الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 17 سبتمبر 2022

الدعوى رقم 99 لسنة 34 ق دستورية عليا " دستورية " جلسة 3 / 9 / 2022

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثالث من سبتمبر سنة 2022م، الموافق السابع من صفر سنة 1444 هـ.
برئاسة السيد المستشار / بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة المستشارين: الدكتور عادل عمر شريف ورجب عبد الحكيم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد شبل وخالد أحمد رأفت دسوقى والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز نواب رئيس المحكمة وحضور السيد المستشار الدكتور / عماد طارق البشرى رئيس هيئة المفوضين وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر

أصدرت الحكم الآتي
فى الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 99 لسنة 34 قضائية دستورية.

المقامة من
رئيس مجلس إدارة الجمعية التعاونية الإنتاجية للمقاولات ومواد البناء بالمطرية
ضد
1- رئيس الجمهورية
2- رئيس مجلس الشعب مجلس النواب حاليًّــا
3- رئيس مجلس الــوزراء
4- ممدوح محمود محمد الخولي

----------------

" الإجراءات "

بتاريخ العشرين من يونيو سنة 2012، أودعت الجمعية المدعية صحيفة هذه الدعوى، قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبة الحكم بعدم دستورية نص البند (1) من المادة (531) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999، المعدل بالقانون رقم 156 لسنة 2004.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر جلسة 4/ 6/ 2022، وفيها قدمت الجمعية المدعية مذكرتين صممت فيهما على طلباتها، وطلبت في أولاهما إفتاء الأزهر الشريف فى حكم التقادم، فقررت المحكمة بجلسة 2/ 7/ 2022، إصدار الحكم في الدعوى بجلسة اليوم.
-----------------

" المحكمة "

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- في أن النيابة العامة كانت قد أقامت الدعوى رقم 17700 لسنة 2000 جنح مدينة نصر، ضد المدعى عليه الرابع، لإصداره شيكًا مصرفيًّا بتاريخ 4/ 6/ 2000، لصالح الجمعية المدعية، مسحوبًــا على بنك مصر - فـرع المعادي، بمبلغ مائـة ألف جنيه، لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب. وأثناء نظر الدعوى، ادعت الجمعية مدنيًّا، طالبة الحكم بإلزام المدعى عليه الرابع بمبلغ 2001 جنيه، على سبيل التعويض المدني المؤقت، عن الأضرار المادية والأدبية التي لحقت بها. وبجلسة 3/ 12/ 2000، قُــضي غيابيًّــا بحبس المتهم سنتين مع الشغل، وإلزامه بأن يؤدي للجمعية المدعية مبلغ التعويض المدني المؤقت المطالب به، وقد تأيد هذا القضاء بالحكم الصادر فى المعارضة بجلسة 17/ 6/ 2001. لم يستأنف المدعى عليه الرابع هذا الحكم، فصار نهائيًّا. كما أقامت الجمعية المدعية الدعوى رقم 7039 لسنة 2003، أمام محكمة جنح مدينة نصر، بطريق الادعاء المباشر، ضد المدعى عليه الرابع، طلبًــا لعقابه بنصي المادتين (336 و337) من قانون العقوبات؛ لإصداره شيكًا مصرفيًّا لصالح الجمعية المدعية، بتاريخ 11/ 9/ 2002، مسحوبــًا على بنك مصر - فــرع المعادي، بمبلغ مائتي ألف جنيه، لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب، والتعويض المدني المؤقت بمبلغ 2001 جنيه، عن الأضرار التي أصابتها. وبجلسة 5/ 5/ 2003، قضت المحكمة - غيابيًّــا - بحبس المدعى عليه الرابع ثلاث سنوات مع الشغل، وإلزامه بأن يؤدي للجمعية المذكورة مبلغ التعويض المدني المؤقت المطالب به، عما لحق بها من أضرار، ولم يطعن المدعى عليه الرابع على هذا الحكم بأي وجه.
وإذ تقدمت الجمعية المدعية إلى القاضي المختص بمحكمة شمال القاهرة الابتدائية، لاستصدار أمر أداء، قيد برقم 244 لسنة 2009، بطلب إلزام المدعى عليه الرابع بمبلغ ثلاثمائة ألف جنيه، استئداءً لقيمة الشيكين السالف بيانهما. رفض القاضي إصدار الأمر، وحدد جلسة لنظر الموضوع، وقيدت الدعوى برقم 976 لسنة 2009 تجاري كلي شمال القاهرة. وفيها طلبت الجمعية المدعية الحكم بإلزام المدعى عليه الرابع بقيمة الشيكين، والفوائد القانونية من تاريخ المطالبة القضائية. وبجلسة 19/ 9/ 2011، قضت المحكمة بسقوط الحق في المطالبة القضائية بقيمة الشيكين بالتقادم الحولي، استنادًا إلى نص البند (1) من المادة (531) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999، الذي حدد مدة تقادم دعوى رجوع حامل الشيك على الساحب بمضي سنة من تاريخ تقديمه للوفاء أو من تاريخ انقضاء ميعاد تقديمه. لم ترتض الجمعية المدعية هذا الحكم، فطعنت عليه أمام محكمة استئناف القاهـرة بالاستئناف رقم 881 لسنة 15 قضائية. تدوول نظر الاستئناف أمام تلك المحكمة، وبجلسة 29/ 3/ 2012، دفعت الجمعية المدعية بعدم دستورية نص البند (1) من المادة (531) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999 المعدل بالقانون رقم 156 لسنة 2004، فقررت المحكمة حجز الاستئناف للحكم لجلسة 24/ 4/ 2012، وبتلك الجلسة قررت المحكمة إعادة الاستئناف للمرافعة، وصرحت للجمعية المدعية، بعد تقديرها جدية الدفع، بإقامة الدعوى الدستورية في أجل غايته 27/ 6/ 2012، فأقامت الدعوى المعروضة.
وحيث إن نص البند (1) من المادة (٥٣١) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999 المعدل بالقانون رقم 156 لسنة 2004، يجري على أنه:
١ - تتقادم دعاوى رجوع حامل الشيك على الساحب والمظهرين وغيرهم من الملتزمين بدفع قيمة الشيك بمضي سنة من تاريخ تقديمه للوفاء أو من تاريخ انقضاء ميعاد تقديمه.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة في الدعوى الدستوريـة، وهى شرط لقبولها، مناطها - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحـة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يؤثر الحكم في المسألة الدستورية على الطلبات المرتبطـة بها والمطروحة على محكمة الموضوع.
متى كان ذلك، وكان جوهر النزاع الموضوعي يدور حول طلب الجمعية المدعية الحكم بإلزام المدعى عليه الرابع - الساحب - بأداء قيمة الشيكين المشار إليهما، المسحوبين على البنك المار ذكره، خلال عامي 2000 و2002، وقد ووُجهت دعواها بحكم محكمة شمال القاهرة الابتدائية الصادر بجلسة 19/ 9/ 2011، في الدعوى رقم 976 لسنة 2009 تجاري كلي، الذي قضى بسقوط الحق في المطالبة القضائية في دعوى الرجوع على المدعى عليه الرابع بقيمة الشيكين موضوع هذه الدعوى بالتقادم الحولي، وقد شادت المحكمة قضاءها استنادًا إلى نص البند (1) من المادة (531) من قانون التجارة الآنف بيانه، ومن ثم فإن الفصل في دستورية هذا النص، سيكون له انعكاس أكيد وأثر مباشر على الطلبات المطروحة في الدعوى الموضوعية، وقضاء محكمة الموضوع فيها، مما يتوافر معه شرط المصلحة الشخصية المباشرة فى الدعوى الدستورية المعروضة، ويتحدد فى البند المشار إليه، نطاق هذه الدعوى.
وحيث إن الجمعية المدعية تنعى على النص المطعون فيه، مخالفته مبادئ الشريعة الإسلامية، لإقراره تقادم دعوى رجوع حامل الشيك على الساحب والمظهرين وغيرهم من الملتزمين بدفع قيمة الشيك بمضي سنة من تاريخ تقديمه للوفاء أو انقضاء تاريخ تقديمه، حال أن الشريعة الإسلامية حددت لانقضاء الدين طريقين دون غيرهما، إما الوفاء أو الإبراء، إعمالاً لقول الله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} الآيتان رقما (188) من سورة البقرة، و(29) من سورة النساء، وما ظاهر ذلك من الأحاديث النبوية الشريفة التي تعظم من واجب الوفاء بالدين، وتغلظ العقاب على عدم الوفاء به، وإخلال النص المطعون فيه بمبدأي المساواة وتكافؤ الفرص، والحق فى التقاضي، فضلاً عن تعارضه مع نصي المادتين (534) من قانون التجارة الفائت ذكره، و(15) من قانون الإجراءات الجنائية.
وحيث إنه عن طلب الجمعية المدعية إفتاء الأزهر الشريف عن حكم سقوط الدين بالتقادم، فإن هذه المحكمة لا ترى وجهًــا لإجابة الطلب المار ذكره؛ كونها السلطة المختصة وحدها، دون غيرها، بالرقابة القضائية على موافقة النص التشريعي المطعون فيه لأحكام الدستور، الذي أكدت ديباجته أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وأن المرجع في تفسيرها هو ما تضمنه مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا في ذلك الشأن، وذلك كله دون إخلال بسلطة هذه المحكمة في طلب الإيضاح الذي تراه لازمًا للفصل في الدعوى الدستورية.
وحيث إنه عما نعت به الجمعية المدعية من تعارض النص المطعون عليه مع نص المادة (534) من قانون التجارة، الذي خلا من تنظيم مدة تقادم الدعوى الجنائية في جرائم الشيك، مما مؤداه الإحالة إلى نص المادة (15) من قانون الإجراءات الجنائية، الذي يقضي بأن مدة تقادم الدعوى الجنائية في الجنح ثلاث سنوات، حال أن دعوى الرجوع في النص المطعون عليه تتقادم بمدة سنة من تاريخ تقديم الشيك للوفاء، أو من تاريخ انقضاء ميعاد تقديمه، فإن هذا النعي مردود، بأن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن مناط اختصاصها بالفصل في دستورية القوانين واللوائـح، أن يكـون مبنى الطعـن هـو مخالفة التشريع لنص دستـوري، ولا شأن لها بالتعارض بين نصين تشريعيين جمعهما قانون واحد أو تفرقا بين قانونين مختلفين، ما لم يكن هذا التعارض منطويًــا - بذاته - على مخالفة دستورية. متى كان ذلك، وكان هـذا النعي - أيًّــا كان وجه الرأي في قيـام هذا التعارض من عدمه - لا يعدو أن يكون نعيًا بمخالفة قانون لقانون، وهو ما لا تمتد إليه ولاية هذه المحكمة، ولا يشكل بذلك خروجًــا على أحكام الدستور، ومن ثم فإن المحكمة تلتفت عنه.
وحيث إن الرقابة على دستورية القوانين واللوائح، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم، دون غيره، إذ إن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلاً - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - صون الدستور القائم، وحمايته من الخروج على أحكامه، لكون نصوصه تمثل دائمًـا القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها، ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعي الدستورية التي وجهتها الجمعية المدعية للنص المطعون عليه، تندرج تحت المناعي الموضوعية التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي معين لقاعدة في الدستور، من حيث محتواها الموضوعي، ومن ثم فإن المحكمة تباشر رقابتها على النص المطعون عليه - الذي مازال ساريًا ومعمولاً بأحكامه - من خلال أحكام دستور سنة 2014، باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.
وحيث إنه عما نعت به الجمعية المدعية على النص المطعون عليه مخالفة مبادئ الشريعة الإسلامية، فلما كان قضاء المحكمة الدستورية العليا قد اطرد على أن ما نص عليه دستور 1971 في مادته الثانية، بعد تعديلها في سنة 1980 - التي تردد حكمها في المادة الثانية من الدستور القائم - من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، إنما يتمحض عن قيد يجب على السلطة التشريعية أن تتحراه وتنزل عليه في تشريعاتها الصادرة بعد هذا التعديل، فلا يجوز لنص تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعًــا، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية، وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً. ومن غير المتصور تبعًــا لذلك أن يتغير مفهومها بتغير الزمان والمكان، إذ هي عصية على التعديل، ولا يجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها. وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا في شأنها على مراقبة التقيد بها، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها. ذلك أن المادة الثانية من الدستور، تقدم على هذه القواعد أحكام الشريعة الإسلامية في أصولها ومبادئها الكلية، إذ هي إطارها العام، وركائزها الأصلية التي تفرض متطلباتها دومًــا بما يحول دون إقرار أي قاعدة قانونية على خلافها؛ وإلا اعتبر ذلك تشهيًــا وإنكارًا لما عُلم من الدين بالضرورة. ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهمـا معًــا، ذلك أن دائـرة الاجتهاد تنحصر فيها، ولا تمتد لسواها. وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان، لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيمًــا لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعًــا، ولا يعطل بالتالي حركتهم في الحياة، على أن يكون الاجتهاد دومًــا واقعًــا في إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها، ملتزمًـا ضوابطها الثابتة، متحريًــا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية، والقواعد الضابطة لفروعها، كافلاً صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الاجتهاد في المسائل الخلافية التي لا يجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقض كمال الشريعة ومرونتها. وليس الاجتهاد إلا جهداً عقليًّــا يتوخى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وهو بذلك لا يجوز أن يكون تقليداً محضاً للأولين، أو افتراء على الله كذباً بالتحليل أو التحريم، في غير موضعيهما، أو عزوفاً عن النزول على أحوال الناس والصالح من أعرافهم. وإعمال حكم العقل فيما لا نص فيه، توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بين عباده، مرده أن هذه القواعـد تسعها الشريعة الإسلامية، إذ هى غير منغلقة على نفسها، ولا تضفى قدسية على أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها، ولا تحول دون مراجعتها، وتقييمها، وإبدالها بغيرها. فالآراء الاجتهادية ليس لها - في ذاتها - قوة ملزمة متعدية لغير القائلين بها. ولا يجوز بالتالي اعتبارها شرعًــا ثابتًــا متقررًا لا يجوز أن يُنقض، وإلا كان ذلك نهيًــا عن التأمل والتبصر في دين الله تعالى، وإنكارًا لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل اجتهاد. ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره. وربما كان أضعف الآراء سندًا، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفاً لأقوال استقر عليها العمل زمناً. ولئن جاز القول بأن الاجتهاد في الأحكام الظنية، وربطها بمصالح الناس عن طريق الأدلة الشرعية - النقلية منها والعقلية - حق لأهل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا الحق ثابتًــا لولي الأمر، يستعين عليه - في كل مسألة بخصوصها وبما يناسبها - بأهل النظر في الشئون العامة، إخمادًا للثائرة وبما يرفع التنازع والتناحر ويبطل الخصومة، على أن يكون مفهوماً أن اجتهادات السابقين، لا يجوز أن تكون مصدراً نهائيًّا أو مرجعًا وحيدًا لاستمداد الأحكام العملية منها؛ بل يجوز لولي الأمر أن يشرع على خلافها، وأن ينظم شئون العباد في بيئة بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة، بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله، مستلهمًا في ذلك حقيقة أن المصالح المعتبرة، هي التي تكون مناسبة لمقاصد الشريعة متلاقية معها، وهى بعد مصالح لا تتناهى جزئياتها، أو تنحصر تطبيقاتها، ولكنها تتحدد - مضمونًا ونطاقًا - على ضوء أوضاعها المتغيرة. وليس ذلك إلا إعمالاً للمرونة التي تسعها الشريعة الإسلامية في أحكامها الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور، والتي ينافيها أن يتقيد ولي الأمر في شأنها بآراء بذاتها لا يريم عنها، أو أن يقعد باجتهاده بصددها، عند لحظة زمنية معينة، تكون المصالح المعتبرة شرعًا قد جاوزتها. وتلك هي الشريعة الإسلامية في أصولها ومنابتها، متطورة بالضرورة، نابذة الجمود لا يتقيد الاجتهاد فيها - وفيما لا نص عليه - بغير ضوابطها الكلية، وبما لا يعطل مقاصدها.
وحيث إن الأصـل فـي أحكـام الشريعـة الإسلاميـة أن الحقـوق المالية لا تسقط بالتقادم، فتبقى في ذمة المدين بها إلى يوم الحساب، إلا أن الفقه الإسلامي قد اختلف في شأن سقوط دعوى المطالبة بالدين بمضي المدة، فذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم سقوط دعوى المديونية مهما طال عليها الزمن. وعلى خلاف هذا الاجتهاد انحاز المالكية والمتأخرون من الحنفية، إلى جواز منع ولي الأمر القاضي مـن سمـاع الدعـوى القديمـة التي طالت مدتهـا بحيث يتعـذر، أو يصعب صدقها، أو إصابتها عرفًــا وعادة، تلافيًا للتحايل والتدليس والتزوير.
متى كان ما تقدم، وكان ما طواه النص المطعون فيه من أحكام، لم يرد بشأنها نص قطعي الثبوت والدلالة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومن ثم يجوز الاجتهاد فيها، تنظيمًــا لشئون العباد، بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعًــا، ولا يُعطل حركتهم في الحياة، وذلك في إطار الأصول الكلية للشريعة، وبما يصون مقاصدها العامة، وقد جاء حكم النص المطعون فيه استنادًا إلى جواز تخصيص القضاء بالزمان والمكان والحوادث والأشخاص، بحسبانه من القواعد الشرعية المقررة، وأنه يجوز لولي الأمر أن يمنع قضاته من سماع بعض الدعاوى، أو أن يقيد سماعها بما يراه من القيود تبعًــا لأحوال الزمان وحاجة الناس، وصيانة حقوقهم من العبث والضياع، وهو ما سعى المشرع إلى تحقيقه في النص المطعون فيه، من خلال تحديد أجل مناسب لتقادم دعاوى رجوع حامل الشيك على الساحب والمظهرين وغيرهم من الملتزمين بدفع قيمة الشيك، بالنظر إلى طبيعته التجارية، ومن ثم يكون هذا النص قد جاء متفقًــا والمقاصد العامة للشريعة، بما تقتضيه من الحفاظ على المال، وبما لا مخالفة فيه لمبادئ الشريعة الإسلامية، على النحو الذي عنته المادة (2) من الدستور.
وحيث إنه عما نعت به الجمعية المدعية على النص المطعون عليه، إخلاله بمبدأ المساواة، لتقريره مدة تقادم دعوى رجوع حامل الشيك على الساحب والمظهرين وغيرهم من الملتزمين بدفع قيمة الشيك، بمضى سنة، بالمغايرة لمواعيد تقادم دعاوى الدائنين الأخرى، فإنه مردود بأن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الدستور الحالي قد اعتمد بمقتضى نص المادة (4) منه مبدأ المساواة، باعتباره إلى جانب مبدأي العدل وتكافؤ الفرص، أساسًــا لبناء المجتمع وصيانة وحدته الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور في المادة (53) منه، على كفالة تحقيق المساواة لجميع المواطنين أمام القانون، في الحقوق والحريات والواجبـات العامة، دون تمييز بينهم لأى سبب، إلا أن ذلك لا يعني أن تعامل فئاتهم على ما بينها من تفاوت في مراكزها القانونية معاملة قانونية متكافئة. كذلك لا يقوم هذا المبدأ على معارضة صور التمييز جميعها، ذلك أن من بينها ما يستند إلى أسس موضوعية ولا ينطوي بالتالي على مخالفة لنص المادتين (4، 53) المشار إليهما، بما مؤداه أن التمييز المنهي عنه بموجبهما هو ذلك الذي يكون تحكميًّــا، وأساس ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل لتحقيق أغراض بعينها تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التي يسعى المشرع إلى تحقيقها من وراء هذا التنظيم، فإذا كان النص المطعون عليه - بما انطوى عليه من تمييز - مصادمًــا لهذه الأغراض بحيث يستحيل منطقًــا ربطه بها أو اعتباره مدخلاً إليها، فإن التمييز يكون تحكميًّا وغير مستند بالتالي إلى أسس موضوعية، ومن ثم مجافيًا لمبدأ المساواة.
وحيث إن المركز القانوني لحامل الشيك يتباين عن المركز القانوني للدائنين في دعاوى استحقاق الديون الأخرى، ذلك أن الشيك بحسبانه ورقة تجارية عدها المشرع أن تكون أداة وفاء تستحق قيمتها - بحسب الأصل- بمجرد الاطلاع عليها، والأصل أن يحتج بالقيمة الثابتة في الشيك مجردة عن سبب المديونية، ودونما ارتباط بطبيعة العلاقة بين أطراف الشيك، وذلك في مواجهة حامله حسن النية، الأمر الذي يسوغ معه للمشرع أن يغاير في أحكام تقادم دعوى الرجوع في الشيكات عن تقادم غيرها من سندات المديونية. لما كان ذلك، وكان المشرع قد استهدف من تحديد مدة سنة لتقادم دعوى الرجوع على الساحب والمظهرين وغيرهم من الملتزمين بدفع قيمة الشيك، حث حامل الشيك على المبادرة بإقامة دعوى الرجوع على الساحب والمظهرين والملتزمين بدفع قيمة الشيك، مراعيًــا في ذلك طبيعة هذه الورقة التجارية، بصفتها أداة وفاء، وحرصه على إنهاء المنازعات المترتبة عليها في مدة معقولة. فضلاً عما تقدم، فإن المغايرة بين المدة المقررة لتقادم دعوى رجوع حامل الشيك على الساحب والمظهرين وغيرهم من الملتزمين بدفع قيمة الشيك، ومدة دعــواه بالرجوع على البنك المسحــوب عليه، تجد سندها في اختلاف المركز القانوني بين المدين الأصلي (الساحب أو المظهر أو الملتزم بدفع قيمة الشيك)، والمركز القانوني لمدين المدين (البنك المسحوب عليه)، إذ إن إلزام حامل الشيك للبنك المسحوب عليه بقيمة الشيك بديلاً عن مطالبة المدين الأصلي، مناطه ثبوت امتناع البنك المسحوب عليه عن الوفاء بقيمة الشيك، رغم وجود رصيد قائم وقابل للسحب في تاريخ تقديمه، وانتفاء أي مانع قانوني يحول دون الوفــاء بقيمة الشيك - كله أو بعضه - لحامله. ومن ثم يكون النص المطعون فيه، قد التزم تخوم الشرعية الدستورية في خصوص مبدأ المساواة، ويضحى النعي بمخالفتها لا سند له، متعينًا رفضه.
وحيث إنه عن النعي بإخلال النص المطعون فيه بحق التقاضي، لقصره مدة تقادم دعوى رجوع حامل الشيك على الساحب والمظهرين بمضي سنة واحدة من تاريخ تقديمه للوفاء، أو من تاريخ انقضاء ميعاد تقديمه، فإن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن للمشرع سلطة تقديرية في موضوع تنظيم الحقوق، ما لم يقيدها الدستور بضوابط معينة تعتبر حدًّا لها يحول دون إطلاقها، وقد جرى قضاء هذه المحكمة على أنه ليس ثمة تناقض بين حق التقاضي كحق دستوري أصيل وبين تنظيمه تشريعيًّا، بشرط ألا يتخذ المشرع هذا التنظيـم وسيلة إلى حظر هذا الحق أو إهداره. متى كان ذلك، وكان النص المطعون فيه لا ينال من ولاية القضاء ولا يعزل المحاكم عن نظر منازعات معينة مما تختص به، بل يقتصر على تحديد ميعاد يسقط بانقضائه الحق في رفع الدعوى محل النص المطعون عليه، وليس ذلك إلا تنظيمًا تشريعيًّا للحق في التقاضي - ولا مخالفة فيه لنص المادة (97) من الدستور.
وحيث إنه عن النعي بإخلال النص المطعون فيه، بمبدأ تكافؤ الفرص، فإن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن مضمون مبدأ تكافؤ الفرص الذي تكفله الدولة للموطنين كافة وفقًــا لنص المادتين (4 و9) من الدستور؛ إنما يتصل بالفرص التي تتعهد الدولة بتقديمها، ومن ثم فإن مجال إعماله يقع عند تنظيم قواعد التزاحم عليهـا، لتكون غاية الحماية الدستورية لتلك الفرص تقرير أولوية - في مجال الانتفاع بها - لبعض المتزاحمين على بعض، وهى أولوية تتحدد وفقًــا لأسس موضوعية يتحقق من خلالها التكافؤ في الفرص، ويقتضيها الصالح العام، ومن ثم، فإن مجال إعمال مبدأ تكافؤ الفرص في نطاق تنظيم التقادم في النص المطعون عليه، الذي قرر تقادم دعوى رجوع حامل الشيك على الساحب والمظهرين وغيرهم من الملتزمين بدفع قيمة الشيك بمضي سنة، يكون منتفيًــا، إذ لا صلة له بفرص قائمة يجرى التزاحم عليها، الأمر الذي يضحى معه هذا النعي على غير أساس متعين الرفض.
لما كان ذلك، فإن النص المطعون عليه لا يخالف أحكام المواد (2، 4، 9، 53، 97) من الدستور، كما لا يخالف أي حكم آخر من أحكامه، ومن ثم يتعين القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت الجمعية المدعية المصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق