وحيث إن المادة 16 من
القانون رقم 106 لسنة 1976 في شأن توجيه وتنظيم أعمال البناء، كانت تنص قبل
تعديلها بالقانون رقم 101 لسنة 1996، على أن "يصدر المحافظ المختص أو من
ينيبه بعد أخذ رأي لجنة تشكل بقرار منه من ثلاثة من المهندسين المعماريين
والمدنيين من غير العاملين بالجهة الإدارية المختصة بشئون التنظيم ممن لهم خبرة لا
تقل عن عشر سنوات قراراً مسبباً بإزالة أو تصحيح الأعمال التي تم وقفها وذلك خلال
خمسة عشر يوماً على الأكثر من تاريخ إعلان قرار وقف الأعمال المنصوص عليه في
المادة السابقة.
ومع عدم الإخلال
بالمحاكمة الجنائية يجوز للمحافظ بعد أخذ رأي اللجنة المنصوص عليها في الفقرة
السابقة التجاوز عن الإزالة في بعض المخالفات التي لا تؤثر على مقتضيات الصحة
العامة أو أمن السكان أو المارة أو الجيران، وذلك في الحدود التي تبينها اللائحة
التنفيذية.
وفي جميع الأحوال لا يجوز
التجاوز عن المخالفات المتعلقة بعدم الالتزام بقيود الارتفاع المقررة طبقاً لهذا
القانون أو قانون الطيران المدني الصادر بالقانون رقم 28 لسنة 1981 أو بخطوط
التنظيم أو بتوفير أماكن تخصص لإيواء السيارات.
وللمحافظ المختص أن يصدر
قراره في هذه الأحوال دون الرجوع إلى اللجنة المشار إليها في الفقرة الأولى".
وحيث إن المدعي ينعي على
المادة 16 من قانون توجيه وتنظيم أعمال البناء، مخالفتها للمادتين 165 و166 من
الدستور اللتين تكفلان استقلال السلطة القضائية وقضاتها، قولاً بأنها تخول الجهة
الإدارية أن تزيل المباني المخالفة أو تأمر بتصحيح مخالفاتها في الوقت الذي يقدم
فيه المتهم عن المخالفة ذاتها التي بني عليها قرار هذه الجهة، إلى محكمة الجنح مما
يعتبر غصباً لسلطة القضاء وتدخلاً في شئونه.
وحيث إن هذا النعي مردود
أولاً: بأن عملاً بنص المادة 4 من قانون توجيه وتنظيم أعمال البناء، فإن الحصول
على ترخيص من الجهة الإدارية المختصة بشئون التنظيم في شأن المباني التي يراد
إنشاؤها أو توسيعها أو تعليتها أو تعديلها أو تدعيمها أو هدمها، يعتبر شرطاً
لازماً لإجراء هذه الأعمال، تقيداً بمواصفاتها، وضماناً لخضوعها للأصول الفنية
التي يقتضيها تنفيذها وبما يكفل سلامتها، ودون ما إخلال بالقواعد الصحية التي
تحددها اللائحة التنفيذية لهذا القانون.
ومردود ثانياً: بأن الأصل
في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية ما لم يقيدها الدستور
بضوابط محددة تعتبر تخوماً لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها ويتمثل جوهر هذه السلطة
- وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - في المفاضلة بين البدائل المختلفة التي
تتزاحم فيما بينها وفق تقديره على تنظيم موضوع محدد، فلا يختار من بينها إلا ما
يكون منها عنده مناسباً أكثر من غيره لتحقيق الأغراض التي يتوخاها. وكلما كان
التنظيم التشريعي مرتبطاً منطقياً بهذه الأغراض - وبافتراض مشروعيتها - كان هذا
التنظيم موافقاً للدستور. والمباني التي يقيمها أصحابها بدون ترخيص، أو نكولاً عن
الأسس الفنية لمتانتها والأوضاع التنظيمية التي تفرضها القيم الجمالية والحضارية
التي ينبغي أن تهيمن عليها، وتكفل اتساقها مع بعضها البعض، لا تعدو في الأغلب أن
تكون عملاً عشوائياً يهدد بتداعيها، أو ينتقص من مقوماتها، بما يخل بأمن سكانها
وجيرانهم ويحتم إخلاءها. وتواجه جميعاً مخاطر تدخل المشرع لتوقيها درءاً لمفاسدها،
وبما لا إخلال فيه بالدستور.
ومردود ثالثاً: بأن
الجزاء الجنائي لا يفترض، ولا عقوبة بغير نص يفرضها. وقد حدد قانون توجيه وتنظيم
أعمال البناء حصراً الأفعال التي أثمها، وأحاطها بالجزاء الرادع لضمان مراعاة
الأصول الفنية المقررة قانوناً في تصميم أعمال البناء أو تنفيذها أو متابعتها وفق
رسوماتها وبياناتها التي منح الترخيص على أساسها؛ وحتم أن تتخذ الجهة الإدارية
المختصة في شأن الأعمال التي رصد الموظفون المختصون مخالفاتها، إجراء أولياً أو
احتياطياً يتمثل في الأمر بوقفها توقياً لمخاطرها، مع تقدير ما تراه من التدابير
لضمان عدم الانتفاع بهذه الأعمال. بيد أن وقفها لا يعتبر حلاً نهائياً لأعطابها؛
ومن ثم خول المشرع المحافظ المختص أو من ينيبه - وعملاً بنص المادة 16 المطعون
عليها - أن يصدر في شأن هذه الأعمال قراراً لاحقاً بتصحيح
عيوبها أو إزالتها. وسواء تعلق الأمر بوقفها أو إنهاء مخالفاتها، فالقراران
يُعلنان لكل ذي شأن فيهما، بعد تحديدهما لتلك الأعمال التي تناولاها، وبيان مآخذها
ونطاقها، فلا يكون أمرها مجهلاً.
ومردود رابعاً: بأن محكمة
القضاء الإداري - وعملاً بنص المادة 18 من القانون - تختص دون غيرها بالفصل في
الطعون المقدمة إليها في شأن القرارات الصادرة بوقف أعمال البناء أو إزالتها أو
تصحيحها لضمان مشروعيتها وتقويماً لاعوجاجها. وذلك توكيد لاستقلال السلطة القضائية
من خلال تسليط أحد فروعها لرقابته القضائية في شأن كل قرار يتعلق بأعمال بناء يدعى
مخالفتها لأحكام القانون سواء أكان هذا القرار متعلقاً بوقفها أم بإزالتها أم
بتصحيحها. فضلاً عن أن إسناد الاختصاص بنظر هذه الطعون لجهة القضاء الإداري دون
غيرها، إنما يقيمها بوصفها قاضيها الطبيعي عملاً بنص المادة 68 من الدستور.
ومردود خامساً: بأن
المحكمة الجنائية - وعملاً بنص المادة 22 مكرراً (1) من قانون توجيه وتنظيم أعمال
البناء - لا تتدخل للحكم بتصحيح أو استكمال الأعمال المخالفة أو إزالتها. بما
يجعلها متفقة وأحكام القانون، إلا بالنسبة إلى تلك الأعمال التي لم يصدر في شأنها
قرار من المحافظ المختص أو من ينيبه سواء بإزالتها أو تصحيحها. وبذلك حدد المشرع
لكل من جهة القضاء الإداري والعادي ولايتها توقياً لتداخلهما. فأولاهما تُنزل حكم القانون
في شأن كل قرار يصدر عن جهة الإدارة، ويكون قائماً في مبناه على مخالفة أعمال
البناء لشروطها. وثانيتهما تتناول الدائرة التي ينحسر عنها اختصاص أولاهما، إذ
تحقق بنفسها في شأن كل مخالفة لم يصدر بإثباتها قرار مما تقدم، وهي بذلك تقرر
وقوعها أو انتفاءها، وتحدد كذلك مداها بعد الاستيثاق من حدوثها، وأمر قيام
المخالفة المدعى بها أو تخلفها منوط في هاتين الحالتين كلتيهما بالسلطة القضائية،
تتولاه محاكمها على اختلافها.
وحيث إن المادة 24
المطعون عليها تنص على أن: يعاقب المخالف بغرامة لا تقل عن جنيه ولا تجاوز عشرة
جنيهات عن كل يوم يمتنع فيه عن تنفيذ ما قضى به الحكم أو القرار النهائي للجنة
المختصة من إزالة أو تصحيح أو استكمال وذلك بعد انتهاء المدة التي تحددها الجهة
الإدارية المختصة بشئون التنظيم بالمجلس المحلي لتنفيذ الحكم أو القرار.
وتتعدد الغرامات بتعدد
المخالفات. ولا يجوز الحكم بوقف تنفيذ هذه الغرامة.
ويكون الخلف العام أو
الخاص مسئولاً عن تنفيذ ما قضى به الحكم أو القرار النهائي من إزالة أو تصحيح أو
استكمال. وتبدأ المدة المقررة للتنفيذ من تاريخ انتقال الملكية إليه وتطبق في شأنه
الأحكام الخاصة بالغرامة المنصوص عليها في هذه المادة.....".
وحيث إن المدعي ينعي على
المادة 24 المطعون عليها، مخالفتها للمادتين 41 و68 من الدستور من عدة أوجه أولها:
أن إيقاع غرامة على المخالف عن كل يوم يمتنع فيه عن تنفيذ ما قضى به الحكم أو
القرار النهائي للجهة المختصة من إزالة أو تصحيح أو استكمال بعد انتهاء المدة التي
تحددها الجهة المختصة بشئون التنظيم لتنفيذ الحكم أو القرار، مؤداه حجب محكمة
الموضوع عن أن تحقق بنفسها قيام المخالفة المدعى بها، أو انتفاءها، وإنشاؤها
بالتالي لقرينة قانونية يكون بها العقار محل النزاع مخالفاً.
ثانيها: أن النص المطعون
فيه جعل سريان الغرامة رهناً بعد تنفيذ الحكم أو القرار الصادر بتصحيح الأعمال أو
إزالتها أو استكمالها، مما يصم النص العقابي بالغموض والإبهام. وقد فرض هذا النص
كذلك غرامة يومية لا يضبطها زمن محدد تنتهي بعده مما يفيد تراميها في الزمان،
ويفقدها مقوماتها، ويجعلها كذلك سيفاً مسلطاً من الجهة الإدارية على من صدر ضده
القرار. بل إن حكم المادة 24 المطعون عليها يمتد ممن ارتكب الفعل المؤثم إلى خلفه
العام أو الخاص وهما غير مسئولين عنه، مما يعتبر إهداراً لشخصية المسئولية
الجنائية.
ثالثها: أن الأصل هو
امتناع القصاص بالجزاء أكثر من مرة عن فعل واحد. كذلك لا يجوز إيقاع جزاء في غيبة
نشاط إجرامي لا يتخذ مظهراً مادياً. بيد أن المشرع جرم بالنص المطعون فيه،
الامتناع عن تنفيذ ما قضى به الحكم الجنائي أو ما نص عليه القرار الصادر بتصحيح
الأعمال المخالفة أو إزالتها أو استكمالها، منشئاً بذلك جريمة جديدة تتمثل ماديتها
في الآثار التي رتبها فعل سابق عرض أمره من قبل على القضاء، وأصدر فيه حكماً
فصلاً. وتلك صورة من ازدواج المسئولية تخل بالحرية الشخصية التي كفل الدستور صونها
بنص المادة 41، وكذلك بالأسس التي تستلهمها كل محاكمة تتم إنصافاً على ما تقضي به
المادة 67 من الدستور.
وحيث إن الدستور إذ نص في
المادة 66 على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، قد دل على أن الأصل هو
أن تتولى السلطة التشريعية بنفسها - ومن خلال قانون بالمعنى الضيق تقره وفقاً
للدستور - تحديد الجرائم وبيان عقوباتها. وليس لها بالتالي أن تتخلى كلية عن
ولايتها هذه، بأن تعهد بها بأكملها إلى السلطة التنفيذية، وإن كان يكفيها وفقاً
لنص المادة 66 من الدستور أن تحدد إطاراً عاماً لشروط التجريم وما يقارنها من
جزاء؛ لتُفَصل السلطة التنفيذية بعض جوانبها، فلا يعتبر تدخلها عندئذ في المجال
العقابي إلا وفقاً للشروط والأوضاع التي نظمها القانون، بما مؤداه أن النصوص
القانونية وحدها - بعموميتها وانتفاء شخصيتها la Portée generale et impersonnelle هي التي يدور التجريم معها، ولا يتصور أن ينشأ بعيداً عنها ولا يعني
ذلك أن للسلطة التنفيذية مجالاً محجوزاً تنفرد فيه بتنظيم أوضاع التجريم، فلا زال
دورها تابعاً للسلطة التشريعية، ومحدداً على ضوء قوانينها، فلا تتولاه بمبادرة
منها لا سند من قانون قائم.
وحيث إن غموض النص
العقابي مؤداه أن يجهل المشرع بالأفعال التي أثمها، فلا يكون بيانها جلياً، ولا
تحديدها قاطعاً أو فهمها مستقيماً، بل منبهماً خافياً. ومن ثم يلتبس معناها على
أوساط الناس الذين لا يتميزون بعلو مداركهم ولا يتسمون بانحدارها، إنما يكونون بين
ذلك قواماً، فلا يقفون من النصوص العقابية على دلالتها أو نطاق تطبيقها، بل يكون
حدسهم طريقاً إلى التخبط في شأن صحيح مضمونها ومراميها، بعد أن أهمل المشرع في
ضبطها بما يحدد مقاصده منها بصورة ينحسم بها كل جدل حول حقيقتها، مما يفقد هذه
النصوص وضوحها ويقينها، وهما متطلبان فيها، فلا تقدم للمخاطبين بها إخطاراً
معقولاً fair notice بما ينبغي عليهم أن يدعوه أو يأتوه من الأفعال
التي نهاهم المشرع عنها أو طلبها منهم. وهو ما يعني أن يكون تطبيق تلك النصوص من
قبل القائمين على تنفيذها عملاً انتقائياً، محدداً على ضوء أهوائهم ونزواتهم
الشخصية، ومبلوراً بالتالي خياراتهم التي يتصيدون بها من يريدون، فلا تكون إلا
شراكاً لا يأمن أحد معها مصيراً، وليس لأيهم بها نذيراً.
As generally stated, the void - vagueness doctrine requires that a penal
statute define the criminal offense with sufficient definiteness that ordinary
people can understand what conduct is prohibited and in a manner that does not
encourage arbitrary discriminatory enforcement.
وحيث إن النصوص العقابية
فضلاً عن غموضها، قد تتسم بتميعها من خلال اتساعها وانفلاتها وهي تكون كذلك إذا
كانت - بالنظر إلى المعنى المعتاد لعباراتها - لا تنحصر في تلك الأفعال التي يجوز
تأثيمها وفقاً للدستور، بل تجاوزها إلى أفعال رخص بها الدستور أو كفل صونها بما
يحول دون امتداد التجريم إليها، وهو ما يعني مروقها عن حد الاعتدال وإفراطها في
التأثيم، فلا يكون نسيجها إلا ثوباً يفيض عنها، ولا يلتئم وصحيح بنيانها. broad and fluid determination
وحيث إن من المقرر كذلك،
أن وحدة التنظيم القانوني للجرائم التي ارتبط بها الجزاء الجنائي، لا ينال منها
سريان هذا التنظيم في شأن أشخاص يختلفون فيما بينهم بالنظر إلى مضمون التزاماتهم
التي عاقبهم المشرع على الإخلال بها عقاباً جنائياً، إذ لا يعدو ذلك أن يكون
تغايراً في الوقائع التي تقرر الجزاء الجنائي بمناسبتها. وليس من شأن تباينها -
مضموناً أو أثراً - أن يكون تحديد الجرائم وعقوباتها قد انتقل من المشرع إلى
أيديهم.
Si le contenu des obligations dont la méconnaissance est sanctionnèe pénalement
peut différer d'un cas l’autre, cette circonstance, qui conerne la variètè
pouvant etre l’occasion de la rèpression pènale sans altérer l’unité de la
définition légale des infractions, des Faits n’ a ni pour objet ni pour effet
de transférer a des particuliers la détermination des infractions et des peines
qui leur sont attachées.
(82 - 145 DC, 10 november 1982, Rec. P. 64).
وحيث إن قضاء هذه المحكمة
قد جرى على أن القانون الجنائي وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم
علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض وكذلك على صعيد علاقاتهم بمجتمعاتهم، إلا أن
القانون الجنائي يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما لا يجوز التسامح فيه
اجتماعياً من نظاهر سلوكهم. وشرط ذلك أن يكون الجزاء الجنائي حائلاً دون الولوغ في
الإجرام، ملبياً ضرورة أن يتهيأ المذنبون لحياة أفضل، مستلهماً أوضاع الجناة
وخصائص جرائمهم وظروفها؛ نائياً بعقابهم عن أن يكون غلواً أو تفريطاً بما يفقد
القواعد التي تدار العدالة الجنائية على ضوئها فعاليتها. ويتعين بالتالي أن يكون
الجزاء الجنائي محيطاً بهذه العوامل جميعها وأن يصاغ على ضوئها، فلا يتحدد بالنظر
إلى واحد منها دون غيره.single
- valued approach
وكلما استقام الجزاء على
قواعد يكون بها ملائماً ومبرراً، فإن إبدال المحكمة الدستورية العليا لخياراتها
محل تقدير المشرع في شأن تقرير جزاء أو تحديد مداه، لا يكون جائزاً دستورياً.
وحيث إن مبدأ خضوع الدولة
للقانون محدداً على ضوء مفهوم ديمقراطي، مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التي
يعتبر صونها مفترضاً أولياً لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية تؤمن لكل إنسان
تلك الحقوق التي تتكامل بها شخصيته، ويندرج تحتها ألا تكون النصوص القانونية كاشفة
بمضمونها أو أثرها عن معاقبتها للشخص أكثر من مرة عن فعل واحد، إذ لا يجوز أن يكون
الاتهام الجنائي متلاحقاً، متحيناً الفرص التي يكون فيها مواتياً، منتهياً إلى
إدانة أكثر احتمالاً، ليظل المتهم قلقاً مضطرباً، مهدداً من سلطة الاتهام ببأسها
ونزواتها، تمد إليه بطشها - ومن خلال مواردها المتجددة - حين تريد، متحملاً بذلك
أشكالاً من المعاناة يجهل معها مصيره، فلا يأمن أن تعيده من جديد لدائرة اتهامها
توكيداً لسلطانها، ولو استنفد القصاص به الأغراض التي توخاها.
وحيث إن الجريمة في
مفهومها القانوني تتمثل في الإخلال بنص عقابي؛ وكان وقوعها لا يكون إلا بفعل أو
امتناع يتحقق به هذا الإخلال؛ وكانت الجريمة الواحدة لا تتعدد أو تنقسم بالفعل
الواحد، فقد صار ممتنعاً أن يكون التحرش بالمتهم إيذاء، سياسة جنائية تؤمن عواقبها
أو تستمد دوافعها من نصوص الدستور، بل هي في حقيقتها عدوان على الحرية الشخصية
التي كفلها، مرتقياً بأهميتها إلى حد إدراجها في إطار الحقوق الطبيعية الأسبق من
نشأة الدول بكل تنظيماتها، حتى عند من يقولون بأن عقداً اجتماعياً قد انتظمها مع
المقيمين فيها، وأنهم نزلوا لها بمقتضاه عن بعض حقوقهم لتمارسها بما يحقق مصالحهم
في مجموعها.
كذلك فإن امتناع معاقبة
الشخص أكثر من مرة عن الجريمة ذاتها، يفترض ألا نكون بصدد جريمتين لكل منهما
خصائصها، ولو تتابعتا من حيث الزمان، أو كانتا واقعتين في مناسبة واحدة. والعبرة
عند القول بوجود جريمتين هي بحقيقتهما، لا بأوصافهما التي خلعها المشرع عليهما.
وحيث إن ما ينعاه المدعي
من مخالفة الفقرة الأولى من المادة 24 المطعون عليها للدستور مردود أولاً: بأن
إحداث أعمال بناء معيبة جريمة تستقل بأركانها - ما كان منها مادياً أو معنوياً -
عن جريمة الامتناع عن إزالتها أو تصحيحها. فبينما تستنفد الجريمة الأولى موضوعها
بعد أن تدخل الجاني إيجابياً ليقيم هذه الأعمال دون تقيد بالنصوص القانونية
المعمول بها في شأنها، فإن ثانيتهما تفترض أن يكون الامتناع عن إزالتها أو تصحيحها
- بعد إحداثها - نشاطاً سلبياً قصد به الجاني أن يبقيها على حالها دون تغيير،
تنصلاً من إعاشتها على ضوء الشروط البنائية المقررة في شأنها، بما يكفل توافقها
معها.
واستقلال هاتين الجريمتين
عن بعضهما البعض، مؤداه أن لكل منهما مقوماتها، فلا يتداخلان، ولا يتبادلان
مواقعهما، ولا تعتبر الفصل في أيتهما - بالتالي - قضاء في ثانيتهما.
ومردود ثانياً: بأن
القرائن القانونية - حتى ما كان منها قاطعاً - هي التي يقيمها القانون مقدماً
ويعممها، مستنداً في صياغتها إلى ما هو راجح الوقوع في الحياة العملية، معفياً بها
الخصم من التدليل على الواقعة الأصلية مصدر الحق المدعى به، ناقلاً إثباتها من هذا
المحور إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها لدلالتها، فإذا أثبتها الخصم، اعتبر
ذلك إثباتاً للواقعة الأصلية بحكم القانون. ولا كذلك النص المطعون فيه، فليس ثمة
واقعة أبدلها المشرع بغيرها لتحل محلها، بل تتحقق جريمة الامتناع عن تصحيح عيوب
البناء أو إزالتها، بتوافر أركانها التي لا إعفاء لسلطة الاتهام من إثباتها
بكاملها، وإلا كان إخفاقها في التدليل عليها، مبرئاً المتهم منها.
ومردود ثالثاً: بأن مبدأ
شرعية الجرائم وعقوباتها، لا يقتضي لزوماً أن يكون الجزاء الجنائي في شأن الأفعال
التي أثمها المشرع محدداً تحديداً مباشراً، بل يكفي أن يتضمن النص العقابي تلك
العناصر التي يكون معها هذا الجزاء قابلاً للتحديد، ومعيناً بالتالي من خلالها،
فلا يكون الجزاء بها منبهماً، ولا مفضياً إلى التحكم، بل قائماً على أسس حدد
المشرع سلفاً ركائزها. وهو ما يقع على الأخص كلما ربط النص العقابي بين الغرامة
التي فرضها؛ وإهمال المخالفين لقوانين المباني تصحيح مخالفاتهم أو إزالتها، محدداً
مقدارها بقدر المدة التي أمتد إليها الإخلال بواجباتهم التي فرضتها تلك القوانين،
ليكون الحمل على التقيد بها، غاية نهائية للغرامة التي يقتضيها، وليس لازماً
بالتالي - ومن منظور هذا السياق - أن يكون مقدارها واقعاً في إطار حدين يكون
أدناهما وأقصاهما مقررين سلفاً، ليحدد القاضي مبلغها فيما بينهما، بل يجوز أن يتخذ
المشرع معياراً لضبطها يكون به مبلغها محدداً على ضوء المدة التي استغرقها
الامتناع عن تصحيح الأعمال لقوانين توجيه وتنظيم أعمال البناء، أو إزالتها.
ومردود رابعاً: بأن
الفقرة الأولى من المادة 24 المطعون عليها تفترض أن حكماً قضائياً أو قراراً
نهائياً قد صدر في شأن المخالفين لقوانين المباني، متضمناً إلزامهم تصحيح
مخالفاتهم أو إزالتها، وإن هؤلاء قد امتنعوا عن تنفيذ هذا الحكم أو القرار خلال
المدة التي حددتها لذلك الجهة الإدارية المختصة بشئون التنظيم بالمجلس المحلي،
وتقدير هذه الجهة لتلك المدة، يفترض كفايتها وتعلقها بأعمال بناء تم رصد
مخالفاتها، بما مؤداه أن دورها لا يجاوز تقديراً موضوعياً لزمن تقويمها، ولا يتضمن
عدواناً من جهتها على الولاية التي أثبتها الدستور للسلطة التشريعية في مجال إنشاء
الجرائم وتحديد عقوباتها.
ومردود خامساً: بأن ما
تغياه المشرع من أن يكون مقدار الغرامة التي فرضها محدداً بما لا يقل عن جنيه ولا
يزيد على عشرة جنيهات عن كل يوم من أيام الامتناع عن تنفيذ ما قضى به الحكم أو
القرار بعد انتهاء المدة التي حددتها الجهة الإدارية لهذا الغرض، هو أن يكون
مبلغها مناسباً مع خطورة الأفعال التي تلابس توقيعها، كافلاً خاصية الردع التي
ينبغي أن تلازمها من خلال التصاعد بمبلغها بقدر إصرار المتهم على أن يظل البناء
معيباً.
ومردود سادساً: بأن لكل
ذي شأن أن ينازع في ادعاء الجهة الإدارية عيباً بالأعمال التي أحدثها، وكذلك في
مقدار المدة التي حددتها لعلاجها، والفصل في هذا النزاع عائد إلى محكمة الموضوع
التي تستقل بتقدير العناصر التي قام عليها، فلا تعتمد منها غير ما تراه حقاً على
ضوء اقتناعهما.
وحيث إن طلب المدعي الحكم
بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 24 المطعون عليها مع الحكم بسقوط باقي
فقراتها، مؤداه اتساع هذا الطعن لكافة أحكامها بما في ذلك فقرتها الثانية التي لا
تجيز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة التي قررتها الفقرة الأولى.
وحيث إن قضاء هذه
المحكمة، قد جرى على أن المتهمين لا تجوز معاملتهم بوصفهم نمطاً ثابتاً، أو النظر
إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في قالبها، بما مؤداه أن الأصل في
العقوبة هو تفريدها لا تعميمها. وتقرير استثناء من هذا الأصل - أياً كانت الأغراض
التي يتوخاها - مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم، وأن عقوبتهم يجب أن تكون
واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة بما يفقد العقوبة
تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، وبما يقيد الحرية الشخصية دون مقتض. ذلك أنه
مشروعية العقوبة من زاوية دستورية، مناطها أن يباشر كل قاض سلطته في مجال التدرج
بها وتجزئتها، تقديراً لها، في الحدود المقررة قانوناً. فذلك وحده الطريق إلى
معقوليتها وإنسانيتها جبراً لآثار الجريمة من منظور موضوعي يتعلق بها وبمرتكبها.
وحيث إن السلطة التي
يباشرها القاضي في مجال وقف تنفيذ العقوبة، فرع من تفريدها؛ وكان التفريد لا ينفصل
عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية، ويتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة فرضها
المشرع بصورة مجردة، شأنها في ذلك شأن القواعد القانونية جميعها، وكان إنزالها
"بنصها" على الواقعة الإجرامية محل التداعي، ينافي ملاءمتها لكل أحوالها
ومتغيراتها وملابساتها؛ فإن سلطة تفريد العقوبة - ويندرج تحتها الأمر بإيقافها -
هي التي تخرجها من قوالبها الصماء، وتردها إلى جزاء يعايش الجريمة ومرتكبها، ويتصل
بهما اتصال قرار.
وحيث إن من الثابت كذلك،
أن تفريد عقوبة الغرامة - وهو أكثر مرونة من تفريد العقوبة السالبة للحرية -
يجنبها عيوبها باعتباره كافلاً عدالتها، ميسراً تحصيلها، حائلاً دون أن تكون
وطأتها على الفقراء أثقل منها على الأغنياء، وكان فرض تناسبها في شأن جريمة
بذاتها، إنصافاً لواقعها وحال مرتكبها، يتحقق بوسائل متعددة يندرج تحتها أن يفاضل
القاضي - وفق أسس موضوعية - بين الأمر بتنفيذها أو إيقافها، وكان المشرع قد سلب
القاضي هذه السلطة بالفقرة الثانية من المادة 24 المطعون عليها، فإنه بذلك يكون قد
أخل بخصائص الوظيفة القضائية، وقوامها في شأن الجريمة محل الدعوى الجنائية، تقدير
العقوبة التي تناسبها، باعتبار أن ذلك يعد مفترضاً أولياً متطلباً دستورياً لصون
موضوعية تطبيقها.
A constitutional Prerequisite to the proportionate imposition of penalty
وحيث إن من المقرر أن
شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها، مرتبطان بمن يكون قانوناً مسئولاً عن
ارتكابها على ضوء دوره فيها، ونواياه التي قارنتها، وما نجم عنها أو يرجح أن يترتب
عليها من ضرر؛ وكان ما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة 24 المطعون عليها من
اعتبار الخلف العام أو الخاص مسئولاً عن تنفيذ ما قضى به الحكم أو القرار النهائي
من تصحيح الأعمال المعيبة أو إزالتها، على أن تبدأ المدة المقررة للتنفيذ من تاريخ
انتقال الملكية إليه، مؤداه ألا يكون مسئولاً عن تقويم هذه الأعمال إلا إذا كان قد
تملكها ميراثاً؛ أو تلقاها بالعقد من سلفه، بما مؤداه أن مناط مسئوليته الجنائية
عنها، أن يكون قد صار مهيمناً عليها، متصلاً بها، مباشراً في شأنها تلك السيطرة
القانونية التي يملك بها ناصيتها، ولا يكون ذلك إلا إذا غدا زمامها بيده من خلال
انتقال سند ملكيتها إليه، فإذا أبقى بعدئذ مخالفاتها على حالها، ولم يبادر إلى درء
مخاطرها استصحاباً لسوءاتها - وأكثرها يكون فادحاً - فإن مقابلة هذا الامتناع
بالغرامة المتصاعد مبلغها للحمل على تقويم هذه الأعمال ورد اعوجاجها، لا يكون
مخالفاً للدستور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق