وحيث إن المادة (10) من
القانون رقم 39 لسنة 1975 بشأن تأهيل المعوقين معدلاً بالقانون رقم 49 لسنة 1982
تنص على أن [تخصص للمعوقين الحاصلين على شهادات التأهيل نسبة خمسة في المائة من
مجموع عدد العاملين بكل وحدة من وحدات الجهاز الإداري للدولة والهيئات العامة
والقطاع العام، كما تلتزم هذه الوحدات باستيفاء النسبة المشار إليها باستخدام
المعوقين المقيمين بدائرة عمل كل وحدة، والمسجلين بمكاتب القوى العاملة المختصة،
على أن يتم استكمال النسبة المقررة بالقانون خلال سنتين من تاريخ صدور هذا التعديل.
ويجوز لأى من هذه الجهات
استخدام المعوقين في مكاتب القوى العاملة مباشرة دون ترشيح منها. وتحتسب هذه
التعيينات من النسبة المنصوص عليها في الفقرة السابقة. ويجب في جميع الأحوال إخطار
مكتب القوى العاملة المختص بذلك بكتاب موصى عليه بعلم الوصول، خلال عشرة أيام من
تاريخ استلام المعوق للعمل].
وتنص المادة (15) من ذات
القانون على أنه [ على وحدات القطاع الخاص والجهاز الإداري للدولة والقطاع العام
التي تسرى عليها أحكام هذا القانون، إمساك سجل خاص لقيد المعوقين الحاصلين على
شهادات التأهيل الذين التحقوا بالعمل لديهم ويجب أن يشتمل هذا السجل على البيانات
الواردة في شهادة التأهيل، وعليهم تقديم هذا السجل إلى مفتش مكتب القوى العاملة
الذى يقع في دائرته نشاطهم كلما طلب ذلك منهم، وعليهم إخطار هذا المكتب ببيان
يتضمن عدد العاملين الإجمالي، وعدد الوظائف التي يشغلها المعوقون المشار إليهم،
والأجر الذى يتقاضاه كل منهم ويكون السجل والإخطار بالبيان طبقاً للنماذج الموحدة
التي يصدر بها قرار من وزير القوى العاملة.
ويحدد وزير القوى العاملة
بقرار منه مواعيد الإخطار بالبيان.
وعلى مديريات القوى
العامة، كل في دائرة اختصاصه، إخطار مديريات الشئون الاجتماعية المختصة كل ستة
أشهر ببيان إجمالي عن عدد الوظائف التي يشغلها المعوقون، والأجر الذى يتقاضاه كل
منهم، وذلك طبقاً للأوضاع التي يحددها وزير الشئون الاجتماعية.]
كما تنص المادة (16) على
أن [يعاقب كل من يخالف أحكام المادة التاسعة من هذا القانون بغرامة لا تجاوز مائة
جنيه والحبس مدة لا تجاوز شهراً، أو بإحدى هاتين العقوبتين. كما يعاقب بنفس
العقوبة، المسئولون بوحدات الجهاز الإداري للدولة والقطاع العام الذين يخالفون
أحكام المادة العاشرة من هذا القانون ويعتبر مسئولاً في هذا الشأن كل من يملك سلطة
التعيين.
كما يجوز الحكم بإلزام صاحب
العمل، بأن يدفع شهرياً للمعوق المؤهل الذى رشح له، وامتنع عن استخدامه، مبلغاً
يساوى الأجر أو المرتب المقرر أو التقديري للعمل أو الوظيفة التي رشح لها وذلك
اعتباراً من تاريخ إثبات المخالفة. ولا يجوز الحكم بإلزام صاحب العمل بهذا المبلغ
لمدة تزيد على سنة. ويزول هذا الإلزام إذا قام بتعيين المعوق لديه، أو التحق
المعوق فعلاً بعمل آخر، وذلك من تاريخ تعيين أو التحاق المعوق بالعمل. ويجب على
صاحب العمل تنفيذ الحكم بإلزامه بأداء المبلغ المذكور خلال عشرة أيام من تاريخ
صدوره، والاستمرار في هذا الأداء شهريا في الميعاد المحدد بالحكم.
وفى حالة امتناع صاحب
العمل عن أداء الأجر أو المرتب المشار إليه إلى المعوق، في الميعاد المقرر، يجوز
تحصيله بناء على طلب العامل بطريق الحجز الإداري، وأدائه إليه دون أي مقابل أو أية
رسوم من أي نوع كانت، ولا يستفيد المعوق إلا من أول حكم يصدر لصالحه. وفى حالة
تعدد الأحكام بإلزام أصحاب الأعمال بالدفع عند تعددهم، تؤول إلى وزارة الشئون
الاجتماعية المبالغ المحكوم بها في الأحكام الأخرى. وتخصص هذه المبالغ للصرف منها
في الأوجه وبالشروط وطبقاً للأوضاع المنصوص عليها في المادة التالية.
وتتعدد العقوبة بتعدد الذين
وقعت في شأنهم الجريمة. كما تتعدد العقوبة بتعدد الامتناع عن تشغيل المعوق الواحد
تطبيقاً لحكم المادتين 9 و10، وذلك عن كل سنة يحصل فيها الامتناع بالنسبة له.
ويعاقب كل من يخالف أحكام
المادة 15 بالحبس مدة لا تزيد على شهر، وبغرامة لا تجاوز مائة جنيه، أو بإحدى
هاتين العقوبتين.
وتقام الدعوى في جميع
الأحوال على صاحب العمل أو وكيله أو المدير المسئول ولا يجوز الحكم بوقف التنفيذ
في العقوبات المالية].
وحيث إن من المقرر أن شرط
المصلحة الشخصية المباشرة، يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة
الدستورية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، أو تصوراتها المجردة.
