الصفحات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 12 مايو 2019

القضية 19 لسنة 17 ق جلسة 7 / 7 / 2002 دستورية عليا مكتب فني 10 دستورية ق 70 ص 456

جلسة 7 يوليه سنة 2002

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ محمد فتحي نجيب - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: عبد الرحمن نصير وماهر البحيري ومحمد على سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله وأنور رشاد العاصي

وحضور السيد المستشار/ سعيد مرعي عمرو - رئيس هيئة المفوضين،

وحضور السيد/ ناصر إمام محمد حسن - أمين السر.

-------------

قاعدة رقم (70)
القضية رقم 19 لسنة 17 قضائية "دستورية"

(1) دعوى دستورية "المصلحة فيها: مناطها: نطاقها".
مناط المصلحة في الدعوى الدستورية - وهي شرط لقبولها - ارتباطها بصلة منطقية بالمصلحة القائمة بالنزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية لازماًً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمبداه أمام محكمة الموضوع، تعلق النزاع الموضوعي بالاتهام بجريمتي قتل وجرح خطأ. مؤدى ذلك: تحديد نطاق الدعوى الماثلة بما ورد بنصوص الاتهام دون غيرها.
(2) دعوى دستورية "الحكم فيها: حجيته: عدم قبول الدعوى". تطبيق المادتان (238 و244) من قانون العقوبات.
قضاء المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية له حجية مطلقة في مواجهة الكافة وبالنسبة إلى سلطات الدولة. رفض الدعوى بعدم دستورية المادتين (238 و244) من قانون العقوبات. أثره: عدم قبول الدعوى اللاحقة المتعلقة بهذين النصين. علة ذلك الطبيعة العينية للأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية وانعدام المصلحة بالتالي في معاودة طرح تلك النصوص مرة أخرى على المحكمة.
(3) دستور "المادة الثانية: شريعة إسلامية: الأحكام القطعية والأحكام الظنية".
التزام المشرع منذ 22 مايو سنة 1980 - تاريخ تعديل المادة الثانية من الدستور - باتخاذ الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً لما يصدره بعد ذلك من تشريعات. أثره: لا يجوز لأي نص تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها أو دلالتها والتي لا تحمل اجتهاداً، اتساع الأحكام الظنية لدائرة الاجتهاد تنظيماً لشئون العباد. مؤدى ذلك: لا يساغ اعتبار أراء أحد الفقهاء شرعاً لا يقبل نقضه.
(4) تشريع "الفقرة الأولى من المادة (244) من قانون العقوبات".
خلو الشريعة الغراء من مبدأ قطعي الثبوت والدلالة يقرر حكماً فاصلاً في شأن امتناع التعزيز في الجرائم التي تقع على ما دون النفس. فرض عقوبات تعزيرية على مقترف هذه الجريمة لا يخالف مبادئ الشريعة الإسلامية.

--------------------
1 - جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن المصلحة في الدعوى الدستورية - وهي شرط لقبولها - مناطها ارتباطها بصلة منطقية بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي. وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع. وكان النزاع الموضوعي يدور حول اتهام المدعي - وآخر - بارتكاب جريمتي قتل وجرح عن طريق الخطأ، وطلبت النيابة العامة عقابه بمقتضى الفقرتين الأولى والثالثة من كل من المادتين (238 و244) من قانون العقوبات، فإن نطاق الدعوى الماثلة يتحدد فيما ورد بهذه النصوص ولا يمتد إلى غيرها من أحكام حوتها النصوص الطعينة.
2 - سبق أن تناولت المحكمة الدستورية العليا بحث دستورية المادتين (238 و244) من قانون العقوبات من حيث مدى اتفاقهما وحكم المادة الثانية من الدستور، وذلك بحكمها الصادر في الدعوى رقم 150 لسنة 4 قضائية "دستورية"، والذي قضى برفض الدعوى تأسيساً على أن إلزام المشرع باتخاذ مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع - بعد تعديل المادة الثانية من الدستور في 22 مايو سنة 1980 - لا ينصرف سوى إلى التشريعات التي تصدر بعد التاريخ الذي فرض فيه هذا الإلزام، بحيث إذا انطوى أي منها على ما يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، يكون قد وقع في حومة المخالفة الدستورية، أما التشريعات السابقة على ذلك التاريخ فلا يتأتى إنفاذ حكم الإلزام المشار إليه بالنسبة لها لصدورها فعلاً قبله. ونشر الحكم في الجريدة الرسمية بتاريخ 15/ 6/ 1989، وكان مقتضى نص المادتين (48 و49) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، أن يكون لقضاء هذه المحكمة في الدعاوى الدستورية حجية مطلقة في مواجهة الكافة، وبالنسبة إلى الدولة بسلطاتها المختلفة باعتباره قولاً فصلاً في المسألة التي فصل فيها، وهي حجية تحول بذاتها دون المجادلة فيه أو إعادة طرحه عليها من جديد لمراجعته، لما كان ذلك، وكان نص الفقرتين الأولى والثالثة من المادة (238) وكذا نص الفقرة الثالثة من المادة (244) من قانون العقوبات لا زالت على وضعها كما كان معروضاً على المحكمة الدستورية العليا في الدعوى السابقة دون أن يطرأ على أي منها تعديل لاحق لتعديل المادة الثانية من الدستور، فإن قضاء هذه المحكمة في شأن تلك النصوص يحوز حجية مطلقة، بما يتعين معه الحكم بعدم قبول الدعوى بالنسبة للطعن على تلك الفقرات.
3 - النعي بمخالفة النص الطعين لحكم المادة الثانية من الدستور مردود، ذلك أن المقرر - في قضاء هذه المحكمة - أن النص في المادة الثانية من الدستور - بعد تعديلها في 22 مايو سنة 1980 - على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، إنما يتجلى عن دعوة المشرع كي يتخذ من الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً فيما يسنه من تشريعات تصدر بعد العمل بالتعديل الدستوري المشار إليه، فلا يجوز منذ ذلك التاريخ للنص التشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي لا تحتمل اجتهاداً، ومن ثم لا يقبل إقرار أية قاعدة قانونية تخالفها، وليست كذلك الأحكام الظنية في ثبوتها أو دلالتها أو فيهما معاً، وهي التي تتسع لدائرة الاجتهاد يسطع فيها تنظيماً لشئون العباد، وضماناً لمصالحهم، وهو اجتهاد وإن كان حقاً لأهل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا الحق مقرراً لولي الأمر، يبذل جهده في استنباط الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي، ويعمل حكم العقل فيما لا نص فيه توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بعباده، وتسعها الشريعة الإسلامية التي لا تضفي قدسية على آراء أحد من الفقهاء في شأن من شئونها، ولا تحول دون مراجعتها وتقييمها وإبدال غيرها بها بمراعاة المصلحة الحقيقية التي لا تناقض المقاصد العليا للشريعة، فالآراء الاجتهادية لا تجاوز حجيتها قدر اقتناع أصحابها بها، ولا يساغ بالتالي اعتبارها شرعاً لا يجوز نقضه، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر في دين الله تعالى وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد، ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد الفقهاء ليس بالضرورة أحق بالإتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء أكثرها ملائمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفاً لأقوال امتد العمل بها زمناً.
4 - إجماع الفقهاء منعقد على أنه إذا وقعت جريمة القتل غير العمدى، وجب على الجاني - أو عائلته - أن يؤدي لورثة القتيل مائة من الإبل، اختلف العلماء في نوعها، وأجاز البعض نقلاً عن الرسول صلي الله عليه وسلم أداؤها من الذهب أو الفضة، أما إذا وقعت الجريمة على ما دون النفس لزم الجاني أن يؤدي للمجني عليه أرش الجراح، وهو إما أن يكون دية كاملة أو جزء من الدية بحسب جسامة أو تفاهة الإصابات التي لحقت بالمجني عليه، وبصرف النظر عما وقع بين العلماء من خلاف في تكييف طبيعة الدية أو الأرش، وهل هي عقوبة أو تعويض للمجني عليه أو هي كلاهما، فقد أقر فريق من العلماء بحق ولي الأمر في تقرير عقوبات تعزيرية لبعض الجرائم - حتى لو كانت من جرائم الحدود - إذا كان القصد من ذلك الردع والزجر مع الإصلاح والتهذيب، خاصة إذا كان التعزيز للمصلحة العامة، فلا يحول وجود عقوبة شرعية لبعض الجرائم دون حق ولي الأمر في تقرير عقوبات تعزيرية كالوعظ والتهديد والتوبيخ والحبس والغرامة والنفي، ولا خلاف بين العلماء في أن العقوبات التعزيرية تتغير بحسب اقتضاء المصلحة زماناً أو مكاناً أو حالاً، كما تتغير مقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها بحسب جسامة الجناية وسن الجاني وغير ذلك من الظروف الملابسة لارتكابها.
وحيث إنه لما كان ما تقدم، وكانت الشريعة الغراء قد خلت من مبدأ قطعي الثبوت والدلالة يقرر حكماً فاصلاً في شأن امتناع التعزير في الجرائم التي تقع على ما دون النفس، فإن النص في الفقرة الأولى من المادة (244) من قانون العقوبات إذ تضمن عقوبات تعزيرية على مقترف هذه الجريمة ألا وهي الحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تجاوز مائتي جنيه أو بإحداهما، لا يكون مخالفاً في ذاته لمبادئ الشريعة الإسلامية.


الإجراءات

بتاريخ الثلاثين من مارس 1995، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالباً للحكم بعدم دستورية المادتين (238 و244) من قانون العقوبات.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم أصلياً: بعدم قبول الدعوى، واحتياطياً: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة كانت قد اتهمت المدعي - وآخر - بأنهما بدائرة مركز أبو تيج أولاً: تسببا خطأ في وفاة كل من علي محمود علي، وحافظ نظير رملة، ومنير عبد الملاك جرجس وعبد الحكم مهران صديق وكان ذلك ناشئاً عن إهمالهما وعدم مراعاتهما القوانين واللوائح بأن قاد كل منهما سيارته بطريقة ينجم عنها الخطر...... ثانياً: تسببا خطأ في إصابة كل من فتحي سالم حامد ومحمود هاشم عبد العال وليلى يوسف عبد المجيد وفوزية بيومي محمد ومحمود رمضان زكي وسليم سلامة سليم..... ثالثاً: قاد كل منهما سيارته بحالة ينجم عنها الخطر. وقدمتهما للمحاكمة في الجنحة رقم 863 لسنة 1944 مركز أبو تيج لمعاقبتهما بالمادتين (283/ 1 - 3 و244/ 1 - 3) من قانون العقوبات والمنطبق من مواد القانون رقم 66 لسنة 1973 المعدل بالقانون رقم 210 لسنة 1980. وأثناء نظر الدعوى دفع المدعي بعدم دستورية المادتين (283 و244) من قانون العقوبات، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه وصرحت له بإقامة الدعوى الدستورية، فقد أقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن المادة (238) من قانون العقوبات تنص على أن: "من تسبب خطأ في موت شخص آخر بأن كان ذلك ناشئاً عن إهماله أو رعونته أو عدم احترازه أو عدم مراعاته للقوانين والقرارات واللوائح والأنظمة يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تجاوز مائتي جنية أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنين وغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز خمسمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني إخلالاً جسيماً بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته أو كان متعاطياً مسكراً أو مخدراً عند ارتكابه الخطأ الذي نجم عنه الحادث أو نكل وقت الحادث عن مساعدة من وقعت عليه الجريمة أو عن طلب المساعدة له مع تمكنه من ذلك.
وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على سبع سنين إذا نشأ عن الفعل وفاة أكثر من ثلاثة أشخاص. فإذا توافر ظرف آخر من الظروف الواردة في الفقرة السابقة كانت العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على عشر سنين".
كما تنص المادة (244) من القانون ذاته على أن "من تسبب خطأ في جرح شخص أو إيذائه بأن كان ذلك ناشئاً عن إهماله أو رعونته أو عدم احترازه أو عدم مراعاته للقوانين والقرارات واللوائح والأنظمة يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تجاوز مائتي جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على سنتين وغرامة لا تجاوز ثلاثمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا نشأ عن الإصابة عاهة مستديمة أو إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني إخلالاً جسيماً بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته أو كان متعاطياً مسكراً أو مخدراً عند ارتكابه الخطأ الذي نجم عنه الحادث أو نكل وقت الحادث عن مساعدة وقعت عليه الجريمة أو عن طلب المساعدة له مع تمكنه من ذلك.
وتكون العقوبة الحبس إذا نشأ عن الجريمة إصابة أكثر من ثلاثة أشخاص فإذا توافر ظرف آخر من الظروف الواردة في الفقرة السابقة تكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات".
وحيث إنه من المقرر - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن المصلحة في الدعوى الدستورية - وهي شرط لقبولها - مناطها ارتباطها بصلة منطقية بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي. وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع. وكان النزاع الموضوعي يدور حول اتهام المدعي - وآخر - بارتكاب جريمتي قتل وجرح عن طريق الخطأ، وطلبت النيابة العامة عقابه بمقتضى الفقرتين الأولى والثالثة من كل من المادتين (238 و244) من قانون العقوبات، فإن نطاق الدعوى الماثلة يتحدد فيما ورد بهذه النصوص ولا يمتد إلى غيرها من أحكام حوتها النصوص الطعينة.
وحيث إن المدعي على النصوص الطعينة - محددة نطاقاً على نحو ما سبق - مخالفتها أحكام الشريعة الإسلامية المعتبرة المصدر الرئيسي للتشريع، ذلك أن العقوبة الشرعية المقررة لجريمتي القتل والإصابة الخطأ هي الدية وليس الحبس كما جاء بالنصوص المطعون عليها، ومن ذلك تكون هذه النصوص مخالفة لحكم المادة الثانية من الدستور.
وحيث إن هذه المحكمة سبق أن تناولت بحث دستورية المادتين (238 و244) من قانون العقوبات من حيث مدى اتفاقهما وحكم المادة الثانية من الدستور، وذلك بحكمها الصادر في الدعوى رقم 150 لسنة 4 قضائية "دستورية"، والذي قضى برفض الدعوى تأسيساً على أن إلزام المشرع باتخاذ مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع - بعد تعديل المادة الثانية من الدستور في 22 مايو سنة 1980 - لا ينصرف سوى إلى التشريعات التي تصدر بعد التاريخ الذي فرض فيه هذه الإلزام، بحيث إذا انطوى أي منها على ما يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، يكون قد وقع في حومة المخالفة الدستورية، أما التشريعات السابقة على ذلك التاريخ فلا يتأتى إنفاذ حكم الإلزام المشار إليه بالنسبة لها لصدورها فعلاً قبله. ونشر الحكم في الجريدة الرسمية بتاريخ 15/ 6/ 1989، وكان مقتضى نص المادتين (48 و49) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، أن يكون لقضاء هذه المحكمة في الدعاوى الدستورية حجية مطلقة في مواجهة الكافة، وبالنسبة إلى الدولة بسلطاتها المختلفة باعتباره قولاً فصلاً في المسألة التي فصل فيها، وهي حجية تحول بذاتها دون المجادلة فيه أو إعادة طرحه عليها من جديد لمراجعته، لما كان ذلك وكان نص الفقرتين الأولى والثالثة من المادة (238) وكذا نص الفقرة الثالثة من المادة (244) من قانون العقوبات لا زالت على وضعها كما كان معروضاً على المحكمة الدستورية العليا في الدعوى السابقة دون أن يطرأ على أي منها تعديل لاحق لتعديل المادة الثانية من الدستور، فإن قضاء هذه المحكمة في شأن تلك النصوص يحوز حجية مطلقة، بما يتعين معه الحكم بعدم قبول الدعوى بالنسبة للطعن على تلك الفقرات، أما نص الفقرة الأولى من المادة (244) من قانون العقوبات فقد تم تعديله بمقتضى القانون رقم 29 لسنة 1982، فلا يكون للحكم السابق الصادر في الدعوى 150 لسنة 4 قضائية "دستورية" المشار إليه ثمة حجية بالنسبة للدعوى الماثلة، والتي يتحدد نطاقها بما ورد بتلك الفقرة وحدها.
وحيث إن النعي بمخالفة النص الطعين لحكم المادة الثانية من الدستور مردود، ذلك أن المقرر - في قضاء هذه المحكمة - أن النص في المادة الثانية من الدستور - بعد تعديلها في 22 مايو سنة 1980 - على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، إنما يتجلى عن دعوة المشرع كي يتخذ من الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً فيما يسنه من تشريعات تصدر بعد العمل بالتعديل الدستوري المشار إليه، فلا يجوز منذ ذلك التاريخ للنص التشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي لا تحتمل اجتهاداً، ومن ثم لا يقبل إقرار أية قاعدة قانونية تخالفها، وليست كذلك الأحكام الظنية في ثبوتها أو دلالتها أو فيهما معاً، وهي التي تتسع لدائرة الاجتهاد يسطع فيها تنظيماً لشئون العباد، وضماناً لمصالحهم، وهو اجتهاد وإن كان حقاً لأهل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا الحق مقرراً لولي الأمر، يبذل جهده في استنباط الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي، ويعمل حكم العقل فيما لا نص فيه توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بعباده، وتسعها الشريعة الإسلامية التي لا تضفي قدسية على آراء أحد من الفقهاء في شأن من شئونها، ولا تحول دون مراجعتها وتقييمها وإبدال غيرها بها بمراعاة المصلحة الحقيقية التي لا تناقض المقاصد العليا للشريعة، فالآراء الاجتهادية لا تجاوز حجيتها قدر اقتناع أصحابها بها، ولا يساغ بالتالي اعتبارها شرعاً لا يجوز نقضه، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر في دين الله تعالى وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد، ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد الفقهاء ليس بالضرورة أحق بالإتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء أكثرها ملائمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفاً لأقوال امتد العمل بها زمناً.
وحيث إن إجماع الفقهاء منعقد على أنه إذا وقعت جريمة القتل غير العمدى، وجب على الجاني - أو عائلته - أن يؤدي لورثة القتيل مائة من الإبل، اختلف العلماء في نوعها، وأجاز البعض نقلاً عن الرسول صلي الله عليه وسلم أداؤها من الذهب أو الفضة، أما إذا وقعت الجريمة على ما دون النفس لزم الجاني أن يؤدي للمجني عليه أرش الجراح، وهو إما أن يكون دية كاملة أو جزء من الدية بحسب جسامة أو تفاهة الإصابات التي لحقت بالمجني عليه، وبصرف النظر عما وقع بين العلماء من خلاف في تكييف طبيعة الدية أو الأرش، وهل هي عقوبة أو تعويض للمجني عليه أو هي كلاهما، فقد أقر فريق من العلماء بحق ولي الأمر في تقرير عقوبات تعزيرية لبعض الجرائم - حتى لو كانت من جرائم الحدود - إذا كان القصد من ذلك الردع والزجر مع الإصلاح والتهذيب، خاصة إذا كان التعزيز للمصلحة العامة، فلا يحول وجود عقوبة شرعية لبعض الجرائم دون حق ولي الأمر في تقرير عقوبات تعزيرية كالوعظ والتهديد والتوبيخ والحبس والغرامة والنفي، ولا خلاف بين العلماء في أن العقوبات التعزيرية تتغير بحسب اقتضاء المصلحة زماناً أو مكاناً أو حالاً كما تتغير مقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها بحسب جسامة الجناية وسن الجاني وغير ذلك من الظروف الملابسة لارتكابها.
وحيث إنه لما كان ما تقدم، وكانت الشريعة الغراء قد خلت من مبدأ قطعي الثبوت والدلالة يقرر حكماً فاصلاً في شأن امتناع التعزير في الجرائم التي تقع على ما دون النفس، فإن النص في الفقرة الأولى من المادة (244) من قانون العقوبات إذ تضمن عقوبات تعزيرية على مقترف هذه الجريمة ألا وهي الحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تجاوز مائتي جنيه أو بإحداهما، لا يكون مخالفاً في ذاته لمبادئ الشريعة الإسلامية.
وحيث إنه لما كان ما تقدم، فإنه يتعين رفض الدعوى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة:
أولاً: بعدم قبول الدعوى بالنسبة للطعن على الفقرتين الأولى والثالثة من المادة (238) والفقرة الثالثة من المادة (244) من قانون العقوبات.
ثانياً: برفض ما عدا ذلك من طلبات.
ثالثاً: بمصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات، ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق