باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الرابع من نوفمبر سنة 2023م،
الموافق العشرين من ربيع الآخر سنة 1445 هـ.
برئاسة السيد المستشار / بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة
المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم ومحمود محمد غنيم والدكتور عبد العزيز محمد
سالمان وطارق عبد العليم أبو العطا وعلاء الدين أحمد السيد وصلاح محمد الرويني
نواب رئيس المحكمة وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري رئيس هيئة
المفوضين وحضور السيد/ محمـد ناجي عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 100 لسنة 43
قضائية دستورية، بعد أن أحالت المحكمة الإدارية لمحافظتي الإسكندرية ومرسى مطروح،
بحكمها الصادر بجلسة 30/ 1/ 2021، ملف الدعوى رقم 10074 لسنة 66 قضائية.
المقامة من
بدوي عبد العظيم علي مرسي
ضــد
1- مدير مديرية أوقاف مطروح
2- وزير الأوقــــاف
3- محافظ مطروح
----------------
" الإجراءات "
بتاريخ الثامن والعشرين من ديسمبر سنة 2021، ورد إلى قلم كتاب المحكمة
الدستورية العليا ملف الدعوى رقم 10074 لسنة 66 قضائية، نفاذًا لحكم المحكمة
الإدارية لمحافظتي الإسكندرية ومرسى مطروح، الصادر بجلسة 30/ 1/ 2021، بوقف
الدعوى، وإحالة أوراقها إلى المحكمة الدستورية العليا، للفصل في دستورية نص المادة
(64) من قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم، أصليًّا: بعدم اختصاص
المحكمة بنظر الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قدمت هيئة قضايا
الدولة مذكرة تكميلية بالطلبات ذاتها، وقررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة اليوم.
---------------
" المحكمــة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق -
في أن المدعي في الدعوى الموضوعية، أقام أمام المحكمة الإدارية لمحافظتي
الإسكندرية ومرسى مطروح، الدعوى رقم 10074 لسنة 66 قضائية، ضد المدعى عليهم في
الدعوى السالفة الذكر، طالبًا الحكم بأحقيته في صرف نصف أجره عن مدة حبسه
احتياطيًّا على ذمة القضية رقم 7770 لسنة 2017 جنايات مطروح، وذلك على سند من أن
المدعي يشغل وظيفة عامل مسجد بمديرية أوقاف مطروح، وقد أصدرت جهة الإدارة المدعى
عليها قراراها بحرمانه من نصف أجره، خلال مدة حبسه احتياطيًّا على ذمة القضية
المار ذكرها، والتي حكم فيها ببراءته مما نسب إليه من اتهامات، وصار ذلك الحكم
نهائيًّا بعدم الطعن عليه، وإذ طلب المدعي صرف نصف أجره المحروم منه خلال مدة حبسه
احتياطيًّا؛ أثرًا للقضاء ببراءته من الاتهامات المسندة إليه في تلك القضية، فقد
رفضت جهة الإدارة طلبه؛ استنادًا إلى نص المادة (64) من قانون الخدمة المدنية
الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016، الأمر الذي حدا به إلى إقامة دعواه بطلباته
السالف بيانها. وإذ تراءى لمحكمة الموضوع أن نص المادة (64) من قانون الخدمة المدنية
المشار إليه، فيما تضمنه من حرمان الموظف المحبوس احتياطيًّا، أو تنفيذًا لحكم
جنائي غير نهائي من الحصول على نصف أجره خلال مدة حبسه، حال عودته للعمل، ولم
تتقرر مسئوليته التأديبية، يخالف نصوص المواد (53 و95 و96) من الدستور، فقد أحالت
أوراق الدعوى إلى هذه المحكمة للفصل في دستوريته.
وحيث إنه عن الدفع المبدى من هيئة قضايا الدولة بعدم اختصاص المحكمة
الدستورية العليا بنظر الدعوى المعروضة، على سند من أن حقيقة المناعي الــتي
أثــارهـــا حكـــم الإحالـة تنحـــل إلى طلب إضافـــة حكـــم جديـــد إلى النـــص
المحـال، مما مقتضاه إلزام السلطة التشريعية بتعديل ذلك النص على النحو الذي
يرتئيه، وهو ما يخرج عن اختصاص المحكمة الدستورية العليا، فإنه مردود بأن المقرر
في قضاء هذه المحكمة أن الدستور كفل لكل حق أو حرية نص عليها، الحماية من جوانبها
العملية، وليس من معطياتها النظرية، وتتمثل هذه الحماية في الضمانة التي يكفلها
الدستور لحقوق المواطنين وحرياتهم، التي يعتبر إنفاذها شرطًا للانتفاع بها في
الدائرة التي تصورها الدستور نطاقًا فاعلًا لها، وهذه الضمانة ذاتها هي التي
يُفترض أن يستهدفها المشرع، وأن يعمل على تحقيقها من خلال النصوص القانونية التي
ينظم بها هذه الحقوق وتلك الحريات، باعتبارها وسائله لكفالتها، وشرط ذلك - بطبيعة
الحال - أن يكون تنظيمها كافلًا تنفسها في مجالاتها الحيوية، وأن يحيط بكل أجزائها
التي لها شأن في ضمان قيمتها العملية، فإذا نظمها المشرع تنظيمًا قاصرًا؛ بأن أغفل
أو أهمل جانبًا من النصوص القانونية التي لا يكتمل هذا التنظيم إلا بها، كان ذلك
إخلالًا بضماناتها التي هيأها الدستور لها، وفي ذلك مخالفة لأحكامه.
متى كان ذلك، وكان النص المحال - وفق مؤدى حكم الإحالة - قد أخل
بتنظيم إحدى الضمانات الجوهرية المقررة للموظف العام، بحرمانه من نصف أجره حـال
حبسـه احتياطيًا، إذا ما انتفت مسئوليته الجنائية بصـورة نهائية ولـم تتقرر
مسئوليته التأديبية عن الواقعــة التي حبس احتياطيًّا عنهــا، فإن ذلك مما يخــارج
- بالكلية - مفهوم طلب استحداث تشريع، الممتنع خضوعه لرقابة قضائية على دستوريته؛ ومن
ثم ينعقد الاختصاص بالفصل في دستورية هذا النص إلى هذه المحكمة، ويضحى الدفع بعدم
اختصاصها بالفصل في دستوريته غير سديد، حقيقًا بالالتفات عنه.
وحيث إن نص المادة (64) من قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم
81 لسنة 2016، يجرى على أنه كل موظف يُحبس احتياطيًّا أو تنفيذًا لحكم جنائي يُوقف
عن عمله، بقوة القانون مدة حبسه، ويحرم من نصف أجره إذا كان الحبس احتياطيًّا أو
تنفيذًا لحكم جنائي غير نهائي، ويُحرم من كامل أجره إذا كان الحبس تنفيذًا لحكم
جنائي نهائي.
وإذا لم يكن من شأن الحكم الجنائي إنهاء خدمة الموظف يُعرض أمره عند
عودته إلى عمله على السلطة المختصة لتقرير ما يتبع في شأن مسئوليته التأديبية.
وحيث إن المصلحة في الدعوى الدستورية، وهــي شــرط لقبولهــا، مناطها
- على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة
القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يؤثر الحكم في المسألة الدستورية على
الطلبات المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع، ويستوي في شأن توافر المصلحة
أن تكون الدعوى قد اتصلت بالمحكمة عن طريق الدفع، أو عن طريق الإحالة، والمحكمة
الدستورية العليا هي وحدها التي تتحرى توافر شرط المصلحة في الدعوى الدستورية،
للتثبت من شروط قبولها. بما مؤداه أن الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة
الدستورية العليا لا تفيد بذاتها توافر المصلحة، بل يتعين أن يكون الحكم في
المطاعن الدستورية لازمًا للفصل في النزاع المثار أمام محكمة الموضوع. متى كان
ذلك، وكان النزاع المردد أمام محكمة الموضوع ينصب على طلب المدعي الحكم بأحقيته في
صرف نصف أجره المحروم منه خلال مدة حبسه احتياطيًّا، وذلك لصدور حكم نهائي ببراءته
من الاتهامات المسندة إليه، وكان حرمانه من صرف نصف أجره مرده إلى نص المادة (64)
من قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016؛ ومن ثم فإن الفصل في
دستورية هذا النص يكون ذا أثر وانعكاس أكيد على الدعوى الموضوعية، وقضاء محكمة
الموضوع فيها تتحقق به المصلحة المباشرة في الدعوى المعروضة، ويتحدد نطاقها فيما
تضمنه نص الفقرة الأولى من المادة (64) من قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون
رقم 81 لسنة 2016، من حرمان الموظف الذي يُحبس احتياطيًّا من نصف أجره عن مدة
حبسه، في مجال سريانه على حالات انتفاء المسئولية الجنائية بحكم نهائي، أو قرار
قضائي لا يجوز الطعن عليه.
وحيث إن النص المحال - في النطاق المتقدم - مؤداه أنه أقام قرينة
قانونية قاطعة على ثبوت مخالفة الموظف الذي يُحبس احتياطيًّا لالتزامه الوظيفي،
وخروجه على مقتضى واجبات وظيفته، بما يوجب مجازاته بجزاء تأديبي نهائي؛ هو الحرمان
من نصف أجره خلال مدة حبسه، فلا يجوز سحبه، أو إلغاؤه، متى انتفت المسئولية
الجنائية عن الفعل المنسوب إلى الموظف، بحكم نهائي، أو قرار قضائي لا يجوز الطعن
عليه، حتى ولو لم يشكل الفعل في ذاته مخالفة تأديبية، مما تنتظمها أحكام المادة
(63) من قانون الخدمة المدنية المشار إليه.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد اطرد على أن الدستور هو
القانون الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ويقرر
الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة
التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة
لنشاطها، بما يحــول دون تدخـــل أي منهـــا في أعمال السلطة الأخرى أو
مزاحمتها في ممارسة اختصاصاتها التي ناطها الدستور بها.
وحيث إن الدستور قد اعتمد بمقتضى نص المادة (4) منه مبدأ العدل،
باعتباره إلى جانب مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص، أساسًا لبناء المجتمع وصون وحدته
الوطنية، يستلهمه المشرع وهو بصدد مباشرة سلطته في التشريع. وإذا كان الدستور- على
ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - قد خلا من تحديد معنى العدالة، فإن المقصود بها
ينبغي أن يتمثل فيما يكون حقًّا وواجبًا، سواء في علائق الأفراد فيما بينهم، أو في
نطاق صلاتهم بمجتمعهم، بما مؤداه أن العدالة- في غايتها - لا تنفصل علاقاتها بالقانون باعتباره أداة تحقيقها، فلا
يكون القانون منصفًا إلا إذا كان كافلًا لأهدافها، فإذا ما زاغ المشرع ببصره عنها،
وأهدر القيم الأصيلة التي تحتضنها، كان مُنهيًا للتوافق في مجال تنفيذه، ومسقطًا
كل قيمة لوجوده، ومُستوجبًا تغييره أو إلغاءه.
وحيث إن الدساتير المصريـة المتعاقبة قـد عنيت بتنظيم الوظيفة
العامـة، إذ حرص دستور 1923، ومن بعده دستور 1930 على أن يعهد للمصريين وحدهم
بالوظائف العامة، مدنية كانت أو عسكرية، ولا يولى الأجانب هذه الوظائف إلا في
أحوال استثنائية يعينها القانون، وأجمعت الدساتير الصادرة سنوات 1956 و1958 و1964،
على أن الوظائف العامة تكليف للقائمين بها، ويستهدف موظفو الدولة في أداء أعمال
وظائفهم خدمة الشعب، واعتبر دستور 1971 الوظائف العامة حقًّا للمواطنين، وتكليفًا
للقائمين بها لخدمة الشعب، وتكفل الدولة حمايتهم، وقيامهم بأداء واجباتهم في رعاية
مصالح الشعب، واتخذ دستور سنة 2014 - القائم - من الكفاءة، وعدم المحاباة أو
الوساطة أساسًا لحق المواطنين في شغل الوظائف العامة، مع اعتبار شغلهم لها تكليفًا
لخدمة الشعب، واعتد بكفالة الدولة حقوقهم وحمايتهم، فلا يجوز فصلهم بغير الطريق
التأديبي، إلا في الأحوال التي يحددها القانون، مقابل التزامهم بأداء واجباتهم في
رعاية مصالح الشعب - مبينًا فيما تقدم - الضوابط المتعينة في تنظيم الوظيفة
العامة، بداية من طبيعة شغلها بين الحق والتكليف، مرورًا بشروط ذلك الشغل ونواهيه،
انتهاء بحقوق الشاغلين لها والتزاماتهم، على نحو يضحى معه التزام التنظيم القانوني
للوظيفة العامة تلك الضوابط مناطًا لدستوريته، فيما تكون مخالفتها موطئًا لوقوع
تنظيمها في حومة العوار الدستوري.
وحيث إن النص على تنظيم القانون لحالات استحقاق التعويض، الذي تلتزم
الدولة بأدائه عن الحبس الاحتياطي، أو عن تنفيذ عقوبة صدر حكم بات بإلغاء الحكم
المنفذة بموجبه، الذي استحدثه دستور 2014 في المادة (54) منه، ضمن باب الحقوق
والحريات والواجبات العامة، مؤداه أن التزام الدولة بالتعويض في الأحوال المار
بيانها صار أمرًا مقضيًّا، يتربص صدور تشريع ينظم أحوال التعويض عن الحبس
الاحتياطي، الذي تباشره السلطة القضائية في الدعاوى الجنائية، التي تنتفي فيها
المسئولية الجنائية للمحبوس احتياطيًّا بصورة باتة، ولا كذلك الحال لمن حرمه تشريع
يحكم علاقات وظيفية للمخاطبين بقانون الخدمة المدنية، المعدودة من علاقات القانون
العام، من استئداء نصف أجره الوظيفي المحروم منه خلال مدة حبسه الاحتياطي، فيما لو
انتفت مسئوليته الجنائية بصورة نهائية، عن الوقائع التي حُبس عنها، إذ يغدو
استرداد الموظف نصف أجره الذي حُرم منه - والحال كذلك - بمثابة تعويض عما لحقه من
خسارة، تلتزمه جهة عمل الموظف؛ إنفاذًا للالتزام المنصوص عليه بالمادة (54) من
الدستور، فيما يكون حصوله على باقي عناصر التعويض - في حالات استحقاقه - رهنًا
بصدور التشريع الذي عينه النص الدستوري ذاته، وإلا كان إقرار غير ذلك، افتئاتًا
على التزام الدولة بحماية الملكية الخاصة، وصونها، المنصوص عليه بالمادتين (33
و35) من الدستور، وتفلتًا من تكامل أحكام الدستور، في وحدة عضوية متماسكة، على
النحو الذي تضمنه نص المادة (227) من الدستور ذاته.
وحيث إن افتراض البــراءة -على ما استقر عليه قضــاء هذه المحكمة- لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها؛ ذلك أن القرينة
القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي، ممثلاً في الواقعة مصدر الحق
المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة به، وهذه الواقعة البديلة هي التي
يُعد إثباتها إثباتًا للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة
التي افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها
بديلًا عنها، وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جُبل الإنسان عليها، فقد
ولد حرًّا مبرءًا من الخطيئة أو المعصية، ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل
البراءة ما زال كامنًا فيه، مصاحبًا له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض محكمة
الموضوع بقضاء جازم بات لا رجعة فيه هذا الافتراض.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن شرعية الجزاء -جنائيًّا كان
أم مدنيًّا أم تأديبيًّا- مناطها أن يكـون متناسبًا مـع الأفعـال التي أثمها
المشـرع، أو حظرها أو قيد مباشرتها، وأن الأصل في العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون
التدخل بها إلا بقدر لزومها، نأيًا بها أن تكون إيلامًا غير مبرر يؤكد قسوتها في
غير ضرورة، ولا يجوز بالتالي أن تناقض -بمداها أو طرائق تنفيذها- القيم التي
ارتضتها الأمم المتحضرة.
وحيث إن مفاد نص المادة (97) من الدستور، أن ضمان الدستور لحق التقاضي
مؤداه: ألا يعزل الناس جميعهم، أو فريق منهم، أو أحدهم من النفاذ إلى جهة قضائية،
تكفل بتشكيلها وقواعد تنظيمها ومضمون القواعد الموضوعية والإجرائية المعمول بها
أمامها حدًّا أدنى من الـــحقوق، التـي لا يجوز إنكارها عمن يلجون أبوابها؛ ضمانًا
لمحاكمتهم إنصافًا. وكان لحق التقاضي غاية نهائية يتوخاها، تمثلها الترضية
القضائية التي يناضل المتقاضون من أجل الحصول عليها، لجبر الأضرار التي أصابتهم من
جراء العدوان على حقوق يطلبونها، فإن أرهقها المشرع بقيود تعسر الحصول عليها، أو
تحول دونها، كان ذلك إخلالًا بالحماية التي كفلها الدستور لهذا الحق. ولا ينفك عن
حق التقاضي حق الدفاع أصالة، أو بالوكالة، الذي كفله أيضًا الدستور في المادة (98)
منه، باعتبار أن ضمانة الدفاع لا يمكن فصلها أو عزلها عن حق التقاضي؛ ذلك أنهما
يتكاملان ويعملان معًا في دائرة الترضية القضائية التي يعتبر اجتناؤها غاية نهائية
للخصومة القضائية، فلا قيمة لحق التقاضي ما لم يكن متساندًا لضمانة الدفاع مؤكدًا
لأبعادها، عاملًا من أجل إنفاذ مقتضاها. كذلك لا قيمة لضمانة الدفاع بعيدًا عن حق
النفاذ إلى القضاء، وإلا كان القول بها، وإعمالها واقعًا وراء جدران صامتة.
وحيث إنه عن المناعي التي وجهها حكم الإحالة إلى النص المحال - في
النطاق المحدد سلفًا - فإنها سديدة في جملتها؛ ذلك أن النص بما تضمنه من حرمان
الموظف الذي يُحبس احتياطيًّا من نصف أجره على الرغم من انتفاء مسئوليته الجنائية
بحكم بات، أو قرار قضائي لا يجوز الطعن عليه، إنما يفتئت على مبدأ العدالة،
باعتبار أن التنظيم القانوني لأجر الموظف العام لا يقتصر- فقط - على ما يؤديه من أعمال وواجبات وظيفية، وإنما يتقرر ليستوفي
الموظف العام متطلباته الاجتماعية، ويقوم على إشباع احتياجاته الأسرية، وهو ما
أكده المشرع في العديد من الاستثناءات، التي قررها على قاعدة الأجر مقابل العمل،
وهي استثناءات ترنو في مضمونها إلى تحقيق غاية أسمى من التطبيق التلقائي للقاعدة
المار ذكرها، حاصلها الحرص على الجوانب الإنسانية والاجتماعية والأسرية للموظف العام،
من خلال منحه راتبه كاملًا، متى ثبت أن انقطاعه عن العمل كان لسبب يخرج عن إرادته،
كما أن النص المحال افتقر إلى ضمانة جوهرية مقررة لشاغلي الوظائف العامة؛ هى حصوله
على كامل أجره كلما كان مهيأً لأداء العمل المنوط به، دون أن ينال من هذه الضمانة
عدم أدائه العمل لحبسه احتياطيًّا، مادامت قد انتفت مسئوليته الجنائية بصورة
نهائية عن ارتكاب الفعل الذي نُسب إليه، ليغدو إهدار الضمانة السالف بيانها
إخلالًا من النص المحال بكفالة الدولة لحقوق شاغلي الوظائف العامة، والتفاتًا منه
على ما أضفاه الدستور عليها من حماية، فضلًا عن أن النص المحال قد اتخذ من حبس
الموظف احتياطيًّا قرينة قانونية قاطعة على ثبوت إخلاله بالتزامه الوظيفي، دون
مراعاة لانتفاء الرابطة المنطقية بين الأمرين، مادامت قد انتفت عن الموظف
المسئولية الجنائية بصورة نهائية، مما يكون معه النص المحال قد أخل بأصل البراءة،
التي توثقها حجية الشيء المحكوم فيه، أو الأمر المقضي به، بحسب الأحوال.
وحيث إن النص المحال قد قوض حق الموظف العام الذي يُحبس احتياطيًّا،
وتنتفي مسئوليته الجنائية على نحو نهائي، في المطالبة باسترداد نصف أجره الذي حرم
منه خلال مدة حبسه، جبرًا للضرر المادي محقق الوقوع الذي أصابه، فإن ذلك مما يُشكل
إهدارًا لأصل البراءة، وعدوانًا على استقــلال القضاء والحق في التقاضي، وحق
الدفاع المعدود من بين روافده، وتعطيلًا للحق في التعويض عن الحبس الاحتياطي الذي
تلتزم به الدولة. يُضاف إلى ما تقدم، أن حرمان الموظف من استرداد نصف أجره إنما
يُشكل افتئاتًا على الملكية الخاصة؛ ومن ثم يكون النص المحال قد جاء مخالفًا
للمواد (4 و14 و33 و35 و54 و95 و96 و97 و98 و184) من الدستور، مما لزامه القضاء
بعدم دستوريته.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (64) من قانون
الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016، فيما تضمنه من حرمان الموظف
الذي يُحبس احتياطيًّا من نصف أجره عن مدة حبسه، في مجال سريانه على حالات انتفاء
المسئولية الجنائية بحكم نهائي، أو قرار قضائي لا يجوز الطعن عليه.
استدراك للدعوى 100 لسنة 43 - دستورية - المحكمة الدستورية العليا - الحكم بتاريخ 2023/ 12/ 02
ردحذفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اســـــــتدراك
ورد بالحكم الصادر فى الدعـــوى رقــم 100 لسنة 43 قضائية دستورية بجلسة الرابع من نوفمبر سنة 2023 ، والمنشور بالعدد رقم 44 ( مكرر) بتاريخ 4/ 11/ 2023، في السطر الحادي والعشرين من الصفحة (36) - كلمة بات خطــــــأ، وصحتها: كلمة نهائي
لذا لزم التنويه.