وهو كذلك يقيد تدخلها في تلك الخصومة القضائية، ويرسم تخوم ولايتها، فلا تمتد لغير
المطاعن التي يؤثر الحكم بصحتها أو بطلانها على النزاع الموضوعي، وبالقدر اللازم
للفصل فيها. ومؤداه ألا تقبل الخصومة الدستورية من غير الأشخاص الذين يمسهم الضرر
من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم، سواء أكان هذا الضرر وشيكا يتهددهم، أم كان
قد وقع فعلاً. ويتعين دوماً أن يكون هذا الضرر منفصلاً عن مجرد مخالفة النص
المطعون عليه للدستور، مستقلاً بالعناصر التي يقوم عليها، ممكناً تحديده ومواجهته
بالترضية القضائية لتسويته، عائداً في مصدره إلى النص المطعون عليه. فإذا لم يكن
هذا النص قد طبق أصلاً على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين
بأحكامه، أو كان قد أفاد من مزاياه، أو كان الإخلال بالحقوق التي يدعيها لا يعود
إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة. ذلك أن إبطال النص التشريعي في
هذه الصور جميعها، لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانوني
بعد الفصل في الدعوى الدستورية، عما كان عليه قبلها. ولا يتصور بالتالي أن تكون
الدعوى الدستورية أداة يعبر المتداعون من خلالها عن آرائهم في الشئون التي تعنيهم
بوجه عام، ولا أن تكون نافذة يعرضون منها ألواناً من الصراع بعيداً عن مصالحهم
الشخصية المباشرة، أو شكلاً للحوار حول حقائق عملية يطرحونها لإثبات أو نفيها، أو
طريقاً للدفاع عن مصالح بذواتها لا شأن للنص المطعون عليه بها. بل تباشر المحكمة
الدستورية العليا ولايتها - التي كثيراً ما تؤثر في حياة الأفراد وحرماتهم
وحرياتهم وأموالهم - بما يكفل فعاليتها. وشرط ذلك إعمالها عن بصر وبصيرة، فلا تقبل
عليها اندفاعاً، ولا تعرض عنها تراخياً. ولا تقتحم بممارستها حدوداً تقع في دائرة
عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية. بل يتعين أن تكون رقابتها ملاذاً أخيراً
ونهائياًَ، وأن تدور وجوداً وعدماً مع تلك الأضرار التي تستقل بعناصرها، ويكون
ممكناً إدراكها، لتكون لها ذاتيتها. ومن ثم يخرج من نطاقها ما يكون من الضرر
متوهماً أو منتحلاً أو مجرداً in
abstracto أو يقوم على الافتراض أو
التخميين Conjecural.
ولازم ذلك، أن يقوم
الدليل جلياً على اتصال الأضرار المدعى وقوعها بالنص المطعون عليه، وأن يسعى
المضرور لدفعها عنه، لا ليؤمن بدعواه الدستورية - وكأصل عام - حقوق الآخرين
ومصالحهم، بل ليكفل إنفاذ تلك الحقوق التي تعود فائدة صونها عليه in Concreto.
والتزاماً بهذا الإطار،
جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن المصلحة الشخصية المباشرة شرط لقبول
الدعوى الدستورية، وأن مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى
الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم في المطاعن الدستورية لازما للفصل في النزاع الموضوعي.
وحيث إن أحكام المواد 10
و15 و16 من القانون رقم 39 لسنة 1975 بشأن تأهيل المعوقين، تجمعها وحدة عضوية سواء
في مجال الاتهام الجنائي المنسوب إلى المدعى بصفته رئيس لمجلس إدارة إحدى شركات
القطاع العام، أم على صعيد الحقوق المالية التي طلبها المدعى بالحقوق المدنية،
وبها تتعلق المصلحة الشخصية والمباشرة للمدعى، وعلى ضوئها يتم الفصل في المسائل
الدستورية التي تثيرها الدعوى الراهنة، والتي يعتبر النزاع الموضوعي مرتبطاً بها.
ولا كذلك حكم المادة 9 من هذا القانون التي يتعلق مجال تطبيقها بمنشآت القطاع
الخاص التي تستخدم خمسين عاملاً فأكثر يخضعون لأحكام القانون رقم 137 لسنة 1981
بإصدار قانون العمل.
وحيث إن المدعى ينعى على
المواد 10 و15 و16 من القانون رقم 39 لسنة 1975 بشأن تأهيل المعوقين عدداً من
العيوب الموضوعية: أولها مخالفة مبدأ المساواة أمام القانون، قولاً بأن من يملكون
سلطة التعيين في وحدات الجهاز الإداري للدولة أو الهيئات العامة أو القطاع العام،
ملزمون - وعلى ما تقضى به المادة العاشرة من هذا القانون - بتخصيص عدد من الوظائف
داخل وحداتهم لا تقل نسبتها عن 5% من مجموع عدد العاملين بها، يتم استنفادها عن
طريق شغلها بالمعوقين إذا كانوا مسجلين بمكاتب القوى العاملة، ومرشحين من قبلها،
ولا يعدو ذلك أن يكون تمييزاً منهياً عنه بنص المادة 40 من الدستور، ذلك أن المشرع
آثر المعوقين بعدد من الوظائف، وحرم غيرهم من التزاحم عليها، ودون أن يستند
التمييز بين هاتين الفئتين إلى أسس موضوعية، ومنحهم بالتالي أولوية في فرص العمل
لا يجوز تقريرها إلا من خلال النصوص الدستورية ذاتها. وآية ذلك أنه حين آثر
الدستور فئة من المواطنين بمثل تلك الميزة لاعتبارات تتعلق بها، أورد في شأنها
حكماً صريحاً يكون كافلاً لها، وهو ما نحاه فعلاً في المادة (15) منه التي تخول
المحاربين القدماء والمصابين في العمليات الحربية وبسببها، وزوجات الشهداء
وأبنائهم، أولوية في فرص العمل وفقاً للقانون. فإذا ما أهدر المشرع مبدأ المساواة
من خلال المعاملة التفضيلية التي كفلها لبعض المواطنين، بأن قدم بعضهم - في مجال
فرص العمل - على غيرهم، كان ذلك خروجاً على أحكام الدستور نصاً وروحاً.
ثانيها: أن الحق في التعاقد،
يندرج تحت الحرية الشخصية التي كفلتها المادة 41 من الدستور، واعتبرتها من الحقوق
الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها، أو تقييدها دون حق. بيد أن المادة العاشرة من
القانون رقم 39 لسنة 1975 المشار إليه - وعدواناً من جانبها على حرية التعاقد -
ألزمت المخاطبين بها باستخدام معوقين لا يحتاجونهم ويمثلون عمالة زائدة تقارنها
أعباء مالية ضخمة لا سبيل لدفعها.
ثالثها: أن الأصل في الاقتصاد
القومي - وعملاً بنص المادة 23 من الدستور - هو أن ينظم وفقاً لخطة تنمية شاملة
تكفل زيادة الدخل القومي، وعدالة التوزيع. وفرض استخدام المعوقين - بقوة القانون -
يؤثر واقعاً في عملية الإنتاج ولا يوفر إنماءً للدخل القومي.
رابعها: أن المشرع بدلاً
من أن يقرر للمعوقين معاشاً لعجزهم عن العمل في الحدود التي يبينها القانون وفقاً
لنص المادة 17 من الدستور، ابتداع طريقاً آخر يقوم على استخدام المعوقين في وحدات
الجهاز الإداري بالدولة والهيئات العامة والقطاع العام، فحملهم بذلك ما لا يطيقون،
معفيا الدولة - في الوقت ذاته - من القيام بدورها الاجتماعي في مجال تقرير
معاشاتهم التي تُعِينهم بها على مواجهة عجزهم.
خامسها: أن العقوبات التي
قررها القانون رقم 39 لسنة 1975 آنف البيان، ليس لها من سند في الدستور، وهى لذلك
تعد افتئاتاً على الحرية الشخصية وتقييداً لها دون حق. كذلك فإن نص المادة 16 من
هذا القانون، مؤداه إيقاع عقوبتين عن فعل واحد، هما الأجر التقديري للوظيفة التي رشح
المعوق لها، ولمدة عام من ناحية؛ وعقوبة الغرامة أو الحبس أو كليهما من ناحية
أخرى. كذلك فإن عقوبة الحبس تعد إكراهاً بدنياً، وكان يكفى إبدالها بالتعويض لجبر
الأضرار الناشئة عن الإخلال بالتزامات من طبيعة مدنية. يؤكد ذلك أن الفعل المؤثم
قانوناً هو الامتناع عن تعيين المعوقين، ويتصل هذا الامتناع بالمجال الذى تعمل فيه
الإرادة على صعيد العقود المدنية. وليس مألوفاً ولا جائزاً دستورياً، أن يكون
الجزاء الجنائي مقابلاً لعدم إبرامها.
وحيث إن البين من التطور التاريخي
لأوضاع المعوقين، وقواد معاملتهم، أن كثيراً من الوثائق الدولية منحتهم الرعاية
التي يقتضيها إنماء قدارتهم، وأن جهدوا تبذل باطراد من أجل تشخيص عوارضهم في مهدها،
وقبل استفحال خطرها، ثم تقييمها للحد من آثارها، وأن آراء عديدة تدعو الدول على
تباين اتجاهاتها، لأن تنقل إلى مجتمعاتها - ومن خلال حملاتها الإعلامية بوجه خاص awareness - raising ما
يبصرها بأن المعوقين مواطنون ينبغي منحهم من الحقوق ما يكون لازماً لمواجهة ظروفهم
الذاتية التي لا يملكون دفعها، لتمهد بذلك للقبول بالتدابير التي تفرضها، وتُعينهم
بها على مواجهة مسئولياتهم. وكان من بين تلك المواثيق، ذلك الإعلان الصادر في 9/
12/ 1975 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة برقم (3447) في شأن حقوق المعوقين Declaration on the rights of disabled persons، متوخياً أن تعمل الدول - سواء من خلال تدابير فردية، أو عن طريق
تضافر جهودها - من أجل إرساء مقاييس أكثر حزماً للنهوض بأوضاع المعوقين، وتوكيد
ضرورة استخدامهم بصورة كاملة، وتحقيق تقدمهم من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية
آخذه في اعتبارها احتياجاتهم الخاصة، وضرورة تطوير ملكاتهم لإعدادهم لحياة أفضل،
ولحفزهم على الاندماج في مجتمعاتهم من خلال إسهامهم في أكثر مناحي النشاط تنوعاً.
ويؤكد هذا الإعلان، أن
الحقوق المنصوص عليها فيه، لا استثناء منها. ولا تمييز في نطاقها، يكون مرده إلى
العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الآراء على اختلافها، أو الأصل الوطني
أو الاجتماعي، أو الثروة أو المولد، أو بناء على أي مركز آخر يتعلق بالمعوق أو
بأسرته. ذلك أن المعوقين - ولعوار في قدراتهم البدنية أو العقلية بسبب قصور خلقي
أو غير خلفي - عاجزون بصفة كلية أو جزئية عن أن يؤمنوا بأنفسهم ما يكون ضرورياً
لحياتهم سواء كأفراد، أو على صعيد مظاهر حياتهم الاجتماعية، أو هما معاً. وكان
منطقياً بالتالي، أن يؤكد هذا الإعلان، أن للمعوقين حقوقا ينبغي ضمانها، بوصفها
أساساً مشتركاً للتدابير الدولية والوطنية، يندرج تحت حق المعوق الأصيل في صون
كرامتهم الإنسانية، وحمايتهم من ألوان المعاملة المهينة أو التعسفية أو التمييزية،
وكذلك من كل استغلال، ودون إخلال بتمتعهم بالحقوق الأساسية التي يمارسها غيرهم من
المواطنين الذين يماثلون عمراً. وهو ما يعنى - وفى المقام الأول - حقهم في حياة
لائقة تكون طبيعية، وكاملة قدر الإمكان، وأياً كانت خصائص عوائقهم أو مناحي
قصورهم، أو مصدرها، أو درجة خطورتها. ولا يجوز بحال - وعلى ما نص عليه ذلك الإعلان
- حرمان المعوقين من حقوقهم المدنية والسياسية، ولا من الرعاية الطبية والنفسية
والوظيفية، ولا من التدابير التي تتوخى تمكينهم من الاعتماد ذاتياً على أنفسهم،
ولا من الحق في تعليمهم وتدريبهم وتأهيلهم مهنياً بما يطور ملكاتهم وقدراتهم،
مرتقياً إلى ذراها، كافلاً دمجهم في مجتمعاتهم. وهم يتمتعون كذلك بالحق في الأمن -
اقتصادياً واجتماعياً - وفى الحصول على عمل مع ضمان استمراره، وبالحق في مزاولة
مهن منتجة ومجزية.
وحيث إن الجمعية العامة
للأمم المتحدة - في سعيها لدعم حقوق المعوقين في فرص يتماثلون فيها مع غيرهم، وألا
يكون نصيبهم منها مجحفاً في مجال الرعاية الأشمل لظروفهم - ارتأت أن تعزز الإعلان
المتقدم، بالقرار رقم 48/ 96 الصادر في 20/ 12/ 1993، لتصوغ بمقتضاه مجموعة من
القواعد التي تبين مُسْتَوياتها الفرص المتكافئة التي ينبغي ضمانها للمعوقين the standard rules on the equalization of opportunities for
persons with disabilities وبوجه خاص، لمواجهة أشكال
من العوائق التي كشفتها التجربة العلمية، وكان من شأنها تعميق قصور المعوقين عن
تحمل كامل مسئولياتهم داخل مجتمعاتهم، من بينها جهلهم أو إهمالهم أو خوفهم، بل
وأوهامهم وخرافاتهم. وتفصل هذه القواعد، تلك الفرص التي أتاحتها للمعوقين، سواء
كان عوارهم دائماً أو عرضياً، بديناً أو ذهنياً، أو مرضاً عقلياً، أو ظرفاً طبياً
من العوارض التي تؤثر في حواسهم.
وكان لازماً بالتالي، أن
يمتد هذا التكافؤ في الفرص إلى ميادين متعددة يندرج تحتها التعليم والأمن الاجتماعي،
والحياة العائلية، وتكامل الشخصية، والعقيدة، والاستخدام. بل إن القاعدة رقم 7
التي تضمنها هذا القرار، صريحة في دعوتها الدول إلى أن يكون إيمانها بضرورة تمكين
المعوقين من فرص متكافئة - من أجل الحصول على أعمال منتجة ومربحة في سوق العمل
سواء في المناطق الريفية أو الحضرية - واقعاً حياً بما يحول دون عرقلة تشغيلهم، أو
إخضاعهم لأشكال التمييز التي قد يقيمها المشرع ضدهم، ليتم دمجهم إيجابياً في إطار
الاستخدام المفتوح من خلال التدابير التي تتخذها، وبوجه عام خاص عن طريق تدريبهم
مهنياً vocational training
Reseved or designated employment.
ومن خلال تحديد أعمال
بذواتها يتولونها، أو احتجازها لهم
وحيث إن القواعد التي تبنتها
الجمعية العامة للأمم المتحدة على النحو المتقدم، وإن لم تكن لها قوة إلزامية تكفل
التقيد بها، إلا أن النزول عليها لا زال التزاماً أدبياً وسياسياً، وهى فوق هذا،
تعبر عن اتجاه عام فيما بين الدول التي ارتضتها، يتمثل في توافقها على تطبيقها،
باعتبارها طريقاً قويماً لدعم جهودها في مجال الاستثمار الأعمق لطاقتها البشرية.
وحيث إن هذا الاتجاه، هو
ما تقيدت به النصوص المطعون عليها، إدراكاً منها بأن كل معوق - وعلى ما جاء
بالمذكرة الإيضاحية للقانون رقم 49 لسنة 1982 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 39
لسنة 1975 - ينبغي أن ينال المساعدة والوقاية وفرص التأهيل الملائمة التي يتمكن
معها من الإسهام إلى أقصى حد مستطاع في ميزات ومسئوليات الحياة الكاملة في المجتمع
الذى ينتمى إليه، وبما يتمشى وإعادة بناء قطاع هام من الموارد البشرية، يكون
نافعاً، ومستقراً، ومؤدياً لدوره في مجال التنمية، وكافلاً - من خلال تأهيل
المعوقين - ضمان أكبر قدر من فرص العمل التي تناسبهم.
وحيث وإنه وإن صح القول
بأن تقرير أولوية لبعض المواطنين على غيرهم في مجال العمل، لا يجوز إلا بناء على
نص في الدستور، إلا أن استخدام المعوقين داخل كل وحدة من وحدات الجهاز الإداري
للدولة، أو الهيئات العامة، أو القطاع العام - من خلال تخصيص عدد من وظائفها لا
يزيد على 5% من مجموع عدد العاملين بكل وحدة - لا يعتبر تقريراً لأولويتهم على من
عداهم - ذلك أن الأولوية في مجال العمل - وأياً كانت الأداة القانونية التي أنشأتها
- تعنى في المقام الأول، أن يتقدم أصحابها على غيرهم، مستأثرين من دونهم بالوظائف
الشاغرة، فلا يلج أبوابها أحد ليزاحمهم فيها، أو يتقاسمها معهم، بل ينفردون بها،
ويتصدرون شغلها، ليكون احتكارهم لها واقعاً حياً، معززاً بقوة القانون، ومتضمناً
استبعاد غيرهم من أن يطلبوا لأنفسهم نصيباً منها، ما دام أن من يتقدمونهم قانوناً،
ما برحوا غير مستوفين لاحتياجاتهم الوظيفية بكاملها. ولا كذلك تخصيص حصة للمعوقين
مقدارها 5% من مجموع عدد العاملين بالوحدة الإنتاجية أو الخدمية وفقاً لنص المادة
العاشرة من القانون رقم 39 لسنة 1975 بشأن تأهيل المعوقين، ذلك أن المعوقين وفقاً
لحكمها، لا يتقدمون على غيرهم لاستيفاء حصتهم هذه - التي لا يتحدد نطاقها إلا
بنسبتها إلى مجموع العاملين في تلك الوحدة - وهو ما يعنى أن لهم نصيباً في مواقع
العمل الشاغرة لا يستغرقها، ولا ينحى من سواهم عنها، بل يطلبونها إلى جانبهم،
ومعهم.
وحيث إن تنظيم أوضاع
المعاقين - وطنياً كان أم دولياً - توخى دوماً ضمان فرص يتخطون بها عوائقهم،
ويتغلبون من خلالها على مصاعبهم، ليكون إسهامهم في الحياة العامة ممكناً وفعالاً
ومنتجاً. ذلك أن نواحي القصور التي تَعْرض لهم، مردها، إلى عاهاتهم، ومن شأنها أن
تقيد من حركتهم، وأن تنال بقدر أو بآخر من ملكاتهم، فلا يكونون "واقعاً"
متكافئين مع الأسوياء حتى بعد تأهيلهم مهنياً، لتبدو مشكلاتهم غائرة الأبعاد، لا
تلائمها الحلول المبتسرة، بل تكون مجابهتها، نفاذاً إلى أعماقها، وتقريراً لتدابير
تكفل استقلالهم بشئونهم، وانصرافاً إلى مناهج علمية وعملية تتصل حلقاتها، وتتضافر
مكوناتها، متخذة وجهة بذاتها، هي ضمان أن يكون المعوقون أكثر فائدة، وأصلب عوداً،
وأوثق اتصالاً بأمتهم. وكان لازماً وقد تعذر على المعوقين "عملاً" أن
تتكافأ فرص استخدامهم مع غيرهم، أن يكون هذا التكافؤ مكفولاً "قانوناً"
على ضوء احتياجاتهم الفعلية، وبوجه خاص في مجال مزاولتهم لأعمال بعينها، أو
الاستقرار فيها، مع موازنة متطلباتها بعوارضهم التي أعجزتهم منذ ميلادهم، أو بما
يكون قد طرأ من أسبابها بعدئذ، وآل إلى نقض قدراتهم عضوياً أو عقلياًَ، أو حسياً،
لتتضاءل فرص اعتمادهم على أنفسهم.
ومن ثم حرص المشرع على
تأهيل المعوقين بتدريبهم على المهن والأعمال المختلفة ليقربهم من بيئتهم، وليمكنهم
من النفاذ إلى حقهم في العمل، لا يعتمدون في ذلك على نوازع الخير عند الآخرين، ولا
على تسامحهم، بل من خلال حمل هؤلاء على أن تكون الفرص التي يقدمونها للمعوقين
مناسبة لاحتياجاتهم، مستجيبة لواقعهم، وأن يكون هدفها مواجهة آثار عجزهم، ومباشرة
مسئولياتهم كأعضاء في مجتمعاتهم، تمنحهم عونها، وتُقِيلهم من عثراتهم. وليس ذلك
تمييزاً جائزاً منهياً عنه دستورياً، ذلك أن النصوص المطعون عليها لا تفاضل بين
المعوقين وغيرهم لتجعلهم أشد بأساً، أو أفضل موقعاً من سواهم، ولكنها تخولهم تلك
الحقوق التي يقوم الدليل جليا على عمق اتصالها بمتطلباتهم الخاصة، وارتباطها
بأوضاعهم الاستثنائية، لتعيد إليها توازناً اختل من خلال عوارضهم. وتلك هى العدالة
الاجتماعية التي حرص الدستور على صونها لكل مواطن توكيداً لجدارته بالحياة
اللائقة، وانطلاقاً من أن مكانة الوطن وقوته وهيبته، ينافيها، الإخلال بقدر الفرد
ودوره في تشكيل بنيانه. يدعم ما تقدم أن الأصل في كل تنظيم تشريعي أن يكون منطوياً
على تقسيم Classification أو تمييز من خلال الأعباء التي يلقيها على البعض
أو المزايا التي يمنحها لفئة دون غيرها
Legislators may select different persons or groups for different
treatement,since classification 'is inherent in legislation" ويتعين دوماً لضمان اتفاق هذا التنظيم مع الدستور،
أن تتوافر علاقة منطقية
rational relationship بين الأغراض المشروعة
التي اعتنقها المشرع في موضوع محدد وفاء بمصلحة عامة لها اعتبارها، والوسائل التي اتخذها
طريقاًَ لبلوغها، فلا تنفصل النصوص القانونية التي نظم بها هذا الموضوع، عن
أهدافها، بل يجب أن تعد مدخلاً إليها
appropriate means to the attainmemt of justifiable ends بما مؤداه أن المزايا التي منحها المشرع للمعوقين
من خلال النصوص المطعون عليها لا يمكن فصلها عن أوضاعهم، ولا عن الأغراض التي توخاها
من خلال فرص العمل التي مكنهم منها.
ودليل ذلك بوجه خاص أمران:
أولهما: أن الاتفاقية رقم
(111) في شأن التمييز في مجال الاستخدام ومباشرة المهن Convention (No.111) concerning disceiminationin respect of
employment and accupation - والتي اعتمدها المؤتمر
العام لمنظمة العمل الدولية في 25 يونيو 1960 إبان دورته الثانية والأربعين،
والنافذة أحكامها اعتباراً من 15 يونيو 1960 - تقرر في مادتها الأولى أصلاً عاماً
مؤداه أن التمييز المحظور بموجبها يمثل انتهاكاً للحقوق التي نص عليها الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان. وشرط ذلك أن يكون متضمناً تفرقة distinction أو استبعاد exclusion أو تفصيلاً preference يقوم على أساس من الجنس
أو اللون أو العنصر أو العقيدة أو الرأي السياسي أو الأصل الوطني national
extraction أو المنشأ الاجتماعي، إذا
كان من شأن هذا التمييز - سواء حق الأشخاص في النفاذ إلى الاستخدام وامتهان
الأعمال، أو الشروط التي تنظمها، أو تدريبهم مهنياً - إبطال تكافؤ الفرص أو
المعاملة المتساوية، أو تعويق أيهما في مجال العمل.
ولئن كان الأصل في أشكال
التمييز التي حظرتها تلك الاتفاقية، هو إهدارها، إلا أن الاتفاقية ذاتها تنص في الفقرة
الثانية من المادة (5) - بتصريح لفظها - على أن التدابير الخاصة التي تتخذها إحدى
الدول الأعضاء - بعد التشاور مع المنظمات الممثلة للعمال ومستخدميهم، إن وجدت - لا
تعتبر تمييزاً، إذا كان هدفها إيلاء الاعتبار لأشخاص تبلور خصائص متطلباتهم
الناشئة عن بعض العوارض التي تتصل بهم - كتلك التي تتعلق بجنسهم أو سنهم أو
"عجزهم" أو مسئولياتهم العائلية أو مركزهم الاجتماعي أو الاقتصادي -
اعترافا عاما بحاجتهم إلى حماية أو مساعدة من نوع خاص.
Any Member may, after consultion with representative employers and workers
organisations, where sush exist, determine that other special measures designed
to meet the particular requirements of persons who for reasons such as sex,
age, disablement, family responsibilities or social or cultural status, are
generally recognised to require special protection or assistance, shall not be
deemed to be discrimination.
ثانيهما، إن ما نص عليه
الدستور في المادة 7 من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعنى وحدة
الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها
ببعض عند تزاحمها، اتصال أفرادها وترابطهم ليكون بعضهم لبعض ظهيراً، فلا يتفرقون
بدداً أو يتناحرون طمعاً، أو يتنابذون بغياً، وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم قبلها،
لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها، ليس لفريق منهم بالتالي أن يتقدم على غيره
انتهازاً، ولا أن ينال من الحقوق قدرا منها يكون بها - عدواناً - أكثر علواً. بل
يتعين أن تتضافر جهودهم لتكون لهم الفرص ذاتها، التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها
الحق، ولا تخل - في الوقت ذاته - بتلك الحماية التي ينبغى أن يلوذ بها ضعفاؤهم،
ليجدوا في كنفها الأمن والاستقرار.
وحيث إن ذلك مؤداه أن
تدابير اقتصادية واجتماعية وتشريعية يتعين ضمانها في شأن المعوقين، تأخذ واقعهم في
اعتبارها، ولا تنحى مشكلاتهم عن دائرة اهتمامها، بل توليها ما تستحق من الرعاية،
لتقدم لهم عوناً يلتئم وأوضاعهم. وليس ذلك تمييزاً منهياً عنه دستورياً بل هو نزول
على حكم الضرورة، وبقدرها فلا يغمطون حقاً.
وحيث إن المدعى نعى على
النصوص المطعون عليها إخلالها بحرية التعاقد التي يندرج مفهومها تحت الحرية
الشخصية التي كفلها الدستور بنص المادة 41، واعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة
في النفس البشرية، وإن جوهر هذا الإخلال يتمثل في إلزامها إياه باستخدام معوقين لا
يحتاجهم، ويمثلون عمالة زائدة، تقارنها أعباء مالية ضخمة عليه أن يتحملها.
وحيث هذا النعي مردود بأن
حرية التعاقد - وأياً كان الأصل الذى تتفرع عنه أو تُرد إليه - لا تعنى على
الإطلاق أن يكون لسلطان الإرادة دور كامل ونهائي في تكوين العقود، وتحديد الآثار
التي ترتبها. ذلك أن الإرادة لا سلطان لها في دائرة القانون العام. وقد يورد
المشرع في شأن العقود - حتى ما يكون واقعاً منها في نطاق القانون الخاص - قيوداً
يرعى على ضوئها حدوداً للنظام العام لا يجوز اقتحامها. وقد يخضعها لقواعد الشهر أو
لشكلية ينص عليها. وقد يعيد إلى بعض العقود، توازناً اقتصادياً اختل فيما بين
أطرافها. وهو ما يتدخل إيجابياً في عقود بذواتها محوراً من التزاماتها انتصافاً
لمن دخلوا فيها من الضعفاء، مثلما هو الأمر في عقود الإذعان والعمل. ولا زال يقلص
من دور الإرادة في عقود تقرير تنظيماً جماعياً ثابتاً Contracts collectifs كتلك
التي تتضمن تنظيماً نقابياً، بما مؤداه أن للمشرع أن يرسم للإرادة حدوداً لا يجوز
أن يتخطاها سلطانها، ليظل دورها واقعاً في إطار دائرة منطقية، تتوازن الإرادة في نطاقها،
بداعي العدل وحقائق الصالح العام. ومن ثم لا تكون حرية التعاقد - محددة على ضوء
هذا المفهوم - حقاً مطلقاً بل موصوفاً. فليس إطلاق هذه الحرية وإعفاؤها من كل قيد،
بجائز قانوناً، وإلا آل أمرها سراباً أو انفلاتاً.
Freedom of Contract is a qualified and not an absolute right. There is no
absolute freedom to do as one wills, or to contract as one choose.
وحيث إن مؤدى ما تقدم
مؤداه، أن ضمان الحرية لا يعنى غل يد المشرع عن التدخل لتنظيمها، ذلك أن الحرية
تفيد بالضرورة مباشرتها دون قيود جائزة
arbitrary restraints وليس إسباغ حصانة عليها
تعفيها من تلك القيود التي تقتضيها مصالح الجماعة، وتسوغها ضوابط حركتها. متى كان
ذلك، وكانت القيود التي فرضتها النصوص المطعون عليها على من يملكون سلطة التعيين
في القطاع العام، غايتها ضمان فرص حقيقية للمعوقين، تكفل إنصافهم في مجال العمل،
فإن النعي عليها إخلالها بحرية التعاقد، ومخالفتها بالتالي لنص المادة (41) من
الدستور، يكون على غير أساس.
وحيث إن ما قرره المدعى،
من أن تدخل المشرع لفرض استخدام المعوقين، يؤثر من الناحية العلمية في التنمية
الاقتصادية، ولا تحقق بالتالي الزيادة التي تطلبتها المادة 23 من الدستور من الدخل
القومي، وجعلتها قرين التنمية الشاملة وسبيلها، مردود بأن التنمية الاقتصادية لا
يتصور أن تتم إلا من خلال أدواتها، ومن بينها عناصر القوة البشرية التي لا يجوز
عزلها أو تحييدها، ذلك أن التنمية الشاملة لا تقوم إلا بها، ولا يمكن أن تصل إلى
غايتها بعيداً عنها، والمعوقون يندرجون تحتها، فمن خلال تدريبهم مهنياً، وإعانتهم
على مواجهة صعابهم، يتحولون إلى قوة فاعلة لها وزنها، ولا يجوز تنحيتها، وإلا كان
ذلك تعطيلاً لها، وتبديداً لطاقاتها وانصرافاً عن استثمار ملكاتها، وهو ما تؤيده
التدابير التي تتخذها الدول في شأن المعوقين، ذلك أن غايتها النهائية، ضمان
الانتفاع الأفضل والأعمق بمواردها، فلا يكون هؤلاء عبئاً عليها، وبؤرة تثير
اضطراباً داخل مجتمعاتها، وتخل بما ينبغي أن يتوافر فيها من عناصر التوازن، بين من
يملكون فرص العمل، ومن يسعون للنفاذ إليها حقاً وعدلاً.
وحيث إن ما نحا إليه
المدعى من أن النصوص المطعون عليها تستعيض عن إنفاذ حق المعوقين في معاش يكفيهم
لمواجهة عجزهم، بضمان فرص يعملون من خلالها، فحملتهم بذلك ما لا يطيقون، وأخلت في الوقت
ذاته بنص المادة 17 من الدستور التي تكفل لهؤلاء - ومن أجل ظروفهم - معاشاً
مناسباً في الحدود التي يبنها القانون؛ مردود، بأن الذين يجحدون حق المعوقين في العمل،
إنما يبغونها عوجا، ذلك أن العمل ليس منحه من الدولة تقبضها أو تبسطها وفق إرادتها
ليتحدد على ضوئها من يتمتعون بها أو يُمنعون منها، بل قرره الدستور باعتباره شرفاً
لمن يلتمس الطريق إليه من المواطنين، وواجباً عليهم أداؤه، وحقاً لا يهدر، ومدخلاً
إلى حياة لائقة قوامها الاطمئنان إلى غد أفضل، وطريقاً لبناء الشخصية الإنسانية من
خلال تكامل عناصرها، وإسهاماً حيوياً في تقدم الجماعة وإشباع احتياجاتها، وإعلاءً
لذاتية الفرد، وتقديراً لدوره في مجال النهوض بمسئوليته، وصوناً للتقاليد والقيم
الخلقية الأصلية، التي ينافيها أن يظل المعوقون مؤاخذين بعاهاتهم لا يملكون دفعها
أو تقويمها تصويباً لأوضاعهم. وهو ما ذهب إليه المدعى بتقريره أن منحهم معاشاً مناسباً،
ينبغي أن يكون بديلاً عن فرصهم في العمل، بما يعينه ذلك من إبطال حقهم في حياة
ملائمة تكون كرامتهم قاعدتها، واعتمادهم على أنفسهم مدخلها.
ومن حيث إن قضاء المحكمة
الدستورية العليا، مطرد على أن خضوع الدولة للقانون محدد على ضوء مفهوم ديمقراطي،
مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدولة الديمقراطية
مفترضاً أولياً لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته
وشخصيته المتكاملة. ويندرج تحتها طائفة من الحقوق تعد بالنظر إلى مكوناتها، وثيقة
الصلة بالحرية الشخصية التي كفلها الدستور في مادته الحادية والأربعين، ومنحها
الرعاية الأوفى والأشمل توكيداً لقيمتها، من بينها أن عقوبة الجريمة لا يتحملها
إلا من أدين كمسئول عنها، وهى بعد عقوبة يجب أن تتوازن "وطأتها" مع
"خصائص ووزن الجريمة موضوعها"، فلا يؤخذ بجريرة الجريمة إلا جناتها، ولا
ينال عقابها إلا من قارفها، بما مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن
"شخصية العقوبة" "وتناسبها مع الجريمة محلها" the principle of proportionality" مرتبطتان بمن يعد قانوناً "مسئولاً عن
ارتكابها" وبوجه خاص لا يجوز أن تكون العقوبة التي تفرضها الدولة بتشريعاتها
مهينة في ذاتها، أو كاشفة عن قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير
انتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل
واحد Double jeopardy.
ومرد هذه القاعدة الأخيرة
- التي كفلتها النظم القانون جميعها، وصاغتها المواثيق الدولية باعتبارها مبدأ
مستقراً بين الدول a
universal maxim، أن
الجريمة الواحدة لا تزر وزرين، وأنه وإن كان الأصل أن يُفرد المشرع لكل جريمة
العقوبة التي تناسبها، إلا أن توقيعها على مرتكبها، واستيفاءها، يعنى أن القصاص قد
اكتمل باقتضائها، وليس لأحد بعدئذ على فاعلها من سبيل. ولا يجوز من ثم، أن يتعرض
الشخص لخطر ملاحقته باتهام جنائي أكثر من مرة عن الجريمة عينها، ولا أن تعيد
الدولة بكل سلطانها ومواردها، محاولتها إدانته عن جريمة تدعى ارتكابه لها، لأنها
إذ تفعل، فإنما تبقيه قلقاً مضطرباً، مهدداً بنزواتها، تمد إليه بأسها حين تريد،
ليغدو محاطاً بألوان من المعاناة لا قبل له بها، مبدداً لموارده المالية في غير
مقتض، متعثر الخطى، بل إن إدانته - ولو كان بريئاً - تظل أكثر احتمالاً، كلما كان
الاتهام الجنائي متتابعاً عن الجريمة ذاتها.
وحيث إن المدعى ينعى على
المادة 16 من القانون رقم 39 لسنة 1975 بشأن تأهيل المعوقين، تقريرها لعقوبتين عن
فعل واحد؛ إحداهما هي العقوبة المنصوص عليها في فقرتها الأولى التي تقضى بمعاقبة
من يخالفون أحكام المادة 10 من هذا القانون بغرامة لا تجاوز مائة جنيه والحبس مدة
لا تجاوز شهراً أو بإحدى هاتين العقوبتين؛ وأخراهما تلك المنصوص عليها بفقرتها
الثانية التي تجيز الحكم بإلزام من يملكون سلطة التعيين في أجهزة الدولة أو القطاع
العام بأن يدفعوا لكل من المعوقين المؤهلين الذين رشحوا لهم، وامتنعوا عن
استخدامهم، مبلغاً يعادل الأجر، أو المرتب المقرر، أو الأجر التقديري للعمل، أو
الوظيفة التي رشحوا لها.
وحيث إن هذا النعي مردود
بأن المبالغ التي يلتزم المخالفون لأحكام المادة 10 من هذا القانون، بدفعها إلى
المعوقين المؤهلين عملاً بحكم الفقرة الثانية من المادة 16 منه، هي في حقيقتها نوع
من التعويض يؤديه هؤلاء إلى من حرموهم من فرص العمل التي مكنهم المشرع منها، وعلى
أساس افتراض قيامهم بالعمل في الجهة الإدارية أو الوحدة الاقتصادية من تاريخ منعهم
من مباشرته ولمدة لا تجاوز عاماً. ومن ثم يكون هذا التعويض مبلغاً مالياً محدداً
بنص في القانون، وناشئاً عن جريمة ارتكبها من يملكون حق تعيينهم في الجهة الإدارية
أو الوحدة الاقتصادية. وهو باعتباره جزاءً مدنياً لا يصادم جزاءً جنائياً ولا يعد
اجتماعهما معاً، تقريراً لأكثر من عقوبة عن فعل واحد.
وحيث إن ما ذهب إليه
المدعى من أن العقوبة التي قررها النص المطعون عليه، ليس لها من سند في الدستور،
وأنها لذلك تمثل افتئاتاً على الحرية الشخصية وتُقيّدها دون حق، مردود بأن القانون
الجنائي وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم سلوك الأفراد سواء في علاقاتهم
مع بعضهم البعض، أو من خلال روابطهم مع مجتمعهم، إلا أن القانون الجنائي يفارقها
في اتخاذه العقوبة أداة التقويم ما يصدر عنهم من أفعال على خلاف نواهيه، وهو بذلك
يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعي - ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن
يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعياً ممكناً بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم
لا يكون مبرراً إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزاً تلك الحدود
التي لا يكون معها ضرورياً، غدا مخالفاً للدستور.
وحيث إنه إذ كان ذلك،
وكان الجزاء الجنائي عقاباً واقعاً بالضرورة في إطار اجتماعي، ومنطوياً غالباً من
خلال قوة الردع على تقييد للحرية الشخصية، ومقرراً لغرض محدد، ومستنداً إلى قيم
ومصالح اجتماعية تبرره، كتلك التي تتعلق بصون النظام الاجتماعي، وضمان تكامل بعض
الملامح الجوهرية للعدالة الجنائية وبوجه خاص في مجال اتصالها بحقوق الأفراد
وقيمهم سواء لتأمينها أو لصونها، ليرد المشرع عنها - ومن خلال الجزاء الجنائي -
تلك الأضرار الجسيمة التي تخل بها أو تمسها؛ وكان ما توخاه القانون رقم 39 لسنة
1975 بشأن تأهيل المعوقين، هو ألا يكون هؤلاء أقل شأنهاً من غيرهم في مجتمعاتهم،
وأن تتكافأ فرصهم معهم في مجال النهوض بمسئوليتهم قبلها، فلا ينعزلون عنها، أو
يقفون منها موقفاً سلبياً؛ وكان المشرع في نطاق سلطته التقديرية، وبما لا مخالفة
فيه للدستور، بعد أن قدر أن استخدام المعوقين المؤهلين - في الحدود التي بينها -
يعكس مصالح اجتماعية لها وزنها، تدخل بصور من الجزاء الجنائي لحمل من يملكون فرص
العمل على تذليلها لهؤلاء، وإلا حق عقابهم؛ فإن ما نعاه المدعى من أن هذا الجزاء
تقرر لغير ضرورة، ودون سند من الدستور، يكون منتحلاً.
وحيث إن القول بأن المشرع
ما كان ينبغي أن ينزلق إلى تقرير عقوبة الحبس - وهى تعد إكراهاً بدنياً - في غير
مجالاتها، وبوجه خاص على صعيد العقود المدنية التي لا يجوز أن يكون الامتناع عن
إبرامها، مستوجبا جزاء جنائيا، مردود بأن العقوبة المقيدة للحرية الشخصية التي تضمنها
النص المطعون عليه، غايتها ضمان دمج المعوقين المؤهلين في مجتمعاتهم من خلال فرص
العمل التي أتاحها لجموعهم، ليظلوا قوة فاعلة فيها، فلا تزل أقدامهم، وتلك هى
المصلحة الاجتماعية - وليس مجرد الإخلال بالتزام مدنى - التي تحدد هذا الجزاء على
ضوئها، ليكون كافلاً لحمايتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق