخطأ؛ إذ لا مندوحة من أن يتحمل الأفراد نتائج نشاط الإدارة المشروع، أي المطابق للقانون، ولا وجه لإقامة المسئولية في هذه الحالة على ركنين فقط هما الضرر وعلاقة السببية بين نشاط الإدارة ذاته وبين الضرر، حتى لو كان هذا النشاط غير منطوٍ على خطأ، أي إقامتها على أساس تبعة المخاطر؛ إذ لا يمكن الأخذ بهذا المبدأ كأصل عام؛ ذلك أن نصوص القانون المدني ونصوص قانون مجلس الدولة المصري قاطعة في الدلالة على أنها عالجت المسئولية على أساس قيام الخطأ، بل حددت نصوص القانون الأخير أوجه الخطأ في القرار الإداري؛ بأن يكون معيباً بعيب عدم الاختصاص أو وجود عيب في الشكل أو مخالفة القوانين أو اللوائح أو الخطأ في تطبيقها وتأويلها أو إساءة استعمال السلطة، فقد نصت المادة الثامنة من القانون رقم 165 لسنة 1955 في شأن تنظيم مجلس الدولة في فقرتها التاسعة على أنه "ويشترط في الطلبات المنصوص عليها في البنود (ثالثاً) و(رابعاً) و(خامساً) و(سادساً) أن يكون مرجع الطعن عدم الاختصاص أو وجود عيب في الشكل أو مخالفة القوانين أو اللوائح أو الخطأ في تطبيقها وتأويلها أو إساءة استعمال السلطة"، وقد تناول البند (خامساً) في هذه البنود "الطلبات التي يقدمها الموظفون العموميون بإلغاء القرارات الإدارية الصادرة بإحالتهم إلى المعاش أو الاستيداع أو فصلهم من غير الطريق التأديبي"، كما نصت المادة التاسعة من القانون المذكور على أن "يفصل مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري دون غيره في طلبات التعويض عن القرارات المنصوص في المادة السابقة إذا رفعت إليه بصفة أصلية أو تبعية"، وكان هذا الحكم الذي تضمنته المادتان الثالثة والرابعة من القانون رقم 9 لسنة 1949 الخاص بمجلس الدولة، وكذلك المادة 18 من قانون نظام القضاء رقم 147 لسنة 1949 التي نصت في البند (2) منها على اختصاص المحاكم العادية بالفصل "في دعاوى المسئولية المدنية المرفوعة على الحكومة بسبب إجراءات إدارية وقعت مخالفة للقوانين واللوائح". وواضح من هذه النصوص أن المشرع قد جعل مناط مسئولية الإدارة عن قراراتها التي تسبب أضراراً للغير هو وقوع عيب في هذه القرارات من العيوب المنصوص عليها قانوناً، فإذا انتفى هذا العيب فلا مسئولية على الإدارة مهما ترتب على القرار من أثر أضر بالأفراد؛ ومن ثم فلا يمكن - والحالة هذه - ترتيب المسئولية على أساس تبعة المخاطر كأصل عام مقرر، بل يلزم لذلك نص تشريعي خاص. وقد أخذ التشريع المصري ببعض التطبيقات لفكرة المخاطر وتحمل التبعة بقوانين خاصة وعلى سبيل الاستثناء الذي لا يجوز التوسع في تفسيره أو تطبيقه. ومتى كان هذا هو الشأن في تشريع مجلس الدولة المصري، فليس يجدي - إزاء نصوصه الصريحة التي حددت مناط مسئولية الإدارة عن قراراتها الإدارية - الاجتهاد في ترتيب مسئولية الإدارة بالتعويض عن قرارات سليمة استناداً إلى نظرية التعسف في استعمال الحقوق الإدارية التي إن كان لها ما يسوغها في قانون آخر له قواعده وأوضاعه المختلفة عنها في القانون المصري، فليس هذا هو شأنها في ظل أحكام هذا القانون الأخير.
ومن حيث إن هيئة مفوضي الدولة - عندما دعت بكتابها المؤرخ أول مارس سنة 1956 وزارة الداخلية إلى بيان ما إذا كان ما استخلصه المدعي من عددي جريدتي الأهرام وأخبار اليوم الصادرين في 11 من يوليه سنة 1953 من أن السبب في إحالته إلى المعاش هو ما نسب إليه من سوء تصرف في اختيار أعضاء بعثة الحج لعام 1953 صحيحاً أم لا، مع إيداع صورة من المذكرة المقدمة من الوزارة إلى مجلس الوزراء للموافقة على إحالته إلى المعاش إن وجدت - أجابت الوزارة بكتابها المؤرخ 27 من مارس سنة 1956 "بأن القوانين واللوائح لا تلزم الحكومة بأن تفصح عن أسباب الفصل في قرارات الإحالة إلى المعاش ما دامت تستهدف في إصدارها المصلحة العامة، مع الإحاطة بأنه واضح من ديباجة المرسوم الصادر بإحالة المدعي إلى المعاش أنه كان بناء على عرضه السيد وزير الداخلية وموافقة مجلس الوزراء، ولم ترفع مذكرة للمجلس في هذا الشأن", فلما طلبت هذه المحكمة إلى الوزارة إبداء أسباب إحالة المدعي إلى المعاش قدمت الوزارة بجلسة 17 من يناير سنة 1959 مستندات مشفوعة بمذكرة خاصة مؤرخة 16 من ديسمبر سنة 1958 جاء فيها أنه "لما تعين اللواء عبد الغني بركات وكيلاً مساعداً لوزارة الداخلية في 18 من ديسمبر سنة 1952 جعل يحتضن بعض الضباط الذين كانوا ينتمون إلى طائفة معينة والذين ظهر فيما بعد أن لهم ميولاً هدامة؛ الأمر الذي حدا بتقديمهم إلى محكمة الشعب وصدور أحكام متفاوتة حسبما يبين من الكشف المرافق. هذا فضلاً عن أن المرسوم الذي أحيل سيادته بمقتضاه إلى المعاش صدر بناء على ما عرضه السيد وزير الداخلية (البكباشي جمال عبد الناصر) على مجلس الوزراء. وأما عن مأمورية الحج في حد ذاتها فقد كانت من الأسباب المباشرة لترجيح رأي الوزارة في إعادة النظر في موقف المدعي كوكيل لوزارة الداخلية الذي انتهى باستصدار مرسوم إحالة سيادته إلى المعاش بعد أن عرض السيد وزير الداخلية (البكباشي جمال عبد الناصر) الأمر على مجلس الوزراء. فضلاً عن أن اختيار سيادته لثلاثة ضباط في مأمورية الحج سنة 1953 من أعضاء مجلس إدارة نادي ضباط البوليس مع أن عدد ضباط المأمورية لا يتجاوز العشرة كان المقصود به أن يعمل هؤلاء الأعضاء على بث الدعوى له لكي ينتخب رئيساً لمجلس إدارة النادي بدلاً من السيد اللواء محمد محمود الباجوري وكيل الوزارة المساعد لشئون الأمن العام وقتئذ حالما تنتهي مدة عضويته". وقد تضمنت الأوراق المقدمة من الوزارة كشفاً بأسماء السادة الضباط أعضاء مجلس إدارة نادي ضباط البوليس الذين انتخبوا في 11 من سبتمبر سنة 1952 واستمرت عضويتهم حتى سنة 1953 مؤشراً به أمام الضباط الثلاثة الذين رشحهم المدعي للسفر لمأمورية الحج، وكذا كشفاً مقدماً من إدارة المباحث العامة مبيناً به أسماء الضباط الذين اتهموا بأعمال هدامة ضد نظام الحكم الحاضر وضد سلامة والوطن والأحكام الصادرة ضدهم من محكمة الشعب. وقد ورد بهذين الكشفين أسماء كل من الملازمين محمد رشاد المنيسي ومحمد كمال عبد الرازق، وهما من أعضاء مجلس إدارة النادي في سنة 1953 ومن الضباط المحكوم عليهم فيما بعد من الدائرة الثالثة لمحكمة الشعب بجلسة 28 من ديسمبر سنة 1954 في القضيتين رقمي 187 و188 بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات لاتهامهما بارتكاب أفعال ضد نظام الحكم الحاضر وضد سلامة الوطن والاشتراك في جهاز سري مسلح مخالفين بذلك قوانين الدولة. وقد وافق مجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة في 12 من يناير سنة 1954 على فصلهما من خدمة الحكومة وصدر قراراه بذلك. وهذان الضابطان من بين من رشحهم المدعي لمأمورية الحج المتقدم ذكرها، وقد كان الإدعاء المقام عليهما والذي حوكما وأدينا من أجله هو إتيانهما الأفعال المشار إليها "في يوم 26 من أكتوبر سنة 1954 وما قبله بجهة مدينة القاهرة".
ومن حيث إن ما يذهب إليه المدعي في مذكرته التكميلية من أن إجابة وزارة الداخلية المتضمنة لأسباب إحالته إلى المعاش إنما هي صادرة من مدير إدارة كاتم الأسرار بالوزارة الذي لم ينشأ وظيفته إلا بعد هذه الإحالة، وليست من الرؤساء المسئولين الذين أصدروا القرار المطعون فيه، وأنها بهذه المثابة لا يجوز الاعتداد بها أو ترتيب أثر قانوني عليها بحيث يبقى القرار بلا سبب حقيقي، ولا سيما أنها رددت ما ورد بمذكرة مرفقة لا تحمل بياناً بوظيفة محررها، وأن التحريات التي قدمتها لوزارة عن عدد مرشحيه لمأمورية الحج ممن حكمت عليهم محكمة الشعب تجاوز الواقع، وأن إدعاء احتضانه لبعض الضباط الذين كانوا ينتمون إلى طائفة معينة هو دفاع مصطنع لا أساس له من الواقع؛ إذ ينفيه ماضيه الوظيفي المجرد من الميل إلى أية جماعة سياسية أو دينية، ويستبعده كون الجماعة المعنية به كانت حتى سنة 1954 وقبل انحرافها - أي بعد إحالته إلى المعاش - محل رضاء الحكومة التي لم تكن تعتقد حتى ذلك العهد أن لها ميولاً هدامة، وليس يؤخذ من انحراف لاحق دليل على اتهام سابق، وأن الترشيح المأخوذ عليه لم يكن من عمله بمفرده، بل قررته لجنة لم يؤاخذ أحد من أعضائها سواه، فضلاً عن أنه كان ترشيحاً احتياطياً لا أصلياً، وابتدائياً لا نهائياً، وخاصاً بواحد من عشرة مرشحين لا عيب أن تكون له نزعة دينية، أما باقي المرشحين العشرة فقد رقي معظمهم إلى أعلى المناصب، وأن هذا الترشيح قد قام على أسس سليمة في ذاتها، ولو صح ما أخذ على المدعي في هذا الصدد لما ساغ أن يحال هو إلى المعاش وأن يترك المرشح المريب باقياً في خدمة الحكومة حتى سنة 1954، وأن وقوع الترشيح على ثلاثة ضباط من أعضاء مجلس إدارة نادي الضباط لا لوم فيه؛ لأن هؤلاء الأعضاء ليسوا من الخارجين عن الحكومة بل من أشد مؤيديها، وأن المدعي لم يرشح نفسه لعضوية مجلس إدارة النادي لا في سنة 1952 ولا سنة 1953، ولم يفكر في ذلك إطلاقاً ولا يعقل أن يبث الدعوى لانتخابه رئيساً للنادي وهو لم يتقدم بترشيح نفسه لهذه الرياسة، ولو فعل وتم انتخابه لما كان ثمت ضير في رياسته لناد لم تعلق به أية شبهة - إن ما يذهب إليه المدعي من حجاج في هذا كله مردود بأنه مما لا مراء فيه أن ثمت سبباً واقعياً قام عليه قرار إحالة المدعي إلى المعاش هو الذي كشفت عنه الحكومة، وأن هذا السبب له أصل ثابت في الأوراق أياً كان منطق المدعي في تأويله للوقائع التي اشتق منها، ومناقشته لمدى الاقتناع بالدليل المستنبط من مجموع هذه الوقائع، ولدرجة تبريرها للنتيجة التي انتهت الإدارة إلى استخلاصها منها. كما أنه ظاهر أن القرار المطعون فيه المستند إلى هذا السبب إنما قام على غرض مجرد، وليس ثمت أي دليل إيجابي على انحراف الإدارة عن المصلحة العامة تحت تأثير دوافع شخصية، أو ابتغاء غاية غير مشروعة. وقد أوضحت الحكومة في مذكرتها الأخيرة أن اتجاه الضابطين اللذين وقع عليهما اختيار المدعي كان معروفاً من قبل، وأنها كانت تراقب نشاطهما بعين يقظة، بدليل أن مجلس قيادة الثورة قرر فصلهما من الخدمة قبل حادث الاعتداء على السيد الرئيس وقبل محاكمتهما بعدة شهور، ومتى كان الأمر كذلك فليس للقضاء الإداري أن يتدخل في وزن خطورة السبب أو تقدير ملائمة الأثر الذي رأت السلطة الإدارية المختصة ترتيبه عليه والذي اقتنع به واطمأن إليه أولو الأمر في استهدافهم للصالح العام، كما أن رقابة هذا القضاء لا تعني أن يستأنف النظر بالموازنة والترجيح فيما يقوم لدى الإدارة من دلائل وبيانات وقرائن أحوال هي حرة في تقديرها إذا توافر في ضميرها الاقتناع بها أو تطرق الشك فيها إلى وجدانها، وإذا كانت تقارير المدعي السرية على مدى العهود وما جاء بملف خدمته شاهدة جميعها على كفايته في عمله ونشاطه وأمانته واستقامته ونزاهته واعتزازه بكرامته وكرامة وظيفته وحسن خلقه وطيب سمعته في مختلف المناصب التي تولاها، فإن هذه ليست هي الوعاء الوحيد الذي تستمد منه أسانيد دحض مشروعية القرار المطعون فيه أو دفع قرينة صحته وقيامه على سببه المبرر له، ما دام المدعي لم يقم الدليل الايجابي على صدور القرار المذكور مشوباً بعيب الانحراف بالسلطة أو إساءة استعمالها أو عدم الاختصاص أو مخالفة القانون أو عيب في الشكل. ومتى انتفى الدليل على قيام أي عيب من هذه العيوب فإن القرار يكون حصيناً من الإلغاء، ولا تترتب عليه تبعاً لذلك، طبقاً لما سلف بيانه، مسئولية الإدارة بالتعويض عنه؛ ومن ثم فإن الحكم المطعون فيه يكون قد أصاب الحق في قضائه، ويكون طعن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة قد قام على غير أساس سليم من القانون، متعيناً رفضه.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وبرفضه موضوعاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق