عودة إلى صفحة : اَلْأَعْمَال اَلتَّحْضِيرِيَّةِ لِلْقَانُونِ اَلْمَدَنِيِّ اَلْمِصْرِيِّ
يقصد
من الأحكام التمهيدية أن ينهض القانون المدني بالتبعة التي يلقيها عليه مكانه من النظام
القانوني . فهو من هذا النظام بمثابة الأصل . وما من شك في أن هذا الوضع يقتضي من
التقنين المدني العناية بتنظيم مسائل عامة ، بعضها يتعلق بصياغة " القواعد
القانونية بوجه عام" وبعضها يتصل بتفسير هذه القواعد وتطبيقها .
بهذه
الحقيقة بصر التقنين المدني الفرنسي وقد كان أول مثال احتذته تقنينات القرن التاسع
عشر ، وقد عني هذا التقنين بإبراز مكانة تلك الأحكام التمهيدية من التشريع الجامع
، بوصفها أحكاماً عامة ، يتناول تطبيقها فروع القانون الخاص باسره . وتجلت هذه
العناية في تصدير القواعد الموضوعية التي توفر هذا التشريع على تفصيلها ، بباب
تمهيدي جعل عنوانه " في نشر القوانين وآثارها وتطبيقها بوجه عام ".
وكان
الحيز الذي خص به هذا الباب متواضعاً غاية التواضع ، ولم يجاوز ما تضمن من المواد
ستاً ، بيد أنها عرضت في إيجاز لمسائل افرد المشروع الحالي للشق الأكبر منها أول
فصل من الفصول الثلاثة التي وزعت بينها نصوص الباب التمهيدي منه .
وأولى
هذه المسائل هي مسألة مصادر القانون . ولم يكن في وسع التقنين الفرنسي ، وقد وضع
في عهد ذاع فيه الإيمان بكفاية التشريع دون غيره من المصادر لإنتاج جميع القواعد
القانونية ، إلا أن يجتزئ في شأن هذه المسألة بنصين ، تناول أولهما تعيين الوقت
الذي تصبح فيه القوانين نافذة : وحجر الثاني على المحاكم أن تصدر أحكاماً تنطوي
على قواعد تنظيمية ، وتتعلق المسألة الثانية بالقواعد التي وضعت المحاكم لتطبيقها
على ما يعرض لها من صور التنازع الدولي ما بين القوانين ، وكانت هذه القواعد في
مستهل القرن التاسع عشر في حال من البداوة أبت على التقنين الفرنسي أن يفرد لها
اكثر من مادة واحدة ببن النصوص التمهيدية ، هي المادة 3 .
أما
المسألة الثالثة فتعرض لتعاقب القوانين في الزمان . ويراعى أن حقيقة هذه المسألة
كانت تفتقر إلى الكثير من الوضوح والتحديد عند إصدار التقنين المدني الفرنسي ، حتى
خيل لواضعيه أن في وسعهم إفراغ الأحكام المتعلقة بها في تلك الصيغة الفذة التي
تضمنتها المادة 2 من هذا التقنين وهي صيغة مضللة وإن اتسمت في ظاهرها بالبساطة .
وقد
احتذى التقنين المدني المختلط مثال الشارع الفرنسي فصدر بباب تمهيدي تضمن اربع
عشرة مادة عرضت إحداها لنفاذ القوانين ونشرها ( المادة 1 ) وقررت الثانية عدم
استناد القانون إلى الماضي (المادة 2) وواجهت المادة الثالثة حالة عدم انعدام النص
أو قصوره أو غموضه (المادة 11) أما المواد الباقية فتسع منها عنيت برسم حدود ولاية
القضاء المختلط بالنسبة إلى الأشخاص والمواد من الناحيتين الداخلية والدولية
(المواد 3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9 ، 13 ، 14) وواحدة خصت بقاعدة إقليمية القوانين
(المادة 10) وأخرى أفردت لتنظيم الاختصاصات التشريعية التي كانت تتمتع بها الجمعية
العمومية لمستشاري محكمة الاستئناف المختلطة قبل إلغاء نظام الامتيازات الأجنبية
(المادة 12) .
وقد
ألغيت المواد من 1 إلى 12 بمقتضى المرسوم بقانون رقم 89 لسنة 1937 الخاص بالتشريع
الذي تطبقه المحاكم المختلطة . ولم يستبق هذا المرسوم إلا المادتين 13 و14
الخاصتين ببيان حدود الاختصاص الدولي للمحاكم المختلطة وقد استتبع هذا الإلغاء
إيراد الأحكام الخاصة بسرد مسائل الأحوال الشخصية وتعيين القانون الواجب تطبيقه
عليها في المادتين 28 و29 من لائحة التنظيم القضائي للمحاكم المختلطة ونقل الحكم
الخاص بحالة نقص القانون أو قصوره أو غموضه إلى المادة 52 من هذه اللائحة والظاهر
أن نزع الأحكام المتقدمة من الباب التمهيدي يرجع إلى سببين : الأول أن تلك الأحكام
كانت محلا لمناقشات في مؤتمر إلغاء الامتيازات فكان من الطبيعي أن ترد في الوثائق
التي اسفر عنها.
والثاني
: أن التقنين المدني الأهلي لم يتضمن باباً تمهيدياً وإنما عمد واضعه إلى لائحة
ترتيب المحاكم وصدرها " بأحكام ابتدائية" تتعلق بنفاذ القوانين (المادة
1) وافتراض العلم بها (المادة 2) وعدم استنادها (المادة 3) ونسخها ، أو إلغائها
(المادة 4) ، ثم أضاف إلى تلك الأحكام حكمين آخرين أحدهما افرغ في الفقرة الثانية
من المادة 28 وهي الخاصة ببطلان الاتفاقات المخالفة للنظام العام والآداب والثاني
وضع في المادة 29 وهي التي تحيل القاضي عند انعدام نص صريح في القانون إلى قواعد
العدل والى هذه القواعد والعادات التجارية في " المواد التجارية ".
ولم
يعرض التقنين الأهلي لتنازع القوانين في المكان بطريق مباشر إلا في نصوص المواد 54
( المواريث) و55 (الوصايا) و130 (الأهلية) وهي المقابلة للمواد 77 ، 87 ، 190 من
التقنين المدني المختلط .
ومهما
يكن من شيء ، فمن المسلم أن القواعد العامة التي اشتمل عليها الباب التمهيدي في
التقنين المدني المختلط وصنوها من الأحكام التي أدرجت في لائحتي التنظيم القضائي
للمحاكم الأهلية والمختلطة تمثل عهداً قديماً من عهود صناعة التقنين ، ويتم ما بها
من نقص عن تأخر لا تحمد عقباه ، ولا سيما بعد أن عانى الفقه والقضاء مشقة جسيمة في
سد هذا النقص ، فالقواعد المتعلقة بمصادر القانون وتنازع القوانين في المكان
والزمان قد تطورت في العصر الحديث تطوراً عظيماً في نطاق العلم والتشريع .
وقد
عمد التقنين السويسري إلى وضع القواعد المتعلقة بالتنازع ما بين القوانين في
المكان والزمان في الباب الختامي بعد أن عرض لمصادر القانون في الباب التمهيدي منه
.
ومن
المشاهد أن عدد النصوص التي تضمنها الباب التمهيدي للتقنين المدني الفرنسي قد
تضاعف في الجزء المقابل من التقنين المدني الإيطالي الصادر في سنة 1863 ثم ارتفع
إلى احدى وعشرين مادة في "الأحكام" التي استهل بها أول شق صدر من
التقنين المدني الإيطالي الجديد في سنة 1938 ، ثم إن هذا العدد بلغ ست عشرة مادة
في الباب التمهيدي من التقنين المدني الإسباني واحدى وعشرين مادة في مقدمة التقنين
البرازيلي الصادر في سنة 1916 وزهاء ثلاثين مادة في قانون إصدار التقنين المدني
الياباني .
على
أن الأبواب التمهيدية أو العامة في تلك التقنينات لا تزال بادية القصور في جملتها
رغم اتساع نطاق الأحكام الواردة بها وازدياد عدد النصوص التي أفردت لها على الوجه
المتقدم بيد أن التقنينين اللذين ظفرا من الناحية الدولية بأعظم حظ من التأثير
العلمي في بداية القرن العشرين اختصا هذه الأحكام بقسط أوفى من العناية وكانا في
علاجها اشد منطقاً وأقوم سبيلا فالقانون التمهيدي لإصدار التقنين المدني الألماني
قد تضمن عناصر تنظيم جامع لتنازع القوانين في المكان والزمان . إذ خص هذا التنظيم
بطائفة من النصوص لها من القيمة العلمية ما يجاوز خصوصيات مسائل التطبيق التي قصد
من هذه النصوص إلى مواجهتها .
والتقنين
المدني السويسري نظم هذين النوعين من التنازع ما بين القوانين تنظيماً مفصلاً وعمد
فوق ذلك إلى المساهمة بنصيب المبتدع في بناء نظرية عامة لمصادر القانون ولم يكن
المشروع إلا أن ينتهج في الفصل الأول من بابه التمهيدي نهجاً ابتدعه التقنين
الفرنسي وما زالت تواطئ منه التقنين المدنية اللاحقة .
ففي
هذا الفصل جمعت النصوص الخاصة بمصادر القانون (المادتان 1 ، 2) وبيان حد الاستعمال
الجائز ملحق (المادتان 4 ، 5) والحق به نص يضع قاعدة عامة في حساب المواعيد
(المادة 2 مكررة).
وقد
عني المشروع بأن يبرز الصلة بين القاعدة القانونية والحق فعرض لاستعمال الحقوق
بوصفه وجها من وجوه تطبيق القانون وعالج القيود التي ترد على هذه الحقوق من جراء
تزاحمها ، وقد سلك في هذا العلاج سبيلا قلما عمدت التقنينات السابقة إليه ولذلك لم
يكن بد من أن يستلهم التوجيه بصورة خاصة من قضاء الدول المختلفة خلال السنوات
الأخيرة ، وفي هذه الحدود يساهم المشروع بنصيب ذاتي في العمل على تمكين التقنينات
المدنية من أداء رسالتها في حل المشاكل التي يثيرها تفسير القواعد القانونية بوجه
عام .
أما
الفرع الثاني فقد وقف على تنازع القوانين فخص تنازعها من حيث الزمان بقسم أول (المواد
من 6 إلى 10) وهيأ لتنازعها من حيث المكان القسم الذي يليه (المواد من 11 إلى 31).
وقد
قرر المشروع في أول هذين القسمين القاعدة التقليدية المجملة التي تقضي بعدم استناد
اثر القانون (المادة 6) ثم عرض أحكاما عامة تنظم تعاقب القوانين في الزمان بالنسبة
للأوضاع التي يغلب تأثرها بهذا التعاقب كالأهلية (المادة 7) والتقادم (المادتان 8
، 9) والأدلة المهيأة (المادة 10) ، وعلى هذا النحو أتيح للمشروع في هذا القسم رسم
أسس نظرية جامعة لعدم استناد القوانين فساير احدث اتجاهات الفقه والقضاء والتشريع
وتدارك عيوباً ظاهرة في التقنين الحالي . أما القسم الثاني فيشتمل على تنظيم مفصل
لتنازع القوانين في المكان . (2)
على
أن المشروع لم يكتف بالفصل الأول، بل شفعه بفصلين آخرين أحدهما للأشخاص والآخر لتقسيم
الأشياء والأموال. وقسم الأحكام الواردة في الفصل الخاص بالأشخاص إلى فرعين تناول في
أولهما الأشخاص الطبيعيين فعرض لبدء الشخصية وانتهائها وخصائصها وحمايتها (م 23 - 54).
وتناول في الفرع الثاني الأشخاص المعنوية فعرض لتعريفها وخصائصها وأنواعها وفصل بوجه
خاص القواعد المتعلقة بالجمعيات والمؤسسات (م 55 - 82) . أما الفصل الآخر فقد عقد
لتقسيم الأشياء والأموال . فعرض لجواز التعامل في الأشياء وعدم جواز ذلك (م 83)
والمنقول والعقار وأنواعهما (م 84 - 85) والأشياء القابلة للاستهلاك (م 86)
والأشياء المثلية (م 87) والأموال المعنوية (م 88) والأموال العامة (م 89 - 90) .
وقد
انفرد المشروع بإيراد الفصلين الأخيرين المتعلقين بالأشخاص وتقسيم الأشياء
والأموال مستنداً في ذلك إلى اعتبارين أحدهما خاص والثاني عام فالواقع أن خلو
مشروع تنقيح التقنين المدني المصري من كتاب تجمع فيه القواعد المتعلقة بالأشخاص ،
أو روابط الأحوال الشخصية بوجه عام ، يستلزم الإلمام ببعض أحكام كلية تتصل بتلك
الروابط ، ويتسع لها هذا التقنين دون الشرائع التي تطبق في مسائل الأحوال الشخصية
. على أن هذا الاعتبار لم يكن يكفي وحده لتوجيه مسلك المشروع . فلو قدر أن يتم
تقنين القواعد المتعلقة بالأحوال الشخصية وأن تجمع هذه القواعد مع تقنين المعاملات
المالية في صعيد واحد لبقي لإيراد الفصلين اللذين تقدم ذكرهما معنى التمهيد
للتقنين الجامع كاملا غير منقوص .
ذلك
أن التقنين المدني ينظم مركز الأشخاص بوصفهم مخاطبين بأحكام القانون الخاص من ناحية
ومركز الأموال بوصفها محلا لمعاملات الأشخاص من ناحية أخرى ، فمن المنطقي إذن أن
يمهد لهذا التقنين بفكرة كلية عن الأشخاص والأموال . ولا تقتصر قيمة هذا التمهيد
على الناحية النظرية بل إن له مزايا عملية ظاهرة اخصها التقريب بين أحكام عامة
تتجانس في طبيعتها ، وتهيئة مناسبة موفقة لعرض القواعد المتعلقة بالأشخاص المعنوية
.
(2) رأى واضعو المشروع أن يغفلوا
الشق الخاص بالتنازع الداخلي فيما بين قوانين الأحوال الشخصية ويسقطوه من هذا
الفرع وبذلك تحذف المادة 58 من المشروع لان هذه المادة لا تصلح لعلاج هذا التنازع
فضلا عن أن نظام الطوائف غير الإسلامية ظل محلا لتشريعات وقواعد خاصة وقد عكفت على
دراسته لجان متعاقبة بوزارة العدل لا تزال الأخيرة من بينها قائمة حتى اليوم وقد
أعدت مشروعات قدمت للبرلمان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق