القضية رقم 38 لسنة 16 ق "دستورية ".
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 16 نوفمبر سنة 1996 الموافق 5
رجب سنة 1417 ه
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس
المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد
ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير
وسامي فرج يوسف.
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي على جبالي
رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ حمدي أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 38 لسنة 16
قضائية "دستورية ".
المقامة من
السيدة / .........
ضد
1. السيد / رئيس الجمهورية
2. السيد / رئيس مجلس الوزراء
3. السيد / وزير العدل
" الإجراءات "
بتاريخ 27 من نوفمبر سنة 1994 أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم
كتاب المحكمة ، طالبة الحكم بعدم دستورية الفقرة الرابعة من المادة (148) والفقرة
الأخيرة من المادة (157) من قانون المرافعات المدنية والتجارية .
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم أصلياً: بعدم قبول
الدعوى ، واحتياطياً: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار
الحكم فيها بجلسة اليوم
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع -على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- تتحصل في
أن المدعية كانت قد أقامت الدعوى رقم 90 لسنة 1992 شرعي جزئي المنتزه بالإسكندرية
بطلب الحكم بالمصروفات الدراسية التي كانت قد أنفقتها على صغيرها من المدعى عليه،
فأجابتها المحكمة إلى طلبها، إلا أن حكمها قضى بإلغائه عند الطعن عليه استئنافياً.
كذلك كانت المدعية قد أقامت الدعوى رقم 114 لسنة 1992 شرعي جزئي المنتزه
بالإسكندرية بطلب إلزام المدعى عليه - والد صغيرها - بمصروفات علاجه، فأجابتها
المحكمة إلى طلبها، إلا أن حكمها ألغى بدوره بعد الطعن عليه استئنافياً، مما حملها
على تقديم شكوى للتفتيش القضائي بوزارة العدل.
وإذ أقامت دعواها الثالثة رقم 91 لسنة 1992 أمام محكمة المنتزه
الجزئية للأحوال الشخصية بطلب 480 جنيهاً قيمة إجراء مناظير طبية لصغيرها، وكان قد
قضى لها بهذا المبلغ، إلا أن المدعى عليه طعن كذلك في هذا الحكم استئنافياً أمام
ذات الهيئة الاستئنافية التي سبق أن ألغت الحكمين السابقين الصادرين لصالحها، ومن
ثم قامت بردها بكامل أعضائها. وأثناء نظر طلب الرد دفع محاميها بعدم دستورية
الفقرة (4) من المادة (148) من قانون المرافعات وكذلك الفقرة الثانية من المادة
(157) من هذا القانون. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، وصرحت برفع الدعوى الدستورية
، فقد أقامت الدعوى الماثلة .
وحيث إن تنظيم المشرع لأحوال رد القضاة -وعلى ما جاء بالمذكرة
الإيضاحية لمشروع القانون رقم 23 لسنة 1992 بتعديل بعض أحكام قانون المرافعات- قد
توخى توكيد قاعدة أصولية قوامها أن كل متقاض يجب أن يطمئن لأن قضاء قاضيه لا يصدر
إلا عن الحق وحده، دون تأثير من دخائل النفس البشرية في هواها وتحيزها؛ وكانت
ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها، تتعلقان بإدارة العدالة ضماناً
لفعاليتها، بما مؤداه: بالضرورة تلازمهما، فلا ينفصلان. ومن غير المتصور بالتالي
أن يكون الدستور نائياً بالسلطة القضائية عن أن تقوض بنيانها عوامل خارجية تؤثر في
رسالتها، وأن يكون إيصالها الحقوق لذويها مهدداً بإلتواء ينال من حيدة وتجرد
رجالها. وإذا جاز القول -وهو صحيح- بأن الفصل في الخصومة القضائية -حقاً وعدلاً-
لا يستقيم إذا داخلتها عوامل تؤثر في موضوعية القرار الصادر عنها، أياً كانت
طبيعتها، وبغض النظر عن مصدرها أو دوافعها أو أشكالها، فقد صار أمراً مقضياً أن
تتعادل ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها في مجال اتصالهما بالفصل في الحقوق
انتصافاً، ترجيحاً لحقيقتها القانونية ، لتكون لهما معاً القيمة الدستورية ذاتها،
فلا تعلو إحداها على أخراها أو تجبها، بل يتضاممان تكاملاً، ويتكافأن قدراً.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن استقلال السلطة القضائية ،
وإن كان لازماً لضمان موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على الترضية
القضائية التى يطلبونها عند وقوع عدوان على حقوقهم أو حرياتهم، إلا أن حيدتها عنصر
فاعل في صون رسالتها لا يقل شأناً عن استقلالها، بما يؤكد تكاملهما.
ولئن كان بعض الفقهاء يولون عنايتهم لاستقلال السلطة القضائية ، ولا
يعرضون لحيدتها إلا بصورة جانبية ، ويمزجون بينهما أحياناً، إلا أن التمييز بين
مفهوم استقلال السلطة القضائية وحيدتها، يتعين أن يكون فاصلاً بين معنيين لا يتداخلان.
ذلك أن استقلال السلطة القضائية ، يعنى أن تعمل بعيداً عن أشكال
التأثير الخارجي التي توهن عزائم رجالها، فيميلون معها عن الحق إغواءً أو إرغاماً،
ترغيباً أو ترهيباً. فإذا كان انصرافهم عن إنفاذ الحق، تحاملاً من جانبهم على أحد
الخصوم، وانحيازا لغيره، لمصالح ذاتية أو لغيرها من العوامل الداخلية التي تثير
غرائز ممالأة فريق دون آخر، كان ذلك منهم تغليباً لأهواء النفس، منافياً لضمانة
التجرد عند الفصل في الخصومة القضائية ، مما يخل بحيادهم.
وقد كفل الدستور استقلال السلطة القضائية واستقلال القضاة ، في المادتين
(165، 166)، توقياً لأى تأثير محتمل قد يميل بالقاضي انحرافا عن ميزان الحق، إلا
أن الدستور نص كذلك على أنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون. وهذا
المبدأ الأخير لا يحمى فقط استقلال القاضي ، بل يحول كذلك دون أن يكون العمل القضائي
وليد نزعة شخصية غير متجردة ، ومن ثم تكون حيدة القاضي شرطاً لازماً دستورياً
لضمان ألا يخضع في عمله لغير سلطان القانون.
وحيث إن الحق في رد قاض بعينه عن نظر نزاع محدد، وثيق الصلة بحق التقاضي
المنصوص عليه في المادة (68) من الدستور، ذلك أن مجرد النفاذ إلى القضاء لا يعتبر
كافياً لصون الحقوق التي تستمد وجودها من النصوص القانونية ، بل يتعين دوماً أن
يقترن هذا النفاذ، بإزالة العوائق التي تحول دون تسوية الأوضاع الناشئة من العدوان
عليها، وبوجه خاص ما يتخذ منها صورة الأشكال الإجرائية المعقدة ، كي توفر الدولة
للخصومة في نهاية مطافها حلاً منصفاً يقوم على حيدة المحكمة واستقلالها، ويعكس
بمضمونه التسوية التي يعمد الخصم إلى الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التي
يطلبها
وحيث إن المشرع تدخل بالنصوص التي نظم بها رد القضاة ، ليوازن بين أمرين
أولهما:- ألا يفصل في الدعوى - وأياً كان موضوعها - قضاة داخلتهم شبهة تقوم بها
مظنة ممالأة أحد أطرافها، والتأثير بالتالي في حيدتهم، فلا يكون عملهم انصرافا
لتطبيق حكم القانون في شأنها، بل تحريفاً لمحتواه. ومن ثم أجاز المشرع ردهم وفق
أسباب حددها، ليحول دونهم وموالاة نظر الدعوى التي قام سبب ردهم بمناسبتها.
ثانيهما: ألا يكون رد القضاة مدخلاً إلى التشهير بهم دون حق، وإيذاء مشاعرهم
إعناتاً، أو التهوين من قدرهم عدواناً، أو لمنعهم من نظر قضايا بذواتها توقياً
للفصل فيها كيداً ولدداً. وكان ضرورياً بالتالي ، أن يكفل المشرع - في إطار
التوفيق بين هذين الاعتبارين، وبما يوازن بينهما - تنظيماً لحق الرد لا يجاوز
الحدود التي ينبغي أن يباشر في نطاقها، ولا يكون موطئاً إلى تعطيل الفصل في النزاع
الأصلي.
وحيث إن المدعية تنعى على الفقرة (4) من المادة (148) من قانون
المرافعات المدنية والتجارية التي تقضى بجواز رد القاضي إذا كان بينه وبين أحد
الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل، غموضها وخفاء معناها
وتعلقها بمشاعر تكمن في الصدور، ويتعذر إثباتها.
وحيث إن هذا النعي مردود أولاً: بأن العوامل النفسية يستحيل ضبطها
بنصوص جامدة ، ولا تعريفها بفواصل قاطعة تجليها، بل يتعين أن يكون زمام تطبيقها
-عند تحقق مظاهرها- مرناً، فلا يكون اقتضابها قاصراً عن أن يحيط بها، ولا اتساعها
مفرطاً في مجاوزة نطاقها.
ولئن صح القول بأن المشرع قد يلجأ أحياناً إلى قواعد جامدة تقرر لبعض
المسائل حلاً واحداً لا يتغير، كتلك التي تتعلق بالغبن في بيع عقار لقاصر، أو
بجزاء العدول عن العربون أو بفوائد التأخير، إلا أن جمود هذه القواعد ينبغي أن
يكون مقصوراً على أحوال يقتضيها استقرار التعامل، فلا يجوز مد تطبيقها إلى أوضاع
يستعصى تطبيقها على التحديد القاطع لظروفها وملابساتها، بل يتعين أن يكون البديل
عنها معايير مرنة ، ولو كان تطبيقها كاشفاً عن عناصر نفسية ، كتلك التي تضمنها
التقنين المدني بالنسبة إلى الإكراه والاستغلال، وكذلك فيما يعتبر غلطاً جوهرياً
أو تدليساً جسيماً أو باعثاً دافعاً إلى التعاقد، إذ يقوم تنظيمها جميعاً على
معايير مرنة تتغاير تطبيقاتها من حالة إلى أخرى .
ومردود ثانياً:- بأن ما قصد إليه النص المطعون فيه، هو أن يوفر لرد
القضاة سبباً يقوم على معيار عام يتسع لعديد من الصور التي يتعذر حصرها، وإن كان
جامعها قيام مشاعر شخصية بين قاض وأحد الخصوم يرجح معها ألا يكون قضاؤه بغير ميل
مستطاعاً -إيجابياً كان هذا الميل أم سلبياً - فلا يستقيم ميزان الحق مع وجوده. واحترازاً
لهذا الاحتمال، ونأياً بالعمل القضائي عن أن يكون محاطاً بالشبهات التي لا يطمئن
معها إلى تجرده، صاغ المشرع النص المطعون فيه.
ومردود ثالثاً:- بأن النص المطعون فيه يقوم على ضوابط محددة لا تنفلت
بها متطلبات تطبيقه، ذلك أن المودة والعداوة وإن كانتا من العناصر النفسية الغائرة
في الأعماق، إلا أن الدليل عليها لا يقوم إلا من مظاهر خارجية تشى بها أو تفصح
عنها، ليكون إثباتها دائراً مع هذه المظاهر وجوداً وعدماً. وليس لازماً بالتالي أن
يكون هذا الدليل مباشراً جازماً لا يقبل تأويلاً، بل يكفى أن ترشح قرائن الحال
لوجودها، وأن يكون تضافرها مؤدياً إليها.
ومردود رابعاً: بأن العداوة والمودة اللتين تضمنهما النص المطعون فيه،
لا تفتقران إلى التحديد، بل هما معنيان تردداً في النصوص القرآنية ذاتها التي
ضبطها الله تعالى بالغاً بها حد الإعجاز.
ومردود خامساً: بأن للنص المطعون فيه -فوق هذا- نظائر في القوانين
المعمول بها في الدول العربية ليمثل اتجاهاً عاماً سائداً فيها، بل هو في مجال
التطبيق في مصر أكثر يسراً من بعضها، إذ ليس لازماً لقيام المودة بين قاض وأحد
الخصوم في الدعوى التي يتولى نظرها، أن تدل القرائن على متانتها ووثاقتها، ولا أن
تكون العداوة قد بلغت عمقاً يؤكد شدتها وجموحها، بل يكفى لتحقق أيتهما أن تكون
شخصية تتصل بذات القاضي وأن يكون من أثرها أن يميل عن ميزان الحق، ولو لم تصل
العداوة إلى حد الخصومة ، ولا المودة إلى حد مؤاكلة أحد الخصوم أو السكنى معه أو
قبول هدايا منه قبل رفع الدعوى أو بعدها، بل ولو كان باعثها ومحركها من فصلاً عن
علاقة زوجية أو قرابة أو مصاهرة .
والنص المطعون فيه يعتبر بذلك، منشئاً سبباً عاماً للرد، منصرفاً إلى
كل الأحوال التي تثور فيها شبهة لها أساسها حول نوع من المشاعر الشخصية تقوم بالقاضي
، ولا يرجح معها الحكم في الدعوى التي يراد رده عنها بغير ميل يكون عاصفاً بالحق،
أو مؤثراً في مجراه. ومن ثم لا يقيد هذا النص من صور الرد، بل يتعقبها في أغلب
مظانها، ويكاد أن يحيط بها ويستغرقها.
ومردود سادساً: بأن النصوص القانونية التي استقام معناها - ويندرج
النص المطعون فيه تحتها - لا يكون تطبيقها مشوباً بالغموض، ولا ترتبط دستوريتها -
وحالتها هذه - بما إذا كان المشرع قد صاغها وفقاً لمعيار مرن ضماناً لاتساعها
لأوضاع تتغاير ظروفها وملابساتها، أم أفرغها في صورة جامدة توحيداً لفروض تطبيقها،
بل يكون اتفاقها أو اختلافها مع الدستور، مناطاً لصحتها أو بطلانها. ولا كذلك النص
المطعون فيه الذى خلا من كل عوار يرتد إلى النصوص الدستورية ذاتها.
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة (157) من قانون المرافعات بعد أن
بينت الإجراءات التي يتعين اتخاذها في شأن طلب الرد، نصت في فقرتها الأخيرة على
أنه لا يجوز - في جميع الأحوال - الطعن في الحكم الصادر برفض طلب الرد إلا مع
الحكم الصادر في الدعوى الأصلية .
وحيث إن المدعية تنعى على هذه الفقرة ، انطواءها على مصادرة لحق التقاضي
، تأسيساً على أن خصومة الرد قد تثار أثناء نظر دعوى تدخل في اختصاص محكمة جزئية ،
ومن ثم ينعدم حق الطعن في الحكم الصادر فيها أمام محكمة النقض التي لا يجوز الطعن
أمامها في المواد الجزئية . فضلاً عن أن موضوع طلب الرد يعتبر من فصلاً عن الدعوى
الأصلية ، ولا يجوز بالتالي أن يرتبط بها.
وحيث إن قانون المرافعات حرص على تنظيم الحق في رد القضاة من زوايا
متعددة غايتها ألا يكون اللجوء إليه إسرافاً أو نزقاً، بل اعتدالا وتبصراً، ومن
ذلك أن يقدم طلب الرد قبل تقديم أي دفع أو دفاع وإلا سقط الحق فيه، فإذا أقفل باب
المرافعة في الدعوى ، غدا طلب الرد ممتنعاً. ولا يجوز كذلك أن يقدم هذا الطلب ممن
سبق له طلب رد نفس القاضي في الدعوى ذاتها، ولا أن يكون متعلقاً بقضاة المحكمة أو
مستشاريها جميعاً أو ببعضهم، بحيث لا يبقى من عددهم ما يكفى للحكم في الدعوى
الأصلية أو طلب الرد. بل أن المشرع - في إطار هذا الاتجاه -لم يجز الطعن في الحكم
الصادر برفض طلب الرد إلا مع الطعن في الحكم الصادر في الدعوى الأصلية .
وحيث إن بيان المقصود بنص الفقرة الأخيرة من المادة (157) من قانون
المرافعات، يقتضى الرجوع إلى الأحكام التي انتظمها هذا القانون في شأن رد القضاة ،
منظوراً إليها في مجموعها.
وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق - ومن بينها حق التقاضي
-أنها سلطة تقديريه جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل
بالموضوع محل التنظيم، لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي
يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزناً. وليس ثمة قيد على مباشرة المشرع
لسلطته هذه، إلا أن يكون الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة تعتبر تخوما
لها ينبغي التزامها
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى كذلك، على أن التنظيم التشريعي لحق التقاضي
لا يناقض وجود هذا الحق وفق أحكام الدستور، وأن هذا التنظيم لا يتقيد بأشكال جامدة
لا يريم المشرع عنها تُفرغ قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز أن يغاير
فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء مفاهيم متطورة تقتضيها الأوضاع التي
يباشر هذا الحق عملاً في نطاقها، وبما لا يصل إلى حد إهداره، ليظل هذا التنظيم مرناً،
فلا يكون إفراطاً يطلق الخصومة القضائية من عقالها انحرافا بها عن أهدافها، ولا
تفريطاً مجافياً لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قواماً، التزاما بمقاصدها،
باعتبارها شكلاً للحماية القضائية للحق في صورتها الأكثر اعتدالا.
وحيث إن البين من تقرير لجنة الشئون الدستورية والقانونية في شأن
مشروع القانون المعروض عليها بتعديل بعض أحكام قانون المرافعات - وعلى ضوء
مناقشاتها التي تضمنتها مضبطة الجلسة التاسعة والأربعين للفصل التشريعي السادس
لمجلس الشعب - أن النص على عدم جواز الطعن في الحكم الصادر برفض طلب الرد إلا مع الطعن
في الحكم الصادر في الدعوى الأصلية ، لم يكن وارداً أصلاً في مشروع الحكومة ، ولكن
اللجنة هي التي انتهت إلى تعديل المادة (157) من هذا القانون بإدخال هذه الفقرة
عليها كنص جديد، وكان سندها في ذلك أن خصومة الرد تتفرع عن الخصومة الأصلية التي
لا يعتبر الفصل في طلب الرد منهياً لها، ويتعين بالتالي - وفى إطار الاتساق التشريعي
- حملها على القاعدة العامة التي تضمنها قانون المرافعات، والتي تقضى بعدم جواز
الطعن في الأحكام غير المنهية للخصومة إلا مع الحكم الصادر في موضوع الخصومة
الأصلية المنهى لها.
وحيث إن خصومة الرد تثير ادعاء في شأن الخصومة الأصلية مداره أن
قاضيها أو بعض قضاتها الذين يتولون الفصل فيها، قد زايلتهم الحيدة التي يقتضيها
العمل القضائي ، ومن ثم كان لخصومة الرد خطرها ودقتها سواء بالنظر إلى موضوعها أو
الآثار التي تنجم عنها، ولا شأن لها بالتالي بنطاق الخصومة الأصلية المرددة بين
أطرافها، ولا بالحقوق التي يطلبونها فيها، ولا بإثباتها أو نفيها، بل تستقل تماماً
عن موضوعها، فلا يكون لها من صلة بما هو مطروح فيها، ولا بشق من جوانبها،
ولا بالمسائل المتفرعة عنها أو العارضة عليها، بل تعتصم خصومة الرد بذاتيتها،
لتكون لها مقوماتها الخاصة بها.
وحيث إن الأهمية التي بلغتها خصومة الرد، وانعكاسها على الخصومة
الأصلية التي لا يجوز أن يكون الفصل فيها معلقاً أو متراخياً إلى غير حد، واتصالها
المباشر بولاية الفصل فيها، هي التي تمثلها المشرع حين عدل عما كان قائماً من قبل
من نظرها على درجتين، ليعهد بولاية الفصل فيها - وعلى ما تنص عليه المادة (153) من
قانون المرافعات - إلى إحدى الدوائر بالمحكمة الاستئنافية ، سواء أكان القاضي
المطلوب رده من مستشاريها أم كان قاضياً جزئياً أو ابتدائيا، ليكون اختصاصها
بالفصل في خصومة الرد مقصوراً عليها، محيطاً بجوانبها، وازناً بالقسط المطاعن
المثارة فيها.
ويظل هذا الاختصاص ثابتاً لهذه الدائرة ، ولو كان الطعن استئنافياً في
الحكم الصادر في الخصومة الأصلية ، ممتنعاً بل إن قانون المرافعات، أجاز بالفقرة
الأخيرة من المادة (157) المطعون عليها، الطعن في الحكم الصادر عن تلك الدائرة
برفض طلب الرد، ولو كان الطعن بطريق النقض غير جائز في الخصومة الأصلية . وما ذلك
إلا توكيد لاستقلال خصومة الرد عن الخصومة الأصلية ، وإن جاز القول بتعلق أولاهما
بثانيتهما، ورفعها بمناسبتها.
وحيث إن قانون المرافعات، وإن كفل على هذا النحو، استقلال خصومة الرد
عن الخصومة الأصلية ، إلا أن هذا القانون ربط بينهما في مجال الطعن في الحكم
الصادر برفض طلب الرد، إذ لم يجز هذا الطعن إلا مع الطعن في الحكم الصادر في الخصومة
الأصلية ، لتقوم بذلك بين هاتين الدعويين صلة محدودة أنشأتها الفقرة الأخيرة من
المادة (157) المطعون عليها، وهي بعد صلة مردها أن الحكم الصادر في الخصومة
الأصلية منهياً لها، قد يكون كافلاً للمدعى في خصومة الرد، الحقوق التي طلبها في الخصومة
الأصلية ، ونافياً بالتالي مصلحته الشخصية والمباشرة في تعييب الحكم الصادر برفض
طلب الرد؛ وكان لازماً بالتالي ألا يطعن فيه استقلالاً، وأن يتربص الحكم المنهي
للخصومة الأصلية ، ليقدر على ضوء الحقوق التي أثبتها أو حجبها، ما إذا كان الطعن
في الحكم الصادر برفض طلب الرد، لا زال منتجاً.
وحيث إنه إذ كان ما تقدم، وكان النص المطعون قد حال بين طالب الرد
والطعن في الحكم الصادر برفض طلبه، قبل أن تظهر الفائدة العملية التي يرتجيها من
تجريحه، فإنه بذلك يكون أدخل إلى السياسة التشريعية التي اعتنقها المشرع في مجال
رد القضاة ، ضماناً لحصر خصومة الرد في إطارها المنطقي . ولا مجافاة في ذلك لنصوص
الدستور، ذلك أن ما يقدره المشرع - وفق أسس موضوعية - كافلاً لحسن سير التقاضي ،
يكون حرياً بالإتباع
وحيث إن النصين المطعون عليهما، لا يناقضان أي حكم في الدستور من أوجه
أخرى
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة وألزمت المدعية المصروفات
ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .