باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثامن مـن مارس سنة 2025م،
الموافق الثامن من رمضان سنة 1446هـ.
برئاسة السيد المستشار/ بولس فهمي إسكندر رئيس
المحكمة وعضوية السادة المستشارين: محمود محمد غنيم والدكتور محمد عماد النجار
وطارق عبد العليم أبو العطا وخالد أحمد رأفت دسوقي وعلاء الدين أحمد السيد وصلاح
محمد الرويني نواب رئيس المحكمة وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري
رئيس هيئة المفوضين وحضور السيد/ عبد الرحمن حمدي محمود أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 99 لسنة 43
قضائية دستورية، بعد أن أحالت المحكمة الإدارية لرئاسة الجمهورية وملحقاتها،
بحكمها الصادر بجلسة 25/ 5/ 2019، ملف الدعوى رقم 4090 لسنة 65 قضائية
المقامة من
أشرف صبحي عبد الرازق فرج
ضد
1- محافظ الجيزة
2- مدير مديرية التنظيم والإدارة بالجيزة
-----------------
" الإجـراءات "
بتاريخ التاسع والعشرين من ديسمبر سنة 2021، ورد إلى قلم كتاب المحكمة
الدستورية العليا ملف الدعوى رقم 4090 لسنة 65 قضائية، بعد أن حكمت المحكمة
الإدارية لرئاسة الجمهورية وملحقاتها، بجلسة 25/ 5/ 2019، بوقف الدعوى، وإحالة
أوراقها إلى المحكمة الدستورية العليا، للفصل في دستورية نص المادة (69) من قانون
الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016، فيما لم يتضمنه من وجوب إنذار
العامل كتابة قبل إنهاء خدمته لانقطاعه عن العمل بدون إذن.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها، أعقبته
بتقرير تكميلي، بعد أن قررت المحكمة بجلسة 2/ 9/ 2023، إعادة الدعوى إلى هيئة
المفوضين لاستكمال التحضير.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قررت المحكمة
إصدار الحكم بجلسة اليوم.
-------------------
" المحكمــة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل -على ما يتبين من حكـم الإحالة وسائر
الأوراق- في أن المدعي في الدعوى الموضوعية أقام أمام المحكمة الإدارية لرئاسة
الجمهورية وملحقاتها الدعوى رقم 4090 لسنة 65 قضائية، ضد المدعى عليهما، طالبًا
الحكم بوقف تنفيذ ثم إلغاء القرار الصادر بإنهاء خدمته، لانقطاعه عن العمل،
وإعادته لوظيفته، وإلزام الجهة الإدارية بأن تؤدي إليه تعويضًا عما لحقه من أضرار
مادية وأدبية جراء هذا القرار. وذكر شرحًا لدعواه أنه كان من العاملين بمديرية
التنظيم والإدارة بالجيزة، بالدرجة الثالثة المكتبية، ولإصابته بمرض انقطع عن
العمل عددًا من الأيام غير المتصلة، حصل عن بعضها على إجازات مرضية، وبعد تماثله
للشفاء عاد لمباشرة عمله، وقدم التقارير الطبية التي تفيد مرضه، إلا أنه فوجئ
بصدور قرار محافظ الجيزة رقم 10726 لسنة 2017، بتاريخ 3/ 10/ 2017، بإنهاء خدمته
لانقطاعه عن العمل بدون عذر تقبله جهة الإدارة ثلاثين يومًا غير متصلة، فأقام
دعواه، ناعيًا على هذا القرار مخالفته الواقع والقانون. وإذ تراءى لمحكمة الموضوع
أن نص المادة (69) من قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016،
فيما لم يتضمنه من وجوب إنذار الموظف قبل إنهاء خدمته للانقطاع عن العمل يخالف
أحكام الدستور، فقد أحالت أوراق الدعوى إلى هذه المحكمة للفصل في دستوريته.
وحيث إن المادة (69) من قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81
لسنة 2016 تنص على أنه: تنتهي خدمة الموظف لأحد الأسباب الآتية:
1- ................
5- الانقطاع عن العمل بدون إذن خمسة عشر يومًا متتالية، ما لم يقدم خلال
الخمسة عشر يومًا التالية ما يثبت أن الانقطاع كان بعذر مقبول.
6- الانقطاع عن العمل بدون إذن ثلاثين يومًا غير متصلة في السنة.
................
وحيث إن المصلحة في الدعوى الدستورية، وهي شرط لقبولها، مناطها - على
ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في
الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يؤثر الحكم في المسألة الدستورية على الطلبات المرتبطة
بها المعروضة على محكمة الموضوع. ويستوي في شأن توافر المصلحة أن تكون الدعوى قد
اتصلت بالمحكمة الدستورية العليا عن طريق الدفع أو عن طريق الإحالة، ذلك أن
المحكمة الدستورية العليا هي وحدها التي تتحرى توافر شرط المصلحة في الدعوى
الدستورية، للتثبت من شروط قبولها، بما مؤداه أن الإحالة من محكمة الموضوع إلى هذه
المحكمة لا تفيد بذاتها توافر المصلحة، بل يتعين أن يكون الحكم في المطاعن
الدستورية لازمًا للفصل في النزاع المثار أمام محكمة الموضوع.
وحيث إن من المقرر -أيضًا- في قضاء هذه المحكمة أن الدستور كفل لكل حق
أو حرية نص عليها، الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية، وتتمثل
هذه الحماية في الضمانة التي يكفلها الدستور لحقوق المواطنين وحرياتهم التي يعتبر
إنفاذها شرطًا للانتفاع بها في الدائرة التي تصورها الدستور نطاقًا فاعلًا لها،
وهذه الضمانة ذاتها هى التي تفترض أن يستهدفها المشرع، وأن يعمل على تحقيقها من
خلال النصوص القانونية التي ينظم بها هذه الحقوق وتلك الحريات، باعتبارها وسائله
لكفالتها، وشرط ذلك - بطبيعة الحال - أن يكون تنظيمها كافلًا تنفسها في مجالاتها
الحيوية، وأن يحيط بكل أجزائها التي لها شأن في ضمان قيمتها العملية، فإذا نظمها
المشرع تنظيمًا قاصرًا، بأن أغفل أو أهمل جانبًا من النصوص القانونية التي لا
يكتمل هذا التنظيم إلا بها، كان ذلك إخلالًا بضماناتها التي هيأها الدستور لها،
وفي ذلك مخالفة لأحكامه.
متى كان ذلك، وكان النزاع في الدعوى الموضوعية تدور رحاه حول طلب
المدعي الحكم بإلغاء قرار إنهاء خدمته لانقطاعه عن العمل بدون إذن ثلاثين يومًا
غير متصلة في السنة، وكان نص البند (6) من المادة (69) من قانون الخدمة المدنية
المشار إليه، بإنهاء خدمة الموظف المنقطع عن العمل بدون إذن ثلاثين يومًا غير
متصلة في السنة، قد جاءت عبارته خلوًا من وجوب إنذار الموظف المنقطع عن العمل
كتابة قبل إنهاء خدمته، ومن تخويله إبداء عذر عن مدد الانقطاع التي لم يقدم عنها
عذرًا، فإن الفصل في دستورية هذين الحكمين، اللذين خلا منهما النص التشريعي
المحال، يرتب أثرًا مباشرًا وانعكاسًا أكيدًا على الطلبات في الدعوى الموضوعية،
وقضاء محكمة الموضوع فيها، ويتحدد نطاق الدعوى المعروضة فيما لم يتضمنه نص البند
(6) من المادة (69) من قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016 من
وجوب إنذار الموظف كتابة قبل إنهاء خدمته للانقطاع عن العمل بدون إذن ثلاثين يومًا
غير متصلة في السنة، وفيما لم يتضمنه من تخويل الموظف الذي تنتهي خدمته للانقطاع
عن العمل بدون إذن ثلاثين يومًا غير متصلة تقديم ما يثبت أن الانقطاع كان بعذر عن
مدد الانقطاع التي لم يقدم عنها عذرًا، وذلك دون سائر ما تضمنه نص المادة (69) من
قانون الخدمة المدنية المشار إليه من أحكام أخرى؛ ومن ثم يكون دفع هيئة قضايا
الدولة بعدم قبول الدعوى، لسبق الفصل في دستورية البند (5) من المادة المحالة،
بحكم هذه المحكمة الصادر بجلسة 5/ 6/ 2021، في الدعوى رقم 81 لسنة 41 قضائية
دستورية الذي قضى برفضها، والمنشور في الجريدة الرسمية - العدد 22 مكرر (ب) في 9/
6/ 2021-، غير سديد، متعينًا الالتفات عنه.
وحيث إن حكم الإحالة ينعى على النص التشريعي المحال - في الشق الأول
من النطاق السالف تحديده - مخالفته لنصوص المواد (4 و9 و12 و13 و14 و53 و94) من
الدستور الحالي الصادر عام 2014، على سند من أنه إذ لم يوجب إنذار الموظف كتابة
قبل إنهاء خدمته لانقطاعه عن العمل بدون إذن ثلاثين يومًا غير متصلة في السنة، على
خلاف ما يوجبه قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003، مما يشكل إهدارًا
للحق في العمل، وإخلالًا بمبادئ تكافؤ الفرص والمساواة وسيادة القانون.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الدستور هو القانون الأساسي
الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ويحدد السلطات
العامة ويرسم لها وظائفها ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها، ويقرر الحريات
والحقوق العامة ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها؛ ومن ثم فقد تميز الدستور بطبيعة
خاصة تضفي عليه السيادة والسمو، بحسبانه كفيل الحريات وموئلها، وعماد الحريات
الدستورية وأساس نظامها، وحق لقواعده أن تستوي على القمة من البناء القانوني
للدولة، وتتبوأ مقام الصدارة بين قواعد النظام العام باعتبارها أسمى القواعد
الآمرة التي يتعين على الدولة التزامها في تشريعاتها، وفي قضائها، وفيما تمارسه من
سلطات تنفيذية، دون أية تفرقة أو تمييز في مجال الالتزام بها بين السلطات العامة
الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وإذ كان خضوع الدولة بجميع سلطاتها لمبدأ
سيادة الدستور أصلًا مقررًا وحكمًا لازمًا لكل نظام ديمقراطي سليم، فإنه يتعين على
كل سلطة عامة، أيًّا كان شأنها، وأيًّا كانت وظيفتها وطبيعة الاختصاصات المسندة
إليها، أن تنزل على قواعد الدستور ومبادئه، وأن تلتزم حدوده وقيوده، فإن هي
خالفتها أو تجاوزتها شاب عملها عيب مخالفة الدستور، وخضعت - متى انصبت المخالفة
على قانون أو لائحة - للرقابة القضائية التي عهد بها الدستور إلى المحكمة
الدستورية العليا، بوصفها الجهة القضائية العليا التي اختصها دون غيرها بالفصل في
دستورية القوانين واللوائح، بغية الحفاظ على أحكام الدستور، وصونها وحمايتها من
الخروج عليها.
وحيث إن الدساتير المصرية المتعاقبة قد حرصت جميعها - منذ دستور سنة
1923 - على تقرير الحقوق والحريات العامة في صلبها، قصدًا من المشرع الدستوري أن
يكون النص عليها في الدستور قيدًا على المشرع العادي فيما يسنه من قواعد وأحكام،
وفي حدود ما أراده الدستور لكل منها، فإذا خرج المشرع فيما يقره من تشريعات على
هذا الضمان الدستوري، وعن الإطار الذى عينه الدستور له، بأن قيد حرية أو حقًّا أو
أهدر أو انتقص من أيهما تحت ستار التنظيم الجائز دستوريًّا، وبالمخالفة للضوابط
الحاكمة له، وقع عمله التشريعي في حومة مخالفة أحكام الدستور.
وحيث إن الدستور قد اعتمد، بمقتضى نص المادة (4) منه،
مبدأ المساواة، باعتباره إلى جانب مبدأي العدل وتكافؤ الفرص أساسًا لبناء المجتمع
وصون وحدته الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور في المادة (53) منه على كفالة
تحقيق المساواة لجميع المواطنين أمام القانون، في الحقوق والحريات والواجبات
العامة، دون تمييز بينهم لأى سبب، إلا أن ذلك لا يعني -وفقًا لما استقر عليه
قضاء هذه المحكمة- أن تعامل فئاتهم على ما بينها من تفاوت في مراكزها القانونية
معاملة قانونية متكافئة، كذلك لا يقوم هذا المبدأ على معارضة صور التمييز جميعها،
ذلك أن من بينها ما يستند إلى أسس موضوعية ولا ينطـوي من ثمَّ على مخالفـة لنص
المادتيـن (4 و53) المشـار إليهمـا، بما مؤداه أن التمييز المنهي عنه بموجبهما هو
ذلك الذى يكون تحكميًّا، وأساس ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل
لتحقيق أغراض بعينها تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التي يسعى المشرع إلى
تحقيقها من وراء هذا التنظيـم.
وحيث إن الدستور قد عُني في المادة (14) منه بكفالة حق المواطنين في
شغل الوظائف العامة على أساس الكفاءة، ودون محاباة أو وساطة، وجعل شغل الوظائف
العامة تكليفًا للقائمين بها لخدمة الشعب، وناط بالدولة كفالة حقوق شاغلي الوظائف
العامة وحمايتهم، وقيامهم بأداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب، وحظر فصلهم بغير الطريق
التأديبي، إلا في الأحوال التي يحددها القانون.
وحيث إن حق العمل وتولي الوظائف العامة، وفقًا لنص المادتين (12 و14)
من الدستور، ليس من الرخص التي تقبضها الدولة أو تبسطها وفق إرادتها، ليتحدد على
ضوئها من يتمتعون بها أو يمنعون عنها، وإنما قرره الدستور باعتباره شرفًا لمن
يلتمس الطريق إليه من المواطنين، وواجبًا عليهم أداؤه، وحقًّا لا ينهدم، فلا يجوز
إهداره أو تقييده بما يعطل جوهره، بل يعتبر أداؤه واجبًا لا ينفصل عن الحق فيه،
ومدخلًا إلى حياة لائقة قوامها الاطمئنان إلى غد أفضل.
وحيث إن مبدأ استمرار المرافق العامة في أداء رسالتها يوجب على الدولة
وموظفيها أن يعملوا على ضمان سيرها بانتظام واطراد، فالموظف بقبوله للوظيفة العامة
يكون قد أخضع نفسه لكل الالتزامات المترتبة على ذلك المبدأ؛ ذلك أن لكل
وظيفة حقوقها وواجباتهـا، فلا تقابل مزاياها بغير مسئولياتها، ولا يكون وصفها
وترتيبها منفصلًا عن متطلباتها التي تكفل للمرافق التي يديرها موظفوها حيويتها
واطراد تقدمها.
وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقـوق -
على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - أنها سلطة تقديرية، ما لم يقيد الدستور
ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخومًا لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها،
وكان الدستور إذ يعهد بتنظيم موضوع معين إلى السلطة التشريعية، فإن ما تقره من
القواعد القانونية بصدده لا يجوز أن ينال من الحق محل الحماية الدستورية، سواء
بالنقض أو الانتقاص؛ ذلك أن إهدار الحقوق التي كفلها الدستور أو تهميشها يُعد
عدوانًا على مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها، بما مؤداه: أن تباشر
السلطة التشريعية اختصاصاتها التقديرية - وفيما خلا القيود التي يفرضها الدستور
عليها - بعيدًا عن الرقابة القضائية التي تمارسها المحكمة الدستورية العليا، فلا
يجوز لها أن تزن بمعاييرها الذاتية السياسة التي انتهجها المشرع في موضوع معين،
ولا أن تناقشها، أو تخوض في ملاءمة تطبيقها عملًا، ولا أن تنتحل للنص المطعون فيه
أهدافًا غير التي رمى المشرع إلى بلوغها، ولا أن تقيم خياراتها محل عمل السلطة
التشريعية، بل يكفيها أن تمارس السلطة التشريعية اختصاصاتها تلك، مستلهمة في ذلك
أغراضًا يقتضيها الصالح العام في شأن الموضوع محل التنظيم التشريعي، وأن تكون
وسائلها إلى تحقيق الأغراض التي حددتها مرتبطة عقلًا بها؛ ذلك أن كل تنظيم تشريعي
لا يصدر من فراغ، ولا يعتبر مقصودًا لذاته، بل مرماه إنفاذ أغراض بعينها، تعكس
مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التي أقام المشرع عليها هذا التنظيم باعتباره
أداة تحقيقها، وطريق الوصول إليها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القرائن القانونية -قطعية
كانت أم غير قطعية- هي التي يقيمها المشرع مقدمًا ويعممها بعد أن يصوغها على ضوء
ما يكون راجح الوقوع عملًا، وكان المشرع بتقريره لها إنما يتوخى إعفاء الخصم من
التدليل على واقعة بذاتها، بعد أن أحل غيرها محلها، وأقامها بديلًا عنها، ليتحول
الدليل إليها، فإن أثبتها الخصم اعتبر ذلك إثباتًا للواقعة الأصلية بحكم القانون،
فلا تكون القرائن القانونية بذلك إلا إثباتًا غير مباشر، مرتبطًا أصلًا بالمسائل
المدنية، ويشترط دائمًا في الواقعة البديلة أن ترشح في الأغلب الأعم من الأحوال
لاعتبار الواقعة الأصلية ثابتة بحكم القانون، وأن تربطها بها علاقة منطقية، وإلا
غدت القرينة غير مرتكزة على أسس موضوعية، ومجاوزة -تبعًا لذلك- للضوابط التي تحقق
اتساقها مع أحكام الدستور.
وحيث إن المشرع بإصداره قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81
لسنة 2016، قد تبنى منهجًا جديدًا في تنظيمه للوظيفة العامة، وما يتصل بها من
أوضاع، غايرت قواعده العديد من الأحكام التي تضمنتها التشريعات السابقة عليه، على
النحو الذي رآه -وفقًا لسلطته التقديرية- أكثر تحقيقًا لدور الوظيفة العامة في
المجتمع، وضمان سير المرافق العامة بانتظام واطراد، وقد أوضحت ذلك المذكرة
الإيضاحية لمشروع قانون الخدمة المدنية المشار إليه، حين بينت العلة من مغايرة
الأحكام التي تضمنتها مواده لأحكام مواد قانون العاملين المدنيين بالدولة السابق
عليه، الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978، ممثلة في أن التجربة العملية خلال الفترة
الماضية كشفت عن الحاجة الملحة لوضع إطار قانوني جديد ينظم شئون الخدمة المدنية
لمواجهة التحديات الراهنة على صعيد الإصلاح الإداري، لا سيما وقد رُفعت بشأن قانون
نظام العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978 ملايين الدعاوى
القضائية، وأصدرت المحكمة الدستورية العليا أكثر من حكم بعدم دستورية بعض أحكامه،
وصدرت بشأنه آلاف الفتاوى من مجلس الدولة، وآلاف الكتب الدورية من الجهاز المركزي
للتنظيم والإدارة، لتفسير ما غمُــــض به من أحكام، وتدخل المشرع سبعَ عشرة مرة
لتعديل بعض أحكامه في محاولة منه لإصلاح ما في هذا القانون من ثغرات أدت - في ظل
غياب الشفافية خاصة في مجال التعيينات، وغياب نظام موضوعي لتقييم أداء الموظفين،
ووجود نظام أجور معقد وغير واضح وغير عادل، ويرسخ للتفاوت الشديد غير المبرر في
الدخول - إلى تغول البيروقراطية في الجهاز الإداري، ومن ثم تدنى الخدمات المقدمة
للمواطنين. ومن هذا المنطلق كانت الحاجة ماسة إلى وضع قانون للخدمة المدنية يقوم
على فلسفة جديدة -مغايرة تمامًا للفلسفة القائمة- مفادها حصول المواطن على الخدمة
الحكومية بأعلى جودة وبشفافية مطلقة ونزاهة تامة، فالرؤية الأساسية للإصلاح
الإداري هي إيجاد جهاز إداري ذي كفاءة وفاعلية، يتسم بالشفافية والعدالة، ويخضع للمساءلة،
ويُعنى برضا المواطن، ويحقق الأهداف التنموية للبلاد، مستندًا إلى مبادئ الحوكمة
الرشيدة كأساس لنظام العمل.
وحيث إن المشرع في قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة
2016، قد راعى في تحديده للقواعد الحاكمة للإجازات التي يحصل عليها الموظف، بأجر
أو بدون أجر، والحقوق الناشئة عنها، والالتزامات والواجبات المترتبة عليها، تحقيق
التوازن بين حق الموظف في الحصول على الإجازات، التي قررها له القانون، واعتبارات
المصلحة العامة، بحسبان الوظائف العامة، وفقًا لنص المادة (14) من الدستور،
تكليفًا للقائمين بها لخدمة الشعب ورعاية مصالحه، لذلك احتفظ المشرع للموظف بالحق
في الحصول على إجازة بأجر كامل عن أيام عطلات الأعياد والمناسبات الرسمية،
والإجازات المرضية، وزيارة الأماكن المقدسة، وإجازة الوضع للموظفة، وإجازة لمخالطة
المريض، وإجازة لإصابات العمل، وإجازة للموظف المقيد بإحدى الكليات أو المعاهد أو
المدارس طوال أيام الامتحانات، فضلًا عن إلزام الجهة الإدارية بمنح الموظف إجازة
بدون أجر لمرافقة الزوج المرخص له بالعمل في الخارج، وإجازة للموظفة لرعاية طفلها
لمدة عامين في المرة الواحدة، لثلاث مرات طوال الحياة الوظيفية ، وأخيرًا قرر
المشرع الترخيص للجهة الإدارية في منح الموظف إجازة بدون أجر للأسباب التي يبديها
وتقدرها السلطة المختصة وفقًا لحاجة العمل.
وحيث كان ما تقدم، وفي خصوص الشق الأول من نطاق الدعوى المعروضة، الذي
تحدد فيما لم يتضمنه نص البند (6) من المادة (69) من قانون الخدمة المدنية الصادر
بالقانون رقم 81 لسنة 2016، من وجوب إنذار الموظف كتابة قبل إنهاء خدمته للانقطاع
عن العمل بدون إذن ثلاثين يومًا غير متصلة في السنة، فقد التزم المشرع فيه نطاق
الدائرة التي يجيز فيها الدستور للمشرع أن يباشر سلطته التقديرية لمواجهة مقتضيات
الواقع ومتطلباته، وهى الدائرة التي تقع بين حدي الوجوب والنهي الدستوريين، وأن
الاختلاف بين الأحكام التي أتى بها النص التشريعي المحال، عن تلك التي كان يتضمنها
قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978، بما في ذلك استبعاد إنذار الموظف المنقطع
عــــن عمله بدون إذن لمــــدة ثلاثين يومًا غير متصلة في السنة، إنما جاء تعبيرًا
عن تغير الواقع عبر مراحله الزمنية المختلفة، ومواجهة متطلباته الحالَّة، دون
إهدار للضمانات الأساسية التي كفلها الدستور لحماية حقوق الموظفين، ومراعيًا في
ذلك تحقيق التوازن بين مصالح أطراف العلاقة القانونية التي كفلتها المادة (27) من
الدستور، فحرص التنظيم الذي سنه المشرع وضمنه النص التشريعي المحال على تحقيق
التوازن بين الحق في الوظيفة العامة، بحسبانه حقًّا شخصيًّا للمواطن، وما يرتبط به
من حقوق قررها له الدستور في المادتين (12 و14) منه، وبين واجب الموظف في خدمة
الشعب ورعاية مصالحه، بحسبان الوظيفة العامة وفقًا لنص المادة (14) من الدستور،
تكليفًا للقائمين عليها لخدمة الشعب، ورعاية مصالحه؛ ذلك أن انقطاع الموظف عن
العمل بدون إذن لمدد غير متصلة إلى أن بلغت ثلاثين يومًا في السنة -رغم ما خوله
القانون من حقه في الحصول على العديد من الإجازات، بأجر أو بدون أجر- إنما يكشف عن
استهانة الموظف بأداء واجبات وظيفته، وعدم اكتراثه بتوابع ذلك الانقطاع على انتظام
العمل واطراده بالمرفق العام، وارتباط ذلك بالمصلحة العامة، وانعكاس أثره بالضرورة
على حصول المواطنين على الخدمة الحكومية، ومن ثم فإن اشتراط وجوب إنذار الموظف
كتابة قبل إنهاء خدمته في هذه الحالة يفتقد سنده، وليس له ما يبرره، خاصة أن قرار
الجهة الإدارية بإنهاء خدمة الموظف يخضع للرقابة القضائية أمام المحكمة المختصة،
باعتبارها الضمانة الأساسية لحماية الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بموجب
المادتين (94 و97) منه، ليضحى النعي على النص المشار إليه - في هذا الشق من الدعوى
- مخالفة نصوص المواد (12 و13 و14) من الدستور، في غير محله.
وحيث إن الاختلاف بين الأحكام التشريعية التي تضمنها قانون الخدمة المدنية
عن تلك التي كانت في قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة، قبل إلغائــه
-في نطاق الشق الأول من الدعوى المعروضة- كانت غايته الاستجابة
لمقتضيات الحال، وتغير الواقع عبر المراحل الزمنية المختلفة، وهو ما لا يُعد
إخلالًا بمبدأ المساواة، الذي يستقي أهم مقوماته -على ما جرى به قضاء هذه
المحكمة- من وحدة المرحلة الزمنية التي يطبق خلالها النص القانوني المعروض على
المحكمة للفصل في دستوريته، فإذا تباينت النصوص التشريعية في معالجتها لموضوع واحد
-كما هو الشأن في الحالة المعروضة- وكان كل منها قد طُبق في مرحلة زمنية مختلفة،
فإن ذلك لا يُشكل بذاته إخلالًا بمبدأ المساواة، وإلا تحول هذا المبدأ من ضابط
لتحقيق العدالة إلى سد حائل دون التطور التشريعي، هذا فضلًا عن أن التنظيم الذي
تضمنه النص المحال في هذا الشق من الدعوى، باعتباره الوسيلة التي اختارها المشرع،
وقدر مناسبتها لمواكبة التطور الذي سعى إلى تحقيقه بالنسبة للوظيفة العامة والموظف
العام، إنما يُعد مدخلًا حقيقيًّا لبلوغ الغايات والأهداف التي حددها لذلك،
والكافلة لتحقيقها، لتتوافق مع طبيعة وجوهر العلاقة التنظيمية التي تحكم علاقة
الموظف بالوظيفة العامة، وارتباط تلك الوظيفة الوثيق بالمصلحة العامة، ليضحى
التنظيم المشار إليه مختلفًا عن التنظيم الذي اشتمل عليه قانون العمل الصادر
بالقانون رقم 12 لسنة 2003، ومستندًا إلى أسس موضوعية تبرره، ترتبط بعلاقة منطقية
بالغاية التي سعى المشرع إلى بلوغها، ولا يتضمن إخلالًا أو تمييزًا تحكميًّا
يتعارض مع مبدأي تكافؤ الفرص والمساواة اللذين كفلهما الدستور في المواد (4 و9
و53) منه، ولا يُعد خروجًا على مبدأ سيادة القانون الذي اعتبره الدستور في المادة
(94) أساسًا للحكم في الدولة، ولا يتضمن كذلك انتقاصًا من عناصر أو محتوى أي من
الحقوق المتقدمة على نحو ينال من جوهرها أو أصلها، وهو ما حظره الدستور بنص المادة
(92)؛ ومن ثم تكون الدعوى المعروضة في هذا الشق منها جديرة بالرفض.
وحيث إنه في شأن الشق الثاني من نطاق الدعوى المعروضة، الذي تحدد فيما
لم يتضمنه نص البند (6) من المادة (69) من قانون الخدمة المدنية المار ذكره، من
تخويل الموظف الذي تنتهي خدمته للانقطاع عن العمل ثلاثين يومًا غير متصلة في السنة
تقديم عذرٍ عن مدد الانقطاع التي لم يقدم عنها عذرًا، فإن البين من استقراء النص
المشار إليه أنه أقام قرينة قانونية قاطعة على أن الموظف الذي تنتهي خدمته للانقطاع
عن العمل بدون إذن ثلاثين يومًا غير متصلة في السنة، قد قدَّم عن كل مدة من مدد
الانقطاع غير المتصل عذرًا، وهى قرينة لا ترتكز على أسس موضوعية؛ إذ بها يستغلق
على الموظف أن يثبت أن الانقطاع في أي من مدده السابقة على اكتمال الثلاثين يومًا
كان بعذر، وما يترتب على ذلك من منع جهة الإدارة من إعمال سلطتها التقديرية في
قبول ذلك العذر، وما يتآدى إليه الأمر ذاته من عدم وفاء النص بحق الموظف في الحصول
على الترضية القضائية اللازمة عند انتهاء خدمته في هذه الحالة، وذلك على الرغم من
أنه قد لا يتوافر لديه في حالات واقعية - لا تدخل تحت الحصر - مكنة تقديم عذر
يعاصر أيًّا من مدد الانقطاع السابقة على اكتمال الثلاثين يومًا، التي تُفضي حتمًا
إلى إنهاء الخدمة، والشأن ذاته إذا كان الانقطاع في المدة التي يكتمل بها الثلاثون
يومًا في السنة؛ إذ يصير إنهاء خدمة الموظف، حالئذ، أمرًا يوجبه النص المار ذكره،
ولو أثبت الموظف بعد انتهاء خدمته أن انقطاعه عن المدة الأخيرة كان بعذر، وذلك كله
على نحو يغاير منهج المشرع في البند (5) من المادة المحالة ذاتها، بتخويل الموظف -
توقيًا لإنهاء خدمته لانقطاعه عن العمل بدون إذن خمسة عشر يومًا متتالية - أن يقدم
خلال الخمسة عشر يومًا التالية ما يثبت أن الانقطاع كان بعذر مقبول.
وحيث إن مؤدى ما تقــدم جميعه، ولازمه، أن النص التشريعي المشار إليه
- في الشق الثاني من النطاق المحدد سلفًا- قد أخل بحق العمل وتولي الوظائف العامة،
وبمبدأي المساواة وخضوع الدولة للقانون، فضلًا عن إخلاله بحقي التقاضي والدفاع،
وذلك بالمخالفة لأحكام المواد (12 و14 و53 و92 و94 و97 و98) من الدستور، الأمر
الذي يتعين معه القضاء بعدم دستوريته.
وحيث إن مقتضى حكم المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا
الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 - بعد تعديلها بقرار رئيس الجمهورية بالقانون
رقم 168 لسنة 1998 - هو عدم تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته على الوقائع اللاحقة
لليوم التالي لتاريخ نشر الحكم الصادر بذلك، وكذلك على الوقائع السابقة على هذا
النشر، إلا إذا حدد الحكم الصادر بعدم الدستورية تاريخًا آخر لسريانه. لما كان
ذلك، وكان إعمال الأثر الرجعي للحكم بعدم دستورية نص البند (6) من المادة (69) من
قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016، في النطاق السالف تحديده
والوارد بمنطوق هذا الحكم، يترتب عليه إخلال بسير العمل وانتظامه في كل من
الوزارات ومصالحها والأجهزة الحكومية والوحدات المحلية والهيئات العامة التي أصدرت
قرارات بإنهاء خدمة أي من الموظفين لديها إعمالًا لأحكام النص المشار إليه، وعمل
بمقتضاها منذ ما يزيد على ثمانية أعوام، فإن المحكمة ترى إعمال الرخصة المخولة لها
بنص الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانونها، وتحدد اليوم التالي لنشر هذا الحكم
تاريخًا لإعمال آثاره، دون إخلال باستفادة المدعي في الدعوى الموضوعية منه.
فلهذه الأسبـاب
حكمت المحكمة:
أولًا: بعدم دستورية نص البند (6) من المادة (69) من قانون الخدمة
المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016، فيما لم يتضمنه من تخويل الموظف الذي
تنتهي خدمته للانقطاع عن العمل بدون إذن ثلاثين يومًا غير متصلة في السنة تقديم
عذر عن مدد الانقطاع التي لم يقدم عنها عذرًا، ورفض الدعوى فيما جاوز ذلك.
ثانيًا: بتحديد اليوم التالي لنشر هذا الحكم تاريخًا لإعمال آثاره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق