باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الرابع من نوفمبر سنة 2023م،
الموافق العشرين من ربيع الآخر سنة 1445 ه.
برئاسة السيد المستشار / بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة
المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم ومحمود محمد غنيم والدكتور عبد العزيز محمد
سالمان وطارق عبد العليم أبو العطا وعلاء الدين أحمد السيد وصلاح محمد الرويني
نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ محمد ناجي عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 116 لسنة 33
قضائية دستورية.
المقامة من
محمد عبد الله عبد الحميد حمدي شمس الدين
ضد
1- رئيس مجلس الوزراء
2- وزير المالية
3- الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي (تأمينات الحكومة)
4- الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي (تأمينات القطاع العام)
----------------
" الإجراءات "
بتاريخ السادس من يونيو سنة 2011، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم
كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من
المادة (107) ونص الفقرة الأولى من البند رقم (3) من المادة (113) من قانون
التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975، فيما تضمناه من قواعد
استحقاق وقطع المعاش عن الابن فقط دون البنت، عند بلوغ سن الحادية والعشرين.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وقدم المدعي مذكرة ردد فيها طلباته الأصلية.
وقدمت الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض
الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قدم كل من المدعي
والهيئة المدعى عليها مذكرة ختامية بالطلبات ذاتها، وقررت المحكمة إصدار الحكم
بجلسة اليوم.
----------------
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق -
في أن المدعي أقام أمام محكمة الإسكندرية الابتدائية الدعوى رقم 791 لسنة 2010
مدني كلي، ضد المدعى عليهم، بطلب الحكم باستحقاقه صرف معاش عن والديه المتوفيين،
وذلك اعتبارًا من شهر فبراير سنة 2010، تأسيسًا على أنه بوفاة والدته في
25/1/2010، تم قطع المعاشين المستحقين لها عن نفسها وعن زوجها المتوفى في
28/12/1995 - والد المدعي -، وإذ رفضت لجنة فض المنازعات بتلك الهيئة طلبه صرف
المعاش عن والديه، على الرغم من توافر شروط استحقاقه؛ لعجزه عن الكسب واستمرار قيده
بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، فقد أقام دعواه، وحال نظرها دفع المدعي بعدم
دستورية المادة (107)، والبند (3) من المادة (113) من قانون التأمين الاجتماعي
الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975، وإذ قدرت المحكمة جدية الدفع، وصرحت بإقامة
الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى المعروضة، مخصصًا طلبه بالنسبة إلى المادة (107)
من ذلك القانون في فقرتها الأولى.
وحيث إن المادة (107) من قانون التأمين الاجتماعي، الصادر بالقانون
رقم 79 لسنة 1975، المستبدلة بالقانون رقم 25 لسنة 1977، تنص على أنه يشترط
لاستحقاق الأبناء ألا يكون الابن قد بلغ سن الحادية والعشرين، ويستثنى من هذا
الشرط الحالات الآتية:
1- العاجز عن الكسب.
2- الطالب بأحد مراحل التعليم التي لا تجاوز مرحلة الحصول على مؤهل
الليسانس أو البكالوريوس أو ما يعادلها بشرط عدم تجاوزه سن السادسة والعشرين وأن
يكون متفرغًا للدراسة.
3-........
وتنص المادة (108) من القانون ذاته، بعد استبدالها بالقانون رقم 25
لسنة 1977، على أنه يشترط لاستحقاق البنت ألا تكون متزوجة.
وتنص المادة (113) من القانون ذاته، المستبدل بنديها (2 و3) بالقانون
رقم 30 لسنة 1992 بزيادة المعاشات وتعديل بعض أحكام قانون التأمين الاجتماعي، على
أنه: يقطع معاش المستحق في الحالات الآتية:
1-........
2- زواج الأرملة أو المطلقة أو البنت ....
3- بلوغ الابن أو الأخ سن الحادية والعشرين، ويستثنى من ذلك الحالات
الآتية:
أ - العاجز عن الكسب حتى زوال حالة العجز.
ب- الطالب حتى تاريخ التحاقه بعمل أو مزاولته مهنة أو تاريخ بلوغه سن
السادسة والعشرين أيهما أقرب، ويستمر صرف معاش الطالب الذي يبلغ سن السادسة
والعشرين خلال السنة الدراسية حتى نهاية تلك السنة.
ج - الحاصل على مؤهل نهائي حتى تاريخ التحاقه بعمل أو مزاولته مهنة أو
تاريخ بلوغه سن السادسة والعشرين بالنسبة للحاصلين على الليسانس أو البكالوريوس
وسن الرابعة والعشرين بالنسبة للحاصلين على المؤهلات النهائية الأقل أي التاريخين
أقرب.
وتصرف للابن أو الأخ في حالة قطع معاشه منحة تساوي معاش سنة بحد أدنى
مقداره مائتا جنيه، ولا تصرف هذه المنحة إلا لمرة واحدة، ويصدر وزير التأمينات
قرارًا بشروط وقواعد صرف هذه المنحة.
4-.........
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن المصلحة الشخصية المباشرة -
وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها قيام علاقة منطقية بينها وبين المصلحة في
الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في
الطلبات المطروحة على محكمة الموضوع، ولا تتحقق تلك المصلحة إلا باجتماع شرطين،
أولهما: أن يقوم الدليل على أن ضررًا واقعيًّا مباشرًا ممكنًا تداركه قد لحق
بالمدعي، وثانيهما: أن يكون مرد هذا الضرر إلى النص التشريعي المطعون فيه.
متى كان ما تقدم، وكان مناط إعمال نص البند (3) من المادة (113) من
قانون التأمين الاجتماعي المشار إليه، يتطلب تحقق شرط مفترض مؤداه: سبق صرف معاش
للمستحق، تقرر قطعه عنه، لتوافر إحدى الحالات المبينة بالنص السالف الذكر، الأمر
الذي أجدبت عنه أوراق الدعوى الموضوعية، بما يتآدى إلى تخلف شرط المصلحة الشخصية
المباشرة للمدعي في الطعن على النص المار بيانه، ولزامه القضاء بعدم قبول الدعوى
في هذا الشق منها، في حين أن صدر نص المادة (107) من القانون المار بيانه،
باشتراطه عدم بلوغ الابن سن الحادية والعشرين عند وفاة المؤمن عليه أو صاحب المعاش،
هو الذي حال دون صرف المعاش المستحق للمدعي عن والدته المتوفاة بتاريخ 25/1/2010،
لتجاوزه في هذا التاريخ السن المقررة بالنص المطعون فيه؛ ومن ثم يكون للقضاء في
دستورية هذا النص أثره وانعكاسه الأكيد على النزاع الموضوعي - في شق منه - وقضاء
محكمة الموضوع في الطلبات المتصلة بهذا الشق، ويتحدد نطاق الدعوى المعروضة، فيما
نص عليه صدر المادة (107) من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة
1975، المعدل بالقانون رقم 25 لسنة 1977، من أنه يشترط لاستحقاق الابن ألا يكون قد
بلغ سن الحادية والعشرين دون سائر أحكام النص الأخرى. ولا ينال من توافر المصلحة
في الدعوى المعروضة إلغاء قانون التأمين الاجتماعي، الصادر بالقانون رقم 79 لسنة
1975، المتضمن النص المطعون فيه، وذلك بموجب القانون رقم 148 لسنة 2019 بإصدار
قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات؛ إذ إن المقرر في قضاء هذه المحكمة، أن
إلغاء النص التشريعي المطعون فيه لا يحول دون النظر والفصل في الطعن عليه بعدم
الدستورية، من قبل من طبق عليهم ذلك القانون خلال فترة نفاذه، وترتبت بمقتضاه آثار
قانونية بالنسبة إليهم، وتبعًا لذلك تتوافر لهم مصلحة شخصية في الطعن بعدم دستوريته.
حيث إن المدعي ينعى على النص المطعون فيه، مخالفته لقواعد الميراث في
الشريعة الإسلامية، ومبادئ العدالة الاجتماعية، والتكافل والتضامن الاجتماعي،
ومبدأ المساواة والحق في العمل المنصوص عليها بالمواد (2 و5 و7) من الإعلان
الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة عام 2011، والمواد (2 و7 و11 و17
و40) من دستور 1971، المقابلة للمواد (2 و4 و8 و12 و17 و53) من دستور 2014.
وحيث إن الرقابة على دستورية القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد
الموضوعية التي تضمنها الدستور، تخضع للدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة
تستهدف - أصلاً - صون هذا الدستور، وحمايته من الخروج على أحكامه، لكون الطبيعة
الآمرة لقواعد الدستور، وعلوها على ما دونها من القواعد القانونية، وضبطها للقيم
التي ينبغي أن تقوم عليها الجماعة، تقتضي إخضاع القواعد القانونية جميعها - أيًّا
كان تاريخ العمل بها - لأحكام الدستور القائم، لضمان اتساقها والمفاهيم التي أتى
بها، فلا تتفرق هذه القواعد في مضامينها بين نظم مختلفة، يناقض بعضها بعضًا، بما
يحول دون جريانها وفق المقاييس الموضوعية ذاتها التي تطلبها الدستور القائم كشرط
لمشروعيتها الدستورية. إذ كان ذلك، وكانت المناعي التي وجهها المدعي إلى النص
المطعون فيه، تندرج ضمن المطاعن الموضوعية التي تقوم في مبناها على مخالفة نص
تشريعي لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعي، وكان النص المطعون فيه وإن صدر
قبل العمل بالدستور القائم إلا أنه ظل ساريًا ومعمولًا بأحكامه، حتى ألغي بالقانون
رقم 148 لسنة 2019 المار ذكره، فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على دستورية هذا
النص، في ضوء أحكام الدستور الصادر سنة 2014.
وحيث إنه عن النعي بمخالفة النص المطعون فيه لمبادئ الشريعة
الإسلامية، المنصوص عليها في المادة (2) من الدستور الصادر سنة 1971، فإنه مردود
بأن قضاء هذه المحكمة قد استقر على أن حكم المادة الثانية من الدستور- بعد تعديلها في 22 من مايو سنة 1980 - يقيد السلطة التشريعية،
اعتبارًا من تاريخ العمل بهذا التعديل، أما التشريعات السابقة على ذلك التاريخ فلا
يتأتى إعمال حكم الإلزام المشار إليه بالنسبة إليها، لصدورها فعلًا من قَبله، في
وقت لم يكن القيد المتضمن هذا الإلزام قائمًا، واجب الإعمال؛ ومن ثم فإن هذه
التشريعات تكون بمنأى عن إعمال هذا القيد. إذ كان ذلك، وكان نص المادة المطعون
عليها يقع ضمن مواد قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975،
المستبدل بالقانون رقم 25 لسنة 1977، ولم يلحقه أي تعديل بعد تاريخ 22/5/1980، حتى
أُلغي قانون التأمين الاجتماعي المشار إليه في 1/1/2020- تاريخ العمل بالقانون رقم 148 لسنة 2019- فإن النعي عليه بمخالفة
المادة الثانية من الدستور، والمجادلة فى الحجية المطلقة لأحكام هذه المحكمة في
شأن التشريعات السابقة على التعديل المشار إليه، يكونان واردين على غير محل.
وحيث إن أحكام قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة
1975، قد توخت إنشاء صندوقين لتأمين المشمولين بأحكامه في مستقبل أيامهم، عند
تقاعدهم، أو عجزهم، أو مرضهم، وكفالة الحقوق المتفرعة من المزايا التأمينية
المبينة بنصوصه لأسرهم بعد وفاتهم. وكانت الأموال التي يتلقاها مباشرة عن هذين
الصندوقين الأشخاص المستحقون للمعاش، المبينون حصرًا في الباب التاسع من هذا
القانون، عند وفاة المؤمن عليه أو صاحب المعاش، لا تعتبر من الحقوق المالية التي
كسبها عضو الصندوق واختص بها قبل وفاته، ولا يتصور بالتالي أن يكون قد تركها
لغيره، ولا أن يقوم الورثة مقام مورثهم فيها، وكانت الحقوق المالية التي لا يكتمل
وجودها قبل وفاة من يدعيها، وكذلك الحقوق التي لا يجوز لشخص أن ينقلها إلى غيره
حال حياته، لا يتصور توريثها، وكان الأصل في الحقوق هو إضافتها إلى أسبابها، فلا
يستقل وجودها عنها، وكان المشرع قد كفل شكلًا من أشكال التعاون بين أعضاء
الصندوقين وأسرهم، بما يدنيهم من التغلب على صعابهم التي تتصل بعوارض الحياة؛ من
مرض أو تقاعد أو وفاة، ويقيم إطارًا لهذا التعاون من خلال موارد الصندوق التي
ينميها، ويسهم أعضاؤه فيها، وتدعمها الدولة كذلك من ميزانيتها. ولما كان الحق في
المعاش إنما ينشأ عن القانون مباشرة دون أن يمر بذمة المورث، فلا يعتبر تركة بأية
حال، ويتم توزيعه وفقًا للأنصبة والأحكام المقررة بقانون التأمين الاجتماعي بوصفه
نظامًا للتكافل الاجتماعي، وليس بوصفه إرثًا يخضع لقواعد الميراث المقررة في
الشريعة الإسلامية، وهو ما مؤداه: أن النص المطعون فيه -الذي انتظم شروط استحقاق
الأبناء للمعاش عن والديهم- لا يكون متعلقًا بحق الإرث المكفول بنص المادة (35) من
الدستور؛ ويكون النعي عليه في هذا الشأن غير سديد، متعينًا طرحه.
وحيث إن الدساتير المصرية على تعاقبها قد حرصت على النص على التضامن
الاجتماعي، باعتباره ركيزة أساسية لبناء المجتمع، وواحدًا من الضمانات الجوهرية
التي ينبغي أن ينعم بها أفراده، وهو ما أكدت عليه المادة (8) من الدستور القائم،
التي ألزمت الدولة بتوفير سبل التضامن والتكافل الاجتماعي، بما يضمن الحياة
الكريمة لجميع المواطنين، على النحو الذي ينظمه القانون. وفي سبيل تحقيق ذلك،
ألزمت المادة (17) من الدستور الدولة بكفالة توفير خدمات التأمين الاجتماعي، وحق
كل مواطن في الضمان الاجتماعي، إذا لم يكن متمتعًا بنظام التأمين الاجتماعي، بما
يضمن له ولأسرته الحياة الكريمة، وتأمينه ضد مخاطر حالات العجز عن العمل والشيخوخة
والبطالة، باعتبار أن مظلة التأمين الاجتماعي التي يحدد المشرع نطاقها - وعلى ما
جرى عليه قضاء هذه المحكمة - هي التي تكفل بمداها واقعًا أفضل، يؤمن المواطن في
غده، وينهض بموجبات التضامن الاجتماعي التي يقوم عليها المجتمع، بما مؤداه: أن
المزايا التأمينية هي- في حقيقتها - ضرورة اجتماعية بقدر ما هي ضرورة اقتصادية، وأن غايتها
أن تؤمن المشمولين بها في مستقبل أيامهم عند تقاعدهم أو عجزهم أو مرضهم، وأن تكفل
الحقوق المتفرعة عنها لأسرهم بعد وفاتهم، وهي معانٍ استلهمها الدستور القائم بربطه
الرفاهية والنمو الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية، حين أكد في المادة (27) منه أن
النظام الاقتصادي يهدف إلى تحقيق الرخاء في البلاد من خلال التنمية المستدامة،
والعدالة الاجتماعية، بما يكفل رفع معدل النمو الحقيقي للاقتصاد القومي، ورفع
مستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر.
وحيث إن الدستور وإن جعل بمقتضى نص المادة (17) منه توفير خدمات
التأمين والضمان الاجتماعي التزامًا دستوريًا على عاتق الدولة، ليكون الوفاء به
بحسب الأصل من خلالها، بيد أن التزامها في هذا الشأن بأن تكفل لمواطنيها ظروفًا
أفضل في مجال التأمين والضمان الاجتماعي، لا يعني أن تنفرد وحدها بصون متطلباتها،
ولا أن تتحمل دون غيرها بأعبائها، وإلا كان ذلك تقويضًا لركائز التضامن الاجتماعي
التي يقوم عليها المجتمع.
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الدستور وقد ناط بالدولة أن
تكفل لمواطنيها خدماتهم التأمينية والاجتماعية، أضفى حماية خاصة لأموال التأمينات
والمعاشات، بحسبانها، وعوائدها، حقًّا للمستفيدين منها، وإن اعتبر أموالها أموالًا
خاصة، إلا أنها تتمتع بجميع أوجه وأشكال الحماية المقررة للأموال العامة.
متى كان ما تقدم، وكان المشرع قد حصر في الباب التاسع من قانون
التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 المستحقين للمعاش، بعد وفاة
المؤمن عليه، أو صاحب المعاش، وشروط استحقاقهم، ومنهم الابن، ليكفل له الحد الأدنى
لمعيشة كريمة، لا تمتهن فيها آدميته، معولًا في استحقاقه على الاشتراكات التي
سددها المؤمن عليه ومدتها، والأقساط التي تحملتها الخزانة العامة في حساب قيمة
المعاش المستحق له، وعوائد استثمار هذه الأموال، ففرض النص المطعون فيه لاستحقاق
الابن المعاش عن والديه بوفاة أحدهما أو كليهما، ألا يكون قد بلغ سن الحادية
والعشرين؛ حماية له من العوز والحاجة، قبل أن تكتمل له مقومات القدرة على الكسب،
متخذًا من بلوغ سن الرشد القانوني واكتمال أهلية الأداء والوجوب سببًا قانونيًّا
ومبررًا موضوعيًّا لعدم استحقاق المعاش، واستثنى من ذلك حالة العاجز عن الكسب حتى
زوال حالة العجز، أو حالة تفرغ الابن للدراسة في مرحلة الحصول على مؤهل الليسانس
أو البكالوريوس، أو ما يعادلها، بشرط عدم تجاوزه سن السادسة والعشرين، أو حالة عدم
التحاقه بعمل، أو مزاولة مهنة لمن لم يبلغ سن السادسة والعشرين للحاصلين على مؤهل
الليسانس أو البكالوريوس، وسن الرابعة والعشرين بالنسبة إلى الحاصلين على المؤهلات
الأقل، ليوازن النص المطعون فيه بين مصلحة الابن في الحصول على معاش والديه،
والجمع بينهما إذا توافرت شروطه؛ عملًا بنص المادة (112) من القانون رقم 79 لسنة
1975 المستبدلة بالقانون رقم 12 لسنة 2000، وبين المصلحة العامة في الحفاظ على
أموال التأمينات باعتبارها أموالًا خاصة، هي وعوائدها حق للمستفيدين منها، تلتزم
الدولة بحمايتها بأدوات مماثلة للحماية المقررة للمال العام، كافلًا بتلك القواعد
الاتزان المالي لأموال الصندوق وموارده، وصرف أمواله إلى مستحقيها، محققًا في
الوقت ذاته التضامن الاجتماعي، الذي اعتبره الدستور بمقتضى المادة (8) منه أساسًا
لبناء المجتمع وجعل تحقيقه واجبًا على الدولة، وداخلًا بما قرره من أحكام في إطار
سلطة المشرع في تنظيم الحق في التأمين والضمان الاجتماعي، وبيان قواعد تحديد
المرتبات والمعاشات طبقًا لنص المادة (128) من الدستور، دون المساس بأصل الحق أو
جوهره، بحسبانه القيد العام الضابط لسلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق والحريات،
الذى قررته المادة (92) من الدستور، الأمر الذي يغدو معه النعي على النص المطعون
فيه - محددًا نطاقًا على نحو ما سلف - بمخالفة مبدأي العدالة الاجتماعية والتضامن
الاجتماعي لا سند له، خليقًا برفضه.
وحيث إن الدستور قد اعتمد بمقتضى نص المادة (٤) منه مبدأ المساواة،
باعتباره إلى جانب مبدأي العدل وتكافؤ الفرص، أساسًا لبناء المجتمع وصون وحدته
الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور في المادة (٥٣) منه على كفالة تحقيق المساواة
لجميع المواطنين أمام القانون، وفي الحقوق والحريات والواجبات العامة، دون تمييز
بينهم لأي سبب، إلا أن ذلك لا يعني - وفقًا لما استقر عليه قضاء هذه المحكمة - أن
تُعامَل فئاتهم على ما بينها من تفاوت في مراكزها القانونية معاملة قانونية
متكافئة، كذلك لا يقوم هذا المبدأ على معارضة صور التمييز جميعها؛ ذلك أن من بينها
ما يستند إلى أسس موضوعية؛ ومن ثمَّ لا ينطوي على مخالفة لنص المادتين ( ٤ و٥٣) من
الدستور، بما مؤداه: أن التمييز المنهي عنه بموجبهما هو ذلك الذي يكون تحكميًّا،
وأساس ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل لتحقيق أغراض بعينها،
تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التي يسعى المشرع إلى تحقيقها من وراء هذا التنظيم.
لما كان ما تقدم، وكان المشرع بالنص المطعون فيه قد غاير بين شروط استحقاق المعاش
للابن عنها بالنسبة إلى البنت، فإن ما قرره المشرع في هذا الشأن يتساند إلى أحوال
التزام المؤمن عليه، أو صاحب المعاش بإعالة المستحق إعالة قانونية أو فعلية، وحدود
هذا الالتزام، ذلك أن بلوغ الابن سن الحادية والعشرين - بحسب الأصل وبمراعاة
استثناء التحلل من شرط السن مطلقًا وفق البند (1) من نص المادة (107) المار بيانه،
أو امتداد السن إلى الرابعة والعشرين، أو السادسة والعشرين، بحسب الأحوال المنصوص
عليها بالبندين (2 و3) من النص ذاته - قد اتخذه المشرع في حدود سلطته التقديرية،
دليلًا على قدرة الابن على إعالة نفسه بنفسه، في حين تستحق البنت معاش والديها، أو
أحدهما -بحسب الأحوال- حتى تاريخ زواجها، وإعالة زوجها لها؛ حرصًا من المشرع
على ترسيخ القيم الدينية والاجتماعية داخل الأسرة؛ تنفيذًا لالتزام دستوري بأن
تتخذ الدولة من التدابير ما يكون لازمًا لتماسك الأسرة واستقرارها، عملًا بنص
المادة (10) من الدستور. وإذ التزم المشرع - في المفاضلة التي يجريها بين مراكز
قانونية تختلف في عناصرها - من البدائل ما يقدر أنه أنسبها لمصلحة الجماعة،
وأكثرها ملاءمة للوفاء بمتطلباتها، مستندًا إلى أسس موضوعية تبرر هذا التمييز في
حكم استحقاق المعاش بين الابن والابنة، وقصد المشرع في هذا التنظيم تحقيق أغراض
بعينها تعكس مصالح مشروعة، ارتبطت بوسائل تكفل تحقيقها؛ ومن ثم يغدو النعي على
النص المطعون فيه بمخالفته مبدأ المساواة غير قائم على أساس صحيح، متعينًا
الالتفات عنه.
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن حق العمل الذي كفله الدستور
الحالي في المادتين (12 و13) منه لا يمنح تفضلًا، ولا يتقرر إيثارًا، بل يعتبر
أداؤه واجبًا لا ينفصل عن الحق فيه، ومدخلًا إلى حياة لائقة، قوامها الاطمئنان إلى
غد أفضل، وبها تتكامل الشخصية الإنسانية من خلال إسهامها في تقدم الجماعة وإشباع
احتياجاتها، بما يصون للقيم الخلقية روافدها. لما كان ذلك، وكان بلوغ الابن سن
الحادية والعشرين، وهو سليم بدنيًّا وعقليًّا، إنما يعتبر والحال هكذا - بحسب
الأصل في تطبيق النص المطعون فيه، وبمراعاة ما تضمنته الاستثناءات الواردة بالمادة
(107) من قانون التأمين الاجتماعي - قادرًا على الكسب المشروع، والاستقلال المالي
عن والديه، دافعًا له أن يسعى إلى العمل في حرفة، أو مهنة تتوافر في القطاع الخاص،
أو وظيفة تنشئها الدولة وفق إمكاناتها المتاحة، ولا كذلك الأمر بالنسبة لأموال
الصندوق التي يكفل بها المشرع إعالة المؤمن عليهم، أو أصحاب المعاشات والمستحقين
عنهم، دون أن يكون من أغراض الصندوق بحال، مكافحة البطالة أو توفير فرص عمل
للمواطنين؛ لما في ذلك من خروج بنشاط الصندوق عن الأغراض التي يقوم على تحقيقها؛
ومن ثم فإن النعي على النص المطعون فيه بإهداره الحق في العمل يكون لغوًا، حقيقًا
به الرفض.
وحيث إن النص المطعون فيه لا يتعارض مع أحكام الدستور من أوجه أخرى،
الأمر الذي يتعين معه القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادره الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات
ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق