القضية 114 لسنة 29
ق " دستورية " المحكمة الدستورية العليا جلسة 14 / 1 /2017
منشور في الجريدة الرسمية العدد 3 مكرر هـ في 24 / 1 / 2017 ص 3
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الرابع عشر من يناير سنة 2017 م،
الموافق السادس عشر من ربيع الآخر سنة 1438 هـ.
برئاسة السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: السيد عبد المنعم حشيش وسعيد مرعي عمرو
ورجب عبد الحكيم سليم والدكتور حمدان حسن فهمي وحاتم حمد بجاتو والدكتور محمد عماد
النجار نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ طارق عبد الجواد شبل رئيس هيئة
المفوضين
وحضور السيد/ محمد ناجي عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 114 لسنة 29
قضائية "دستورية".
--------------
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق -
في أن النيابة العامة كانت قد قدمت المدعيتين إلى المحاكمة الجنائية في الجنحة رقم
11748 لسنة 2006 جنح سيدي جابر أمام محكمة جنح سيدي جابر، وطلبت عقابهما بالمادة
(336) من قانون العقوبات؛ لأنهما في غضون شهري أبريل ومايو سنة 2006 بدائرة قسم
سيدي جابر توصلتا إلى الاستيلاء على المنقولات والمبلغ النقدي المبين قيمة ووصفا
بالأوراق، المملوك للمجني عليه .........، وذلك باستعمال طرق احتيالية وإيهامه
بواقعة مزورة، وكانت الأوراق قد أفصحت - وحسب بلاغ المجني عليه وشهود الواقعة -
بأنه تاجر مجوهرات، وأن المدعيتين كانتا قد تظاهرتا بنية شراء مشغولات ذهبية
وماسية، وقامتا بتوكيد هذه النية الكاذبة بما أبدتاه من مظاهر الثراء واستغلال
مكانتهما الاجتماعية بحسبان الأولى ابنة طبيب مرموق يعمل مديراً لمستشفى القوات
المسلحة بالإسكندرية، والثانية زوجته، وقامت الأولى بتحرير شيكات بنكية من دفتر
شيكات الثانية بناء على توكيل منها بذلك، بقيمة المجوهرات على زعم شرائها لها،
فتوصلتا بهذه الطرق الاحتيالية إلى الاستيلاء عليها دون نية سداد قيمتها. وإذ
تدوولت الدعوى الجنائية أمام تلك المحكمة فدفعت المدعيتان بعدم دستورية المادة
(336) من قانون العقوبات، وإذ قدرت المحكمة جدية هذا الدفع، وصرحت لهما بإقامة
الدعوى الدستورية، فأقامتا الدعوى المعروضة.
وحيث إنه عن الدفع المبدى من هيئة قضايا الدولة بعدم اختصاص هذه
المحكمة بنظر الدعوى؛ لابتناء الطعن على مخالفة النص المطعون فيه لأحكام العهد
الدولي للحقوق المدنية والسياسية، باعتبار أن تلك الاتفاقية - التي انضمت لها مصر
- بعد التصديق عليها ونشرها، تكون لها قوة القانون، إعمالاً للمادة (151) من دستور
1971، المقابلة للمادة (151) من الدستور الحالي. فذلك الدفع مردود بأن قاعدة
مخالفة نص في قانون لقانون آخر، وإن كانت لا تشكل في ذاتها خروجاً على أحكام
الدستور المنوط بهذه المحكمة صونها وحمايتها، إلا أن ذلك لا يستطيل إلى حالة إذا
ما كانت تلك المخالفة تشكل إخلالاً بأحد المبادئ الدستورية التي تختص هذه المحكمة
بحمايتها والذود عنها. متى كان ذلك، وكانت المدعيتان قد أقامتا دعواهما المعروضة
طعناً على نص المادة (336) من قانون العقوبات لمخالفتها لنصوص المواد (41، 64، 65،
66، 67، 69، 151، 165، 166) من دستور سنة 1971، الأمر الذي يكون معه الدفع المبدى
بعدم اختصاصها مفتقداً لسنده، ويتعين الالتفات عنه.
وحيث إن المادة (336) من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة
1937 معدلاً بالمادة الثانية من القانون رقم 29 لسنة 1982 تنص على أن: "يعاقب
بالحبس كل من توصل إلى الاستيلاء على نقود أو عروض أو سندات دين أو سندات مخالصة
أو أي متاع منقول وكان ذلك بالاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها إما باستعمال
طرق احتيالية من شأنها إيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو إحداث
الأمل بحصول ربح وهمي أو تسديد المبلغ الذي أخذ بطريق الاحتيال أو إيهامهم بوجود
سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور وإما بالتصرف في مال ثابت أو منقول ليس ملكاً
له ولا له حق التصرف فيه وإما باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة، أما من شرع في
النصب ولم يتمه فيعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة.
ويجوز جعل الجاني في حالة العود تحت ملاحظة البوليس مدة سنة على الأقل
وسنتين على الأكثر".
وحيث إن جريمة النصب كما هي معرفة في المادة (336) من قانون العقوبات
تتطلب لتوافرها أن يكون ثمة احتيال وقع من المتهم على المجني عليه بقصد خداعه
والاستيلاء على ماله فيقع المجني عليه ضحية الاحتيال، وأن المشرع قد حدد صوراً
ثلاثاً لوقوع هذه الجريمة حصراً، إما باستعمال طرق احتيالية، وإما باتخاذ اسم كاذب
أو انتحال صفة غير صحيحة، وإما بالتصرف في مال الغير ممن لا يملك التصرف فيه. فإذا
اتخذ الجاني سبيل الطرق الاحتيالية لارتكاب هذه الجريمة، فقد استوجب المشرع أن
يكون من شأنها إيهام المجني عليه بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو إحداث الأمل
بحصول ربح وهمي أو تسديد المبلغ الذي أخذ بطريق الاحتيال أو إيهام بوجود سند دين
غير صحيح أو سند مخالصة مزور، وهي أمور مبينة على سبيل الحصر في المادة (336) من
قانون العقوبات. وكان القضاء قد استقر على أن مجرد الأقوال والادعاءات الكاذبة
مهما بالغ قائلها في توكيد صحتها لا تكفي وحدها لتكوين الطرق الاحتيالية، بل يجب
لتحقق هذه الطرق في جريمة النصب أن يكون الكذب مصحوبا بأعمال مادية أو مظاهر
خارجية تحمل المجني عليه على الاعتقاد بصحته، هي التي تؤكد دلالة المشروع الكاذب
أو الواقعة المزورة أو إحداث الأمل بحصول الربح الوهمي أو تسديد المبلغ الذي أخذ
بطريق الاحتيال أو الإيهام بوجود سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية -
مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون
الحكم الصادر في المسألة الدستورية، لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة
بها، والمطروحة أمام محكمة الموضوع.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت المدعيتان قد قدمتا إلى المحاكمة
الجنائية، بوصف قيامهما بالاستيلاء على المنقولات المملوكة للمجني عليه، والمسلمة
إليهما بناء على الطرق الاحتيالية التي استخدمتاها وإيهامه بواقعة كاذبة. وكان ذلك
الفعل يمثل حالة استعمال الطرق الاحتيالية وهي إحدى صور التجريم التي تضمنتها
المادة (336) من قانون العقوبات، وكانت الواقعة المنسوبة للمجني عليهما من شأنها
إيهام المجني عليه بوجود مشروع كاذب وواقعة مزورة، هي شراؤهما المجوهرات التي
استولتا عليها، ومن ثم فإن المدعيتين تكونان مواجهتين بصورة الطرق الاحتيالية التي
تتخذ الواقعة المزورة سبيلاً لتوكيدها، بما يستأهل - متى ثبت اقترافهما لها -
معاقبتهما بعقوبة الحبس المنصوص عليها بالمادة (336) من قانون العقوبات (النص
المطعون فيه). ويكون للفصل في دستورية خضوع هذه الصورة من صور الاحتيال الواردة
بالنص المشار إليه انعكاس أكيد ومباشر على الدعوى الموضوعية، وتتوافر للمدعيتين
مصلحة شخصية ومباشرة في الطعن على دستوريته، ويتحدد فيه - وحده - نطاق الدعوى
المعروضة، دون سائر الأفعال والصور الإجرامية الأخرى التي اشتمل عليها ذلك النص.
وحيث إن المدعيتين نعتا على النص المطعون فيه - محدداً نطاقه على
النحو المتقدم - إنه إذ رصد عقوبة الحبس، لمرتكب جريمة النصب فإنه يكون قد طبق هذه
العقوبة على مجرد إخلال المتهم بالتزاماته التعاقدية، بما يتعارض مع نص المادة
(11) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي انضمت إليه مصر، فيما نصت
عليه من أنه "لا يجوز سجن إنسان على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام
تعاقدي" فإنه يكون قد نال من الحرية الشخصية لمرتكب هذه الجريمة وأخل بمبدأ
شرعية الجرائم والعقوبات، وأن النموذج الإجرامي قد شابه التجهيل والإبهام لافتراض
أن مجرد الإخلال التعاقدي يعد بمثابة طرق احتيالية، الأمر الذي يعد إخلالاً بمبدأ
سيادة القانون، وبأصل البراءة، الذي لا يجوز نقضه بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها
المحكمة، وتكون منها عقيدتها. فضلاً عن أنه يخل بمبدأي شخصية العقوبة، واستقلال
السلطة القضائية، وذلك كله بالمخالفة لنصوص المواد (41، 64، 65، 66، 67، 69، 151،
165، 166) من دستور سنة 1971، الذي أقيمت الدعوى الدستورية المعروضة في ظل العمل
بأحكامه.
وحيث إنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الطبيعة الآمرة لقواعد
الدستور، وعلوها على ما دونها من القواعد القانونية، وضبطها للقيم التي ينبغي أن
تقوم عليها الجماعة، تقتضي إخضاع القواعد القانونية جميعها - وأياً كان تاريخ
العمل بها - لأحكام الدستور القائم، لضمان اتساقها والمفاهيم التي أتى بها، فلا
تتفرق هذه القواعد في مضامينها بين نظم مختلفة يناقض بعضها البعض، بما يحول دون
جريانها وفق المقاييس الموضوعية ذاتها التي تطلبها الدستور القائم كشرط لمشروعيتها
الدستورية، ومن ثم فإن المحكمة تتناول بحث دستورية النص المطعون فيه على ضوء أحكام
الدستور الحالي الصادر في 18/1/2014.
ومن حيث إن من المقرر - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أنه وفقاً
لقواعد القانون الدولي أن لكل دولة في علاقاتها بالدول الأخرى، السلطة الكاملة
التي تؤثر بها - ومن خلال المعاهدة الدولية التي تكون هي طرفاً فيها - في نطاق
الحقوق المقررة لمواطنيها سواء كان ذلك في إطار حق الملكية أو في مجال الحقوق
الشخصية - وتعتبر هذه السلطة الكاملة موازية لحقها وواجبها في أن توفر الحماية
لمواطنيها، وإن كانت الحقوق التي رتبتها المعاهدة الدولية وكذلك التزاماتها، لا
تسري إلا على الدول أطرافها في العلاقة فيما بينها، ولا يعتبر التنظيم الوارد بها
- وأياً كان مضمونه - منصرفاً إلى مواطنيها. ومع ذلك فقد حرص الدستور الحالي في
المادة (93) منه على جعل التزام الدولة باحترام الاتفاقيات والعهود والمواثيق
الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر، التزاماً دستورياً، بموجبه تلتزم
الدولة بالتوفيق بين تعهداتها الناشئة عن هذه الاتفاقيات، وقوانينها الداخلية،
بحيث يعتبر نكوسها عن ذلك أو تراخيها فيه إخلالاً بالتزام دستوري يصادم أحكام
الدستور ذاته.
وحيث إن المادة (11) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، تنص
على أنه "لا يجوز سجن إنسان على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدي
فقط"؛ ومؤدى ذلك النص عدم جواز إنزال عقوبة سالبة للحرية على شخص، لمجرد
إخلاله بالتزام تعاقدي، طالما أن هذا الإخلال غير مقترن بسوء قصد. حال أن نص
المادة (336) من قانون العقوبات - المطعون فيه - لا ترصد عقوبة الحبس على مجرد
الإخلال بالالتزام التعاقدي، بل يفترض لإنزال تلك العقوبة أن يكون الجاني سيء
النية، بتعمده إدخال الغش على المجني عليه، وتضليل إرادته وتزييف وعيه وقت التعاقد
بما يدفعه لتسليم المال موضوع الجريمة تحت تأثير هذا الغش قاصداً تمليكه له بغير
سند قانوني ولا رضاء صحيح، وإذ كان ذلك، وكان المشرع قد تشدد في صورة الغش التي
تقوم بها هذه الجريمة وتستوجب توقيع عقوبة الحبس استناداً إليها، بأن تطلب أن تبلغ
حد استخدام الطرق الاحتيالية، وحدد حصراً مبلغ أثر هذا الغش على إرادة المجني عليه،
بأن يكون من شأنه إيهامه بوجود مشروع كاذب، أو واقعة مزورة، أو إحداث الأمل بحصول
ربح وهمي، أو تسديد المبلغ الذي أخذ بطريق الاحتيال، أو إيهامه بوجود سند دين غير
صحيح، أو سند مخالصة مزور، وكان من أثر ذلك أن أستنبط القضاء في تطبيق هذا النص أن
الكذب المجرد لا يكفي لقيام هذه الجريمة ما لم يتأيد بمظاهر خارجية تدعمه، بما
يكشف عن تعمد الجاني الاستيلاء على مال المجني عليه بدون حق، وإهدار مبدأ احترام
حرية الإرادة وأثرها في سلامة الالتزام التعاقدي بحسبان الغش يفسد كل شيء، وإذ كان
ذلك، وكان المشرع لم يكتف بمطلق الغش لوقوع هذه الجريمة، بل تشدد فيه باشتراطه أن
يبلغ حد الغش المرکب، الذي لا يقوم بمجرد الكذب المجرد، بل يتدعم بالوسائل
الاحتيالية الواردة على سبيل الحصر، كالواقعة المزورة في الدعوى المعروضة، وهو
الأمر الذي يفارق دلالة النص على عدم القدرة على الوفاء بالالتزامات التعاقدية
التي تفترض الرغبة في الوفاء رغم عدم القدرة عليه. وبالتالي فإن نص المادة (11) من
العهد الدولي المشار إليه لا يجد له مجالاً للتطبيق على الجرائم الواردة بالنص
المطعون فيه، والذي يضحى - لما تقدم - غير مصادم لنص المادتين (93، 151) من
الدستور.
وحيث إن المقرر كذلك في قضاء هذه المحكمة أن الدستور قد حرص في المادة
(41) من دستور سنة 1971 وتقابلها المادة (54) من الدستور الحالي على صون الحرية
الشخصية وألحقها بالحقوق الطبيعية باعتبارها من جنسها، ليكون صونها إعلاء لقدر
النفس البشرية، متصلاً بأعمالها، ومنحها بذلك الرعاية الأولى والأشمل توكيداً
لقيمها، وبما لا يخل فيه بالحق في تنظيمها.
وحيث إن افتراض أصل البراءة - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - يعد
أصلاً ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية، وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها
وعلى امتداد إجراءاتها. وقد غدا حتماً عدم جواز نقض البراءة بغير الأدلة الجازمة
التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون من مجموعها عقيدتها حتى تتمكن من دحض أصل البراءة
المفروض في الإنسان، على ضوء الأدلة المطروحة أمامها، والتي تثبت كل ركن من أركان
الجريمة، وكل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان
متطلباً فيها، وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، وكان حق الدفاع - أصالة أو
بالوكالة - يتوخى اجتناءها من خلال وسائل الدفاع التي يعرض الخصوم بموجبها أدلتهم
- واقعاً وقانوناً - بما لا تمييز فيه بين بعضهم البعض، بل تتكافأ وسائلهم في مجال
الحقوق التي يدعونها. لما كان ذلك، وكان النص المطعون فيه قد أورد بياناً لصور
الركن المادي المكون للجريمة، وما يجب أن يقارنه من قصد عمدي يتمثل في العلم
والإرادة، ووجوب توافر قصد خاص يتمثل في نية الاستيلاء على المال، وکلها عناصر
تناضل النيابة العامة والمتهم في إثباتها ونفيها أمام محكمة الموضوع، والتي لا
تقضي بإنزال العقوبة بالمتهم بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها، وتكون من
مجموعها عقيدتها، ومن ثم فإن النص المطعون فيه لا يكون متضمناً اعتداء على الحرية
الشخصية أو أصل البراءة.
وحيث إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات إنما يتحدد على
ضوء عدة ضمانات يأتي على رأسها وجوب صياغة النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا
خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكاً أو شراكاً يلقيها المشرع متصيدا
باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وهي ضمانات غايتها أن يكون
المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافياً لها، بل
اتساقاً معها ونزولاً عليها. إذ كان ذلك، وكان النص المطعون فيه، في النطاق السالف
تحديده - قد صيغت عباراته بطريقة واضحة لا خفاء فيها أو غموض، تكفل لأن يكون المخاطبون
بها على بينة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافياً لها، بل اتساقاً معها ونزولاً
عليها.
وحيث إنه من المقرر أيضاً في قضاء هذه المحكمة أنه يجب أن يقتصر
العقاب الجنائي على أوجه السلوك التي تضر بمصلحة اجتماعية ذات شأن لا يجوز التسامح
مع من يعتدي عليها، ذلك أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في
سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، إلا
أن هذا القانون يفارقها في اتخاذه الجزاء الجنائي أداة لحملهم على إتيان الأفعال
التي يأمرهم بها، أو التخلي عن تلك التي ينهاهم عن مقارفتها، وهو بذلك يتغيا أن
يحدد من منظور اجتماعي ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن
الجزاء على أفعالهم لا يكون مخالفاً للدستور، إلا إذا كان مجاوزاً حدود الضرورة
التي اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مبرراً من وجهة
اجتماعية، انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية.
إذ كان ذلك، وكان المشرع قد توخى بالنص المطعون فيه حماية مصلحة
اجتماعية معتبرة، بهدف الحفاظ على كيان المجتمع ولحمته، تتمثل في وجوب توافر الثقة
في المعاملات بين أفراد المجتمع، وصون حق الملكية وحمايته من العدوان عليه، وتوقي
إدخال الغش على التعاملات، ومكافحة اغتيال الأموال، وما ذلك إلا امتثالاً لقول
الله تعالى "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها..." - الآية 58
من سورة النساء - وإذ رصد المشرع في النص المطعون فيه عقوبة الحبس لكل من توصل إلى
الاستيلاء على أموال غيره بالطرق الاحتيالية التي عينها، وأوجب لاكتمال التجريم أن
يتوافر لدى الجاني علم ببطلان مزاعمه، وإرادة إدخال التدليس على المجني عليه لدفعه
إلى تسليم المال إليه بهذه الوسائل الاحتيالية تحت تأثير هذه الوسائل. وجاءت
العقوبة التي رصدها النص المطعون فيه، في إطار العقوبات المقررة للجرائم المعتبرة
جنحاً، والمعاقب عليها بالحبس الذي تتراوح مدته بين يوم واحد، وثلاث سنوات، وتلك
العقوبة - فضلاً عن أنها تتناسب مع الإثم الجنائي لمرتكب تلك الجريمة، دون أن
يصيبها غلو أو يداخلها تفريط - تدخل في إطار سلطة المشرع التقديرية في اختيار
العقاب، ودون مصادرة أو انتقاص من سلطة القاضي في تفريدها في ضوء الخطورة
الإجرامية للمتهم؛ إذ احتفظ النص المطعون فيه للقاضي بسلطة تقديرية واسعة في الحكم
بمدة الحبس المناسبة للفعل الذي قارفه الجاني، بحسب ظروف كل جريمة وظروف مرتكبها.
ومؤدى ما تقدم جميعه، أن النص المطعون فيه قد التزم جميع الضوابط
الدستورية المتطلبة في مجال التجريم والعقاب، بما لا مخالفة فيه لأي من المواد
(54، 94، 95، 96، 98، 151، 184، 186) من الدستور، كما لم يخالف ذلك النص أي أحكام
أخرى فيه، مما يتعين معه القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعيتين
المصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق