جلسة 11 من فبراير سنة 1956
برئاسة السيد/ السيد علي
السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة الإمام الإمام الخريبي وحسن جلال وعلي
إبراهيم بغدادي، ومصطفى كامل إسماعيل المستشارين.
---------------
(60)
القضية رقم 175 لسنة 1
القضائية
(أ) قرار إداري - عدم
تولد أثره حالاً ومباشرة إلا إذا كان ذلك ممكناً وجائزاً قانوناً أو متى أصبح كذلك
- مثال بالنسبة لقرار مجلس الوزراء في 26/ 5/ 1945 بإنصاف خريجي المعلمين الثانوية
والذي يقتضي إعماله استصدار قانون بفتح اعتماد إضافي - تولد الأثر بعد صدور قرار
لمجلس الوزراء في 1/ 6/ 1947.
(ب) اعتماد مالي - مجاوزة
الإدارة لحدود الاعتماد المقرر من السلطة التشريعية، أو للغرض المقصود منه، أو
للوقت المحدد لاستخدامه، أو تصرفها قبل فتح الاعتماد اللازم - أثر ذلك على صحة
التصرف ونفاذه - التفرقة بين الرابطة العقدية والعلاقة التنظيمية - صحة التصرف
ونفاذه في الحالة الأولى دون الثانية - أساس ذلك.
(جـ) مرتب - مركز الموظف
بالنسبة لمرتبه في المستقبل مركز قانوني عام يجوز تغييره - مركزه بالنسبة لمرتبه
الذي حل فعلاً مركز قانوني ذاتي ينطوي على حق مكتسب لا يجوز المساس به إلا بنص خاص
في قانون وليس في أداة أدنى - لا يقف في طريق استيفاء هذا الحق المكتسب تعلل
الإدارة بنفاد الاعتمادات المالية المقررة من قبل، أو عدم التأشير من المراجع
المختص بمراقبة الصرف.
---------------
1 - إن القرار الإداري لا
يولد أثره حالاً ومباشرة، إلا حيث تتجه الإرادة لإحداثه على هذا النحو، كما أنه لا
يتولد على هذا الوجه، إلا إذا كان ممكناً وجائزاً قانوناً أو متى أصبح كذلك، وهذا
كله مستمد من طبيعة القرار الإداري باعتباره إفصاح الجهة الإدارية المختصة في
الشكل الذي يتطلبه القانون عن إرادة ملزمة، بما لها من سلطة بمقتضى القوانين
واللوائح، بقصد إحداث أثر قانوني معين يكون ممكناً وجائزاً قانوناً ابتغاء مصلحة
عامة. وقرار 26 من مايو سنة 1945 الخاص بإنصاف حملة شهادة المعلمين الثانوية ما
كان قد استكمل جميع المراحل اللازمة قانوناً في هذا الصدد؛ لأن المادة 143 من
الدستور الملغي - النافذ وقتذاك - كانت تقضي بأن "كل مصروف غير وارد
بالميزانية أو زائد على التقديرات الواردة بها يجب أن يأذن به البرلمان".
ولهذا فلئن كان مجلس الوزراء قد وافق على اقتراح اللجنة المالية حينذاك من حيث
المبدأ، إلا أنه لما كان الأمر يقتضي استصدار قانون بفتح اعتماد إضافي فقد سارت
وزارة المالية في الطريق الدستوري السليم فقدرت التكاليف بمبلغ 23000 جنيه لمدة
سنة، وتقدمت إلى البرلمان لاستصدار قانون بفتح اعتماد إضافي بهذا المبلغ، فنوقش
الموضوع وأعيد بحثه واستقر الرأي على أن يكون إنصاف حملة هذا المؤهل على أساس
التعيين في الدرجة السابعة وترقيتهم إلى الدرجة السادسة بماهية 500 م و10 ج بعد
ثلاث سنوات من تاريخ التعيين الأول - مع مراعاة مايو - حتى لا يكونوا أحسن حالاً
من حملة الشهادات العالية، وقدرت التكاليف على هذا الأساس بمبلغ 15000 ج، واعتنقت
وزارة المالية هذا الرأي وقدمت مذكرة بهذا المعنى إلى مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة
في أول يونيه سنة 1947 فوافق عليها، وبذلك يكون القرار الأخير هو الذي يولد أثره
بعد أن اتجهت إرادة الإدارة إلى إحداثه على هذا النحو، وبعد أن أصبح ذلك جائزاً أو
ممكناً قانوناً بفتح الاعتماد الإضافي المخصص لهذا الغرض من الجهة التي تملك الإذن
به، وهي البرلمان بمجلسيه.
2 - يجب التمييز بين
العقود الإدارية التي تعقدها الإدارة مع الغير وبين علاقة الموظف بالحكومة،
فالرابطة في الحالة الأولى هي رابطة عقدية تنشأ بتوافق إرادتين وتولد مراكز
قانونية فردية وذاتية مصدرها العقد، وفي الحالة الثانية هي علاقة تنظيمية عامة
مصدرها القوانين واللوائح، ولا ريب في أن لهذا الاختلاف في طبيعة الروابط
القانونية أثره في نفاذ أو عدم نفاذ التصرف إذا استلزم الأمر اعتماد المال اللازم
من البرلمان، فالثابت في فقه القانون الإداري أن العقد الذي تبرمه الإدارة مع
الغير - كعقد من عقود الأشغال العامة أو التوريد مثلاً - ينعقد صحيحاً وينتج آثاره
حتى ولو لم يكن البرلمان قد اعتمد المال اللازم لهذه الأشغال، أو حتى لو جاوزت
الإدارة حدود هذا الاعتماد، أو لو خالفت الغرض المقصود منه، أو لو فات الوقت
المحدد لاستخدامه، فمثل هذه المخالفات - لو وجدت من جانب الإدارة - لا تمس صحة
العقد ولا نفاذه، وإنما قد تستوجب المسئولية السياسية. وعلة ذلك ظاهرة؛ وهي أن هذه
العقود الإدارية التي تبرمها الإدارة مع الغير هي روابط فردية ذاتية، وليست
تنظيمية عامة، ويجب من ناحية حماية هذا الغير، ومن ناحية أخرى عدم زعزعة الثقة في الإدارة،
فليس في مقدور الفرد الذي يتعاقد معها أن يعرف مقدماً ما إذا كان قد صدر اعتماد أو
لم يصدر، وما إذا كان يسمح بإبرام العقد أو لا يسمح، وما إذا كان العقد في حدود
الغرض المخصص له الاعتماد أو ليس في حدود هذا الغرض، كل أولئك من الدقائق التي
يتعذر على الفرد العادي بل الحريص التعرف عليها. ولو جاز جعل صحة العقود الإدارية
أو نفاذها رهناً بذلك لما جازف أحد بالتعاقد مع الإدارة، ولتعطل سير المرافق
العامة. ولكن الحال جد مختلف بالنسبة للاعتمادات المالية اللازمة لنفاذ القرارات
التنظيمية العامة في شأن الموظفين، كالقرارات العامة المتعلقة برفع درجاتهم أو
زيادة مرتباتهم؛ إذ مركزهم هو مركز تنظيمي عام، فلزم أن يستكمل هذا التنظيم جميع
أوضاعه ومقوماته التي تجعله نافذاً قانوناً. ومن الثابت في فقه القانون الإداري أن
تحديد درجات الموظفين أو تحديد مرتباتهم يجب أن يصدر من السلطة المختصة بذلك حتى
يكون نافذاً ومنتجاً أثره قانوناً، وأنه وإن كان الأصل أن ذلك عمل إداري من اختصاص
السلطة التنفيذية، إلا أنه إذا كانت الأوضاع الدستورية تستوجب اشتراك البرلمان في
هذا التنظيم لاعتماد المال اللازم لهذا الغرض، فإنه يتعين على السلطة التنفيذية
استئذانه في هذا الشأن، وأنه إذا تم تنظيم الدرجات وتحديد المرتبات باشتراك السلطة
التنفيذية مع البرلمان على وجه معين عند الإذن بالاعتماد وجب على السلطة التنفيذية
احترام إرادة البرلمان، والتزام التنظيم الذي تم على هذا الأساس.
3 - إذا استوفى التنظيم
العام أوضاعه ومقوماته التي تجعله نافذاً قانوناً واستحق الموظف على مقتضاه مرتبه
بحلول ميعاده، أصبح هذا المرتب حقاً مكتسباً له واجباً أداؤه، لا يحول دون ذلك
نفاذ الاعتمادات المقررة من قبل، أو عدم كفايتها، ولو رفض الموظف المختص لهذا
السبب أو ذاك التأشير بالصرف، وغاية الأمر أن ذلك قد يستدعي فقط تأخير الصرف إلى
أن تدبر الإدارة المال اللازم؛ ذلك أنه إذا كان مركز الموظف بالنسبة لمرتبه في
المستقبل هو مركز قانوني عام يجوز تغييره في أي وقت، فإن مركزه بالنسبة لمرتبه
الذي حل فعلاً هو مركز قانوني ذاتي ولد له حقاً مكتسباً واجب الأداء، لا يجوز
المساس به إلا بنص خاص في قانون وليس في أداة أدنى منه كلائحة، فلا يقف في سبيل
استيفائه هذا الحق ما قد تتعلل به الإدارة من نفاذ الاعتمادات المقررة من قبل، أو
عدم كفايتها، أو عدم التأشير من المراجع المختص بمراقبة الصرف.
إجراءات الطعن
في 11 من أغسطس سنة 1955
أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة طعناً في الحكم الصادر بجلسة 13 من يونيه سنة
1955 من المحكمة الإدارية لوزارة التربية والتعليم، الذي يقضي: "بأحقية
المدعي لتسوية حالته بالتطبيق لقرار مجلس الوزراء الصادر في 26 من مايو سنة 1945
مع ما يترتب على ذلك من آثار". وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين: "الحكم
بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، ورفض الدعوى مع إلزام
المدعي بالمصاريف".
وقد أعلن هذا الطعن
لوزارة التربية في 21 من أغسطس سنة 1955 وإلى محمد محمد عبد الله خان في 24 من
أغسطس سنة 1955. وعين لنظر الطعن جلسة 14 من يناير سنة 1956، ثم حجزت الدعوى
لإصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق
وسماع الإيضاحات على الوجه المبين بالمحضر وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن استوفى
أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه
المنازعة، حسبما يستفاد من أوراق الطعن، تتحصل في أن المدعي أقام الدعوى رقم 6940
سنة 2 ق ضد وزارة التربية والتعليم، وقال في بيانها إنه تخرج في مدرسة المعلمين
الثانوية، ثم عين في وزارة التربية والتعليم بمرتب شهري قدره عشرة جنيهات في
الدرجة السابعة، وأن مجلس الوزراء أصدر بعد ذلك قراره المتضمن لقواعد الإنصاف في
30 من يناير سنة 1944 دون أن يدرج به مؤهل المتخرجين في هذا المعهد؛ لأنه كان قد
ألغى في سنة 1932 وترتب على هذا الوضع أن حملة هذا المؤهل حرموا من الإنصاف، ولكن
وزارة التربية استجابت لشكاواهم فاقترحت إنصافهم على أساس جعل تعيينهم في الدرجة
السادسة بماهية مقدارها عشرة جنيهات ونصف شهرياً، ووافق مجلس الوزراء في 26 من
مايو سنة 1945 على هذا الاقتراح. وتقدمت وزارة المالية إلى البرلمان بطلب فتح
الاعتماد اللازم للتنفيذ، ولكن تأخر فتح هذا الاعتماد حتى صدر قانون التنسيق في
أول يونيه سنة 1947 متضمناً وضع أساس جديد لإنصاف طائفة المتخرجين من هذا المعهد،
وهو أن يوضعوا في الدرجة السابعة بمرتب قدره عشرة جنيهات ثم ينقلوا إلى الدرجة
السادسة بعد ثلاث سنوات من تعيينهم بمرتب قدره عشرة جنيهات ونصف. وقد قامت وزارة
التربية بتسوية حالة المدعي على هذا الأساس، ولما كان يرى أن حقه قد تولد بقرار 26
من مايو سنة 1945 فقد رفع دعواه المشار إليها طالباً تسوية حالته على مقتضاه مع
جميع ما يترتب على ذلك من آثار، فقضت المحكمة الإدارية لوزارة التربية والتعليم
لصالحه بحكمها الصادر في 13 من يونيه سنة 1955؛ استناداً إلى أن القرار المشار إليه
صدر عاماً ومطلقاً من أي قيد، فيعتبر ناجزاً من تاريخ صدوره، وأنه لا اعتداد
بالكتاب الدوري الذي أذاعته وزارة المالية بعد ذلك وعلقت فيه تنفيذ ذلك القرار على
استصدار الاعتماد المالي؛ لأن السلطة الدنيا (وزارة المالية) لا تملك تقييد ما
أطلقته السلطة العليا (مجلس الوزراء)، كما أنه ليس لمجلس الوزراء أن يعدل من
المراكز القانونية التي أنشأها قراره الصادر في 26 من مايو سنة 1945؛ لأن المساس
بالحقوق المكتسبة لا يكون إلا بقانون ينص على الأثر الرجعي حتى ولو كانت تلك
الحقوق مستمدة من قرارات تنظيمية عامة.
فطعن السيد رئيس هيئة
المفوضين في هذا الحكم، ناعياً عليه أنه بني على مخالفة القانون والخطأ في تطبيقه
وتأويله، وقال في بيان ذلك إن الحكومة وإن وافقت في قرارها الصادر في 26 من مايو
سنة 1945 على مذكرة اللجنة المالية في إنصاف حملة هذا المؤهل من حيث المبدأ الذي
اقترحته، إلا أنها لما تقدمت للبرلمان لاعتماد المبلغ اللازم لتنفيذه، نوقش
الموضوع وأعيد بحثه، وانتهى الرأي إلى أن يكون إنصافهم على أساس التعيين في الدرجة
السابعة وترقيتهم إلى الدرجة السادسة بماهية 500 م و10 ج بعد ثلاث سنوات من تاريخ
التعيين الأول - مع مراعاة مايو - وقدمت اللجنة المالية مذكرة بهذا المعنى إلى
مجلس الوزراء فوافق عليها في جلسته المنعقدة في أول يونيه 1947 بعد اعتماد المال
اللازم على هذا الأساس.
ومن حيث إن هذه المحكمة
سبق أن قضت في منازعات مماثلة بأن قرار 26 من مايو سنة 1945 لم يتولد أثره حالاً
ومباشرةً بمجرد صدوره؛ لأنه ما كان قد استكمل جميع مقوماته التي تنتج هذا الأثر،
وبهذه المثابة لا ينشئ لأمثال المدعي مراكز ذاتية من مقتضاها تسوية حالاتهم على
الأساس الذي اقترحته اللجنة المالية وقتذاك؛ ذلك لأن القرار الإداري لا يولد أثره
حالاً ومباشرة، إلا حيث تتجه الإرادة لإحداثه على هذا النحو، كما أنه لا يتولد على
هذا الوجه إلا إذا كان ممكناً وجائزاً قانوناً أو متى أصبح كذلك، وهذا كله مستمد
من طبيعة القرار الإداري، باعتباره إفصاح الجهة الإدارية المختصة في الشكل الذي
يتطلبه القانون عن إرادة ملزمة، بما لها من سلطة بمقتضى القوانين واللوائح، بقصد
إحداث أثر قانوني معين يكون ممكناً وجائزاً قانوناً ابتغاء مصلحة عامة، وقرار 26
من مايو سنة 1945 ما كان قد استكمل جميع المراحل اللازمة قانوناً في هذا الصدد؛
لأن المادة 143 من الدستور الملغي - النافذ وقتذاك - كانت تقضي بأن "كل مصروف
غير وارد بالميزانية أو زائد على التقديرات الواردة بها يجب أن يأذن به
البرلمان". ولهذا فلئن كان مجلس الوزراء قد وافق على اقتراح اللجنة المالية
حينذاك من حيث المبدأ إلا أنه لما كان الأمر يقتضي استصدار قانون بفتح اعتماد
إضافي، فقد سارت وزارة المالية في الطريق الدستوري السليم، فقدرت التكاليف بمبلغ
23000 ج لمدة سنة وتقدمت إلى البرلمان لاستصدار قانون بفتح اعتماد إضافي بهذا
المبلغ، فنوقش الموضوع وأعيد بحثه واستقر الرأي على أن يكون إنصاف حملة هذا المؤهل
على أساس التعيين في الدرجة السابعة وترقيتهم إلى الدرجة السادسة بماهية 500 م و10
ج بعد ثلاث سنوات من تاريخ التعيين الأول - مع مراعاة مايو - حتى لا يكونوا أحسن
حالاً من حملة الشهادات العالية، وقدرت التكاليف على هذا الأساس بمبلغ 15000ج،
واعتنقت وزارة المالية هذا الرأي وقدمت مذكرة بهذا المعنى إلى مجلس الوزراء بجلسته
المنعقدة في أول يونيه سنة 1947 فوافق عليها، وبذلك يكون القرار الأخير هو الذي
يولد أثره، بعد إذ اتجهت إرادة الإدارة إلى إحداثه على هذا النحو، وبعد أن أصبح
ذلك جائزاً أو ممكناً قانوناً بفتح الاعتماد الإضافي المخصص لهذا الغرض من الجهة
التي تملك الإذن به، وهي البرلمان بمجلسيه.
ومن حيث إنه لا وجه للزعم
بأن مجلس الوزراء - إذا وافق بجلسته المنعقدة في 26 من مايو سنة 1945 على اقتراح
اللجنة المالية وقتذاك بإنصاف خريجي المعلمين الثانوية على أساس اعتبارهم في
الدرجة السادسة منذ تعيينهم بماهية أولية 500 م و10 ج - قد قصد إلى أن يكون قراره
ذا أثر حال ومباشر مما من شأنه أن ينشئ لهم مراكز ذاتية، ترتفع بمقتضاها مرتباتهم
فوراً وتسوى حالاتهم على هذا الأساس مباشرة قبل اللجوء إلى البرلمان واستئذانه في
اعتماد المال اللازم - لا وجه لهذا الزعم؛ لأنه يقوم على تأويل لا سند له لا من
الواقع ولا من القانون، بل إن ظروف الحال وملابساته تنفيه، والأوضاع الدستورية
تجافيه، وتصرفات الإدارة يفترض فيها ابتداء أنها تسير في الطريق السليم، وتنتهج
المنهاج المستقيم، ويجب تأويلها على هذا النحو وحملها على الصحة إلى أن يثبت
العكس، والحال أن البرلمان كان قائماً وقتذاك، وهو الذي يملك اعتماد المال اللازم
ويجب على السلطة التنفيذية استئذانه في هذا الشأن فلا يفترض فيها ابتداء أنها
تفتات عليه، والواقع أنها سارت في الطريق الدستوري السليم فحصرت وزارة المالية
التكاليف اللازمة لتنفيذ الإنصاف على الوجه المقترح وتقدمت إلى البرلمان لاستصدار
قانون بفتح اعتماد إضافي بهذا المبلغ، فنوقش الموضوع وأعيد بحثه وانتهى الأمر إلى
ما انتهى إليه من إنصاف على أساس آخر، واعتمد المال اللازم لذلك، وصدر قرار مجلس
الوزراء في أول يونيه سنة 1947 - بعد استكمال جميع المراحل اللازمة - بالتنظيم
الذي قصد أن يكون أثره حالاً ومباشرةً، بعد أن استوفى جميع أوضاعه ومقوماته
المنتجة لهذا الأثر.
ومن حيث إنه مما يؤكد أن
مجلس الوزراء لم يقصد إلى أن يكون قراره - بجلسته المنعقدة في 26 من مايو سنة 1945
- منتجاً أثره حالاً ومباشرةً قبل عرض الأمر على البرلمان واستئذانه في المال
اللازم، أن إنصاف طوائف الموظفين كان في ذلك الحين من المشكلات التي شغلت البال
واتخذت صوراً وألواناً شتى، ما بين إنصاف القدامى وتسعير المؤهلات وتنسيق الدرجات،
فتوفر على علاجها ذوو الشأن، ما بين الحكومة والبرلمان، وكانت المسائل تدرس بين
اللجان البرلمانية والهيئات الحكومية، حتى ينتهي الأمر إلى التنظيم الذي يرى أنه
يوفق بين مطالب الموظفين العادلة في حدود المصلحة العامة وبين حالة الميزانية،
وبعد اعتماد المال اللازم على هذا الأساس، كان يصدر بالتنظيم العام قرار من مجلس
الوزراء تراعى فيه المبادئ التي اتفق عليها لعلاج المشكلة في حدود الاعتماد المقرر.
ومن حيث إنه وقد بان مما
تقدم أن مجلس الوزراء لم يقصد إلى أن يكون قراره الصادر بجلسته المنعقدة في 26 من
مايو سنة 1945 منتجاً أثره حالاً ومباشرةً قبل عرض الأمر على البرلمان واستئذانه
في اعتماد المال اللازم، بل المفهوم من ظروف الحال وملابساته أنه علق ضمناً نفاذ
قراره على هذا الاعتماد، فإن ما ذهب إليه المطعون عليه في دفاعه من أن القرار يكون
صحيحاً ومنتجاً أثره، ولا يستوجب سوى المسئولية الوزارية، يكون قائماً على حجة
داحضة؛ لأنه يؤسس هذه النتيجة على مقدمة فاسدة هي افتراض أن مجلس الوزراء قصد إلى
أن يكون قراره منتجاً مثل هذا الأثر بغير استئذان البرلمان في اعتماد المال اللازم
وهو ما لم يحصل حسبما سلف بيانه.
ومن حيث إن المحكمة لا
يفوتها مع ذلك أن تنبه إلى ما ذهب إليه المطعون عليه من استدلال قانوني ليس صحيحاً
على إطلاقه، وما اعتمد عليه من إسناد في الفقه والقضاء قد طبقه في غير موضعه؛ ذلك
أنه يجب التمييز في هذا الشأن بين العقود الإدارية التي تعقدها الإدارة مع الغير،
وبين علاقة الموظف بالحكومة: فالرابطة في الحالة الأولى هي رابطة عقدية تنشأ
بتوافق إرادتين، وتولد مراكز قانونية فردية وذاتية مصدرها العقد، وفي الحالة
الثانية هي علاقة تنظيمية عامة مصدرها القوانين واللوائح. ولا ريب في أن لهذا
الاختلاف في طبيعة الروابط القانونية أثره في نفاذ أو عدم نفاذ التصرف إذا استلزم
الأمر اعتماد المال اللازم من البرلمان، فالثابت في فقه القانون الإداري أن العقد
الذي تبرمه الإدارة مع الغير، كعقد من عقود الأشغال العامة أو التوريد مثلاً،
ينعقد صحيحاً وينتج آثاره، حتى ولو لم يكن البرلمان قد اعتمد المال اللازم لهذه
الأشغال أو حتى لو جاوزت الإدارة حدود هذا الاعتماد، أو لو خالفت الغرض المقصود
منه، أو لو فات الوقت المحدد لاستخدامه، فمثل هذه المخالفات - لو وجدت من جانب
الإدارة - لا تمس صحة العقد ولا نفاذه، وإنما قد تستوجب المسئولية السياسية. وعلة
ذلك ظاهرة، وهي أن هذه العقود الإدارية التي تبرمها الإدارة مع الغير هي روابط
فردية ذاتية، وليست تنظيمية عامة، ويجب من ناحية حماية هذا الغير، ومن ناحية أخرى
عدم زعزعة الثقة في الإدارة، فليس في مقدور الفرد الذي يتعاقد معها أن يعرف مقدماً
ما إذا كان قد صدر اعتماد أو لم يصدر، وما إذا كان يسمح بإبرام العقد أو لا يسمح،
وما إذا كان العقد في حدود الغرض المخصص له الاعتماد أو ليس في حدود هذا الغرض، كل
أولئك من الدقائق التي يتعذر على الفرد العادي، بل الحريص، التعرف عليها، ولو جاز
جعل صحة العقود الإدارية أو نفاذها رهناً بذلك لما جازف أحد بالتعاقد مع الإدارة،
ولتعطل سير المرافق العامة. ولكن الحال جد مختلف بالنسبة للاعتمادات المالية
اللازمة لنفاذ القرارات التنظيمية العامة في شأن الموظفين، كالقرارات العامة
المتعلقة برفع درجاتهم أو زيادة مرتباتهم؛ إذ مركزهم هو مركز تنظيمي عام، فلزم أن
يستكمل هذا التنظيم جميع أوضاعه ومقوماته التي تجعله نافذاً قانوناً. ومن الثابت
في فقه القانون الإداري أن تحديد درجات الموظفين أو تحديد مرتباتهم يجب أن يصدر من
السلطة المختصة بذلك حتى يكون نافذاً ومنتجاً أثره قانوناً، وأنه وإن كان الأصل أن
ذلك عمل إداري من اختصاص السلطة التنفيذية، إلا أنه إذا كانت الأوضاع الدستورية
تستوجب اشتراك البرلمان في هذا التنظيم لاعتماد المال اللازم لهذا الغرض، فإنه
يتعين على السلطة التنفيذية استئذانه في هذا الشأن، وأنه إذا تم تنظيم الدرجات
وتحديد المرتبات باشتراك السلطة التنفيذية مع البرلمان على وجه معين عند الإذن
بالاعتماد، وجب على السلطة التنفيذية احترام إرادة البرلمان والتزام التنظيم الذي
تم على هذا الأساس (جيز Jéze المبادئ العامة للقانون الإداري طبعة ثالثة سنة
1930 - في المرافق العامة - ص 801 وهو مصدر الإسناد).
ومن حيث إنه لا شبهة في
أنه إذا استوفى التنظيم العام أوضاعه ومقوماته التي تجعله نافذاً قانوناً، واستحق
الموظف على مقتضاه مرتبه بحلول ميعاده، أصبح هذا المرتب حقاً مكتسباً له واجباً
أداؤه، لا يحول دون ذلك نفاذ الاعتمادات المقررة من قبل، أو عدم كفايتها، ولو رفض
الموظف المختص لهذا السبب أو ذاك التأشير بالصرف، وغاية الأمر أن ذلك قد يستدعي
فقط تأخير الصرف إلى أن تدبر الإدارة المال اللازم، وهذا هو المقام الصحيح للإسناد
الذي يتمحل له المطعون عليه ليطبقه في غير موضعه، والتأصيل القانوني له واضح؛ لأنه
إذا كان مركز الموظف بالنسبة لمرتبه في المستقبل هو مركز قانوني عام يجوز تغييره
في أي وقت، فإن مركزه بالنسبة لمرتبه الذي حل فعلاً هو مركز قانوني ذاتي ولد له
حقاً مكتسباً واجب الأداء، لا يجوز المساس به إلا بنص خاص في قانون، وليس في أداة
أدنى منه كلائحة، فلا يقف في سبيل استيفائه هذا الحق ما قد تتعلل به الإدارة من
نفاذ الاعتمادات المقررة من قبل، أو عدم كفايتها، أو عدم التأشير من المراجع
المختص بمراقبة الصرف، وهذا هو على التحقيق موطن الإسناد الذي يستشهد به المطعون
عليه، وهو غير مثار هذه المنازعة حسبما سلف إيضاحه (المرجع السابق ص 807).
ومن حيث إنه لكل ما تقدم
يكون الحكم المطعون فيه قد خالف القانون، فيتعين إلغاؤه، والقضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بقبول الطعن
شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبرفض الدعوى، وألزمت المدعي
بالمصروفات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق