باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثامن من فبراير سنة 2025م، الموافق
التاسع من شعبان سنة 1446ه.
برئاسة السيد المستشار/ بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: الدكتور طارق عبد الجواد شبل وطارق عبد
العليم أبو العطا وخالد أحمد رأفت دسوقي وعلاء الدين أحمد السيد والدكتورة فاطمة
محمد أحمد الرزاز وصلاح محمد الرويني نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري ل ةرئيس هيئة
المفوضين
وحضور السيد/ عبد الرحمن حمدي محمود أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 82 لسنة 33 قضائية "دستورية"
المقامة من
عبد الناصر محمد سيد متولي
ضد
1- رئيس مجلس الوزراء
2- رئيس مجلس الشعب (النواب حاليًّا)
3- وزير الاستثمار
4- رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للتأمين
5- رئيس مجلس إدارة شركة مصر للتأمين المدمج بها شركة الشرق للتأمين
--------------
الإجراءات
بتاريخ الثلاثين من أبريل سنة 2011، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية المادتين (8 و9) من قانون التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع داخل جمهورية مصر العربية الصادر بالقانون رقم 72 لسنة 2007، فيما تضمنتاه من تحديد مقدار مبلغ التأمين في حالات العجز الجزئي المستديم بمقدار نسبة العجز، وقصر الالتزام بالتعويض فيما يجاوز مبلغ التأمين على المتسبب في الحادث والمسئول عن الحقوق المدنية دون شركة التأمين.
وقدمت هيئة قضايا الدولة
مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قدمت الشركة المدعى عليها الخامسة مذكرة، طلبت فيها الحكم، أصليًّا: بعدم قبول الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها، وقررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة اليوم.
-------------
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - في أن المدعي أقام أمام محكمة جنوب القاهرة الابتدائية الدعوى رقم 4455 لسنة 2010 تعويضات كلي، ضد الشركة المدعى عليها الخامسة، طالبًا الحكم بإلزامها أن تؤدي إليه مبلغًا مقداره مائتا ألف جنيه، تعويضًا عن الأضرار المادية والأدبية، على سند من أنه بتاريخ 13/9/2008، تسبب قائد سيارة خاصة في إصابته، وحركت النيابة العامة عن هذه الواقعة الجنحة المقيدة برقم 18800 لسنة 2008 مصر القديمة، التي حُكم فيها بانقضاء الدعوى الجنائية صلحًا، وإلزام قائد السيارة بتعويض مدني مؤقت مقداره 51 جنيهًا، فأقام المدعي دعواه طلبًا للتعويض النهائي مستندًا إلى نص المادتين (163 و178) من القانون المدني ونصوص قانون التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع الصادر بالقانون رقم 72 لسنة 2007. وبجلسة 15/9/2010، ندبت المحكمة مصلحة الطب الشرعي لتوقيع الكشف الطبي على المدعي، فأودع تقريرًا انتهى فيه إلى أن إصابة المدعي أصبحت ذات صفة نهائية وقد خَلَّفَتْ لديه نسبة عجز قدرها 75٪. وبجلسة 2/11/2010، دفع المدعي بعدم دستورية المادتين (8 و9) من قانون التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع، المار ذكره. وإذ قدرت المحكمة جدية الدفع، وصرحت بإقامة الدعوى الدستورية؛ فأقام الدعوى المعروضة.
وحيث إن المادة (8) من قانون التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية
الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع داخل جمهورية مصر العربية الصادر بالقانون
رقم 72 لسنة 2007، تنص على أن " تؤدي شركة التأمين مبلغ التأمين المحدد عن
الحوادث المشار إليها في المادة (1) من هذا القانون إلى المستحق أو ورثته وذلك دون
الحاجة إلى اللجوء للقضاء في هذا الخصوص.
ويكون مبلغ التأمين الذي تؤديه شركة التأمين قدره أربعون ألف جنيه في حالات الوفاة أو العجز الكلي المستديم ويحدد مقدار مبلغ التأمين في حالات العجز الجزئي المستديم بمقدار نسبة العجز .......، على أن يصرف مبلغ التأمين في مدة لا تجاوز شهرًا من تاريخ إبلاغ شركة التأمين بوقوع الحادث".
وتنص المادة (9) من القانون ذاته على أن" للمضرور أو ورثته اتخاذ الإجراءات القضائية قِبل المتسبب عن الحادث والمسئول عن الحقوق المدنية للمطالبة بما يجاوز مبلغ التأمين".
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن المصلحة الشخصية المباشرة تعد شرطًا لقبول الدعوى الدستورية، ومناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، المطروحة على محكمة الموضوع.
وحيث إن هذه المحكمة بما لها من هيمنة على الدعوى، هى التي تعطيها وصفها الحق وتكييفها القانوني الصحيح، متقصية في ذلك طلبات الخصوم، مستظهرة حقيقة مراميها وأبعادها دون التقيد بالألفاظ التي استخدمها الخصوم، ما دامت لا تخرج عن وقائع الدعوى.
متى كان ما تقدم، وكانت رحى النزاع الموضوعي تدور حول طلب المدعي إلزام الشركة المدعى عليها الخامسة، المؤمن لديها تأمينًا إجباريًّا على السيارة مرتكبة الحادث، بأن تؤدي إليه تعويضًا نهائيًّا يكافئ الأضرار التي ترتبت على إصابته بعجز جزئي- لا عجز كلي – مستديم، دون التقيد بمقدار مبلغ التأمين المنصرف إليه، الذي تحدد بنسبة العجز إلى مبلغ أربعين ألف جنيه، المقرر في حالات الوفاة أو العجز الكلي المستديم، وجواز اختصامه لهذه الشركة لإلزامها بأن تؤدي إليه تعويضًا نهائيًّا يجاوز ما تم صرفه إليه وفق الضوابط السابقة، دون قصر اتخاذ الإجراءات القضائية للمطالبة بما يجاوز مبلغ التأمين المذكور على المتسبب عن الحادث والمسئول عن الحقوق المدنية وحدهما؛ ومن ثم تتحقق للمدعي مصلحة شخصية ومباشرة في الطعن على دستورية نص المادتين (8 و9) من قانون التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع داخل جمهورية مصر العربية الصادر بالقانون رقم 72 لسنة 2007، لما للقضاء في دستوريتهما من أثر مباشر وانعكاس أكيد على الطلبات في الدعوى الموضوعية وقضاء محكمة الموضوع فيها. ويتحدد نطاق الدعوى المعروضة فيما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (8) من القانون المشار إليه من أنه "ويحدد مقدار مبلغ التأمين في حالات العجز الجزئي المستديم بمقدار نسبة العجز". وما تضمنته المادة (9) من القانون ذاته من قصر حق المضرور في الرجوع بالتعويض النهائي، فيما يجاوز مبلغ التأمين المنصوص عليه في المادة السابقة، على المتسبب في الحادث والمسئول عن الحقوق المدنية، دون شركة التأمين المؤمن لديها تأمينًا إجباريًّا، وذلك في مجال انطباقها على حالة العجز الجزئي المستديم.
ولا ينال من توافر المصلحة الشخصية المباشرة في هذه الدعوى سبق قضاء المحكمة الدستورية العليا في شأن المادتين (8 و9) من القانون المار ذكره، وذلك بحكمها الصادر بجلسة 2/7/2022، في الدعوى رقم 56 لسنة 35 قضائية "دستورية"، الذي قضى برفض الدعوى، إذ إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعوى الدستورية يقتصر نطاقها على النصوص التشريعية التي كانت مثارًا للمنازعة حول دستوريتها، وفصلت فيها المحكمة فصلًا حاسمًا بقضائها، أما النصوص التي لم تكن مطروحة على المحكمة ولم تفصل فيها فلا تمتد إليها تلك الحجية. متى كان ذلك، وكان قضاء هذه المحكمة السالف البيان، قد اقتصر نطاقه على نص المادتين (8 و9) من قانون التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع داخل جمهورية مصر العربية الصادر بالقانون رقم 72 لسنة 2007، وذلك في مجال انطباقهما على حالتي الوفاة والعجز الكلي المستديم، فإن حجية هذا الحكم لا تمتد لتشمل حالة العجز الجزئي المستديم، ويضحى دفع الشركة المدعى عليها الخامسة بعدم قبول الدعوى لسابقة الفصل فيها قائمًا على غير أساس، متعينًا الالتفات عنه.
ولا ينال مما تقدم – أيضًا - إلغاء القانون رقم 72 لسنة 2007 المشار إليه، بمقتضى نص المادة الثانية من القانون رقم 155 لسنة 2024 بإصدار قانون التأمين الموحد، إذ إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن إلغاء النص التشريعي لا يحول دون النظر والفصل في دستوريته، ذلك أن الأصل في تطبيق القاعدة القانونية أنها تسري على الوقائع التي تتم في ظلها، أي خلال الفترة من تاريخ العمل بها حتى تاريخ إلغائها، فإذا ألغيت هذه القاعدة وحلت محلها قاعدة قانونية أخرى، فإن القاعدة الجديدة تسري من الوقت المحدد لنفاذها، ويقف سريان القاعدة القديمة من تاريخ إلغائها، وبذلك يتحدد النطاق الزمني لسريان كل من القاعدتين القانونيتين؛ ومن ثم فإن المراكز القانونية التي نشأت وترتبت آثارها في ظل أي من القانونين - القديم والجديد - تخضع لحكمه، فما نشأ منها وترتبت آثاره في ظل القانون القديم - كما هو الحال في الدعوى المعروضة - يظل خاضعًا له، وما نشأ من مراكز قانونية وترتبت آثاره في ظل القانون الجديد يخضع لهذا القانون وحده؛ ومن ثم فإن المصلحة في الدعوى المعروضة تظل متحققة بالنسبة للنصين المطعون فيهما، في حدود نطاقهما المتقدم.
وحيث إن المدعي ينعى على النصين المطعون فيهما – في النطاق المحدد سلفًا – أنهما ناقضا قواعد من النظام العام في شأن المسئولية المدنية المنصوص عليها بالمواد (170 و221 و222) من القانون المدني، وخالفا مبادئ الشريعة الإسلامية، والتفتا عن كفالة التضامن الاجتماعي، باعتباره الغاية النهائية من إقرار نظام التأمين الإجباري، وأخلَّا بمبدأ المساواة بين المصابين المخاطبين بأحكامهما، وغيرهم من المصابين في الحوادث التي لا تغطى المسئولية المدنية الناشئة عنها بأحكام التأمين الإجباري، وأهدرا الحق في التقاضي بعدم جواز مخاصمة شركات التأمين الإجباري فيما يجاوز مبلغ التأمين، وذلك بالمخالفة للمواد (2 و7 و40 و68) من دستور سنة 1971، المقابلة للمواد (2 و4 و8 و53 و97) من الدستور الحالي.
وحيث إنه عن النعي بمخالفة النصين المطعون فيهما قواعد النظام العام في شأن المسئولية المدنية الواردة بنصوص المواد (170 و221 و222) من القانون المدني، فإن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن مناط اختصاصها بالفصل في دستورية القوانين واللوائح أن يكون أساس الطعن هو مخالفة التشريع لنص في الدستور، ولا شأن لها بالتعارض بين نصين تشريعيين جمعهما قانون واحد أو تفرقا بين قانونين مختلفين، ما لم يكن هذا التعارض منطويًا بذاته على مخالفة دستورية؛ ومن ثم فإن النعي الذي أثاره المدعي في هذا الخصوص – أيًّا كان الرأي في قيام هذا التعارض – لا يعدو أن يكون نعيًا بمخالفة قانونٍ قانونًا آخر، وهو ما لا تمتد إليه ولاية هذه المحكمة، مما يتعين معه الالتفات عن هذا النعي.
وحيث إن الرقابة على مدى مطابقة النصوص التشريعية – أيًّا كان تاريخ العمل بها – للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، لكون هذه الرقابة إنما تستهدف أصلًا – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، وأن نصوص هذا الدستور تمثل دائمًا القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعي التي وجهها المدعي إلى النصين المطعون فيهما تندرج تحت المطاعن الموضوعية التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي لقاعدة في الدستور، من حيث محتواها الموضوعي؛ ومن ثم فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على دستورية النصين المطعون فيهما من خلال أحكام الدستور القائم الصادر سنة 2014.
وحيث إنه عن النعي بمخالفة النصين المطعون فيهما مبادئ الشريعة الإسلامية، فهو مردود بأن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن النص في المادة الثانية من الدستور على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" يدل على أن الدستور أوردها ليفرض بمقتضاها قيدًا على السلطة التشريعية فيما تقره من النصوص القانونية بألا تناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها معًا، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يمتنع الاجتهاد فيها، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية ثوابتها التي لا تحتمل تأويلًا أو تبديلًا، أما الأحكام غير القطعية في ثبوتها أو في دلالتها، أو فيهما معًا، فإن باب الاجتهاد يتسع فيها لمواجهة تغير الزمان والمكان، وتطور الحياة وتنوع مصالح العباد، وهو اجتهاد وإن كان جائزًا أو مندوبًا من أهل الفقه، فهو في ذلك أوجب وأولى لولي الأمر؛ ليواجه ما تقتضيه مصلحة الجماعة درءًا لمفسدة، أو جلبًا لمنفعة، أو درءًا وجلبًا للأمرين معًا. إذ كان ذلك، وكان الأصل في العقود هو الإباحة، وليس في الشريعة الغراء ما يوجب حصر العقود في أنواع معينة، بل كان للناس ولولي الأمر أن يأووا إلى أنواع جديدة من العقود، إذا كانت الحاجة والمصلحة في زمانهم تدعوهم إليها، متى استوفت شرائطها العامة. فالشريعة - على المتفق عليه من أقوال الفقهاء - تستجيب دومًا لحاجات ومصالح الإنسان، وهو حال التأمين بأنواعه المختلفة، لكونه من المعاملات المستحدثة التي لم يرد بشأنها نص شرعي يحرمها، فقد خضع التعامل به لاجتهادات العلماء وآرائهم المستنبطة من بعض النصوص في عمومها، كقوله تعالى "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" الآية (2) سورة المائدة، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه البخاري، وليبقى عقد التأمين خاضعًا للحكم قطعي الثبوت في شأن العقود كافة، وهو النص القرآني الكريم " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ" الآية (1) سورة المائدة، الذي اختلف الفقهاء اختلافًا كبيرًا فيما هو مقصود بالعقد في تفسير الآية الكريمة، ونضحت كتب المفسرين بهذا الاختلاف، الذي كشف عن ظنية دلالة النص بالرغم من قطعية ثبوته، ورجح الفقهاء أن النص قد تضمن أمرًا بتنفيذ العقود قاطبة وإنفاذ آثارها، وهو يشمل العقود المالية التي اتفق الفقهاء على أن إرادة المتعاقدين فيها لها سلطان ما دامت لا تخالف أمرًا مقررًا بنص قطعي في ثبوته ودلالته. وعلى ذلك، فإن شرعية عقد التأمين كانت محلًّا لاختلاف الفقهاء، فقد وجد من بين علماء المسلمين من أجازوه وأباحوه، بعد أن أصبح التأمين بكل أنواعه ضرورة اجتماعية تحتمها ظروف الحياة، ولا يمكن الاستغناء عنه، وأن قوامه التكافل والتضامن والتعاون في رفع ما يصيب الأفراد أو الهيئات من أضرار الحوادث والكوارث، وهو ما أخذت به دار الإفتاء المصرية بفتواها رقم (33) بتاريخ 5/10/2011. ومن ثم فقد بات الأخذ بنظام التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع، الذي تناوله بالتنظيم القانون المشتمل على النصين المطعون فيهما مبررًا شرعًا، لمواجهة مصلحة الجماعة، وتحقيق التكافل والتضامن والتعاون بين أفرادها، ولا يناقض في ذلك حكمًا شرعيًّا قطعي الثبوت والدلالة في الشريعة الإسلامية؛ ومن ثم لا مخالفة فيه لأحكام المادة (2) من الدستور.
وحيث إن الدستور قد حرص في المادة (4) منه على كفالة العدل، باعتباره أساسًا لبناء المجتمع، وصيانة وحدته الوطنية، وكانت العدالة في غاياتها – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – لا تنفصل علاقتها بالقانون باعتباره أداة تحقيقها، فلا يكون القانون منصفًا إلا إذا كان كافلًا لأهدافها، فإذا زاغ ببصره عنها، وأهدر القيم الأصيلة التي تحتضنها، كان مُنهيًا للتوافق في مجال تنفيذه، ومسقطًا كل قيمة لوجوده، ومستوجبًا تغييره أو إلغاءه.
وحيث إن الدساتير المصرية على تعاقبها قد حرصت على النص على التضامن الاجتماعي، باعتباره ركيزة أساسية لبناء المجتمع، وواحدًا من الضمانات الجوهرية التي ينبغي أن يتمتع بها كل أفراده، وأن ما نص عليه الدستور في المادة (8) من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي يعني وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، وترابط أفرادها فيما بينهم، ليكون بعضهم لبعض ظهيرًا، لا يتناحرون طمعًا، وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم عن حماية تلك المصالح، ولا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها، وليس لفريق منهم أن يتقدم على غيره انتهازًا، ولا أن ينال قدرًا من الحقوق يكون بها – عدوانًا – أكثر علوًّا، وإنما تتضافر جهودهم وتتوافق توجهاتهم، لتكون لهم الفرص ذاتها التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق، وتتهيأ معها تلك الحماية التي ينبغي أن يلوذ بها ضعفاؤهم، ليجدوا في كنفها الأمن والاستقرار. وكان الدستور قد اتخذ من تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير سبل التضامن الاجتماعي أحد ركائزه الأساسية، قاصدًا من ذلك - على ما أفصحت عنه المادة (8) منه - ضمان الحياة الكريمة لجميع المواطنين، وقد ناط الدستور بالقانون تنظيم القواعد التي تحقق هذا الهدف.
وحيث إن مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون- وبقدر تعلقه بالحدود التي تباشر فيها هذه المحكمة ولايتها- مؤداه: ألا تقر السلطة التشريعية أو تصدر السلطة التنفيذية – في حدود صلاحياتها التي ناطها الدستور بها - تشريعًا يخل بالحماية القانونية المتكافئة للحقوق جميعها، سواءً في ذلك تلك التي نص عليها الدستور، أو التي كفلها المشرع؛ ومن ثم كان هذا المبدأ عاصمًا من النصوص القانونية التي يقيم بها المشرع تمييزًا غير مبرر تتنافر به المراكز القانونية التي تتوافق عناصرها، فلا تكون وحدة بنيانها مدخلًا لوحدة تنظيمها، بل تكون القاعدة القانونية التي تحكمها إما مجاوزة باتساعها أوضاع هذه المراكز أو قاصرة بمداها عن استيعابها. وكان الدستور الحالي قد اعتمد بمقتضى نص المادة (4) منه مبدأ المساواة، باعتباره إلى جانب مبدأي العدل وتكافؤ الفرص أساسًا لبناء المجتمع وصيانة وحدته الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور في المادة (53) منه على كفالة تحقيق المساواة لجميع المواطنين أمام القانون، في الحقوق والحريات والواجبات العامة، دون تمييز بينهم لأي سبب، إلا أن ذلك لا يعني – وفقًا لما استقر عليه قضاء هذه المحكمة – أن تعامل فئاتهم على ما بينها من تفاوت في مراكزها القانونية معاملة قانونية متكافئة، كذلك لا يقوم هذا المبدأ على معارضة صور التمييز جميعها، ذلك أن من بينها ما يستند إلى أسس موضوعية، ولا ينطوي بالتالي على مخالفة لنص المادتين (4 و53) المشار إليهما، بما مؤداه أن التمييز المنهي عنه بموجبهما هو ذلك الذي يكون تحكميًّا، وأساس ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل لتحقيق أغراض بعينها تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التي يسعى المشرع إلى تحقيقها من وراء هذا التنظيم. فإذا كان النص المطعون فيه – بما ينطوي عليه من تمييز – مصادمًا لهذه الأغراض بحيث يستحيل منطقيًّا ربطه بها أو اعتباره مدخلًا إليها؛ فإن التمييز يكون تحكميًّا، وغير مستند إلى أسس موضوعية، ومن ثم مجافيًا لمبدأ المساواة.
كما جرى قضاء هذه المحكمة على أن مبدأ المساواة أمام القانون لا يعني معاملة المواطنين جميعًا وفق قواعد موحدة؛ ذلك أن التنظيم التشريعي قد ينطوي على تقسيم أو تصنيف أو تمييز، سواء من خلال الأعباء التي يلقيها على البعض أو من خلال المزايا التي يمنحها لفئة دون غيرها، إلا أن مناط دستورية هذا التنظيم ألا تنفصل النصوص التي ينظم بها المشرع موضوعًا معينًا عن أهدافها؛ ليكون اتصال الأغراض التي توخى تحقيقها بالوسائل التي لجأ إليها منطقيًّا، وليس واهنًا أو منتحلاً، بما يخل بالأسس التي يقوم عليها التمييز المبرر دستوريًّا.
وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في تنظيمه لحق التقاضي - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أنها سلطة تقديرية، جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم، لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزنًا ، وليس من قيد على مباشرة المشرع لهذه السلطة إلا أن يكون الدستور ذاته قد فرض في شأن مباشرتها ضوابط محددة تعتبر تخومًا لها ينبغي التزامها، وفي إطار قيامه بهذا التنظيم لا يتقيد المشرع باتباع أشكال جامدة لا يريم عنها، تفرغ قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز له أن يغاير فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء مفاهيم متطورة تقتضيها الأوضاع التي يباشر الحق في التقاضي في نطاقها، وبما لا يصل إلى إهداره، ليظل هذا التنظيم مرنًا، فلا يكون إفراطًا يطلق الخصومة القضائية من عقالها انحرافًا بها عن أهدافها، ولا تفريطًا مجافيًا لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قوامًا؛ التزامًا بمقاصدها، باعتبارها شكلًا للحماية القضائية للحق في صورتها الأكثر اعتدالًا.
متى كان ما تقدم، وكان المشرع
– في إطار سلطته التقديرية في تنظيم الحقوق – قد وضع تنظيمًا للتأمين الإجباري عن
المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع بالقانون رقم 72 لسنة
2007 – السالف البيان – يوجب التأمين عن هذه المسئولية عند ترخيص مركبات النقل
السريع، طبقًا لأحكام قانون المرور، تحقيقًا لمصلحة عامة ومشروعة، ولقد استحدث ذلك
التنظيم أحكامًا مغايرة لمواجهة المثالب التي أظهرها تطبيق القانون رقم 652 لسنة
1955 – على ما أوضحته الأعمال التحضيرية للقانون – من بطء إجراءات التقاضي، وتعقد
الإجراءات واستغلال الوسطاء للمضرورين، فضلًا عن التربص حتى صدور حكم نهائي يقضي للمضرور
أو ورثته بالتعويض، مع ثبات أقساط التأمين، مما ألحق خسائر فادحة بشركات التأمين
المملوكة للدولة، أثرت على اقتصاديات تشغيلها، والاتزان المالي لها، وعزوف شركات
التأمين الخاصة عن الدخول في هذا المجال، وما ترتب على ذلك من إعاقة التنمية
الاقتصادية للدولة؛ مما حدا بالمشرع إلى إعادة تنظيم هذه المسئولية بفلسفة جديدة،
مستهدفًا تكريس مبدأ إلزام شركات التأمين بتغطية قدر محدد من المسئولية المدنية،
والمخاطر الناتجة عن حوادث مركبات النقل السريع عند تحقق الخطر المؤمن منه، وردت
أحكامها في المادة (8) من القانون السالف الذكر، على سبيل الحصر، منها الإصابة
بعجز جزئي مستديم، وبمقتضاها تلتزم شركة التأمين بأن تؤدي - في مدة لا تجاوز شهرًا
من تاريخ إبلاغها بوقوع الحادث - للمستحق مبلغًا يحدد مقدراه في حالة العجز الجزئي
المستديم، بمقدار نسبة العجز من مبلغ مقطوع مقداره أربعون ألف جنيه، بغض النظر عن
الضرر من حيث مداه وتناسبه مع مبلغ التأمين، دون حاجة لإثبات المسئولية الشخصية أو
المفترضة لقائد المركبة أو للمسئول عن الحقوق المدنية، وذلك كله دون إخلال بحق
المضرور في الرجوع على المتسبب في الحادث والمسئول عن الحقوق المدنية، طبقًا للقواعد
العامة الحاكمة للمسئولية التقصيرية، ومسئولية المتبوع عن أعمال تابعة، ومسئولية
حارس الأشياء المقررة في القانون المدني، بما يجاوز مبلغ التأمين المشار إليه،
للحصول على التعويض الجابر للضرر، بما مؤداه أن مبلغ التأمين الذي يؤدى إلى
المضرور من حادث المركبة السريعة طبقًا لأحكام المادة (8) من قانون التأمين
الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع داخل جمهورية
مصر العربية -السالف البيان- يغاير في سبب استحقاقه مبلغ التعويض الجابر للأضرار
الناشئة عن الحادث ذاته، ذلك أن القانون هو مصدر الالتزام بمبلغ التأمين الإجباري،
حال أن العمل غير المشروع -بكافة صوره- هو مصدر الالتزام بالتعويض، على ما توجبه
نصوص القانون المدني ذات الصلة. ومن ثم غدا مبررًا، من وجهة موضوعية، قصر مخاصمة
المضرور في دعوى التعويض عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل
السريع للمتسبب في الحادث والمسئول عن الحقوق المدنية – بحسب الأحوال – للمطالبة
بما يجاوز مبلغ التأمين، على ما يجري به نص المادة (9) من القانون ذاته، مراعاة
لاختلاف الالتزامين، أطرافًا، وسببًا، وموضوعًا، على ما سلف بيانه.
وحيث إنه لما كان ما تقدم، فإن النصين المطعون عليهما – محددين نطاقًا على النحو المار ذكره – لا يكونان مخالفين للمواد (2 و4 و8 و53 و97) من دستور سنة 2014، ولا يتعارضان مع أحكام الدستور من أوجه أخرى؛ الأمر الذي يتعين معه القضاء برفض الدعوى.
حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق