جلسة 3 أكتوبر سنة 1998
برئاسة السيد المستشار/ محمد ولي الدين جلال - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: فاروق عبد الرحيم غنيم وحمدي محمد علي وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين، وحضور السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق - رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر - أمين السر.
-----------------
قاعدة رقم (2)
القضية رقم 1 لسنة 19 قضائية "منازعة تنفيذ"
1 - دعوى "تكييفها".
المحكمة - بما لها من هيمنة على الدعوى - هي التي تعطيها وصفها الحق وتكييفها القانوني الصحيح.
2 - منازعة التنفيذ "تدخل المحكمة الدستورية العليا".
تدخل المحكمة الدستورية العليا لإزاحة عوائق التنفيذ التي تعترض أحكامها يفترض أن تكون هذه العوائق حائلاً دون تنفيذ أحكامها تنفيذاً صحيحاً مكتملاً أو مقيدة لنطاقها.
3 - المحكمة الدستورية العليا "حكم: حجيته - عقبة تنفيذ".
الدعائم التي قام عليها الحكم الصادر في الدعوى الدستورية رقم 48 لسنة 17 ق بعدم قبولها لها حجيتها المطلقة باعتبارها فصلاً في مسألة دستورية - انهدام الجزاء الجنائي وفقاً لها الذي فرضه نص المادة 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 من منظور دستوري منذ العمل بالقانون رقم 4 لسنة 1996 - الحكم الصادر من الهيئة العامة للمواد الجنائية بمحكمة النقض في الطعن رقم 11838 لسنة 60 ق على خلاف الحكم المشار إليه من شأنه إعادة إحياء هذه العقوبة - عدم الاعتداد بتلك العقبة التي تعطل تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا المشار إليه.
الإجراءات
بتاريخ العشرين من أكتوبر سنة 1997، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالباً للحكم:
أولاً: بفض النزاع القائم حول تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بتاريخ 22 فبراير سنة 1997 في القضية رقم 48 لسنة 17 قضائية دستورية؛ والحكم الصادر من الهيئة العامة للمواد الجنائية بمحكمة النقض بتاريخ 13 إبريل 1997 في الطعن رقم 11838 لسنة 60 قضائية، مع إلزام محكمة النقض بتنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا. وثانياً: بوقف تنفيذ حكم محكمة النقض سالف الذكر؛ فيما تضمنه من عدم اعتبار القانون رقم 4 لسنة 1996 بشأن سريان أحكام القانون المدني على الأماكن التي لم يسبق تأجيرها، هو القانون الأصلح للمتهم.
وبتاريخ العاشر من ديسمبر سنة 1997 قرر المستشار رئيس المحكمة رفض طلب وقف التنفيذ.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت في ختامها الحكم بعدم قبول الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعي - وإبان نظر قضية الجنحة المستأنفة رقم 7204 لسنة 1993 الجيزة - التي كان متهماً فيها بتقاضي مقدم إيجار يزيد على أجرة سنتين - كان قد أقام الدعوى الدستورية رقم 48 لسنة 17 قضائية؛ التي تحدد نطاقها بالفقرة الأولى من المادة 6 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، بعد ربطها بالعقوبة المقررة على مخالفتها طبقاً للمادة 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
وبجلستها المعقودة في 22 فبراير سنة 1997 قضت هذه المحكمة "بعدم قبول الدعوى". وأقامت قضاءها على أن الواقعة محل الاتهام الجنائي إذ لم تعد معاقباً عليها - بصدور القانون رقم 4 لسنة 1996 المشار إليه - فقد تعين الحكم بانتفاء مصلحة المدعي بعد أن غض المشرع بصره عن بعض التدابير الاستثنائية للعلائق الإيجارية التي انبنى التجريم عليها وخرج من صلبها؛ وأن قضاءها باعتبار القانون رقم 4 لسنة 1996 أصلح للمتهم وقد انبنى على التطبيق المباشر للقواعد الدستورية التي تناولها الحكم، يسبغ عليه الحجية المطلقة المقررة قانوناً للأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية بما تعنيه من إلزام للناس كافة ولكل سلطة في الدولة بما في ذلك جهات القضاء على اختلافها، وقد نشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية بتاريخ 6 مارس 1997. ثم أصدرت الهيئة العامة للمواد الجنائية بمحكمة النقض بتاريخ 13 إبريل 1997 حكماً في الطعن المقيد بجدولها برقم 11838 لسنة 60 قضائية؛ على خلاف حكم المحكمة الدستورية العليا السابق عليه؛ مستنداً إلى نظر حاصله أن القانون رقم 4 لسنة 1996 المشار إليه؛ لا ينعطف بأثره إلى الوقائع السابقة على صدوره، بما مؤداه عدم اعتبار هذا القانون قانوناً أصلح للمتهم مما حدا بالمدعي - وقد أعادت سلطة الاتهام تقديمه إلى المحاكمة - إلى إقامة الدعوى الماثلة.
وحيث إن المقرر قانوناً أن المحكمة - بما لها من هيمنة على الدعوى - هي التي تعطيها وصفها الحق وتكييفها القانوني الصحيح متقصية في سبيل ذلك طلبات الخصوم مستظهرة حقيقة مراميها وأبعادها، وكان ما يقصده المدعي في واقع الأمر إنما يتحصل في طلب الاستمرار في تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا السالف الإشارة إليه والذي بني علي اعتبار القانون رقم 4 لسنة 1996 قانوناً أصلح للمتهم في الدعوى الموضعية التي أثيرت الدعوى الدستورية بمناسبتها، وباعتبار أن حكم الهيئة العامة للمواد الجنائية بمحكمة النقض المشار إليه إنما يمثل عقبة قانونية تحول دون جريان تنفيذ مقتضى حكم المحكمة الدستورية العليا سالف الذكر بالنسبة للمدعي، ومن ثم فإن طلبات المدعي تندرج - بهذه المثابة - في عداد المنازعات التي عنتها المادة 50 من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 بنصها على اختصاص هذه المحكمة دون غيرها بالفصل في كافة المنازعات المتعلقة بتنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة منها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن قوام "منازعة التنفيذ" أن يكون تنفيذ الحكم القضائي لم يتم وفقاً لطبيعته، وعلى ضوء الأصل فيه، بل اعترضته عوائق تحول قانوناً - بمضمونها أو أبعادها - دون اكتمال مداه؛ وتعطل بالتالي؛ أو تقيد اتصال حلقاته وتضاممها بما يعرقل جريان آثاره كاملة دون نقصان. ومن ثم، تكون عوائق التنفيذ القانونية هي ذاتها موضوع منازعة التنفيذ؛ تلك الخصومة التي تتوخى في غايتها النهائية إنهاء الآثار القانونية المصاحبة لتلك العوائق؛ أو الناشئة عنها؛ أو المترتبة عليها؛ ولا يكون ذلك إلا بإسقاط مسبباتها، وإعدام وجودها لضمان العودة بالتنفيذ إلي حالته السابقة علي نشوئها. وكلما كان التنفيذ متعلقاً بحكم صادر في دعوى دستورية؛ فإن حقيقة مضمونة، ونطاق القواعد القانونية التي احتواها؛ والآثار المتولدة عنها، هي التي تحدد جميعها شكل التنفيذ، وتبلور صورته الإجمالية؛ وتعين كذلك ما يكون لازماً لضمان فعاليته. بيد أن تدخل المحكمة الدستورية العليا لإزاحة عوائق التنفيذ التي تعترض أحكامها؛ وتنال من جريان آثارها في مواجهة الكافة ودون تمييز؛ بلوغاً للغاية المبتغاة منها في تأمين الحقوق للأفراد؛ وصون حرياتهم؛ إنما يفترض أن تكون هذه العوائق - سواء بطبيعتها أو بالنظر إلي نتائجها - حائلة فعلاً دون تنفيذ أحكامها تنفيذاً صحيحاً مكتملاً أو مقيدة لنطاقها.
وحيث إنه يبين من الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بجلسة 22 فبراير 1997 في الدعوى الدستورية رقم 48 لسنة 17 قضائية أنه قد تناول تحديد "نطاق الدعوى الدستورية" فحصره في نص الفقرة الأولي من المادة السادسة من القانون رقم 136 لسنة 1981 بعد ربطها بالعقوبة على مخالفتها المقررة بنص المادة 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977؛ ثم عمد إلى تحقيق شرط المصلحة الشخصية المباشرة في الدعوى؛ استمساكاً بما استقر عليه قضاء هذه المحكمة من أن عينية الدعوى الدستورية لا تعني اعتبار هذا الشرط منفكاً عنها؛ بل هو مناط قبولها، فلا يكفي أن يتوافر عند رفعها بل يتعين أن يظل قائماً إلى حين الفصل فيها، توكيداً لمبدأ حاصله أن "المصلحة الشخصية المباشرة هي شرط ابتداء واستمرار لقبول الدعوى الدستورية". واستظهاراً لهذا الشرط في إطاره ذلك؛ وبمراعاة أن الدعوى الدستورية رقم 48 لسنة 17 قضائية - الصادر فيها الحكم المطلوب الاستمرار في تنفيذه - قد صادفها أثناء نظرها القانون رقم 4 لسنة 1996 فقد أقامت المحكمة منطوق قضائها "بعدم قبول الدعوى" على خمس دعامات رئيسية؛ لا قوام لهذا المنطوق دونها وتكون معه كلاً واحداً لا يقبل التجزئة؛ مداها الدستور؛ نصاً وروحاً؛ لحمتها "مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات"، وسداها "صون الحرية الشخصية"؛ وبنيتها تقدير "الضرورة الاجتماعية" التي أملتها "سياسة تشريعية" يتعين على المحكمة استنباط مقاصدها؛ ورصد غاياتها، متلائمة معها، ملتزمة بها؛ غير قاصرة على مفاهيم حرفية عفا عليها الزمن، بمنهجية تأخذ في اعتبارها دوماً أن الدستور وثيقة تقدمية نابضة بالحياة؛ فلا تصد عن التطور آفاقه الرحبة. وحاصل تلك الدعامات:
أولاً: أن ثمة قاعدتين تجريان معاً وتتكاملان؛ أولاهما: أن مجال سريان القانون الجنائي ينحصر أصلاً في الأفعال اللاحقة لنفاذه. وثانيتهما: سريان القانون اللاحق على وقائع كان يؤثمها قانون سابق كلما كان القانون الجديد أكثر يسراً. وتكامل هاتين القاعدتين مؤداه أن الثانية فرع من الأولى ونتيجة حتمية لها. وكلتاهما معاً تعتبران امتداداً لازماً لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات، ولهما معاً القيمة الدستورية ذاتها.
ثانياً: أن صون الحرية الشخصية التي كفلها الدستور بنص المادة 41 منه هي التي تقيم قاعدة "القانون الأصلح للمتهم" وترسيها؛ ومن ثم يحل القانون الجديد - وقد صار أكثر رفقاً بالمتهم وأعون على صون الحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور حقاً طبيعياً لا يمس - محل القانون القديم؛ فلا يتداخلان، بل ينحى ألحقهما أسبقهما؛ إعلاءً للقيم التي انحاز إليها القانون الجديد؛ بعد أن صار أكفل لحقوق المخاطبين بالقانون القديم وأصون لحرياتهم.
ثالثاً: أن القوانين الجزائية التي تُقارن ببعضها تحديداً لأصلحها للمتهم؛ تفترض اتفاقها جميعاً مع الدستور. وتزاحمها على محل واحد؛ وتفاوتها فيما بينها في عقوباتهم يقتضي ألا تغلب المحكمة من صور الجزاء التي تتعامد على الحل الواحد؛ إلا تلك التي تكون في محتواها أو شرائطها أو مبلغها أقل بأساً من غيرها؛ وأهون أثراً.
رابعاً: أن الضرورة الاجتماعية التي انطلق منها الجزاء المقرر بالقانون القديم وتولد عنها، قد أسقطتها فلسفة جديدة - تبناها المجتمع في طور أكثر تقدماً - قوامها حرية التعاقد، فلا يكون الجزاء الجنائي - وقد لابس القيود التي فرضها القانون القديم على هذه الحرية - إلا منهدماً بعد العمل بالقانون الجديد.
خامساً: أن إعمال الأثر الرجعي للقانون الأصلح للمتهم تعتبر ضمانة جوهرية للحرية الشخصية؛ تبلورها السياسة العقابية الجديدة للسلطة التشريعية التي تتحدد على ضوء فهمها للحقائق المتغير للضرورة الاجتماعية؛ وهي بعد ضرورة ينبغي أن يحمل عليها كل جزاء جنائي؛ وإلا فقد علة وجوده. وإذ كانت الواقعة محل الاتهام الجنائي في الدعوى الموضوعية التي أقيمت بشأنها الدعوى الدستورية لم تعد معاقباً عليها - بصدور القانون رقم 4 لسنة 1996 المشار إليه - فقد تعين الحكم بانتفاء مصلحة المدعي في الدعوى الدستورية المشار إليها؛ بعد أن غض المشرع بصره عن بعض التدابير الاستثنائية للعلائق الإيجارية التي انبنى التجريم عليها؛ وخرج من صلبها.
متى كان ذلك؛ وكانت المحكمة الدستورية العليا؛ قد شيدت حكمها بانتفاء مصلحة المدعي في الطعن بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من المادة 6 من القانون رقم 136 لسنة 1981 وما يرتبط به من نص المادة 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977، على انهدام الجزاء الجنائي الذي فرضه النص الأخير - من منظور دستوري - منذ العمل بالقانون رقم 4 لسنة 1996 - المشار إليه؛ فإن حكمها هذا يكون مرتبطاً بهذين النصين في الإطار الذي حددته لهما؛ بما مؤداه وجوب القضاء - في أية منازعة متعلقة بتنفيذ ذلك الحكم - بإهدار جميع أشكال العوائق التي يكون من شأنها إعادة إحياء العقوبة المقررة بنص المادة 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977، وهي تلك العقوبة التي انتهى الحكم سالف الذكر إلى سقوطها في مجال تطبيق الفقرة الأولى من المادة السادسة من القانون رقم 136 لسنة 1981. وإذ عاد سيف الاتهام يتهدد المدعي بسبب صدور حكم الهيئة العامة للمواد الجنائية المشار إليه، وتوافرت للمدعي بذلك مصلحة شخصية ومباشرة في منازعة التنفيذ الراهنة؛ فإنه يكون متعيناً القضاء بالاستمرار في تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا على الوجه المبين بأسبابه؛ وأخصها سقوط نص المادة 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في مجال تطبيق نص الفقرة الأولى من المادة السادسة من القانون رقم 136 لسنة 1981؛ اعتباراً من تاريخ العمل بالقانون رقم 4 لسنة 1996؛ دون ما حاجة إلى التعرض لما تضمنه حكم الهيئة العامة للمواد الجنائية المشار إليه في تدويناته من تقريرات لا تطاول الحجية المطلقة لأحكام المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية سواء كان الحكم قد قضى بعدم دستورية النص الطعين أو برفض الدعوى أو بعدم قبولها فصلاً في مسألة دستورية؛ بما يلزم كل سلطة في الدولة - بما فيها الجهات القضائية على اختلافها - باحترام قضائها وتنفيذ مقتضاه على وجهه الصحيح امتثالاً للمادتين 72، 178 من الدستور، والفقرة الأولى من المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 وبما مؤداه عدم الاعتداد بأي عقبة تكون قد عطلت من هذا التنفيذ أو انحرفت بجوهره أو حدت من مداه.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بالاستمرار في تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر بجلسة 22 من فبراير 1997 في الدعوى الدستورية رقم 48 لسنة 17 قضائية فيما فصل فيه من اعتبار القانون رقم 4 لسنة 1996 المشار إليه قانوناً أصلح للمتهم مع ما يترتب على ذلك من آثار وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق