حيث إن الوقائع - على ما
يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعى عليها عزة عبد العال
عيد، كانت قد أقامت الدعوى رقم 183 لسنة 1991 شرعي جزئي قسم أول المنصورة ضد
المدعي بطلب الحكم بفرض نفقة لها ولصغيرها بأنواعها الثلاثة من تاريخ طرده لها من
منزل الزوجية الحاصل في 5/ 7/ 1990، وذلك على سند من أنها تزوجته بصحيح العقد
الشرعي المؤرخ 13/ 3/ 1984 ورزقت منه بالصغيرين أحمد وياسر، إلا أنه امتنع عن
الإنفاق عليهما رغم قدرته ويساره.
وبعد أن أحالت محكمة
الموضوع الدعوى إلى التحقيق، قضت بجلسة 8/ 3/ 1992 حضورياً بفرض نفقة مؤقتة للمدعية
وصغيريها أحمد وياسر، وذلك اعتبار من تاريخ رفع الدعوى. ثم أعادتها إلى المرافعة
لجلسة 19/ 4/ 1992. وبتلك الجلسة قدم زوجها إنذار طاعة معلن منه للمدعية، ودفع
بعدم دستورية أحكام القانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال
الشخصية. كما قدمت المدعية صورة اعتراضها على هذا الإنذار، فقررت المحكمة تأجيل
نظر الدعوى لجلسة 24/ 6/ 1992، وصرحت للمدعي باتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية،
فأقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن المادة الأولى من
القانون رقم 25 لسنة 1920 الخاص بأحكام النفقة وبعض مسائل الأحوال الشخصية -
والمعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985 - تقضي بما يأتي:
"تجب النفقة للزوجة على
زوجها من تاريخ العقد الصحيح إذا سلمت نفسها إليه ولو حكماً حتى لو كانت موسرة أو
مختلفة معه في الدين.
ولا يمنع مرض الزوجة من
استحقاقها النفقة وتشمل النفقة الغذاء والكسوة والمسكن ومصاريف العلاج وغير ذلك
مما يقضي به الشرع.
ولا تجب النفقة للزوجة
إذا ارتدت، أو امتنعت مختارة عن تسليم نفسها دون حق أو اضطرت إلى ذلك لسبب ليس من
قبل الزوج أو خرجت دون إذن زوجها.
ولا يعتبر سبباً لسقوط
نفقة الزوجة، خروجها من مسكن الزوجية - دون إذن زوجها - في الأحوال التي يباح فيها
ذلك بحكم الشرع مما ورد به نص أو جرى به عرف أو قضت به ضرورة. ولا خروجها للعمل
المشروع ما لم يظهر أن استعمالها لهذا الحق المشروط مشوب بإساءة استعمال الحق، أو
مناف لمصلحة الأسرة، وطلب منها الزوج الامتناع عنه".
وحيث إن المصلحة الشخصية
المباشرة - وهي شرط لقبول الدعاوى الدستورية - مناطها أن تتوافر علاقة منطقية
بينها وبين المصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم في
المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على
محكمة الموضوع؛ وكان النزاع الموضوعي - وفي مجال استحقاق المدعى عليها لنفقتها -
مبناه إنكار حقها في العمل، فإن الفقرة الخامسة من المادة الأولى من القانون رقم
25 لسنة 1920 الخاص بأحكام النفقة وبعض مسائل الأحوال الشخصية - وفي مجال تطبيق
أجزائها التي تتعلق بعمل الزوجة وشروط هذا العمل - هي التي يتحدد على ضوئها موضوع
الدعوى الدستورية الماثلة، وبها وحدها تقوم المصلحة الشخصية المباشرة للمدعي.
وحيث إن المدعي ينعي على
هذا الفقرة، مخالفتها لأحكام المادتين 2 و9 من الدستور التي تقضي أولاهما بأن
مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وثانيتهما بأن الأسرة أساسها
الدين. هذا فضلاً عن أن عرفاً دستورياً قد استقر على أن المسلمين لا يخضعون في
أحوالهم الشخصية لغير شريعتهم. وفي تفصيل ذلك نوه المدعي بأن حكم الفقرة المطعون
عليها يناقض ما ينبغي أن تكون عليه صلة الزوجة بزوجها، وذلك من عدة وجوه:
أولها: انطواؤه على تحريض
كل زوجة تحريضاً خفياً على أن تستهر بزوجها مما يجعل الحياة الزوجية شغباً
وتطاحناً وصخباً - لا سكناً أو طمأنينة. وما من زوج مؤمن يقبل عصيان زوجته لأوامره
التي تمنعها من الخروج من منزلها. والقانتة هي التي ترعى زوجها، وتحفظ عرضه وماله،
ولو كان غائباً عنها. وهي التي قرن الإسلام طاعتها لزوجها بإقامتها لفرائضها
الدينية. وليس من العدل أن يحمل الرجل على الإنفاق على زوجته التي لم تمتثل لطلبه
بالامتناع عن العمل، تقديراً بأن الأصل أن ترعى الزوجة بيتها رعاية كاملة لا تتهيأ
إلا بالاحتباس الكامل الذي تتفرغ الزوجة بمقتضاه لشئون زوجها وتصون أولاده، وتتحقق
به المودة والرحمة وغيرهما من مقاصد النكاح.
ثانيهما: أن الزوج ولو
تفاهم أصلاً مع زوجته على أن تعمل، إلا أن رضاءه بالاحتباس الناقص فترة من الزمن،
لا يحول دون منعها بعدئذ من العمل استصحاباً للحق في الاحتباس الكامل باعتباره من
الحقوق الشرعية التي لا يجوز الاتفاق على خلافها.
ثالثها: أن ما تدعيه كل
زوجة من أنها تساعد زوجها بكسبها من عملها، لا يستقيم شرعاً، إذ ليس للزوج حق في
مال زوجته. وخروجها للعمل يناقض قوله تعالى ﴿وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج
الجاهلية الأولى﴾ وهو نص يفيد قطعاً حق الزوج في أن يمسك زوجته بمنزل الزوجية
ويمنعها من الخروج إلا بإذنه. وعمل المرأة رغم اعتراض زوجها عليه، يناقض بذاته
مصلحة الأسرة.
رابعها: أن مشروعية عمل
المرأة لا تكون إلا على ضوء التعاليم الدينية، ولا شأن لها بما يعد عرفاً، ولا بما
يقع في نطاق الضرورة، ذلك أن أولهما إنما يتحدد على ضوء أوضاع كل عصر، فلا يكون
إلا عرفاً فاسداً. كذلك فإن الضرورة من الرخص التي لا يجوز تطبيقها في غير موضعها.
وحيث إن البين من تقرير
اللجنة المشتركة من لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ومكتب لجنة الشئون الدينية
والاجتماعية والأوقاف بمجلس الشعب، في شأن الاقتراح الخاص بمشروع القانون رقم 100
لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية، وكذلك من المذكرة الإيضاحية
لهذا القانون، أن المشرع حدد الأحوال التي لا تسقط فيها نفقة الزوجة، ويندرج تحتها
خروجها للعمل المشروع إذا أذنها الزوج بالعمل. أو عملت دون اعتراضه، أو تزوجها
عالماً بعملها، ما لم يظهر أن عملها كان مشوباً بإساءتها استعمال الحق، أو منافياً
لمصلحة الأسرة، وطلب منها زوجها الامتناع عنه.
وحيث إن نفقة الزوجة
مناطها احتباسها لحق زوجها عليها - ولو كانت موسرة أو مختلفة معه في الدين - ليملك
زوجها عليها تلك المنافع التي ينفرد بالاستمتاع بها بحكم قصرها عليه بإذن من الله
تعالى، ومن خلال تسليمها نفسها لزوجها تسليماً فعلياً أو حكمياً. والنفقة بذلك حق
ثابت لها على زوجها في نكاح صحيح. ومن ثم كان احتباسها أو استعدادها لتمكين زوجها منها،
سبباً لوجوبها؛ وكان قدرها مرتبطاً بكفايتها، وبشرط ألا تقل عما يكون لازماً
لاستيفاء احتياجاتها الضرورية، امتثالاً لقوله تعالى ﴿لينفق ذو سعة من سعته، ومن
قدر عليه رزقه، فلينفق مما أتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا أتاها﴾ ﴿أسكنوهن من
حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن، لتضيقوا عليهن﴾ بما مؤداه أن عصيانها زوجها فيما
يباشره عليها من الحقوق التي يوجبها النكاح، يدل على نشوزها، ويعتبر مسقطاً
لنفقتها بالنظر إلى ترفعها وإبائها أن تطاوع زوجها، وتجاهلها أن حقوق الزوجين
وواجباتهما تتقابل فيما بينها، فلا يتقيد زوجها بالإنفاق عليها مع ارتفاعها من
أوامره. فإذا ظلمها زوجها بعد توبتها، كان معتدياً ﴿فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن
سبيلا﴾.
وحيث إن مفاد الفقرة
الخامسة من المادة الأولى المطعون عليها، أن الأصل هو ألا تخرج المرأة من بيت
زوجها إلا إذا أذن لها بذلك - صريحاً كان هذا الإذن أم ضمنياً - ما لم يكن خروجها
مبرراً بحكم الشرع أو كان عذرها فيه عرفاً صحيحاً أو ضرورة ملجئة، بما مؤداه جواز
خروجها بغير إذن زوجها لتمريض أحد أبويها أو تعهده أو لطلبها حقاً من القاضي؛ أو
لقضاء حوائجها أو لزيارة محرم مريض؛ أو لتهدم منزلها أو إذا أعسر زوجها بنفقتها.
ولا يكون خروجها للعمل المشروع إلا بإذن زوجها، فإذا أذن لها، فلا يجوز أن يمنعها
من العمل إلا إذا قام الدليل على أن مضيها فيه، كان انحرافاً منها عن الحدود
المنطقية للحق في العمل، أو مجافياً لمصلحة أسرتها.
ولا تتعلق الدعوى
الدستورية الماثلة بغير الضوابط التي أقامتها الفقرة (5) المطعون عليها لحق المرأة
في العمل، باعتبار أن النزاع الموضوعي يدور حول إنكار زوجها لهذا الحق، وإدعاء
سقوط نفقتها بالتالي لنشوزها.
وحيث إن قضاء المحكمة
الدستورية العليا مطرد على أن ما نصت عليه المادة الثانية من الدستور - بعد تعديلها
في 1980 - من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، إنما يتمحض
عن قيد يجب على السلطة التشريعية أن تتحراه في تشريعاتها الصادرة بعد هذا التعديل
- ومن بينها أحكام القانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال
الشخصية - فلا يجوز لنص تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية المقطوع بثبوتها
ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً،
لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية أصولها الكلية التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً.
ومن غير المتصور بالتالي
أن يتغير مفهومها تبعاً الزمان والمكان، ولا أن يكون تطبيقها متفاوتاً ولا نهجها
متبايناً، إذ هي عصية على التعديل، فلا يجوز الخروج عليها أو تنحيتها أو الالتواء
بها عن مقاصدها أو إلباسها غير توجهاتها، بل تظل في مضامينها ومراميها وقواعد كلية
تتوخى أغراضاً لا تفريط فيها.
وتنصب ولاية المحكمة
الدستورية العليا في شأن هذه القواعد على مراقبة التقيد بها والنزول عليها
وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها، ذلك أن المادة الثانية من الدستور تقدم
القواعد الكلية للشريعة الإسلامية على ما دونها، تقديراً بأن مبادئها الأصيلة،
تمثل ركائزها التي تفرض متطلباتها دوماً على كل قاعدة قانونية تعارضها، وبما يحول
دون إقرار قاعدة قانونية على خلافها، وإلا كان ذلك تشهياً وإنكاراً لما علم من
الدين بالضرورة.
ولا كذلك الأحكام الظنية
غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معاً، فإن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها،
ولا تمتد لسواها، وهي بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان لضمان مرونتها
وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها تنظيماً لشئون العباد بما يكفل مصالحهم
المعتبرة شرعاً، على أن يكون الاجتهاد واقعاً دوماً في إطار الأصول الكلية للشريعة
الإسلامية، مقيماً الأحكام العملية بالاعتماد في استنباطها على الأدلة الشرعية،
متوخياً من خلالها تحقيق المقاصد الشرعية في عموم تطبيقاتها بما تقوم عليه من صون
الدين والبدن والعقل والعرض والمال. وتلك هي الشريعة في أصولها ومنابتها، شريعة
غير جامدة لا يكون الاجتهاد فيها - بما يقوم عليه من استفراغ الجهد للوصول إلى حكم
فيما لا نص عليه - إلا باباً مفتوحاً ينفذ إلى مبادئها الكلية ولا يعارضها؛ يتقيد
بضوابطها الجوهرية، ولا يعطل مقاصدها.
وحيث إن من المقرر، أن
إعمال حكم العقل فيما لا نص فيه، توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله
ورحمته بين عباده، مرده أن هذه القواعد تسعها الشريعة الإسلامية، إذ هي غير منغلقة
على نفسها، ولا تضفي قدسية على أقوال أحد من الفقهاء في شأن من شئونها، ولا تحول
دون مراجعتها وتقييمها وإبدالها بغيرها.
فالآراء الاجتهادية ليس
لها - في ذاتها - قوة ملزمة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالي اعتبارها
شرعاً ثابتاً متقرراً لا يجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر في
دين الله تعالى، وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد، بل إن من الصحابة
من تردد في الفتيا تهيباً، ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء، ليس أحق
بالإتباع من اجتهاد غيره. وربما كان أضعفها سنداً، أكثرها ملاءمة للأوضاع
المتغيرة، ولو كان مخالفاً لأقوال استقر عليها العمل زمناً.
وحيث إن من المقرر أن
الاحتباس حق للزوج، فإذا نزل عنه صراحة أو ضمناً، ظل ملزماً بالإنفاق على زوجته
باعتبار أن تفويت الاحتباس كان من جهته. ويجوز بالتالي للزوجة أن تعمل خارج بيتها
نهاراً أو ليلاً برضاء زوجها، فإذا كان عقد الزواج مقترناً بشرط عمل المرأة، صح
العقد وسقط الشرط عند الحنفية باعتباره منافياً لمقتضى العقد، وإن كان الحنابلة
يصححون هذه الشروط ويوجبون الوفاء بها، لقوله r : "إن أحق ما وفيتم به من
الشروط، ما استحللتم به الفروج". بل إن من الفقهاء من يفترض رضاء الرجل بعمل
زوجته، إذا تزوجها وهو عالم باحترافها.
وحيث إن المرأة شريكة
الرجل في عمارة الأرض وغيرها من الأشكال الحياة وأنماطها بما يتفق مع طبيعتها، ولا
يخل بكمال رعايتها لأسرتها وفق تعاليم دينها، تقديراً بأن عملها لا يجوز أن ينفصل
عن الضوابط الشرعية سواء في حدودها أو آدابها، وأن إنكار حقها في العمل على إطلاق،
قد يوقعها في الضيق والحرج، فلا ييسر شئونها، أو يعينها على أداء مسئوليتها حتى
نحو بيتها وأفراده.
بل إن ممارستها لأعمال
ينهض بها مجتمعها ولا يعارضها الشرع، ينفض عنها عوامل الخمول، ويستنهض ملكاتها،
فلا يكون نشاطها إلا تواجداً مُيَسِّراً للحياة وفق متطلباتها من أوضاع العصر،
يفتح أمامها أبواباً للعمل الصالح بدءاً من طلبها العلم وتعليمه، إلى معاونتها
لنفسها ولأسرتها، إلى اقتحام آفاق جديدة تنمو بها مداركها ويتحدد على ضوئها بنيان
مجتمعها. وانعزال المرأة عنها يقلص اهتماماتها وعلمها ووعيها. وتواصلها مع الحياة
والناس من حولها - وكلما كان تفاعلها معها ومعهم جاداً خيراً - يثير يقظتها ولا
يشينها. وربما حملها تعقد مجتمعها المعاصر، واتساع دائرة احتياجاتها على مغادرة
بيتها لقضائها. وإذا كان الإحسان إلى المرأة في ذاتها يفترض تربيتها وتقويمها
وتعليمها وإحصانها وغض بصرها وأن تدع ما يريبها إلى ما لا يريبها، إلا أن منعها من
عمل جائز شرعاً لرجحان المصلحة فيه، إهدار لآدميتها.
وردها عن العمل المشروع
لاحتمال انحرافها، مؤداه أن أنوثتها وطُهرها لا يجتمعان؛ وأن دينها لن يعصمها من
الانزلاق؛ وأن تساويها مع الرجل - وفيما عدا الدائرة المحدودة التي تظهر فيها
فوارق التمييز بينهما - ليس أصلاً ثابتاً في عقيدتها؛ وأن توحدها مع الرجل في أصل
نشأتها وتكاليفها ومثوبتها وجزائها، لا يرشحها للعمل الصالح. سواء في مجال الأعمار
أو غيره مما هو مشروع من مظاهر الحضارة، وأن صونها لحرمتها وتساميها عن المباذل،
يقتضيها أن تقر في بيتها، فلا يكون شأن واجباتها الاجتماعية شأن الرجل، وهو ما
نفاه تعالى حين أمرهما معاً بأن يسعيا بين الناس معروفاً، وأن ينهيا عما يعد
منكراً خبيثاً، وكذلك حين كفل لهما - عز وجل - الجزاء الأوفى عن صالح أعمالهم ﴿من
عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن
ما كانوا يعملون﴾. إن المرأة عضو في مجتمعها، ودينها يقفها عند حدود شريعتها
وتوازنها المقسط. وبقدر تقيدها بأوامرها ونواهيها، وقيامها بالأعمال التي لا تسحق
أنوثتها، ولا تخل كذلك بمصلحة أسرتها، فإن منعها منها لا يكون إلا افتئاتاً على
إنسانيتها.
وحيث إن المشرع لا يرخص
للمرأة بالعمل خارج بيتها لمجرد ضمان استقلالها اقتصادياً سواء عن زوجها أو عن
أسرتها، وإنما لأن هذا العمل يؤثر في كثير من نواحي الحياة الاجتماعية
والاقتصادية، وقد يكون مطلوباً منها وجوباً أو يصون ماء وجهها أن يراق. وهو في
الأعم يكفل الخير لمجتمعها، ويمتد إلى كيان الأسرة ذاتها بما تقوم عليه من تعاون
أعضائها وتآلفهم.
وشرط ذلك أن يكون عملها
مناسباً لطبيعتها موائماً لفطرتها؛ وألا يخل بمسئوليتها كراعية لبيتها وزوجها
وولدها؛ وأن يكون استثمارها لوقتها موازناً بين واجباتها قبل أسرتها، وبين دورها
باعتبارها عنصراً منتجاً ومفيداً في مجتمعها.
وحيث إن القول بأن خير
حال المرأة أن تقر في بيتها؛ ومردود بأن لها ما عليها معروفاً، فلا يقوم زوجها
بإيوائها وحمايتها ورعايتها والإنفاق عليها ليقهر إرادتها، ولا ليمحق كيانها بما
يباشره من سلطان كاسر عليها، بل هي كالرجل مدعوة لتحقيق الخير لمجتمعها. ومن خلال
تفاعلها مع الجماعة التي تعيش بينها - وعلى ضوء ارتباطها بتعاليم دينها - تحديد أنماط
سلوكها واتجاهاتها وقيمها. بل إنها تطور ما يكون موروثاً منها وفق الأدوار التي
تتطلبها بيئتها؛ وإباحتها هي الأصل ما لم يقم الدليل على تحريمها. وتحكيم القانون
في علاقاتها بغيرها ليس حلاً ملائماً. كذلك فإن استقلال شخصها لا يعني بالضرورة
انعزالها عن بيتها، ولا تمردها على زوجها، ولا أن تنقل لأسرتها ما يعارض مُثُلها
من أوضاع مجتمعها. ولا دليل على أن عمل المرأة يوهن علاقاتها بزوجها، أو يقلص من
دوره، بل ربما كان تكيفها مع واقعها أكثر احتمالاً تبعاً لنضجها واستقرارها نفسياً
وانفعالياً، فلا يمتد القلق والتوتر إلى أسرتها، بل ينداح عن دائرتها، وكثيراً ما
تظفر المرأة - ومن خلال عملها - بفرص تكفل إيجابيتها وقدرتها على الابتكار، فلا
تكون حركتها في بيتها إلا امتداداً لثقتها بنفسها، ونهراً متدفقاً بأشكال من
المودة والعون التي ترجوها لبيتها وزوجها.
وحيث إن المرأة وإن كانت
سكناً للرجل، إلا أنهما مُكلفان معاً بأن يضربا في الأرض، ﴿فامشوا في مناكبها﴾ فلا
تكون لهما إلا ذلولا. وليس عملها مجالاً تتصاول فيه مع زوجها أو تتفاضل به عليه،
ولا استمداداً لغلبة تدعيها، فلا تزال القوامة لرجلها يأذن لها - ابتداءً -
بالعمل، أو يمنعها منه، وفق ما يراه ضرورياً لمصلحة أسرتها، فإذا خولها هذا الحق،
لم تكن بذلك مخالفاً لقوله تعالى ﴿وقرن في بيوتكن﴾ إذ لا يتعلق هذا الأمر بغير
أزواج النبي عليه السلام على ما خلص إليه أغلب المفسرين، مستندين في ذلك إلى
النساء على عهده كن يخرجن مع الرجال إلى ميادين القتال، ويزاولن التجارة وغيرها من
الأعمال خارج بيوتهن حتى ما كان منها سياسياً. ولم يكن دورهن بالتالي محدوداً، ولا
مقيداً في جوازه بالضرورة، وإلا كان محظوراً أصلاً. والقول بأن حبسها وراء جدران
بيتها لا زال مطلوباً، ليس إلا تقليداً مترسباً يروضها على إهمال ذاتها ومسئوليتها
قبل مجتمعها. وهو ما لا يستقيم، فعملها لا يجرح عفافها ولا حياءها إلا بقدر
انحرافها عن عقيدتها. والاحتجاج بفساد الزمان لمنعها من العمل، سوء ظن بها؛ ومؤداه
أن يكون موقفها من الأوضاع الخاطئة - التي لا يتناهى زمنها - سلبياً، فلا تعمل
لتقويمها أو دفعها بعد إدراكها لطبيعتها وأبعادها. والقاعدة الشرعية هي اختيار
الأيسر لا الأحوط. والاعتدال في تطبيق قاعدة سد الذرائع - لا الغلو فيها - هو الذي
يصون لدائرة المباح اتساعها، فلا يضيقها، توكيداً لقوله تعالى﴿يريد الله بكم اليسر
ولا يريد بكم العسر﴾ ﴿ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون﴾.
والشريعة غايتها أن تقيم
بين الرجل والمرأة جسوراً يطرقانها لعمارة الأرض، لا تتحقق بقطعها، بل بتواصلها
وتواجدهما معاً، فكلاهما قوة منتجة لها حظها من كسبها ﴿إني لا أضيع أجر عمل منكم
من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض﴾ وعملها قد يدنيها من قدراتها الألصق بتكوينها.
وانعزالها تماماً عن مجتمعها ينتكس بها عثاراً، ويفقدها حيويتها وقدراتها على
التأثير في بيئتها.
وحيث إن الأصل في النصوص
الدستورية أنها تتكامل فيما بينها في إطار من الوحدة العضوية التي تجمعها، فلا تتفرق
توجهاتها أو تنعزل عن بعضها، بل يكون نسيجها متآلفاً بما يحول تهادمها أو تناقضها.
وحيث إن ما نصت عليه
المادة 11 من الدستور من أن تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة
وعملها في مجتمعها، ومساواتها بالرجل في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية
والاقتصادية، دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية؛ قد دل على أن عمل المرأة في
مجتمعها، لا يجوز أن يخل بواجباتها قبل أسرتها أو يجوز عليها، تقديراً بأن
مسئولياتها أصلاً وابتداء، تحتم عليها أن تحسن تدبير شئون بيتها وأولادها، وعلى
الأخص من خلال تربيتهم ورعايتهم بصورة رشيدة حانية، وأن يكون لزوجها معهم المودة
الغامرة والسكينة النفسية والعصبية، فلا يكون عقلها وقلبها ويدها إلا موقفاً
متوازناً بين واجباتها قبلهم - وهم مسئوليتها الأساسية - وبين عملها؛ بما مؤداه أن
احتياجاتها إلى العمل أو تفوقها فيه أو كسبها منه، لا يجوز أن يصرفها عن روابطها
الأصيلة بأسرتها، ولا أن يبدد تماسكها.
بل ينبغي أن يكون حق
بيتها من الأمن والاستقرار مقدماً على ما سواه، وأن يتضامن مجتمعها معها فيما
يُعينها على التوفيق بين مسئولياتها الأسرية والمهنية، وأن يوفر لها كذلك ظروفاً
تناسبها فيما تتولاه من عمل. وما ذلك إلا لأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء
بعض، فلا يكون تواصيهم بالخير إلا تعبيراً عن تراحمهم. والدستور فوق هذا يعهد إلى
الدولة ذاتها بأن تتخذ من التدابير ما يكون لازماً للتوفيق بين عمل المرأة
وواجباتها قبل أسرتها، وأن يكون اجتهادها في ذلك عملاً دءوباً، فلا تكون المواءمة
بينهما توقياً لتعارضهما، أمراً مندوباً، بل مطلوباً طلباً جازماً، ليقوم بالقسط
ميزانها عدلاً ورحمة.
وحيث إن المادة 11 من
الدستور - وقد ناطت بالدولة أن تعمل على التوفيق بين عمل المرأة في مجتمعها
وواجباتها قبل أسرتها - قد دلت ضمناً على أن عمل المرأة من الحقوق التي كفلها
الدستور، ذلك أن التوفيق بين أمرين يفترض وجودهما، وإمكان تعارض متطلباتهما،
وتناقض المصالح التي يستهدفانها.
ولئن كان بعض الفقهاء
يسقطون نفقة الزوجة إذا نهاها زوجها عن حرفتها، ولم تمتثل لطلبه أن تقر في بيتها
باعتبار أن الاحتباس عندئذ لا يكون كاملاً، وأن كسبها المال بنفسها مؤداه أن
احتباسها قد صار ناقصاً، فلا يقبل منها إلا برضاه؛ وكان آخرون قد ذهبوا إلى أن
احترافها عملاً يجعلها خارج منزلها نهاراً وعند زوجها ليلاً، يسقط نفقتها عنها إذا
منعها زوجها من الخروج وعصته، إلا أن الشريعة الإسلامية - في مبادئها الكلية
المقطوع بثبوتها ودلالتها - لا تتضمن حكماً فاصلاً في شأن نفقة الزوجة العاملة
سواء من حيث إثباتها أو نفيها. ومن ثم يكون وجوبها وسقوطها من المسائل الاجتهادية
التي يقرر ولي الأمر في شأنها من الحلول العملية ما يناسبها، غير مقيد في ذلك
باجتهادات السابقين، بل يجوز أن يشرع على خلافها، وأن ينظم شئون العباد في بيئة
بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة، بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله
ورسوله، مستلهماً في ذلك حقيقة أن المصالح المعتبرة هي تلك التي تكون مناسبة
لمقاصد الشريعة متلاقية معها، وهي بعد مصالح لا تتناهى جزئياتها أو تنحصر
تطبيقاتها، ولكنها تتحدد تبعاً لما يطرأ عليها من تغيير وتطور. ومن ثم كان حقاً
عند الخيار بين أمرين، مراعاة أيسرهما ما لم يكن إثماً، وكان واجباً كذلك ألا يشرع
ولي الأمر حكماً يضيق على الناس أو يرهقهم من أمرهم عسرا، وإلا كان مصادماً لقوله
تعالى ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج﴾ وذلك وحده هو الذي ييسر للشريعة
مرونتها، ويمدها دوماً بقواعد يكتمل بها نماؤها وتكفل حيويتها.
وحيث إن المشرع قد وازن
بالفقرة المطعون عليها - وفي إطار دائرة الاجتهاد - بين حق الزوج في الاحتباس
الكامل، وبين صورة من الاحتباس يرتضيها وتتحقق بها في الجملة مقاصد النكاح، فأجاز
لكل امرأة أن تعمل بإذن زوجها سواء أكان هذا الإذن صريحاً أم ضمنياً، فإذا أذنت
بالعمل، وكان عملها مشروعاً، فإن مضيها فيه يكون حقاً مكفولاً لها، فلا يمنعها زوجها
منه، أو يردها عنه، بعد أن رخص لها به، إلا أن يقوم الدليل بعد مباشرتها لهذا
العمل على إساءتها استعمال الحق فيه انحرافاً عن الأغراض التي يبتغيها، أو كان
أداؤها لعملها منافياً لمصلحة أسرتها. ولا مخالفة في ذلك للدستور، وذلك لأمرين:
أولهما: أن مصلحة الأسرة والحق
في العمل لا يتوازيان، بل ينبغي تغليبها وتقديمها على هذا الحق، فلا يكون إلا
مسخراً لها يخدمها ويطور بنيانها، فإذا قصر عن متطلباتها أو نقضها، كان حرثاً في
البحر لا يُصلح للأسرة حياتها أو يثريها، بل يفسد دروبها ويمزق روابطها ويقوض
أمنها واستقرارها. ولا يجوز بالتالي أن يعطل عمل المرأة أمومتها، ولا أن يدل على
انقطاعها لذاتها ومطالبها وأهوائها، ولا أن يباعد - بوجه عام - بينها وبين
واجباتها قبل أسرتها، بل إن كمال دينها يقتضيها أن يكون إيثارها لبيتها على ما
عداه تعبيراً عن فهمها الحق لجوهر عقيدتها. وما النساء إلا شقائق الرجال، ولا تقوم
الحياة بينهما على التناضل، بل يكون التعاون ملاكها. وليس من صوره تخليها عن بيتها
لتباشر أعمالاً تستنفد وقتها أو تنوء بها أو لا تلتئم وطبيعتها، بل ينبغي أن يكون
عملها نافعاً لمجتمعها وغير ضار ببيتها، تقديراً بأن الزوجين شريكان يتقاسمان
الجهد ليقيما حياتهما على سوائها بالغين بها قدر الإمكان، حظها من الكمال، فلا
يشوهها أحدهما.
ثانيهما: أن إساءتها
استعمال الحق في العمل، ينقض من جانبها الأغراض التي يتوخاها، ويعتبر خطأً منها
ناشئاً على الأخص من اتجاه قصدها إلى الإضرار بالغير، أو لتحقيق مصلحة محدودة
أهميتها، أو مصلحة لا اعتبار لها، أو ترجحها الأضرار التي تقارنها رجحاناً كبيراً
أو تساويها، ومن ثم يكون معيار سوء استعمال الحق موضوعياً لا ذاتيا، ويفترض ذلك
بالضرورة - وفي نطاق الدعوى الماثلة - أن يكون سوء استعمال المرأة لحقها في العمل،
انحرافاً بهذا الحق عن تلك المصالح التي تصون لأسرتها ترابطها ووحدتها.
وحيث إن إذ كان ما تقدم،
وكانت الفقرة (5) من المادة الأولى المطعون عليها، لا تناقض أحكام الدستور في
مجموعها، فإن النعي بخروجها عليها، يكون فاسداً.
وحيث إن المادة 11 مكرراً
ثانياً من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 التي أضافها إليه القانون رقم 100 لسنة
1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية، تقضي بما يأتي:
"إذا امتنعت الزوجة عن
طاعة الزوج دون حق، توقف نفقة الزوجة من تاريخ الامتناع.
وتعتبر ممتنعة دون حق إذا
لم تعد لمنزل الزوجية بعد دعوة الزوج إياها للعودة بإعلان على يد محضر لشخصها أو
من ينوب عنها. وعليه أن يبين في هذا الإعلان المسكن.
وللزوجة الاعتراض على هذا
أمام المحكمة الابتدائية خلال ثلاثين يوماً من تاريخ هذا الإعلان، وعليها أن تبين
في صحيفة الاعتراض الأوجه الشرعية التي تستند إليها في امتناعها عن طاعته، وإلا
حكم بعدم قبول اعتراضها، ويعتد بوقف نفقتها من تاريخ انتهاء الاعتراض إذا لم تتقدم
به في الميعاد".
وحيث إن المدعي ينعي على
نص المادة 11 مكرراً ثانياً، مخالفتها أحكام الشريعة الإسلامية بمقولة أنها تضمنت
ثلاثة مواعيد متناقضة لسقوط النفقة: أولها: سقوطها من وقت امتناع الزوجة عن طاعة
زوجها. وثانيها: من وقت رفضها دعوة الزوج إياها للعودة إلى مسكن الزوجية. وثالثها:
بعد انتهاء الثلاثين يوماً المحددة لاعتراضها على دعوتها العودة إلى هذا المسكن
إذا لم تتقدم باعتراضها خلال هذا الميعاد. والصحيح - عند المدعي - هو سقوط نفقتها
من وقت امتناعها عن طاعة زوجها بغير حق أو عذر. أما دعوة الزوج لها بالعودة إلى
مسكن الزوجية، واعتراضها على دعوته هذه أو عدم اعتراضها عليها، فليس بدليل على
بداية وقت نشوزها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة
في الدعوى الماثلة، قد خلص إلى اتفاق نص الفقرة (5) من المادة الأولى من القانون
رقم 25 لسنة 1920 الخاص بأحكام النفقة وبعض مسائل الأحوال الشخصية مع الدستور، بما
يترتب على ذلك من آثار من بينها أن زوجته لا تعتبر ناشزاً في مجال تطبيق أحكام هذا
القانون في شأن حقها في العمل؛ فإن مصلحة المدعي في الطعن على المادة 11 مكرراً
ثانياً من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 المشار إليه - والتي حدد بها المشرع
الآثار التي رتبها على امتناع الزوجة عن طاعة زوجها دون حق - تغدو منتفية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق