الدعوى رقم 103 لسنة 34 ق "دستورية" جلسة 2 / 1 / 2021
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
برئاسة السيد المستشار / سعيد مرعى عمرو رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار ورجب عبد الحكيم سليم ومحمود محمد غنيم والدكتور عبدالعزيز محمد سالمان والدكتور طارق عبد الجواد شبل وطارق عبد العليم أبو العطا نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشرى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 103 لسنة 34 قضائية "دستورية".
المقامة من
مجدى محمد صالح موسى، العضو المنتدب لشركة ليبون للسمسرة في الأوراق المالية
ضــــد
1- رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة
2- رئيس مجلـــــس الـــــــــوزراء
3- رئيس الهيئة العامة للرقابــــــــــة الماليــة
الإجـراءات
بتاريخ الرابع والعشرين من يونيه سنة 2012، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية المادة (68) من قانون سوق رأس المال الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمــــة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – في أن النيابة العامة كانت قد قدمت المدعى للمحكمة الجنائية – بناء على طلب رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية – في الدعوى رقم 1646 لسنة 2011 جنح القاهرة الاقتصادية، متهمة إياه، أنه في يوم 28/6/2004، وبتاريخ سابق عليه، بدائرة قسم عابدين، بمحافظة القاهرة: 1- بصفته رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة ليبون لتداول الأوراق المالية، تصرف في الأوراق المالية على خلاف الأوضاع المقررة قانونًا، بأن قام بالتصرف في الأسهم الخاصة بالعميل.......، وقام ببيع تلك الأسهم بدون الحصول على أوامر بيع موقعة منه، وذلك على النحو المبين بتقرير الهيئة العامة للرقابة المالية. 2- بصفته الآنفة البيان، قام باتباع أساليب تنطوى على الغش والتدليس وإجراء عمليات من شأنها الإضرار بالمتعاملين معه والإخلال بحقوقهم، ولم يقم بمراعاة الأعراف التجارية ومبادئ العدالة والأمانة والحرص على مصالح العملاء، وذلك بأن قام بإجراء معاملات على حساب العميل السالف الذكر بدون إذن أو تفويض منه، وهو بيع الأسهم المملوكة له على النحو المبين بتقرير الهيئة العامة للرقابة المالية. وطلبت النيابة العامة عقابه بالمواد (66/1، 67، 68، 69/1) من قانون سوق رأس المال الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992، والمواد (90، 92، 214، 243/2) من اللائحة التنفيذية لهذا القانون، الصادرة بقرار وزير الاقتصاد رقم 135 لسنة 1993 والمعدلة بالقرارات أرقام 39 لسنة 1998، 44 لسنة 2000، 340 لسنة 2001. وقد تدوول نظر الدعوى بالجلسات، وحال حجزها ليصدر فيها للحكم بجلسة 24/4/2012، قدم المدعى مذكرة، ضمنها دفعًا بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (68) من قانون سوق رأس المال الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992، فقررت المحكمة إعادة الدعوى للمرافعة لجلسة 8/5/2012، وصرحت للمدعى بإقامة الدعوى الدستورية، وبالجلسة الأخيرة منحته أجلاً آخر للسبب ذاته، فأقام المدعى الدعوى الدستورية المعروضة بطلباته المتقدمة.
وحيث إن قانون سوق رأس المال الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992، الذى ارتكبت الواقعة التى يحاكم عنها المدعى في ظل العمل بأحكامه - قبل تعديله بالقانونين رقمى 123 لسنة 2008 و17 لسنة 2018 - كان ينص في الفقرة الأولى من المادة (66) منه على أنه "يعاقب بغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد عن عشرة آلاف جنيه كل من يتصرف في أوراق مالية على خلاف القواعد المقررة في هذا القانون". وقد جرى استبدال نص هذه الفقرة بالقانون رقم 17 لسنة 2018، وصار نصها " يعاقب بغرامة لا تقـل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على مائة ألف جنيه، كل من تصرف في أوراق مالية أو أدوات مالية على خلاف القواعد المقررة في هذا القانون".
وتنص المادة (67) من قانون سوق رأس المال المشار إليه - قبل استبدالها بالقانون رقم 123 لسنة 2008 - على أنه "مع عدم الإخلال بأى عقوبة أشد منصوص عليها في أى قانون آخــــر، يعاقب بغرامــــة لا تقــــل عن ألفــــى جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه كل من يخالف أحد الأحكام المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية لهذا القانون". وقد تم استبدال نص هذه المادة بالقانــــــــون رقم 123 لسنة 2008، ليصير "مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد منصوص عليها في أى قانون آخر، يعاقب بغرامة لا تقل عن ألفى جنيه، ولا تزيد على مليون جنيه، كل من يخالف الأحكام المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية لهذا القانون".
وتنص الفقرة الأولى من المادة (68) من القانون ذاته على أنه "يعاقب المسئول عن الإدارة الفعلية بالشركة، بالعقوبات المقررة عن الأفعال التى ترتكب بالمخالفة لأحكام هذا القانون". وقد تم استبدال ذلك النص بموجب المادة الأولى من القانون رقم 17 لسنة 2018 – المعمول به اعتبارًا من 15/3/2018 – ليصير" يعاقب المسئول عن الإدارة الفعلية للشركة، بالعقوبات المقررة عن الأفعال التى ترتكب بالمخالفة لأحكام هذا القانون، متى ثبت علمه بها وكانت المخالفة قد وقعت بسبب إخلاله بواجباته الوظيفية".
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع. متى كان ذلك، وكانت النيابة العامة قد أحالت المدعى للمحاكمة الجنائية – بناء على طلب رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية – بوصف أنه بتاريخ 28/6/2004، وبتاريخ سابق عليه، بصفته رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة ليبون لتداول الأوراق المالية 1- تصرف في الأوراق المالية على خلاف الأوضاع المقررة قانونًا، بأن قام ببيع الأسهم الخاصة بأحد عملائها بدون الحصول على أوامر بيع موقعة منه. 2- بصفته الآنفة البيان، قام باتباع أساليب تنطوى على الغش والتدليس وإجراء عمليات من شأنها الإضرار بالمتعاملين معه والإخلال بحقوقهم، ولم يقم بمراعاة الأعراف التجارية ومبادئ العدالة والأمانة والحرص على مصالح العملاء، وذلك على النحو المبين بوصف الاتهام الأول، بالمخالفــــة للمواد (66/1، 67، 68، 69/1) من قانون سوق رأس المال الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992، ومواد اللائحة التنفيذية المرتبطة بها. وكان الفصل في دستورية ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة (68) من قانون سوق رأس المال الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992، قبل استبدالها بالقانون رقم 17 لسنة 2018، وذلك في مجال انطباق أحكامها على نصى المادتين (66/1، 67) من القانون ذاته – قبل استبدال أولهما بالقانون رقم 17 لسنة 2018، وثانيهما بالقانون رقم 123 لسنة 2008 - باعتباره النص المؤثم للفعل المنسوب للمدعى ارتكابه، وقدم للمحاكمة الجنائية استنادًا إليه. سيكون له أثرً مباشرً، وانعكاسً أكيدً على موقف المدعى من الاتهام المسند إليه في الدعوى الموضوعية، وقضاء محكمة الموضوع فيه، الأمر الذى تتوافر معه للمدعى مصلحة شخصية ومباشرة في الطعن على دستوريته، ويتحدد فيه وحده نطاق الدعوى المعروضة، دون ما تضمنه من أحكام أخرى.
ولا ينال من ذلك سبق صدور حكمين برفض الدعوى المقامة طعنًا على دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (68) من القانون رقم 95 لسنة 1992 المشار إليه، أولهما: في الدعوى رقم 107 لسنة 23 قضائية "دستورية" بجلسة 14/3/2015، والآخر: في الدعوى رقم 186 لسنة 33 قضائية "دستورية" بجلسة 13/10/2018. ذلك أن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية يقتصر نطاقها على النصوص التشريعية التى كانت مثارًا للمنازعة حول دستوريتها، وفصلت فيها المحكمة فصلاً حاسمًا بقضائها، أما ما لم يكن مطروحًا على المحكمة، ولم تفصل فيه بالفعل، فلا تمتد إليه تلك الحجية. متى كان ذلك، وكان الحكم الصادر في الدعوى الدستورية رقم 107 لسنة 32 قضائية، قد اقتصر على الفصل في دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (68) من القانون رقم 95 لسنة 1992 المشار إليه، في مجال انطباقه على نص الفقـرة الأولى من المادة (65 مكررًا) من ذلك القانون المضافة بالقانون رقم 143 لسنة 2004. وكان الحكم الصادر في الدعوى الدستورية رقم 186 لسنة 33 قضائية، قد اقتصر على الفصل في دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (68) من قانون سوق رأس المال الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1992 قبل استبداله بالقانون رقم 17 لسنة 2018، وذلك في مجال انطباقه على نص الفقرة الأولى من المادة (67) من ذلك القانون المستبدلة بالقانون رقم 123 لسنة 2008. ومن ثم، فإن نطاق حجية هذين الحكمين تكون بدورها مقصورة على هذا النطاق وحده، ولا تمتد إلى ما يجاوز ذلك من أحكامهما. ليبقى نص الفقرة الأولى من المادة (68) من ذلك القانون، في حدود النطاق المتقدم، خارجًا عن إطار النص الصادر في شأنه الحكمين المتقدمين، وقابلاً للطرح على هذه المحكمة لتقول كلمتها في شأن مدى اتفاقه وأحكام الدستور، أو مخالفته إياها.
ولا يغير مما تقدم تعديل نص المادة (67) من قانون سوق رأس المال المشار إليه، بموجب القانون رقم 123 لسنة 2008، وكذلك تعديل نص الفقرة الأولى من المادة (66) من القانون ذاته، بموجب القانون رقم 17 لسنة 2018. فقد شددت التعديلات التي جـرت على نصى المادتين (66/1، 67) من قانون ســوق رأس المال المار ذكره، الحد الأقصى لعقوبة الغرامة على الأفعال المؤثمة بهاتين المادتين، مما لا تُعد معه قانونًا أصلح للمتهم. ومن ثم، يظل المدعى مخاطبًا بنص الفقرة الأولى من المادة (68) من قانون سوق رأس المال المشار إليه، في حدود نطاقه المتقدم.
ولا ينال من ذلك أيضًا إصدار المشرع القانون رقم 17 لسنة 2018 بتعديل بعض أحكام قانون سوق رأس المال المشار إليه، ومن بينها نص الفقرة الأولى من المادة (68) منه، متبنيًّا في تعديلها الأسس ذاتها التي اعتنقتها هذه المحكمة عند بيانها لمقتضى أحكام ذلك النص، وضمنته مدونات حكمها الصادر في الدعوى رقم 107 لسنة 32 قضائية "دستورية" الآنف الذكر، وعينت فيه قواعد وضوابط المسئولية الجنائية للمسئول عن الإدارة الفعلية، وأسست عليه قضاءها برفض الدعوى، فأوجبت أن يكون ممن يعهد إليهم بقسط من نشاط الشركة يمارسه نيابة عنها، ويرتبط بتنفيذ الالتزام القانوني الذى فرضه المشرع على الشركة، واعتبر الإخلال به جريمة مؤثمة قانونًا، وهو يسأل عن فعله شخصيًّا، ولو كان ارتكابه الجريمة قد تم باسم الشركة ولحسابها ولمصلحتها وباستخدام إحدى وسائلها، وبحيث لا تتحقق المسئولية الجنائية عن الجريمة في هذه الحالة إلا بتوافر أركانها، التى تلتزم سلطة الاتهام بإثباتها كاملة في حقه. وبذلك أتى النهج الذى سلكه المشرع بالنص بعد التعديل المذكور، مواكبًا لذات أسس المسئولية الجنائية وعناصرها وأركانها للمسئول عن الإدارة الفعلية التي أوضحها وكشف عنها حكم المحكمة الدستورية العليا على النحو المتقدم ذكره. وعلى ذلك، لم يأت النص بعد استبداله بأحكام جديدة تخالف في مضمونها ومحتواها الحقيقي ما قرره النص المطعون فيه قبـل استبداله بالنص الجديد.
وحيث إنه بشأن الطعن على نص الفقرة الأولى من المادة (68) من قانون سوق رأس المال المشار إليه، قبل استبدالها بالقانون رقم 17 لسنة 2018، في مجال انطباق أحكامها على نص الفقرة الأولى من المادة (67) من القانون ذاته، قبل استبدالها بالقانون رقم 123 لسنة 2008. فقد سبق للمحكمة الدستورية العليا حسم تلك المسألة، وذلك ، بحكمها الصادر بجلسة 2/11/2019، برفض الدعوى رقــــم 156 لسنة 34 قضائية "دستوريـة"، المقامة طعنًا على دستوريتـه. وقد نُشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية بالعدد رقم 44 مكرر (هـ) الصادر بتاريخ 5 نوفمبر سنة 2019. متى كان ذلك، وكان مقتضى نص المادة (195) من الدستور، ونصى المادتين (48، 49) من قانون هذه المحكمة الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، أن تكون أحكام هذه المحكمة وقراراتها ملزمة للكافة، وجميع سلطات الدولة، وتكون لها حجية مطلقة بالنسبة لهم، باعتبارها قولاً فصلاً في المسألة المقضي فيها، لا يقبل تأويلاً ولا تعقيبًا من أي جهة كانت، وهى حجية تحول بذاتها دون المجادلة فيها، أو إعادة طرحها عليها من جديد لمراجعتها، ومن ثم يتعين الحكم بعدم قبول الدعوى المعروضة في هذا الشق منها.
وحيث إنه بخصوص الطعن على الفقرة الأولى من المادة (68) من قانون سوق رأس المال المشار إليه، في مجال انطباق أحكامها على الفقرة الأولى من المادة (66) من القانون ذاته، قبل استبدالها بالقانون رقم 17 لسنة 2018، فقد نعى عليه المدعى - في حدود النطاق المار ذكره - مخالفته نصوص المواد (41، 66، 67، 86، 165) من دستور سنة 1971، وتقابلها المواد (18، 19، 20، 46) من الإعلان الدستوري الصادر في 30/3/2011. قولاً منه إنه يخل بمبدأي شخصية المسئولية الجنائية، وشخصية العقوبة، لافتراضه مسئولية القائم بالإدارة الفعلية للشركة عن الأفعال التي ترتكب بالمخالفة لأحكام هذا القانون، وتحميله تبعة جريمة ارتكبها غيره، بما يمثل افتئاتًا على اختصاص السلطة القضائية، ويحول دون ممارستها الحق في التثبت من ارتكاب المسئول عن الإدارة الفعلية بالشركة للجريمة، فضلاً عما يمثله ذلك من مساس بالحرية الشخصية، وإنكار لأصل البراءة.
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الرقابة التي تباشرها على دستورية القوانين، من حيث مطابقتها القواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، ذلك أن هذه الرقابة تستهدف أصلاً صون هذا الدستور وحمايته من الخروج على أحكامه؛ لكون نصوصه تمثل دائمًا القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعي التي وجهها المدعى للنص التشريعي المطعون فيه – في النطاق السالف تحديده – تندرج تحت المناعي الموضوعية، التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعي، ومن ثَمَّ فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على دستورية ذلك النص، الذى مازال ساريًا ومعمولاً بأحكامه، من خلال أحكام الدستور الصادر سنة 2014، باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.
وحيث إنه بشأن النعي بإخلال النص المطعون عليه - في حدود نطاقه المتقدم - بمبدأي شخصية العقوبة، والمسئولية الجنائية، ومساسه بالحرية الشخصية، فإنه مردود؛ ذلك أن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الدستور في اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة، ومتابعة خطاها والتقيد بمناهجها التقدمية؛ نص في المادة (95) منه على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعــال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون الذى ينص عليها. وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمـة ركنًا ماديًّا لا قـوام لها بغيره، يتمثل أساسًا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحًا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء، في زواجره ونواهيه، هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيًّا كان هذا الفعل أم سلبيًّا، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجـــــال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهى التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعًا واضحًا، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها، ومن ثَمَّ تعكس هذه العناصر تعبيرًا خارجيًّا وماديًّا عن إرادة واعية، ولا يتصور بالتالي وفقًا لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم، والنتائج التي أحدثها بعيدًا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكًا خارجيًّا مؤاخذًا عليه قانونًا، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيًّا في صور مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
وحيث إن الأصل في الجرائم، أنها تعكس تكوينًا مركّبًا، باعتبار أن قوامها تزامنًا بين يد اتصل الإثم بعملها، وعقل واع خالطها ليهيمن عليها محددًا خطاها، متوجهًا إلى النتيجة المترتبة على نشاطها؛ ليكون القصد الجنائي ركنًا معنويًّا في الجريمة مُكملاً لركنها المادي، ومتلائمًا مع الشخصية الفردية في ملامحها وتوجهاتها. وهذه الإرادة الواعية هي التي تتطلبها الأمم المتحضرة في مناهجها في مجال التجريم بوصفها ركنًا في الجريمة، وأصلاً ثابتًا كامنًا في طبيعتها، وليس أمرًا فجًّا أو دخيلاً مقحمًا عليها أو غريبًا عن خصائصها. ذلك أن حرية الإرادة تعنى حرية الاختيار بين الخير والشــر، ولكلٍ وجهة هو مُوَلِّيها، لتنحــــل الجريمة - في معناها الحق - إلى علاقة ما بين العقوبة التي تفرضها الدولة بتشريعاتها، والإرادة التي تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التي يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها، بديلين عن الانتقام والثأر المحض من صاحبها. وغدا أمرًا ثابتًا – بوصفه أصلاً عاماً - ألا يجرم الفعل ما لم يكن إراديًّا قائمًا على الاختيار الحر، ومن ثَمَّ كان مقصودًا. ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك الإرادة وقوفًا على ماهيتها، مازال أمرًا عسرًا، إلا أن معناها - بوصفها ركنًا معنويًّا في الجريمة - يدور بوجه عام حول النوايا الإجرامية، أو الجانحة، أو النوازع الشريرة المدبرة، أو تلك التي يكون الخداع قوامها، أو التي تتمحض عن علم بالتأثيم، مقترنًا بقصد اقتحام حدوده، لتدل جميعها على إرادة إتيان الفعل بغيًا.
وحيث إن الجريمة في مفهومها القانوني - على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - تتمثل في الإخلال بنص عقابي، وأن وقوعها لا يكون إلا بفعل أو امتناع يتحقق به هذا الإخلال. وأن الأصل في الجريمة أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين كمسئول عنها، وهى عقوبة يجب أن تتوازن وطأتها مع طبيعة الجريمة وموضوعها، بما مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها مرتبطان بمن يُعد قانونًا مسئولاً عن ارتكابها، ومن ثَمَّ تفترض شخصية العقوبة شخصية المسئولية الجنائية، بما يؤكد تلازمهما، ذلك أن الشخص لا يكون مسئولاً عن الجريمة ولا تفرض عليه عقوبتها إلا باعتباره فاعلاً لها أو شريكًا فيها، وهو ما يعبر عن العدالة الجنائية في مفهومها الحق.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان المشرع قد أثّم بموجب نص الفقرة الأولى من المادة (66) من قانون سوق رأس المال، قبل استبدالها بالقانون رقم 17 لسنة 2018، القيام بالتصرف في الأوراق المالية على خلاف القواعد المقررة بالقانون، وعَدَّ تلك الجريمة جنحة معاقبًا عليها بغرامة لا تقل عن خمسة ألاف جنيه، ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه، ويسأل عن هذه الجريمة المسئول عن الإدارة الفعلية للشركة إعمالاً لنص الفقرة الأولى من المادة (68) من القانون ذاته قبل استبدالها بالقانون رقم 17 لسنة 2018، الذى يجب دومًا أن يكون من الأشخاص الذين يُعهد إليهم بقسط من نشاط الشركة يمارسه نيابة عنها، ويرتبط بتنفيذ الالتزام القانوني الذى فرضه المشرع عليها، وجعل الإخلال به جريمة - حرصًا منه على التزام الشركات العاملة في سوق رأس المال بالضوابط التشريعيـــــــة؛ صونًا لحقوق عملائها، وبما ينعكس إيجابًا على العمل بسوق رأس المال - ليكون مناط مسئوليته عن هذه الجريمة ثبوت مسئوليته عن الإدارة الفعلية للشركة، في حدود الصلاحيات الممنوحة له، وهو يسأل عن فعله شخصيًّا، ولو كان ارتكابه للجريمة قد تم باسم الشركة ولحسابها ولمصلحتها وباستخدام إحدى وسائلها، دون أن يقيم النص المشار إليه مسئوليته عن فعل الغير، أو يقرر مسئوليته عن الجريمة المنسوب إليه ارتكابها خارج نطاق الاختصاص والسلطة المعهود له بمباشرتها نيابة عن الشركة، ذلك أن الجريمة لا تقوم بحقه إلا بتوافر أركانها، التى يتعين دومًا على سلطة الاتهام إثباتها كاملة، وبذلك يتحقق توافق قواعد المسئولية الجنائية التى نصت عليها المادة (68) المطعون عليها مع مبدأ شخصية العقوبة، على نحو يصون الحرية الشخصية .
وحيث إنه بشـأن النعي على نص الفقرة الأولى من المادة (68) من القانون المشار إليه - في حدود نطاقه المتقدم - إخلاله بأصل البراءة، ومساسه بمبدأ استقلال السلطة القضائية، فمن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الدستور إذ نص في المادة (96) منه على أن " المتهم برىء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه"، فمؤدى ذلك أن ضوابط المحاكمة المنصفة - التي عناها الدستور في هذه المادة - تتمثل في مجموعة من القواعد المبدئية، التي تعكس مضامينها نظامًا متكامل الملامح، يتوخى بالأسس التى يقوم عليها، صون كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقًا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية التى عَدَّها الدستور من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، فلا تنفصل عنها عدوانًا، ولضمان أن تتقيد الدولة - عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صونًا للنظام الاجتماعي - بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفًا مقصودًا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها، ويندرج تحت هذه القواعد أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء، وهى بعد قاعدة حرص الدستور القائم على إبرازها في المادة (96) منه.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورهـا، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي - ممثلاً في الواقعة مصدر الحق المدعى به - إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة به، وهذه الواقعة البديلة هي التي يُعَدُّ إثباتها إثباتًا للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى، وأقامها بديلاً عنها، وإنما يُؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبـل الإنسـان عليها، فقــــد ولد حــــرًا مبرءًا مــــن الخطيئة أو المعصية، ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة مازال كامنًا فيه، مصاحبًا له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض محكمة الموضوع بقضاء جازم بات لا رجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها، وحق المتهم في مواجهة الشهود الذين قدمتهم النيابة العامة إثباتًا للجريمة، والحق في دحض أقوالهم وإجهاض الأدلة التي طرحتها بأدلة النفي التي يعرضها، وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية تُعَدُّ في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويُعَدُّ إنفاذها مفترضًا أوليًّا لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئها.
وحيث إن من المقرر – أيضًا - في قضاء هذه المحكمة أن الدستور إذ اختص بموجب المادة (101) منه السلطة التشريعية بسن القوانين، كما نص في المادتين (184، 188) منه على استقلال السلطة القضائية، واختصاصها بالفصل في المنازعات والجرائم، فإن لازم ذلك أن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين لا يخولها التدخل في أعمال أسندهــــا الدستور للسلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتًا على عملها، وإخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات. وعلى ذلك، فإن الاختصاص المقرر دستوريًا للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد المحكمة الجنائية عن القيام بمهمتها الأصلية في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التي عينها المشرع.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان نص الفقرة الأولى من المادة (68) من قانون سوق رأس المال المطعون فيه، في حدود النطاق الذى تطرحه الدعوى المعروضة، ألقى على عاتق المسئول عن الإدارة الفعلية للشركة المسئولية الجنائية عن ارتكاب الجرائم المشار إليها، وقرن ثبوتها في حقه بثبوت مباشرته الإدارة الفعلية المتعلقة بتنفيذ الالتزام القانونى، الذى عَدَّ المشرع الإخلال به جريمة، ولم يعف النيابة العامة من واجب إقامة الدليل على ثبوت أركان الجريمة في حقه، بما في ذلك ثبوت قيامه بالإدارة الفعلية، كما لم يحل بينه وبين نفى عناصر الاتهام جميعها بكافة طرق ووسائل الإثبات القانونية في شتى الدعاوى الجنائية. وعلى ذلك، فإن النص المطعون فيه - محددًا نطاقه على النحو المتقدم - يكون قد جاء خلوًا من أى قرينة قانونية تعارض أصل البراءة، ومن ثَمَّ فإن أحكامه تكون مبرأة من قالة الإخلال بأصل البراءة، أو المساس باستقلال السلطة القضائية.
وحيث إن النص المطعـون فيه لا يتعارض مع أى نص آخر في الدستور، الأمر الذى يتعين معه القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت المدعى المصروفات، ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق