الدعوى 99 لسنة 40 ق "دستورية"
جلسة 28 / 8 / 2021
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثامن والعشرين من أغسطس سنة
2021م، الموافق العشرين من المحرم سنة 1443 هـ.
برئاسة السيد المستشار / سعيد مرعى عمرو رئيس المحكمة وعضوية
السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار ورجب عبد الحكيم سليم ومحمود محمد غنيم
والدكتور عبد العزيز محمد سالمان وطارق عبد العليم أبو العطا وعلاء الدين أحمد
السيد نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشرى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 99 لسنة 40
قضائية "دستورية"، بعد أن أحالت محكمة جنايات الجيزة - الدائرة 15 جنوب
الجيزة -بحكمها الصادر بجلسة 20/ 9/ 2018، ملف الدعوى رقم 55 لسنة 2017 جنايات قسم
الجيزة، المقيدة برقم 6290 لسنة 2017 كلى جنوب الجيزة.
المقامة من
النيابة العامة
ضد
1- محمـد سيد محمد طه
2- رضا محمد سعدى محرم عبد الرحمن
------------------
" الإجـراءات "
بتاريخ الثامن والعشرين من أكتوبر سنة 2018، ورد إلى قلم كتاب المحكمة
الدستورية العليا، ملف الدعوى رقم 55 لسنة 2017 جنايات قسم الجيزة، المقيدة برقم
6290 لسنة 2017 كلى جنوب الجيزة، نفاذًا لحكم محكمة جنايات الجيزة، الصادر بجلسة
20/ 9/ 2018، بإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية نص
المادة (210) من قانون العقوبات.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر جلسة 5/ 6/ 2021، وفيها قررت
المحكمة حجز الدعوى ليصدر فيها الحكم بجلسة اليوم، مع التصريح للمدعى عليها
الثانية بتقديم مذكرة خلال أسبوعين، أودعت خلالها مذكرة، طلبت في ختامها الحكم،
أصليًّا: بعدم قبول الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها.
------------------
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من حكم الإحالة وسـائر الأوراق -
في أن النيابة العامة، اتهمت كلاَّ من محمد سيد محمد طه، ورضا محمد سعدى محرم
عبدالرحمن، بأنهما في يوم 27/ 12/ 2016، وبتاريخ سابق عليه، بدائرة قسم الجيزة،
محافظة الجيزة: المتهم الأول، وهو ليس من أرباب الوظائف العمومية: 1- ارتكب
تزويرًا في محرر رسمي هو رخصة قيادة خاصة، المنسوب صدورها للإدارة العامة للمرور -
وحدة مرور مدينة نصر- وكان ذلك بطريق الاصطناع على غرار نظائرها الصحيحة التي
تصدرها تلك الجهة، أثبت فيها البيانات المثبتة بها، وضمنها العلامة الحكومية التي
تصدرها تلك الجهة وعزاها زورًا إليها. 2- ارتكب تزويرًا في محررات رسمية هي بطاقات
رقم قومي، المنسوب صدورها زورًا لمصلحة الأحوال المدنية، وكان ذلك بطريق الاصطناع
على غرار نظائرها الصحيحة التي تصدرها تلك الجهة، أثبت بها البيانات المذكورة بها،
وضمنها العلامة الحكومية التي تصدرها تلك الجهة وعزاها زورًا إليها. 3- ارتكب
تزويرًا في محرر إحدى النقابات (نقابة المحامين)، هو كارنيه إثبات القيد بالنقابة،
وكان ذلك بطريق الاصطناع على غرار نظائره الصحيحة التي تصدرها تلك الجهة، أثبت فيه
البيانات المذكورة به، وعزاه زورًا إليها. 4- قلد خاتم شعار الجمهورية الخاص
بمصلحة الشهر العقاري - مكتب شمال القاهرة، فرع توثيق شبرا - بأن قام باصطناعه على
غرار القالب الصحيح لتلك الجهة، واستعمله بأن بصم به توكيلاً خاليًا من البيانات.
5- اشترك بطريقي الاتفاق والمساعدة مع المتهمة الثانية في استعمال المحـــرر
المزور محل الاتهام الأول، بأن اتفق معها على استعماله، وساعدها بأن قدمه إليها،
فمثلت به أمام مكتب توثيق الشهر العقاري، وقدمته للموظف المختص للاعتداد به في إثبات
شخصيتها مع علمها بتزويره، فتمت الجريمة بناء على ذلك الاتفاق وتلك المساعدة.
المتهمة الثانية، وهى ليست من أرباب الوظائف العمومية: 6- اشتركت بطريقي الاتفاق
والمساعدة مع المتهم الأول في ارتكاب تزوير في محرر رسمي هو رخصة قيادة خاصة،
المنسوب صدورها للإدارة العامة للمرور - وحدة مرور مدينة نصر- وكان ذلك بطريق
الاصطناع على غرار نظائرها الصحيحة التى تصدرها تلك الجهة، بأن اتفقت معه على
تزويرها، وساعدته بأن أمدته بصورة شخصية لها، فقام بإثبات البيانات المذكورة بها،
وكذا صورة المتهمة الثانية، وضمنها العلامة الحكومية التي تصدرها تلك الجهة وعزاها
زورًا إليها، فتمت الجريمة بناءً على ذلك الاتفاق وتلك المساعدة. 7- استعملت
المحرر المزور محل الاتهام الأول فيما زور من أجله، بأن مثلت به أمام مكتب توثيق
الشهر العقاري، وقدمته للموظف المختص للاعتداد به في إثبات شخصيتها بمقتضاه، مع
علمها بتزويره. وطلبت النيابة العامة معاقبتهما بالمواد (40/ ثانيًا وثالثًا، 41/
1، 206/ 3، 211، 212، 214، 214 مكررًا/ 1) من قانون العقوبات. وأحيلت الدعوى إلى
محكمة جنايات الجيزة - الدائرة 15- وتدوولت على النحو الثابت بمحاضر الجلسات.
وبجلسة 16/ 9/ 2018، أبدى الحاضر مع المتهمة الثانية، عدة دفوع، من بينها: الدفع
بتوافر أحد موانع العقاب طبقًا لنص المادة (210) من قانون العقوبات، لقيامها
بتسهيل القبض على المتهم الأول، كما دفع بعدم دستورية نص تلك المادة، وطلب التصريح
برفع الدعوى الدستورية. وبجلسة 20/ 9/ 2018، قضت المحكمة بإحالة الأوراق إلى
المحكمة الدستورية العليا، للفصل في دستورية نص المادة (210) من قانون العقوبات،
لما تراءى لها من مخالفة ذلك النص لمبدأ المساواة وحق الدفاع والقضاء على كافة
أشكال التمييز.
وحيث إن المادة (210) من قانون العقوبات (النص المحال) تنص على أن
" الأشخاص المرتكبون لجنايات التزوير المذكورة بالمواد السابقة يعفون من
العقوبة إذا أخبروا الحكومة بهذه الجنايات قبل تمامها وقبل الشروع في البحث عنهم
وعرفوها بفاعليها الآخرين أو سهلوا القبض عليهم ولو بعد الشروع في البحث المذكور".
وحيث إنه عن الدفع المبدى من هيئة قضايا الدولة، ومن المدعى عليها
الثانية بعدم قبول الدعوى لانتفاء المصلحة، فإن قضاء المحكمة الدستورية العليا، قد
استقر على أن المصلحة الشخصية المباشرة - وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها
أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، بما مؤداه أن
تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة من جوانبها العملية وليس من معطياتها
النظرية أو تصوراتها المجردة، وهو ما يقيد تدخلها في تلك الخصومة القضائية ويرسم
تخوم ولايتها، فلا تمتد لغير المطاعن التي يؤثر الحكم بصحتها أو بطلانها على
النزاع الموضوعي، وبالقدر اللازم للفصل فيه. والمحكمة الدستورية العليا وحدها هي التي
تتحرى توافر شرط المصلحة في الدعوى المقامة أمامها للتثبت من هذا الشرط اللازم
لقبولها، وليس لجهــة أخرى أن تنازعها في ذلك أو تحل محلها فيه. ومن ثم، فإنه لا
تلازم بين اتصال الدعوى بهذه المحكمة عن طريق الإحالة من إحـدى محاكم الموضوع،
وتوافـر شرط المصلحة في الدعـوى الدستوريـة، فالأولى لا تغني عـن الثانية، فإذا
انتهت هذه المحكمة إلى أن الفصل في دستورية النص المحال الذى تراءى لمحكمة الموضوع
عدم دستوريته، ليس له من أثر مباشر على الطلبات المبداة في النزاع الموضوعي، فإن
الدعوى الدستورية تضحى غير مقبولة.
وحيث إن النيابة العامة كانت قد أحالت المتهمة الثانية إلى المحاكمة
الجنائية، وأسندت إليها ارتكاب جريمتي الاشتراك بطريقي الاتفاق والمساعدة مع
المتهم الأول، في تزوير محرر رسمي، واستعمال هذا المحرر فيما زور من أجله، المعاقب
عليهما بمقتضى نصوص المواد (40/ ثانيًا وثالثًا، 41/ 1، 211، 212، 214) من قانون
العقوبات، على نحـو ما ورد بأمـر الإحالـة. وكان من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن
إسباغ القيد والوصف على الفعل المنسوب إلى المتهم يُعد من المسائل المحجوزة لمحكمة
الموضوع في ضوء الوقائع المطروحة أمامها، ولا تتقيد في هذا الشأن بالمواد التي
أحيل بها المتهم إلى المحاكمة، وذلك إعمالاً لنص المادة (308) من قانون الإجراءات
الجنائية، التي تخول المحكمة سلطة تغيير الوصف القانوني للفعل المسند للمتهم
ارتكابه، وكذلك تعديل التهمة بإضافة الظروف المشددة التي تثبت من التحقيق أو من
المرافعـة في الجلسـة، ولو كانت لم تذكر بأمر الإحالة. متى كان ذلك، وكان الفعل
المؤثم بمقتضى نص البند الثالث مــن المادة (206) مـن قانون العقوبــات، تقليـد أو
تزويـر المتهـم - بنفسـه أو بواسطة غيره - علامات إحدى المصالح أو إحدى الجهات
الحكومية، وكذلك استعمال هذه الأشياء مع علمه بتقليدها أو تزويرها، وهى من بين
مواد القيد التي تضمنها أمر إحالة المتهمين إلى المحاكمة الجنائية، وتواجه به
المتهمة الثانية، في إطار الصلاحيات المقررة لمحكمة الموضوع. وكان نص تلك المادة
من بين نصوص المواد التي يسري في شأنها الإعفاء من العقوبة المقرر بالمادة (210)
من قانون العقوبات، وثارت لدى محكمة الموضوع شبهة مخالفته لأحكام الدستور، وأسست
عليه قرارها بالإحالة إلى هذه المحكمة، فمن ثم يكون الفصل في دستورية النص المحال،
في حدود النطاق المتقدم، يرتب انعكاسًــا أكيدًا وأثرًا مباشرًا على الفصل في الطلبات
المعروضة في الدعــوى الموضوعية، ويتوافــر به شرط المصلحة في الدعــوى المعروضة،
الأمر الذى يتعين معه الالتفات عن الدفع بعدم قبول الدعوى.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القانون الجنائي وإن اتفق مع
غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض وكذلك على
صعيد علاقاتهم بمجتمعاتهم، فإن القانون الجنائي يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة
لتقويم ما لا يجوز التسامح فيه اجتماعيًّا من مظاهر سلوكهم، وشرط ذلك أن يكون
الجزاء الجنائي حائلاً دون الولوغ في الإجرام، ملبيًا ضرورة أن يتهيأ المذنبون
لحياة أفضل، مستلهمًا أوضــاع الجناة وخصائص جرائمهم وظروفهــا، نائيًا بعقابهم عن
أن يكون غلوًا أو تفريطًا بما يفقد القواعد التي تــدار العدالة الجنائية على
ضوئها فعاليتها. ويتعين بالتالي أن يكون الجزاء الجنائي محيطًا بهذه العوامل
جميعًا وأن يصاغ على ضوئها، فلا يتحدد بالنظر إلى واحد منها دون غيره، وكلما
استقام الجزاء على قواعد يكون بها ملائمًا ومبررًا، فإن إبدال المحكمة الدستورية
العليا لخياراتها محل تقدير المشرع في شأن تقرير جزاء أو تحديد مداه، لا يكون
جائزًا دستوريًا.
وحيث إن الجزاء الجنائي كان عبر أطوار قاتمة في التاريخ أداة طيعة
للقهر والطغيان، محققًـــا للسلطة المستبدة أطماعها، ومبتعدًا بالعقوبة عن أغراضها
الاجتماعية. وكان منطقيًا وضروريًا أن تعمل الدول المتمدنة على أن تقيم تشريعاتها
الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة في جوانبها
الموضوعية والإجرائية، لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها
بالمخالفة للقيم التى تؤمن بها الجماعة في تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها
بها. وكان لازمًا - في مجال دعم هذا الاتجاه وتثبيته - أن تقرر الدساتير المعاصرة
القيود التي ارتأتها على سلطان المشرع في مجال التجريم تعبيرًا عن إيمانها بأن
حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها
اعتبارها، واعترافًا منها بأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة،
وأن الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها تفرض نظـامًا
متكاملاً يكفل للجماعـة مصالحها الحيوية، ويصون - في إطار أهدافه - حقوق الفرد
وحرياته الأساسية بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويهًا لأغراضها. وقد تحقق
ذلك بوجه خاص من خلال ضوابط صارمة ومقاييس أكثر إحكامًا لتحديد ماهية الأفعال
المنهى عن ارتكابها، بما يزيل غموضها، وعلى نحو يجرد المحكمة من السلطة التقديرية التي
تقرر بها قيام جريمة أو فرض عقوبة بغير نص، كى تظل المصلحة الاجتماعية - في مدارجها
العليا - قيدًا على السلطة التشريعية تحريًا للشرعية في أعماق منابتها.
وحيث إن الهدف من التجريم قديمًا كان مجرد مجازاة الجاني عن الجريمة التي
اقترفها. ولقد تطور هذا الهدف في التشريع الحديث ليصبح منع الجريمة، سواء كان
المنع ابتداءً أو ردع الغير عن ارتكاب مثلها، فالاتجاهات المعاصرة للسياسة
الجنائية في مختلف الدول تتجه - كما تشير المؤتمرات المتعاقبة للأمم المتحدة بشأن
منع الجريمة ومعاملة المجرمين - إلى أهمية اتخاذ التدابير المانعة لوقوع الجريمة،
وسن النصوص التي تكفل وقاية المجتمع منها، وتجريم الاشتراك في الجمعيات الإجرامية،
وتنمية التعاون الدولي لمكافحة الجريمة المنظمة، إلا أن شرعية النصوص التي تُتخذ
كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف، مناطها توافقها وأحكام الدستور واتفاقها ومبادئه
ومقتضاه. ومن ثم يتعين على المشرع - في هذا المقام - إجراء موازنة دقيقة بين مصلحة
المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى.
وحيث إن السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة،
فإن قامت على عناصر متنافرة، نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث
لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينهما،
تقديرًا بأن الأصل في النصوص التشريعية - في الدولة القانونية - هو ارتباطها عقلاً
بأهدافها، باعتبار أن أى تنظيم تشريعي ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة
لتحقيق تلك الأهداف. ومن ثم يتعين دائمــًا استظهار ما إذا كان النص المطعون فيه
أو المحال - على حسب الأحوال - يلتزم إطارًا منطقيًّا للدائرة التى يعمل فيها،
كافلاً من خلالها تناغم الأغراض التي يستهدفها، أم متهادمًا مع مقاصده أو مجاوزًا
لها، ومناهضًا - بالتالي - لأحكام الدستور.
وحيث إن التجريم ليس عملاً قضائيًّا، وإنما هو عمل تشريعي أصيل،
يتولاه المشرع، طبقًا لنص المادة (101) من الدستور، فيحدد ملاءمته، ونطاقه،
ملتزمــًا الضوابط الدستورية السالف ذكرها، ويبين - على نحو جلى لا غموض فيه -
النموذج القانوني، الذى يتلبس الفعل المادي، والركن المعنوي لهذا النموذج، وكافة
شرائط هذا النموذج ومتطلباته، ثم يحدد العقوبة المقررة لذلك النموذج، وذلك كله
إعمالاً لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، المنصوص عليه في المادة (95) من الدستور، التي
تقضى بأنه "لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون".
وحيث إن مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون - وبقدر تعلقه بالحدود التي
تباشر فيها هذه المحكمة ولايتها - مؤداه أنه لا يجوز أن تخل السلطتان التشريعية أو
التنفيذية في مباشرتهما لاختصاصاتهما التي نص عليها الدستور، بالحماية القانونية
المتكافئة للحقوق جميعها، سواء في ذلك تلك التى نص عليهـا الدستور أو التي ضمنها
المشرع. ومن ثم كان هذا المبدأ عاصمًا من النصوص القانونية التى يقيم بها المشرع
تمييزًا غير مبرر تتنافر به المراكز القانونية التي تتماثل عناصرها، فلا تكون وحدة
بنيانها مدخلاً لوحدة تنظيمها، بل تكون القاعدة القانونية التي تحكمها، إما مجاوزة
باتساعها أوضاع هذه المراكز أو قاصرة بمداها عن استيعابها.
وحيث إن الدستور الحالي قد اعتمد بمقتضى نص المادة (4) منه مبدأ
المساواة، باعتباره إلى جانب مبدأي العدل وتكافؤ الفرص، أساسًا لبناء المجتمع
وصيانة وحدته الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور في المادة (53) منه على كفالة
تحقيق المساواة لجميع المواطنين أمام القانون، في الحقوق والحريات والواجبـات
العامـــة، دون تمييز بينهم لأى سبب، إلا أن ذلك لا يعنى - وفقًا لما استقر عليه
قضاء هذه المحكمة - أن تعامـل فئاتهم على ما بينهـا من تفـاوت في مراكزهــا
القانونية معاملة قانونية متكافئة، كذلك لا يقـــوم هــذا المبدأ على معارضة صـور
التمييز جميعهـا، ذلك أن مـن بينهـا ما يستند إلـى أسـس موضوعية، ولا ينطوي بالتالي
على مخالفة لنصى المادتين (4، 53) المشار إليهما. مما مؤداه أن التمييز المنهى عنه
بموجبها هو ذلك الذى يكون تحكميًّا، وأساس ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يعتبر
مقصودًا لذاته، بل لتحقيق أغراض بعينها تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامـة التي
يسعى المشـرع إلى تحقيقهـا من وراء هذا التنظيم، فإذا كان النص المطعون عليه أو
المحال على حسب الأحوال - بما انطوى عليه من تمييز - مصادمًا لهذه الأغراض بحيث
يستحيل منطقًا ربطه بها أو اعتباره مدخلاً إليها، فإن التمييز يكون تحكميًّا، وغير
مستند بالتالي إلى أسس موضوعية، ومن ثم مجافيًا لمبدأ المساواة.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان المشرع، في حدود نطاق الدعوى
المعروضة، رصد بنص المادة (206) من قانون العقوبات، عقوبة الجناية لكل من قلــد أو
زور، سواء بنفسه أو بواسطة غيره، أختام أو علامات إحدى المصالح أو إحدى جهات
الحكومة، وكذلك من استعمـل هــذه الأشياء مـع علمـه بتقليدهـا أو تزويرها. وبمقتضى
نص المادة (210) من قانون العقوبات (النص المحال) أعفى المشرع مرتكبي هذه
الجنايات، من العقاب، في حالتين، أولاهما: إذا أخبروا الحكومة بها قبل تمامها، وقبل
الشروع في البحث عنهم، بشرط التعريف بفاعليها الآخرين. وثانيتهمـا: إذا سهلوا
القبض على فاعليها الآخرين، ولو كان الإخبار بعد الشروع في البحث عنهم. وقد استهدف
المشرع من الإعفاء من العقوبة المقرر بذلك النص تحقيق مصلحة عامة، بالكشف عن
الجنايات المنصوص عليها في البند الثالث من المادة (206) من قانون العقوبات،
والوقوف على مرتكبيها، والقبض عليهم، وضبط المحررات محل تلك الجريمة، نظرًا
لخطورتها، ونيلها من الثقة الواجب توافرها في المحررات الرسمية، خاصةً أن تلك
الجريمة يكون الخفاء والخـــداع عنصرًا رئيسيًا من مكوناتها، لقيامها على التقليد
أو التزوير للأشياء التي عددها المشرع، وهى بطبيعتها عصية على الكشف، وتصعب معها
مهمة سلطات الدولة في اكتشافها والقبض على مرتكبيها، وضبط موضوعها والحيلولة دون
استعمالها، وإنهاء الأثر الضار المترتب عليها. وهو مبرر كاف ومقبول لما قرره
المشرع بالنص المحال من إعفاء الجاني من العقاب، إذا سهل مهمة سلطات الدولة في اكتشاف
الجريمة والقبض على فاعليها الآخرين، حتى يتسنى لها إنزال العقاب بهم، ووقف
مشروعهم الإجرامي، وهو ما يدخل في إطار السلطة التقديرية للمشرع، بحسبانه قدر أن
العقاب لن يحقق أهدافه، بحماية المصلحة العامة بالصورة الكاملة، إلا بتقرير هذا
الإعفاء، مراعاة للطبيعة الخاصة لهذه الجرائم وخطورتها، فمن ثم يكون تقرير الإعفاء
من العقاب المقرر بالنص المحال قد جاء محققًا ومراعيًا الضرورة الاجتماعية
والمصلحة العامة للمجتمع.
وحيث إن النص المحال، في النطاق السالف تحديده، قد قرر مكافأة لأى من مرتكبي
الجنايات المنصوص عليها في المادة (206) من قانون العقوبات، والمشارك فيها، نظير
الخدمة التي يقدمها للعدالة وللمصلحة العامة. وكان ما تضمنه النص المحال يمثل
قاعدة عامة مجردة لا تتضمن تمييزًا من أي نوع بين المخاطبين بأحكامها، وجاءت هذه
القاعدة مرتبطة بالغرض من وراء تقريرها، باعتبارهــا الوسيلة التي يُعــد
اختيارهــا من قبيل السياسة التشريعية التي تندرج في نطاق السلطة التقديرية
للمشرع، متى كان تنفيذها من خلال النصوص القانونية لا يناقض أحكام الدستور، وكانت
مدخلاً منطقيًّا وعقليًّا لكفالة تحقيق الأهداف والأغـــراض المتقدمة، التي يعكس
مشروعيتها إطارًا لمصلحة جوهرية غايتها تحقيق الصالح العام وصالح الجماعة، ليضحى
النص المحال بذلك مستندًا إلى أسس موضوعية تبرره، وغير متضمن تمييزًا تحكميًّا،
ولا يخالف - من ثم - مبدأ المساواة الذى كفله الدستور في المادتين (4، 53) منه.
وحيث إن ضمان الدستور، في المادة (98) منه، لحق الدفاع قد تقرر
باعتباره أحد الأركان الجوهرية لسيادة القانون، كافلاً للخصومة القضائية عدالتها
وبما يصون قيمتها، ويندرج تحتها ألا يكون الفصل فيها بعيدًا عن أدلتها أو نابذًا
الحق في إجهاضها من خلال مقابلتها بما يهدمها من الأوراق وأقوال الشهود فلا يكون
بنيان الخصومة متحيفــًا حقوق أحد من الخصوم بل مكافئا بين فرصهم في مجال إثباتها
أو نفيها، استظهارًا لحقائقها، واتصالاً بكل عناصرها. متى كان ذلك، وكان المشرع قد
قرر بالنص المحال إعفاء مرتكبي الجنايات المنصوص عليها في المادة (206) من قانون
العقوبات، في حدود النطاق المتقدم، من العقوبة إذا أخبروا الحكومة بها قبل تمامها
وقبل الشروع في البحث عنهم، وعرفوها بفاعليها الآخرين، أو سهلوا القبض عليهم ولو
بعد الشـروع في البحـث عنهم، متوخيًّا من ذلك تحقيق مصلحة عامة جوهرية، بالكشف عن
هذه الجرائم والقبض على مرتكبيها. ولم يتضمن النص المحال إلزام محكمة الموضـوع بأن
تأخـذ من إخبار أو اعتراف أحد الجناة دليل إدانة لغيره من المتهمين فيها، ذلك أنه
وفقًا لنص المادة (308) من قانون الإجراءات الجنائية، يحكم القاضي في الدعوى حسب
العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته. ومن جهة أخرى، لم يحرم ذلك النص المتهم من
تفنيد الدليل الناشئ عن ذلك الإخبار، ومناهضته أمام المحكمة، أو يعفى النيابة
العامة من التزامها القانوني بتقديم أدلة الاتهام في مواجهتهم، أو أن تناضلَ في إثبات
أركان وعناصر الجريمة ونسبتها إليهم أمام المحكمة. كما لم يحد النص المشار إليه من
حــق المتهم في تقديــر سبل دفاعه ووسائله والاختيار من بينها، ســواء بتقدير مدى
الاستفادة من مكنة الإعفاء من العقوبـة التي قـررها المشـرع بالنص المحال، أو
الطعــن في صحة إخبـار أو اعتراف غيره من المتهمين، أو مواجهة الأدلة التي تطرحها
النيابة العامة إثباتـــًا للجريمة، ولم يخل كذلك بحقه في أن تحقق المحكمـــة
دفاعه كاملاً، على نحو يمكنه دفع الاتهام الموجه إليه، مما لا يكون معه النص
المحال متضمنًا إخلالاً بحق الدفاع الذى كفلته المادة (98) من الدستور.
وحيث إن النص المحال لا يخالف أي نص آخر من نصوص الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق