الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 6 أكتوبر 2022

تقنين قواعد الفقه الإسلامي: المبدأ والمنهج د. محمد زكي عبد البر

تقنين قواعد الفقه الإسلامي:  المبدأ والمنهج

دمحمد زكي عبد البر

الأستاذ بكلية الشريعة - جامعة قطر

ونائب رئيس محكمة النقض بمصر سابقا

 

الشريعة الإسلامية هي شريعتنا. وقد ظلت القانون المطبق، ولا زالت، في بعض البلاد إلى حد يختلف من بلد إلى بلد، منذ دخل الإسلام إليها. والقانون لا يخلق خلقا، بل هو نتاج البيئة بما فيها من عوامل كثيرة، وفيها ينمو ويتطور، ويتصل حاضره بماضيه، ومستقبله بحاضره، فيكون سلسلة متصلة الحلقات في بيئته.

هذا من الناحية العقائدية والتاريخية، أما من الناحية العلمية فقد شهد لها غير أهلها أنها من أرقى النظم القانونية في العالم، وأنها تصلح دعامة من دعائم القانون المقارن. ولا يعرف في تاريخ القانون نظام قانوني قائم على دعائم ثابتة من المنطق القانوني الدقيق يفوق- في نظر أهلها، ويضاهي في نظر غيرهم- منطق القانون الروماني إلا الشريعة الإسلامية.

لقد أنصفها كثير من الأجانب، نذكر منهم الدكتور (إنريكو إنساباتو  Enrico Insabato) العامل الإيطالي الكبير حين قال: " إن الإسلام إذا كان محدودا غير متغير في شكله، فهو يتماشى بالرغم من ذلك مع مقتضيات الحاجات الظاهرة، فهو يستطيع أن يتطور دون أن يتضاءل، في خلال القرون، ويبقى محتفظا بكل ما له من قوة الحياة والمرونة... (ولا يجوز) أن تهدم يد الخلافة هذا الهيكل العظيم من العلوم الإسلامية أو أن تغفله أو تمسه بسوء. فهو الذي أعطى للعالم أرسخ الشرائع ثباتا، شريعة تفوق في كثير من تفاصيلها الشرائع الأوربية")[1](.

وفي مصر نصح الأستاذ بيولا كازيلي مستشار الحكومة المصرية حينذاك، وبالأخذ من مبادئ الشريعة الإسلامية، فإن هذا أكثر اتفاقا مع روح البلد القانونية)[2](.

وأشار الأستاذ لامبير الفقيه الفرنسي المعروف في المؤتمر الدولي للقانون المقارن الذي انعقد في لاهاي سنة 1932م إلى التقدير الكبير للشريعة الإسلامية الذي بدأ يسود بين فقهاء أوربا وأمريكا في العصر الحاضر)[3](.

وإذا كان بعض المستشرقين مثل: شنوك هيرجرونج وجولدزيهر خيل إليهم أن مبادئ الشريعة الإسلامية جامدة لا تتطور، فذلك راجع إلى أنهم ليسوا من رجال القانون، بل من رجال التاريخ، فهم ينظرون إلى الشريعة الإسلامية نظرة المؤرخ لا نظرة الفقيه، وإلا فإن رجال القانون ممن درسوا الشريعة الإسلامية يختلفون مع هؤلاء المستشرقين في نظرتهم إلى الشريعة الإسلامية، ويكفي أن نشير إلى الفقيه الألماني الكبير كوهلر  (KOHLER) والأستاذ الإيطالي دلفيكيو ( DELVECCIO) عميد كلية الحقوق بروما وإلى العميد الأمريكي ويجمور (VIGMORE ) وإلى كثيرين غيرهم من الفقهاء، فهم يشهدون بما انطوت عليه الشريعة الإسلامية من مرونة وقابلية للتطور ويضعونها إلى جانب القانون الروماني والقانون الإنجليزي: إحدى الشرائع الأساسية الثلاث التي سادت ولا تزال تسود العالم ([4]). فإذا كان لنا هذا التراث العظيم، النابع من عقيدتنا الإسلامية، فكيف نفرط فيه؟

ينبغي أن نلجأ إلى الشريعة الإسلامية نستمد من مذاهبها الأحكام التي نطبقها، ففيها من المبادئ ما يفوق أحدث المبادئ القانونية في العصر الحاضر، ولقد ماشت كل الحضارات من الشرق إلى الغرب أجيالا وأجيالا، وحينما كانت تحكم المسلمين كانوا أعزة وسادة، وحين هجروها صاروا تابعين لغيرهم: ﴿ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ﴾([5]).

إن الدول العربية تعيش هذه الفترة من الزمان في "يقظة" من مظاهرها السعي نحو العودة إلى الشريعة الإسلامية التي عاشت في ظلها قوية عزيزة مرهوبة الجانب، فلما تركتها لحق بها الضعف والذل والهوان. ويتمثل ذلك في اللجان المكونة في البلاد العربية والإسلامية لتقنين الشريعة الإسلامية.

وإسهاما منا في خدمة البلاد العربية والإسلامية في سيرها نحو العودة إلى الفقه الإسلامي، قد قمنا بهذه الدراسة في تقنين الفقه الإسلامي عامة لما لاحظناه من تنكب السبيل السوي في هذا المضمار.

ولا بد لنا، ونحن نكتب عن التقنين، أن نذكر، إقرارا بالحق والفضل لذويه، أستاذنا الجليل  الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري رحمه الله. فهو الذي- في جيلنا- وجه إليه وبينه ونفذه في مصر والعراق وسورية وليبيا والكويت. ونحن نترسم خطاه، ونبني- في الفقه الإسلامي- على أسسه في القانون، مراعين طبيعة الفقه الإسلامي واستقلاله وما تقتضيه هذه الطبيعة وذلك الاستقلال من تغيير أو حذف أو إضافة، صادرين في ذلك، علم الله، عن نية خالصة لخدمة الشريعة الإسلامية لتكون كلمة الله هي العليا، مستعينين بالله، فإن أصبنا فمن توفيق الله، وإن أخطأنا فمن أنفسنا والله غفور رحيم

وسنقسم هذه الدراسة،  إلى فصلين رئيسيين: الفصل الأول: نتناول فيه " المبدأ، والفصل الثاني: نتناول فيه " المنهج"، على أن نمهد لذلك بمقدمة حول التقنين وبيان مزاياه وعيوبه ولمحة تاريخية عنه.

المبحث الأول: التعريف بالتقنين

التقنين Codification عبارة عن جمع القواعد الخاصة بفرع من فروع القانون – بعد تبويبها وترتيبها وإزالة ما قد يكون بينها من تناقض وفيها من غموض- في مدونة  Code واحدة، ثم إصدارها في شكل قانون loi تفرضه الدولة، عن طريق الهيئة التي تملك سلطة التشريع فيها، بصرف النظر عما إذا كان مصدر هذه القواعد التشريع أو العرف أو العادة أو القضاء أو غير ذلك من مصادر القانون.

فهو يقوم على:

أولا: تقسيم القانون بمعناه العام  Droit ، أي: بصرف النظر عما إذا كان مصدره التشريع أو العرف أو العادة أو القضاء أو غير ذلك، إلى فروع مثل: القانون المدني، أي القواعد القانونية الخاصة بالمعاملات المالية (والشخصية بمعناه الكامل) بين الأفراد. والقانون التجاري، أي القواعد القانونية الخاصة بالمعاملات بين التجار. وقانون المرافعات المدنية والتجارية، أي القواعد القانونية الخاصة بإجراءات التقاضي في المسائل المدنية والتجارية. وقانون العقوبات، أي القواعد القانونية الخاصة ببيان الجريمة والعقوبة. وقانون الإجراءات الجنائية، أي القواعد الخاصة بالإجراءات التي تتبع عند ارتكاب جريمة من ضبط وتفتيش وتحقيق ومحاكمة... إلخ - إلى غير ذلك من فروع القانون.

وثانيا: جمع القواعد القانونية الخاصة بكل فرع وتبويبها وترتيبها والتنسيق بينها برفع ما قد يتبين من تناقض بين بعضها بعضا، وإزالة ما قد يكون فيها من تكرار أو غموض وإبهام، وصياغتها في عبارات موجزة.

وثالثا: إصدارها في شكل قانون loi من السلطة التشريعية في الدولة لتطبقها المحاكم ويلتزم بها الكافة من أفراد وهيئات وسلطات.

فالتقنين أو المدونة القانونية أو المجموعة القانونية تشريع كغيره من التشريعات، ولا يختلف عنها إلا في ضخامته وخطورة شأنه التي تعود إلى أنه ينظم بوجه عام فرعا من فروع العلاقات القانونية، وما يقتضيه هذا التنظيم الشامل لهذا الفرع من تجميع القواعد القانونية الخاصة به وتبويبها وترتيبها ورفع التناقض بينها وإزالة الغموض فيها.

المبحث الثاني: مزاياه وعيوبه

1.     مزاياه:

للتقنين مزايا جمة منها:

1- سهولة التعرف على الأحكام القانونية بعد جمعها في مدونة واحدة، وفي هذا فائدة عظيمة للقضاة والمتقاضين وجميع المشتغلين بالقانون بل وللجمهور ليبني تصرفه على معرفة بالقانون الذي يحكم معاملاته.

وخصوصا إذا كثرت القواعد القانونية سواء أكان مصدرها الأعراف والعادات، أو كان مصدرها التشريع نتيجة لازدياد تدخل الدولة في تنظيم العلاقات لتعقد الحياة وتشعبها مما يحتم على الدولة التدخل في كثير من الأمور التي لم تكن تتدخل فيها فيما مضى، مما يترتب عليه تعذر الإحاطة بتلك القواعد واحتمال وقوع التعارض بينها، ولا علاج لذلك إلا التقنين.

2- توحيد القانون في بلد واحد وذلك بإصدار القواعد القانونية الخاصة بكل فرع من فروع القانون في مدونة تطبق في كل أرجاء الدولة. كما حدث في فرنسا قبل صدور قانون نابليون في أول القرن التاسع عشر، وفي ألمانيا قبل صدور القانون الألماني في أول القرن العشرين، وذلك ما لا يحصل عن طريق العرف والعادة([6]) كمصدرين للقاعدة القانونية لبطئهما في تكوين القاعدة القانونية ولعدم عموميتهما في الغالب كل أرجاء الدولة، وما لا يحصل أيضا عن طريق التشريع في موضوع معين لأنه لا يغطي كل جوانب الحياة الواجب تنظيمها.

3- إدخال قانون أجنبي في بلد ما يحسب أنه في حاجة إلى إصلاح، وذلك بإصدار القواعد القانونية في مجموعة يفرض تطبيقها. وذلك ما لا يتحقق أيضا عن طريق العرف والعادة، ولا عن طريق التشريع في موضوعات معينة على ما وضحناه في البند السابق. كما حصل في مصر في أواخر القرن التاسع عشر (مع اعتراضنا على مصدر هذه التقنينات لا على مبدأ التقنين إذ كان يجب أن تستمد هذه التقنينات من الفقه الإسلامي لا أن تنقل عن القانون الفرنسي). إذ كانت الحالة في مصر قبل صدور التقنينات سنة 1876 وسنة 1883 سيئة، فلقد كان القضاء فوضى، والقوانين غير محددة ولا معروفة، والعدل يوزع في البلاد توزيعا سيئا، فأعقب النظام الفوضى وتنفست البلاد الصعداء إذ شعرت أنها تستقبل عهدا جديدا من الإصلاح، ولم يكن لأحد أن يطمع في أن تنتقل البلاد طفرة واحدة إلى درجة الكمال في التشريع والقضاء، ويكفي أن تكون تشريعات ذلك العهد فاتحة لرقي حقيقي كسبته البلاد في تشريعاتها ونظمها القضائية، فقوانين الإصلاح المختلطة والأهلية رغم عيوبها كانت تحسنا ملحوظا بالنسبة لسيئات الماضي، فقد نشر في  الوقائع المصرية في عددها الصادر في الثالث من صفر سنة 1298 هـ ( الرابع من يناير سنة 1881) رقم 1003 ما يأتي:

"إصلاح قوانين المجالس المحلية- أقبلت علينا بشائر الإصلاح إذ ورد إلينا من مقام رسمي أن قوانين إصلاح المجالس المحلية قد قرب انتهاؤها، وأن العمل بموجبها سيشرع فيه عما قريب، ولا ريب أن هذا يكون من أعظم الإصلاحات التي أسستها هيئة الحكومة الحاضرة، فإن اختلال القوانين وإجمالها وإبهامها ونقصها مما يؤدي إلى ضياع الحقوق، وامتداد يد التعدي، ويوجب تعطيل الأعمال وكثرة الارتباك. فإذا تعينت الحدود وتبينت وجوه الأعمال ووقف كل أحد على ما رسم به القانون، سارت الأعمال على الاستقامة، وقوي الضبط وقل الخلط والخبط خصوصا إذا انتشرت القوانين وصارت في أيدي العامة والخاصة يتداولونها ويدركون مغزى ما كتب بها، وقد كان الناس في حرج وضيق صدر من تشتت القوانين واللوائح والتعليمات وعدم وجود قاعدة ثابتة وقانون واحد يقف عليه كل شخص حتى لا يكون لعديم الذمة قدرة على محاولته".

4- إلقاء الضوء على الخطوة التالية لتطور القانون إذ أنه بتسجيله المرحلة التي وصل إليها القانون وقت التقنين يبين خطة السير في المرحلة القابلة وبذا يسير القانون في المستقبل على هدى الماضي فيكون متصل الحلقات واصلا المستقبل بالحاضر، والحاضر بالماضي.

5- الإعانة على دراسة القانون المقارن، إذ بعد أن يدون القانون في مجموعة بينة الحدود والمعامل تسهل مقارنته بالقوانين في الدول الأخرى، وهذه المقارنة تظهر مزايا وعيوب كل قانون. والواقع المشاهد اليوم أن المشرع - في بلد ما- لا يقدم على وضع تشريع إلا بعد أن يراجع نظيره في البلاد الأخرى، مما يترتب عليه التقارب بين قوانين البلاد المختلفة ولذلك أثره الحميد بين بنى البشر.

ب- عيوبه:

نسب إلى التقنين ما يتلخص في عيبين هما: الجمود والنقص، وسيتبين أنهما عيبان موهومان. ونعرض فيما يلي باختصار هذين العيبين:

1- الجمود:

قدمنا أن التقنين تشريع كغيره من التشريعات ولكنه يمتاز عليها بالضخامة والأهمية، وبما يبذل فيه نتيجة ذلك من جهد، وبما يوضع فيه من فن مما يكسبه شيئا من الهيبة والتقدير بل ما يقرب من التقديس. يضاف إلى ذلك ما تجنيه الروابط القانونية من فائدة كبيرة نتيجة تركيز قواعد القانون في مواد موجزة سهلة التناول بدلا من القواعد القديمة المبعثرة والأحكام المتضاربة.

هذا إلى أنه قد يوجد لدى الفقهاء الاعتقاد بأن "التقنين" أصبح المصدر الوحيد للقواعد القانونية، وأنه كالكتاب المقدس قد أحاط بكل شيء عملا واتى بالحلول لكل مشكلات الحياة مما يستتبع أن يكون تفسيرهم للنصوص تفسيرا لفظيا، وأن تكون مهمتهم هي الكشف عن نية واضعيه([7])- كل ذلك قد يؤدي إلى جمود القانون وعدم مسايرته لما يحدث في المجتمع من تطور، وهو أمر يتنافى مع وظيفة القانون التي تقتضي أن يتطور مع ما يجد من ظروف المجتمع. ولكن سرعان ما تبين أن هذا الانتقاد مبالغ فيه، وأن القانون يظل محتفظا بمرونته في ظل التقنين فضلا عما يتمتع به التقنين من مزايا. وقد ترتب على ذلك أنه لم يعد أحد يعتبر هذا العيب.

وزيادة في البيان نقول: لما صدرت التقنينات الفرنسية عقب الثورة الفرنسية (بين سنة 1814 وسنة 1810) قوبلت بالتقدير العظيم وحظيت بدرجة عالية من الشهرة مما أغرى الدول الأخرى أن تحذو حذو فرنسا في هذا المضمار، فقام في ألمانيا الفقيه الكبير Thibautيدعو إلى تقنين القانون الألماني على نهج التقنين الفرنسي بعد ما رآه من فلاح التجربة الفرنسية، فتصدى له الفقيه الألماني الكبير سافيني Savigny معارضا التقنين داعيا مواطنيه إلى نبذ هذه الفكرة لما يترتب على التقنين من مضار في رسالة مشهورة نشرت سنة 1814 كشفت عن مذهب جديد في طبيعة القانون هو " مذهب التطور الطبيعي"، ويقضي هذا المذهب بترك قواعد القانون حرة طليقة من كل قيد تتطور حسب حاجة المعاملات وبعدم صبها في قوالب جامدة من النصوص تحبسها عن الحركة والتطور وتفقدها مرونتها وتطبعها بطابع الجمود. ولكن الواقع أخلف ظن سافيني هذا، إذ تبين أن الخوف من جمود القانون لم يكن له ما يبرره وخصوصا بعد ما أدت الضرورات العملية إلى زوال فكرة تقديس النصوص، وأدرك الفقه الفرنسي أن اعتناقه لنظرية مدرسة الشرح على المتون([8]) قد أبعده عن الحياة الواقعية، وأنه لا بد من التعاون مع القضاء والاعتراف بمصادر أخرى للقانون غير النصوص، وتفسير النصوص على هدى الظروف والحاجات العملية، ودعوة المشرع إلى التدخل كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وبذلك يستطيع التقنين أن يحتفظ بمرونته وبقدرته على التطور وفقا لحاجات المجتمع. وفعلا قنن القانون الألماني ولكن بعد ما يقرب من قرن من الزمان من معارضة سافيني وصدر سنة 1900 ولم يترتب عليه ما خشي وحذر منه سافيني في رسالته تلك التي نشرها سنة 1814 م.

2- النقص:

أما العيب الثاني الذي رموا به التقنين فهو النقص أو القصور، وذلك يتمثل في وجهين:

- خلو المدونات من التعريف بالألفاظ التي وردت فيه، وترك ذلك للفقه والقضاء مع خطورة النتائج التي تترتب على الاختلاف في تعريفها، كألفاظ الغلط والتدليس والغرر  وحسن النية وسوء النية... إلخ.

- قصور التقنين عن استيعاب كل الأحكام القانونية. وبعبارة أخرى عدم شمول التقنين للأحكام القانونية.

ويلاحظ على هذا العيب (النقص) بادئ ذي بدء أنه لا يتصل بطبيعة التقنين، وإنما بمنهجه إذ من الممكن إيراد تعريف للألفاظ المستعملة في التقنين وهو ما فعلته فعلا بعض التقنينات كالمجلة. ومن الممكن محاولة استقصاء كل الأحكام. ولكن هذا العيب، مع ذلك، مردود حتى من ناحية المنهج بما يأتي:

أما الوجه الأول، وهو خلو التقنين من التعريفات فهو فصيلة تحسب للتقنين لا عليه، ذلك لأن التعريفات مسألة علمية فينبغي أن تترك للفقه والقضاء يذهبان فيها المذهب المناسب لمقتضى الحال المتغير بتغير الظروف.

وأما عدم استيعاب التقنين لكل الأحكام فهو ما تقضي به الحكمة، إذ ينبغي أن يقتصر التقنين على القواعد العامة وأن تترك التفاصيل للقضاء. وعلى القضاء أن يكمل ما في التقنين من نقص وفقا لما تقتضيه الضرورات العملية وتستوجبه العدالة.

وهذا النقص المزعوم يهيء الرد على العيب الأول الذي وجه إلى التقنين وهو الجمود، ذلك أنه نتيجة عدم الإحاطة بكل الجزئيات أمكن تحت ستار التفسير التوسع في فهم النصوص لإدخال الحاجات الجديدة تحتها، وبذلك يبقى للتقنين مرونته مهما تقادم عليه العهد.

وهذا ما نجده فعلا في فرنسا، إذ أن التقنين الفرنسي وضع سنة 1804 ثم جدت معاملات وواقعات لم تكن يوم وضعه، ومع ذلك أمكن باسم التفسير مد نصوصه حتى شملت ما جد من معاملات وواقعات، وفي ذلك يقول الفقيه الكبير سالي Saleilles عن تقنين نابليون بمناسبة مرور مائة عام عليه: "المجموعة المدنية تطورت، فقد بقيت النصوص على حالها ولكن الذي تغير محتواها، ففي أوعية ظن أنها قديمة جرى (رحيق) جديد، وقد كفت قوته المتجددة لأن تعيد إلى الوعاء نضارة الشباب"([9]).

وقد خفت الأصوات المعارضة للتقنين، بل تلاشت إذ لم يعد أحد يدعو إلى مناهضته (إلا في بعض الدول العربية) بل اتجهت الدعوة إلى الإجادة في صناعته ثم مراجعته بين حين وحين واستبدال غيره به يكون أوفى بالحاجة التي جدت وأقدر على متابعة التطور في المعاملات.

المبحث الثالث: حركة التقنين([10])

ليس التقنين، كما قد يظن لأول وهلة، حديث المولد، بل إنه قديم عرفته الشرائع القديمة قبل الشرائع الحديثة مما نراه مفصلا في كتب تاريخ القانون([11]). ونكتفي هنا بسلسلة متصلة الحلقات منذ القديم إلى اليوم، وهي القانون الروماني في القديم والقانون الفرنسي في الحديث، مع العلم بأن الأخير قام على الأول فهو امتداد له.

أ- القانون الروماني:

قنن القانون الروماني مرتين: الأولى عند نهاية المرحلة الأولى من تاريخه فيما يسمى "الألواح الإثنى عشرة" (541 قبل الميلاد).والثانية عند نهاية المرحلة الأخيرة من نموه في القرن السادس الميلادي فيما يسمى "تقنينات جستنيان".

والتقنين الأخير هو أهم تقنين وقع في القديم، وكانت مصادر القانون الروماني قد تعددت بحيث أصبح من العسير معرفة القانون الذي يطبق. فلما جاء الإمبراطور جستنيان رأى أن يجمع كل القواعد القانونية المبعثرة في مختلف المصادر وأن يستبعد ما بينها من تناقض أو يضمها في كتاب واحد، فكون لجنة قامت بهذا العمل وأصدره متوجا باسمه ومخلدا لذكراه ليكون " قانون الرومان Corpus Juris Civile ". وقد صدر هذا القانون على نحو من الإيجاز والانسجام والوضوح بحيث استحق أن ينتشر، وأن يكون أصلا لكل القوانين الأوربية وغيرها.

ب- القانون الفرنسي:

* القديم :

بدأت حركة التقنين في فرنسا في عهد الملك شارل السابع في أواسط القرن الخامس عشر، بقصد توحيد فرنسا من الناحية القانونية، واستمرت هذه الحركة في عهد لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر تحت تأثير كلبير Colbert وداجسو Dagesseau، وصدرت عدة قوانين في شكل أوامر ملكية. ولما قامت الثورة الفرنسية كان في فرنسا قانون لتحقيق الجنايات صدر سنة 1670 وآخر للتجارة صدر سنة 1673 وثالث للهبات صدر سنة 1731 وكان ذلك خطوة نحو التقنين.

* الحديث:

عقب الثورة الفرنسية اتجهت النية إلى جمع شتات الأحكام القانونية وتعميم تطبيقها في كل أنحاء الجمهورية الفرنسية حتى يكون القانون واحدا  في سائر أقاليم الدولة، فقدم إلى الجمعية الوطنية مشروع وتلاه عدة مشروعات أخرى كان مآلها الفشل.

وفي سنة 1800 كون نابليون لجنة من أربعة من العلماء الفرنسيين هم: Malville, Portalis, Bigot du Preameneu, Pronchet لتحضير مجموعة القانون المدني. وقد أبدى نابليون عناية فائقة بإتمام هذا المشروع، وبفضل إصراره نجح المشروع وصدرت المجموعة المدنية سنة 1814 باسم " تقنين نابليون "Code Napoléon"  فكان ذلك بدء عهد جديد للتقنين في فرنسا.

وقد عمل واضعو هذه المجموعة على التوفيق بين القوانين التي كانت سائدة في عهد الملكية وبين الأفكار والمبادئ التي جاءت بها الثورة، فوصلوا الحاضر بالماضي. وكان لتأخر صدورها خمسة عشر عاما على بدء الثورة فائدة عظيمة إذ كانت النفوس قد هدأت والأمور استقرت إلى حد ما، فجاء التقنين خاليا من النزعات الثورية العنيفة. وقد مر على هذا التقنين قرابة قرنين من الزمان دون إدخال تعديل عليه إلا تعديلات طفيفة اقتضاها تغير الظروف، ذلك أن القضاء والفقه عملا دائما، تحت ستار التفسير، على تطوره بحيث يساير ما طرأ على المجتمع من تغيرات اجتماعية واقتصادية... إلخ. وقد كونت لمراجعته لجنة بمرسوم صدر في يونيو سنة 1945 برئاسة عميد كلية الحقوق بجامعة باريس الأستاذ جوليو دي لامورانديير.

وصدر بعد التقنين المدني تقنينات أخرى، فصدر تقنين المرافعات سنة 1806، والتقنين التجاري والبحري سنة 1807،  وتقنين الإجراءات الجنائية سنة 1809، والتقنين الجنائي سنة 1810. وفي العهد الأخير صدرت تقنينات في فروع أخرى للقانون الفرنسي، منها: تقنين العمل والتقنين الزراعي.

أثر تقنينات نابليون:

كان لتقنينات نابليون أثر السحر في البلاد الأخرى، إذ وجد المشرعون فيها قانونا سهل العبارة موجزها، واضح المعنى، خاليا من التناقض، ومحققا للوحدة القانونية في كل أرجاء فرنسا، فنسجوا على منوالها بحيث يمكن القول بأن القرن التاسع عشر كان مبدأ عصر التقنين.

ففي الغرب صدر التقنين النمساوي سنة 1812 والتقنين الإيطالي سنة 1865 والتقنين السويسري سنة 1881 والتقنين الألماني سنة 1900 وتقنين الالتزامات السويسري سنة 1912، وكذلك فعلت هولندا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال وتونس ومراكش والولايات الجنوبية من كندا وكثير من الدول الأمريكية الجنوبية نقلا عن التقنين الفرنسي. وأعيد النظر في التقنين النمساوي في أول سني الحرب العالمية الأولى سنة 1914-1916، وكذلك التقنين البرازيلي سنة 1916 وتقنين السوفييت سنة 1923.

حتى القانون الإنجليزي، وهو يستعصى عادة على التقنين، لأن مصدره الرئيسي هو القضاء، والقضاء لا يقنن، لأنه في تطور مستمر، ويقوم مقام التقنين بالنسبة إليه تجميع الأحكام والسوابق القضائية وترتيبها وتبويبها. هذا القانون قد قنن في بعض نواحيه فصدرت القوانين الخاصة ببيع البضائع وبالأوراق المالية وبالشركات. وهناك محاولات لبعض علماء الإنجليز لتجميع القانون، ومن أمثلة ذلك: كتاب ستيفن ٍStephen في قانون العقوبات، وكتاب دايسي Dicey في القانون الدولي الخاص. وهي وإن لم تكن تقنينات رسمية، إلا أنها تمثل اتجاها نحو التقنين.

وفي الشرق صدر التقنين الجنائي الهندي سنة 1860، والتقنين العثماني (المجلة من الفقه الإسلامي) سنة 1869، والتقنينات المصرية سنة 1875 و1881 والتقنين الجنائي السوداني سنة 1891 والتقنين الصيني في سنتي 1929 و1930 والتقنين اللبناني سنة 1932، والتقنين الياباني والتقنين العراقي في العقوبات وفي المرافعات الجزائية.

وقد أعيد النظر في كثير من هذه التقنينات وعدلت بما يتفق وما جد من معاملات وظروف. كما حدث بالنسبة إلى التقنينات المصرية.

هذا إلى جانب مشروعات تقنينات كثيرة أهمها، المشروع الفرنسي الإيطالي والمشروع البولوني والمشروع التشيكوسلوفاكي ([12]).

الفصل الأول: المبدأ: هل يجوز تقنين الفقه الإسلامي؟

مما تقدم في تعريف التقنين يتبين أنه يقوم على عنصرين: أولهما صياغة الحكم القانوني (الشرعي) في عبارة موجزة واضحة. والآخر إلزام القاضي وفقا لهذا الحكم، ولو كان مخالفا لرأيه هو.

أما العنصر الأول فسنتكلم عنه في الفصل الثاني المخصص لبيان منهج التقنين. ونتكلم هنا على العنصر الثاني وهو عنصر "الإلزام".

ويتمثل العنصر الثاني- موضوع هذا الفصل- في السؤال التالي: هل يجوز لولي الأمر أن يلزم القاضي بالقضاء بالحكم الفقهي الذي يفرضه ولو كان مخالفا لرأيه هو؟

إن هذه المسألة لا تثير صعوبة في القانون الوضعي حيث القانون كله من صنع بشر من الناس، فيستوي هذا الحكم أو ذاك، لأن الكل من صنعه هو([13]). أما بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية فالشارع هو الله سبحانه وتعالى، وقد اختلف في أحكامه سبحانه وتعالى مذاهب وآراء، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يقضى بين الناس بالحق، فالقاضي ملزم شرعا بأن يحكم، بما يؤدي إليه اجتهاده من الحق، فذلك وسعه- فهل يجوز إلزام القاضي المسلم الذي يحكم بالشريعة الإسلامية بأن يحكم بما يرد في التقنين، ولو كان مخالفا لرأيه؟ الأصل كما تقدم هو أن يجتهد القاضي، فيما يعرض عليه من منازعات، في معرفة الحكم الشرعي، ويحكم بما يؤدي إليه اجتهاده، فإن لم يكن القاضي من أهل الاجتهاد، فإنه يحكم بالراجح في المذهب الذي يتبعه على تفصيل تورده الكتب الفقهية. ولكن هل يجوز لولي الأمر إلزامه بالحكم برأي معين، ولو كان خلاف رأي القاضي؟

اختلف في ذلك وفيما يلي بيان موقف الفقه في هذه المسألة، وما جرى عليه العمل، ورأينا، وذلك في ثلاث مباحث

المبحث الأول: الفقه

اختلف رأي إلى أنه لا يجوز لولي الأمر أن يلزم القاضي بالحكم برأي معين، وهو الرأي الغالب، إذ ذهب إليه غالبية الفقهاء. وذهب رأي إلى أنه يجوز له ذلك. ونعرض فيما يلي الرأيين: كلا على حدة.

أ- الرأي القائل بعدم الجواز

ذهبت غالبية الفقهاء إلى القول لا يجوز لولي الأمر أن يلزم القاضي بالحكم برأي معين. وحجة هذا الرأي أن القاضي أمر بأن يحكم بالحق، وهو ما يراه محققا للعدل- قال تعالى: ﴿فاحكم بين الناس بالحق﴾([14])، والحق لا يتعين في مذهب بعينه، وقد يظهر الحق في غير ذلك المذهب. وفيما يلي بعض النصوص الفقهية بذلك:

المالكية:

قال ابن فرحون في تبصرة الحكام([15]): "فصل - قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي في مقدمة كتابه المسمى: تعليقة الخلافة في القاضي يوليه الإمام القضاء، ويشترط عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمام معين مثل أن يكون مالكيا أو شافعيا أو حنفيا فيقول له: قد وليتك القضاء على أن لا تحكم إلا بمذهب مالك مثلا وسواء وافق مذهب السلطان الذي ولاه أو لا- فهذا على ضربين:

أحدهما- أن يشترط ذلك عموما في جميع الأحكام- فالعقد باطل والشرط باطل، سواء قارن الشرط عقد الولاية أو تقدمه ثم وقع العقد. وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط. دليلنا أن هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، فإن العقد يقتضي أن يحكم بالحق عنده، وهذا الشرط قد حجره عليه واقتضى أن يحكم بمذهب إمامه وإن بان له الحق في سواه.

والضرب الثاني- أن يكون الشرط خاصا في حكم بعينه. ولا يخلو الشرط أن يكون أمرا أو نهيا:

- فإن كان أمرا مثل أن يقول: وليتك على أن تقيد من الحر بالعبد ومن المسلم بالكافر. قال ابن أبي جمرة: أو يشترط عليه أن يقتص في القتل بغير الحديد وما يشاكل هذا- فإنه يفسد العقد والشرط.

- وإن كان نهيا فهو على ضربين:

أحدهما- أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد، ولا يقضي فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه - فهو جائز، لأنه اقتصر بولايته على ما عداه وأخرجه من نظره.

الثاني- أن لا ينهاه عن الحكم فيه، وينهاه عن القضاء في القصاص، فيصح العقد ويخرج المستثنى من ولايته، فلا يحكم فيه بشيء.

ومن الفقهاء من يقول: تثبت ولايته عموما ويحكم فيه بما نهاه عنه بمقتضى اجتهاده.

كل هذا إذا كان شرطا في ولاية. فأما لو أخرجه مخرج الأمر والنهي فقال: قد وليتك القضاء فاحكم بمذهب مالك ولا بمذهب أبي حنيفة، فالولاية والشرط باطل، سواء تضمن أمرا أو نهيا، ويجب أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه.

فأما لو ذكره بالأمر فقال: قد وليتك لتحكم بمذهب مالك مثلا: فحكى الماوردي من الشافعية أن الولاية صحيحة والشرط باطل.

واعلم أن جميع ما ذكره من التقليدات لا يجوز للإمام اشتراطها عليه، وتكون قادحة في الولاية، لأن اشترط ما لا يجوز. قال ابن أبي جمرة في إقليد التقليد: ومن كان يقضي إلا بما أمره به من ولاه فليس بقاض على الحقيقة، وإنما هو بصفة خادم رسالة ولا يحل له القضاء في غير ما أمره به إلا بعد أن يستطلع ما عند الذي ولاه في ذلك.

تنبيه- كلام الشيخ أبي بكر في القاضي المجتهد ولم يتعرض للقاضي المقلد كما في زماننا، وسيأتي الكلام على ذلك في الركن الثاني من أركان القضاء".

وفي الركن الثاني من أركان القضاء الذي أشار إليه ابن فرحون([16]) قال: "الركن الثاني- من أركان القضاء، وهو المقضي به:

وهو الحكم من كتاب الله تعالى، فإن لم يجد فبسنة نبيه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي صحبها العمل. فإذا كان خبرا صحبت غيره الأعمال قضى بما صحبته الأعمال وهذا معلوم من أصل مالك رحمه الله إذ العمل مقدم على خبر الآحاد. وكذلك القياس عنده مقدم على أخبار الآحاد على ما ذهب إليه أبو بكر الأبهري. فإن لم يجد في السنة شيئا نظر في أقوال الصحابة فقضى بما اتفقوا عليه فإن اختلفوا قضى بما صحبته الأعمال من ذلك. فإن لم يصح عنده أيضا أن العمل اتصل بقول بعضهم تخير من أقوالهم ولا يخالفهم جميعا.

وقد قيل له أن يجتهد وإن خالفهم جميعا. وكذلك الحكم في إجماع التابعين بعد الصحابة رضي الله عنهم، وفي كل إجماع ينعقد في كل عصر من الأعصار إلى يوم القيامة. فإن لم يجد في النازلة إجماعا قضى بما يؤدي إليه النظر والاجتهاد في القياس على الأصول بعد مشورة أهل العلم، فإن اجتمعوا على شيء أخذ به. وإن اختلفوا نظر إلى أحسن أقوالهم عنده. وإن رأى خلاف رأيهم قضى بما رأى إذا كان نظيرا لهم. وإن لم يكن من نظرائهم ليس له ذلك.

قال ابن حبيب: وهو قول فيه اعتراض. والصحيح أنه إذا كان من أهل الاجتهاد فله أن يقضي بما رأى وإن كانوا أعلم منه، لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بإجماع، وإنما يصح له التقليد ما لم يتبين له في النازلة حكم. وهذا على مذهب من يرى التقليد ويقول به.

واختلفوا: هل للمجتهد أن يترك النظر والاجتهاد ويقلد من قد نظر واجتهد أم لا؟ والمجتهد من يعرف من القرآن والسنة ما يتعلق به الأحكام وخاصه وعامه ومجمله ومبينه وناسخه ومنسوخه، ومتواتر السنة وغيره والمتصل والمرسل، وحال الرواة قوة وضعفا، ولسان العرب لغة ونحوا، وأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعا واختلافا، والقياس بأنواعه على ثلاثة أقوال: أحدهما- أن ذلك له. والثاني- أن ذلك ليس له. والثالث- أن ذلك ليس له إلا أن يخاف فوات النازلة.

فصل- وأما إن لم يكن القاضي من أهل الاجتهاد ففرضه المشورة والتقليد. فإن اختلف عليه العلماء قضى بقول أعلمهم. وقيل: بقول أكثرهم، على ما وقع في المدونة في الحكاية عن الفقهاء السبعة. والأول أصح. وقيل: إن له أن يحكم بقول من شاء منهم إذا تحرى الصواب بذلك ولم يقصد الهوى.

وله أن يكتفي بمشورة واحد من العلماء فإن فعل ذلك فالاختيار أن يشاور أعلمهم. فإن شاور من دونه في العلم وأخذ بقوله فذلك جائز إذا كان من أهل النظر والاجتهاد، وقد تقدم من كلام القاضي أبي بكر أن المقلد يقضي بفتوى مقلدة في عين النازلة فإن قاس على قوله فهو متعد.

وقال الشيخ أبو بكر الطرطوشي: أخبرني القاضي أبو الوليد الباجي أن الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلا القضاء شرطوا عليه في سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده. قال الشيخ أبو بكر: وهذا جهل عظيم منهم. يريد  لأن الحق ليس في شيء معين. وإنما قال الشيخ أبو بكر هذا لوجود المجتهدين وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان فتكلم على أهل زمانه، وكان معاصرا للإمام أبي عمر بن عبد البر، والقاضي أبي الوليد الباجي، والقاضي أبي الوليد بن رشد، والقاضي أبي بكر بن العربي، والقاضي أبي الفضل عياض، والقاضي أبي محمد بن عطية صاحب التفسير، وغير هؤلاء من نظرائهم، وقد عدم هذا النمط في زماننا من المشرق والمغرب. وهذا الذي ذكره الباجي عن ولاة قرطبة ورد نحوه عن سحنون، وذلك أنه ولى رجلا القضاء إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك. قال ابن راشد: وهذا يؤيد ما ذكره الباجي ويؤيد ما قاله الشيخ أبو بكر فكيف يقول ذلك، والمالكية إذا تحاكموا إليه فإنما يأتونه ليحكم بينهم بمذهب مالك. وقد تقدم في فصل التحكيم عن اللخمي أن المحكم إذا كان مجتهدا والخصام بين مالكيين فإن لم يخرج باجتهاده عن مذهب مالك نفذ حكمه. وإن خرج عن ذلك لم يلزم حكمه بينهما. فانظر تمام ذلك هناك المازري نحو ذلك([17]).

مسألة – وإذا لم يوجد مجتهد وولى الإمام مقلدا- فقال ابن الحاجب: يلزمه المصير إلى قول مقلد. وقيل: لا يلزمه. وقيل: لا يجوز إلا باجتهاده.

فالقول الأول هو الصحيح.

والقول الثاني يريد به إذا كان المقلد ممن له نفس وقدرة على الترجيح بين أقاويل أهل مذهبه، ويعلم منها ما هو أجرى على أصل إمامه مما ليس كذلك. وأما إن لم يكن بهذه المرتبة فيلزمه المصير إلى المشهور. قال ابن عبد السلام: ومن لم يكن بهذه المرتبة فيظهر من كلام الشيوخ اختلاف بينهم: هل يجوز توليته القضاء أو لا؟

وأما القول الثالث وهو قوله: وقيل لا يجوز إلا باجتهاده- فقال ابن عبد السلام معناه أنه لا تجوز تولية المقلد ألبتة، ويرى هذا القائل أن رتبة الاجتهاد مقدور على تحصيلها، وهي شرط في الفتيا والقضاء... إلخ".

الشافعية:

قال الماوردي في الأحكام السلطانية([18]): " فصل- ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي رحمه الله أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة، لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه. فإذا كان شافعيا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها. فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به. وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه، لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام. وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم. وهذا، وإن كانت السياسة تقتضيه، فأحكام الشرع لا توجبه، لأن التقليد فيها محظور والاجتهاد فيها مستحق. وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد، أعاد الاجتهاد فيه وقضى بما أداه اجتهاده إليه وإن خالف ما تقدم من حكمه، فإن عمر رضي الله عنه قضى في المشركة بالتشريك في عام وترك التشريك في غيره فقيل له: ما هكذا حكمت في العام الماضي، فقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي([19]).

فلو شرط المولي وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة، فهذا على ضربين:

أحدهما- أن يشترط ذلك عموما في جميع الأحكام، فهذا شرط باطل، سواء كان موافقا لمذهب المولي أو مخالفا له. وأما صحة الولاية:

- فإن لم يجعله شرطا فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي، كانت الولاية صحيحة، والشرط فاسدا سواء تضمن أمرا أو نهيا. ويجوز أن يحكم بما أداه اجتهاده إليه، سواء وافق شرطه أو خالفه. ويكون اشتراط المولي لذلك قدحا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز، ولا يكون قدحا إن جهل. لكن لا يصح مع الجهل به أن يكون موليا ولا واليا.

- فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال: قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة، كانت الولاية باطلة، لأنه عقدها على شرط فاسد.

وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط.

والضرب الثاني- أن يكون الشرط خاصا في حكم بعينه، فلا يخول الشرط من أن يكون أمرا أو نهيا:

- فإن كان أمرا فقال له: أقد من العبد بالحر ومن المسلم بالكافر واقتص في القتل بغير الحديد، كان أمره بهذا الشرط فاسدا. ثم إن جعله شرطا في عقد الولاية فسدت. وإن لم يجعله شرطا فيها صحت وحكم في ذلك بما يؤديه اجتهاده إليه.

- وإن كان نهيا فهو على ضربين:

أحدهما: أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد ولا يقضي فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه، فهذا جائز، لأنه اقتصر بولايته على ما عداه، فصار ذلك خارجا عن نظره.

والضرب الثاني: أن لا ينهاه عن الحكم، وينهاه عن القضاء في القصاص- فقد اختلف أصحابنا في هذا النهي : هل يوجب صرفه عن النظر فيه؟ على وجهين:

أحدهما: أن يكون صرفا عن الحكم فيه، وخارجا عن ولايته، فلا يحكم فيه بإثبات قود ولا بإسقاطه.

والثاني: أنه لا يقتضي الصرف عنه ويجري عليه حكم الأمر به ويثبت صحة النظر إن لم يجعله شرطا في التقليد ويحكم فيه بما يؤديه اجتهاده إليه".

الحنابلة:

قال ابن قدامة في المغني([20]): " فصل- ولا يجوز أن يقلد القضاء لأحد على أن يحكم بمذهب بعينه. وهذا مذهب الشافعي ولا أعمل فيه خلافا، لأن الله تعالى قال: ﴿فاحكم بين الناس بالحق﴾([21])، والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر الحق في غير ذلك المذهب. فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع".

وفي الشروط في البيع قال ابن قدامة في المغني([22]):

" الضرب الثاني: (من الشروط) أن يشترط غير العتق مثل أن يشترط أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق ولا يطأ، أو يشترط عليه أن يبيعه أو يقفه أو متى نفق المبيع وإلا رده أو إن غصبه غاصب رجع عليه بالثمن وإن أعتقه فالولاء له فهذه وما أشبهها شروط فاسدة وهل يفسد بها البيع؟ على روايتين:

قال القاضي: المنصوص عن أحمد أن البيع صحيح وهو ظاهر كلام الخرقي هنا، وهو قول الحسن والشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وأبي ثور.

والثانية: أن البيع فاسد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع وشرط". ولأنه شرط فاسد فأفسد البيع كما لو شرط فيه عقدا آخر. ولأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وذلك مجهولا. ولأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه والمشتري كذلك إذا كان الشرط له، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه  بغير رضاه والبيع من شرطه التراضي...".

وقال البهوتي في كشاف القناع([23]): "ويجوز أن يولي الإمام قاضيا من غير مذهبه لأن على القاضي أن يجتهد رأيه في قضائه، وإن نهاه عن الحكم في مسألة فله الحكم بها- هذا أحد الوجهين أطلقهما في الرعاية. قال في الإنصاف: قلت: الصواب الجواز- انتهى. قلت: فيفرق بين ما إذا ولاه ابتداء شيئا خاصا وبين ما إذا ولاه ثم نهاه عن شيء... 

ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه لقوله تعالى: ﴿فاحكم بين الناس بالحق﴾([24])، والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر الحق في غير ذلك المذهب. فإن فعل، أي ولاه على أن يحكم بمذهب بعينه بطل الشرط، وصحت الولاية كالشروط الفاسدة في البيع. وعمل الناس على خلافه كما يأتي قريبا. قال الشيخ: من أوجب تقليد غمام بعينه استتيب فإن تاب وإلا قتل. وإن قال: ينبغي، أي: تقليد إمام بعينه، كان جاهلا ضالا، قال: ومن كان متبعا للإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل أو يكون أحدهما أعلم أو أتقى فقد أحسن ولم يقدح في عدالته بلا نزاع. قال: وفي هذه الحال، أي حال قوة الدليل أو كون أحدهما أعلم أو أتقى، يجوز تقليد من اتصف بذلك عند أئمة الإسلام، بل يجب وإن الإمام أحمد نص عليه انتهى".

وقال أيضا:([25]) " قال في شرح المنتهى: ولزوم التمذهب بمذهب وامتناع الانتقال إلى غيره: الأشهر عدمه- قال الشيخ تقي الدين: العامي عليه أن يلتزم مذهبا معينا يأخذ بعزائمه ورخصه، وفيه وجهان لأصحاب أحمد وهما وجهان لأصحاب الشافعي، والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يحبون ذلك. والذين يوجبون يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما له أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه. ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها: إن كان لغير أمر ديني مثل أن يلتمس مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك، فهذا مما لا يحمد عليه، بل يذم عليه في نفس الأمر، ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه، وهو بمنزلة من يسلم ولا يسلم إلا لغرض دنيوي أو يهاجر من مكة إلى المدينة لإمرأة يتزوجها ودنيا يصيبها. وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني، فهو مثاب على ذلك، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل عنه ولا يتبع أحدا في مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه سلم، فإن الله تعالى فرض طاعته وطاعة رسوله على كل أحد في كل حال – انتهى. وفي الرعاية: من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بلا دليل ولا تقليد سائغ ولا عذر ومراده بقوله: " بلا دليل" إذا كان من أهل الاجتهاد. وقوله "ولا تقليد سائغ" أي لعالم أفتاه إذا لم يكن أهلا للاجتهاد.

وقوله " ولا عذر" أي يبيح له ما فعله- فينكر عليه حينئذ لأنه يكون متبعا لهواه.

وقال في موضع آخر: يلزم كل مقلد أن يلتزم بمذهب معين في الأشهر ولا يقلد غيره. وقيل : بلى . وقيل: ضرورة"([26]).

ب- الرأي القائل بالجواز

ذهب رأي آخر إلى القول بجواز أن يلزم ولي الأمر القاضي بحكم يختاره هو، داخل نطاق الشريعة الإسلامية. وقد جرى العمل ويجري على هذا الرأي. وحجته المصلحة من ناحية ولي الأمر، والطاعة من ناحية القاضي والرعية:

أ) أما المصلحة من ناحية ولي الأمر- فتتمثل فيما يأتي:

1- التيسير على القضاة والمتقاضين في معرفة الحكم الشرعي.

خصوصا وقد أصبح القضاة الآن غير مجتهدين. وغير خاف ما يلقاه الباحث في كتب الفقه الإسلامي من عناء لمعرفة الحكم مما يضيع وقت القاضي وجهده في وقت ازدحمت فيه دور المحاكم بالخصومات وتأخر الفصل فيها على وجه جعل الناس يضجون بالشكوى منه.

2- توحيد الأحكام في الدولة- فلا يحكم برأي في ناحية من الدولة ويحكم برأي مخالف في جهة أخرى. فتحرم الفروج والدماء في ناحية وتستحل في ناحية أخرى من نفس الدولة.

3- طمأنينة المتقاضين، وحماية القاضي من قالة السوء.

4- معرفة الحكم ابتداء حتى يرتب المتعاملون أمورهم عند التعامل على الحكم الذي سيفصل به عند التنازع بينهم.

ومن السياسة الشرعية مراعاة المصلحة.

ب) وأما من ناحية القاضي- فلأنه واجب عليه طاعة ولي الأمر نزولا عند قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾([27]). ولأنه وكيله، وعلى الوكيل التزام أمر الموكل.

وفيما يلي بعض النصوص الفقهية لهذا الرأي:

1- من القدامى:

ابن المقفع وأبو جعفر المنصور:

يروى أن ابن المقفع لما رأى اختلاف الأحكام وتناقض الأقضية في عهده ضمن رسالته في "الصحابة" التي وجهها إلى الخليفة أبي جعفر المنصور حاوية كثيرا من وجوه الإصلاح، ما نصح به من جمع الأحكام الفقهية وإلزام القضاة بها ونهيهم عن الحكم بغيرها قائلا فيها: "ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي، اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال، فيستحل الدم والفرج بالحيرة وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكعبة فيستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى... فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله، ويعزم له عليه وينهي عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابا جامعا عزما لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا، ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه ثم يكون ذلك من إمام آخر، آخر الدهر إن شاء الله. فأما اختلاف الأحكام: إما شيء مأمور عن السلف غير مجمع عليه يديره قوم على وجه ويديره آخرون على وجه آخر، فينظر فيه إلى أحق الفريقين بالتصديق وأشبه الأمرين بالعدل، وإما رأي أجراه أهله على القياس فاختلف وانتشر ما يغلط في أصل المقايسة، وابتدأ أمر على غير مثاله، وإما لطول ملازمته بالقياس، فإن من أراد أن يلزم القياس ولا يفارقه أبدا في أمر الدين والحكم وقع في الورطات ومضى على الشبهات، وغمض عن القبيح الذي يعرفه ويبصره فأبى أن يتركه كراهة ترك القياس، وإنما القياس دليل يستدل به على المحاسن، فإذا كان ما يقود إليه حسنا معروفا أخذ به، وإذا قاد إلى القبيح المستنكر ترك، لأن المبتغى ليس عين القياس يبغى، ولكن محاسن الأمور ومعروفها وما ألحق الحق بأهله..." ([28]).

وقد طلب الخليفة أبو جعفر المنصور([29]) من الإمام مالك أثناء موسم الحج سنة 163هـ أن يضع كتابا جامعا يختار أحكامه من أدلة الشرع من مراعاة التيسير قائلا له: " يا أبا عبد الله! ضع هذا العلم ودونه ودون منه كتابا وتجنب شدائد عبد الله بن عمر ورخص عبد الله بن عباس وشواذ ابن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة رضي الله عنهم، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم ألا يخالفوها ولا يقضوا بسواها".

إلا أن الإمام مالكا لم يجار الخليفة في الفكرة ورد عليه قائلا: "أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في علمهم رأينا".

ولكن الخليفة رد عليه قائلا: "يحملون عليه وتضرب عليه هاماتهم بالسيف، وتقطع طي ظهورهم بالسياط، فتعجل بذلك وضعها، فسيأتيك محمد ابني المهدي العام القابل إن شاء الله إلى المدينة ليسمعها منك فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله"([30]).

واستجابة لطلب الخليفة صنف الإمام مالك كتابه " الموطأ"، ولما قدم المهدي على الإمام مالك تنفيذا لأمر أبيه وسأله عما فعل بأمر أبيه قدم إليه الموطأ فأمر المهدي بانتساخه وقرئ على مالك. قال ابن قتيبة: "وذكروا أن مالك بن أنس لما أخذ في تدوين كتبه ووضع فأتاه بالكتاب، وهي كتب الموطأ فأمر المهدي بانتساخها وقرئت على مالك"([31]).

الحنفية:

قال صاحب الهداية([32]): "ولو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه ناسيا لمذهبه نقذ عند أبي حنيفة رحمه الله. وإن كان عامدا ففيه روايتان. ووجه النفاذ أنه ليس بخطأ بيقين. وعندهما لا ينفذ في الوجهين لأنه قضى بما هو خطأ عنده، وعليه الفتوى".

وشرحا لذلك قال صاحب فتح القدير([33]): "... ومع ذلك ذكر المصنف كصاحب المحيط الفتوى على قولهما. وذكر في الفتاوى الصغرى أن الفتوى على قول أبي حنيفة. فقد اختلف الفتوى. والوجه في هذا الزمان أن يفتى بقولهما لأن التارك لمذهبه عمدا لا يفعله إلى لهوى باطل لا لقصد جميل.

وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره. وهذا كله في القاضي المجتهد. فأما المقلد فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة مثلا فلا يملك المخالفة فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم. هذا وفي بعض المواضع ذكر الخلاف في حل الإقدام مأمور بالمشاورة وقد تقع على خلاف رأيه.

ووجه المنع قوله تعالى: ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾ ([34]) (الآية )، وإتباعه غير رأيه إتباع هوى غيره. والوجه الصحيح أن المجتهد مأمور بالعمل بمقتضى ظنه، وعمله هنا ليس إلا قضاؤه بخلاف المرسل إلى من يرى خلاف رأيه ليحكم هو فإنه لم يحكم فيه بشيء".

وقال ابن عابدين في رد المحتار([35]): " القاضي لو قضى بخلاف رأيه ينفذ قضاؤه ما لم يقيده السلطان بمذهب خاص".

وقال أيضا([36]) نقلا عن شرح الوهبانية للشرنبلالي إنه: "لو قيده السلطان بصحيح مذهبه كزماننا تقيد بلا خلاف لكونه معزولا عنه، وإنه متى حكم بغير ما قيد به فحكمه عن الشرنبلالي غير صحيح لكونه معزولا عنه".

وقال في رسم المفتي([37]): " ثم ذكر أنه اختلفت عبارات المشايخ في القاضي المقلد. والذي حط عليه كلامه أنه إذا قضى بمذهب غيره أو برواية ضعيفة أو بقول ضعيف نفذ. وأقوى ما تمسك به ما في البزازية عن شرح الطحاوي: إذا لم يكن القاضي مجتهدا وقضى بالفتوى ثم تبين أنه على خلال مذهبه نفذ وليس لغيره نقضه- وله أن ينقضه، كذا عن محمد. وقال الثاني: ليس له أن ينقضه أيضا- انتهى. لكن الذي في القنية عن المحيط وغيره أن اختلاف الروايات في قاض مجتهد إذا قضى على خلاف رأيه. والقاضي المقلد إذا قضى على خلاف مذهبه لا ينفذ- انتهى. وبه جزم المحقق في فتح القدير وتلميذه العلامة قاسم في تصحيحه. قال في النهر: وما في الفتح يجب أن يعول عليه في المذهب، وما في البزازية محمول على رواية عنهما، فصار الأمر أن هذا منزل منزلة الناسي لمذهبه، وقد مر عنهما في المجتهد أنه لا ينفذ، فالمقلد أولى- انتهى. وقال في الدر المختار: قلت ولاسيما في زماننا، فإن السلطان ينص في منشوره على نهيه عن القضاء بالأقوال الضعيفة، فكيف بخلاف مذهبه؟! فيكون كما بسط في قضاء الفتح والبحر والنهر وغيرها- انتهى.

قلت: وقد عملت أيضا أن القول المرجوح بمنزلة العدم مع الراجح فليس له الحكم به وإن لم ينص له السلطان على الحكم بالراجح".

وفي مجلة الأحكام العدلية نص في عجز المادة 1801 على ما يأتي: "وكذلك لو صدر أمر سلطاني بالعمل برأي مجتهد في خصوص، لما أن رأيه بالناس أرفق ولمصلحة العصر أوفق فليس للحاكم أن يعمل برأي مجتهد آخر مناف لرأي ذلك المجتهد، وإذا عمل فلا ينفذ حكمه".

المالكية:

قال ابن فرحون في تبصرة الحكام([38]) وقد تقدم: "وقال الشيخ أبو بكر الطرطوشي: أخبرني القاضي أبو الوليد الباجي أن الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلا القضاء شرطوا عليه في سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده... وهذا الذي ذكره الباجي عن ولاة ورد نحوه عن سحنون، وذلك أنه ولى رجلا القضاء وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق، فشرط عليه سحنون أن لا يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك... وقد تقدم في فصل التحكيم عن اللخمي أن المحكم إذا كان مجتهدا والخصام بين مالكيين فإن لم يخرج باجتهاده عن مذهب مالك نفذ حكمه. وإن خرج عن ذلك لم يلزم حكمه بينهما. فانظر تمام ذلك هناك. وذكر المازري نحو ذلك"([39]).

الشافعية:

قال الماوردي في الأحكام السلطانية([40]) وقد تقدم: "وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم".

الحنابلة:

قال البهوتي في كشاف القناع([41]) وقد تقدم: " قال الشيخ تقي الدين: العامي عليه أن يلتزم مذهبا معينا يأخذ بعزائمه ورخصه. وفيه وجهان لأصحاب أحمد وهما وجهان لأصحاب الشافعي".

2- من المحدثين:

يكاد كل المحدثين الآن -إلا من ندر- يرون تقنين أحكام الفقه الإسلامي وإلزام القضاة والناس بها، ونورد فيما يلي أقوال بعضهم:

- أستاذنا الشيخ علي الخفيف رحمه الله قال: "كان الخلفاء منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى الرأي فيما لم يرد فيه كتاب ولا سنة. وكانوا يستشيرون في ذلك ويختلفون مع غيرهم في حكم ما يعرض عليهم، ولم يكونوا يرون أنهم ملزمون برأي غيرهم ولو كان رأي أصحاب الكثرة فيه، وكان رأيهم هو النافذ بحكم ولا يتهم العامة، ولسنا ننسى خلاف أبي بكر رضي الله عنه مع كثير من الصحابة على رأسهم عمر رضي الله عنه في أمر قتال مانعي الزكاة وإصراره على رأيه. لهذا يكون لولي الأمر أن يختار من المذاهب ما تطمئن إليه نفسه ويرى المصلحة في اختياره حسب تقديره. ولأن ولاية الحكم له ابتداء، فإن الحكم يكون على وفق ما اختاره. ولأن القضاة نوابه وخلفاؤه فله إلزامهم بما اختاره ورجحه وليس لهم مخالفته في ذلك ولو كان رأيهم على خلاف ما ألزموه به، لأن ولايتهم مستمدة من ولي الأمر، فهم وكلاؤه، والوكيل يتقيد بما يقيده موكله، فلو قضوا بخلاف ما أمروا به كان قضاؤهم باطلا، والقضاء يقبل التخصيص بالزمان والمكان والحادثة والمذهب. وطاعة أولي الأمر واجبة ما كانت في غير معصية. وعلى ذلك فلولي الأمر أن يختار من المذاهب ما يرى المصلحة في اختياره، وأن يلزم قضاته بالحكم به ولا يجوز لهم مخالفته. أما ما ورد عن مالك رضي الله عنه من ترك الناس وما هم عليه من أن يلزموا بكتاب يضعه فقد كان ذلك قبل تدوين السنة وجمعها وخوفه من أن يكون منها في الأمصار ما لم يصل إليه منها، فيترك العمل به كما تدل على ذلك عبارته: " إن أصحاب رسول الله (ص) قد تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رأى". أما في زماننا فقد جمعت السنة وعرفت، فلن يترك منها شيء، ثم لن يكون ما ستلزم به دولة من الأحكام الشرعية بمضيع عليها حكما إلا ما يرى أن غيره خير منه.

وإذا كان حق ولي الأمر أن يختار من المذاهب ما يرى المصلحة فيه وكان رد ذلك إلى رأيه وتقديره أمرا جائزا فأولى أن يكون ذلك إلى هيئة تتكون من الفقهاء الموثوق بهم أهل النظر والبصر بالأمور، إذ أن اختيارهم أحكم وأوثق وبخاصة إذا وثق بموافقة ولي الأمر.  ومن المصلحة ألا يترك للقضاة اختيار في الأحكام، وإنما يكون اختيارهم حسبما تقتضيه المصلحة في الجزاءات التعزيرية بين حد أعلى وحد أدنى، كما هو الحال في القوانين الوضعية، وليس في ذلك خروج عن الشريعة الإسلامية لأنه تقدير عقوبات تعزيرية متروك إلى قاضي ليراعي فيه الجريمة وآثارها وحال من اقترفها"([42]).

- أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله: " ونحن نرى أن استخلاص قانون من الشريعة لم يعد أمرا سائغا فقط بل أصبح واجبا محتوما، لأننا نخشى أن يكون تقاصرنا في هذه الناحية مؤديا إلى أن يدخل بلادنا قانون أجنبي لم ينبع عن الإسلام ولم يتفق معه، وبين أيدينا العبر فمصر..."([43]).

الشيخ حسنين محمد مخلوف (مفتي الديار المصرية سابقا): يقول: "ولا شك أن في تقييد القضاء الشرعي، بأحكام مستمدة من المذاهب الفقهية المدونة القائمة على الأصول الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ومفرغة في قالب قانوني منسق محكم، ضمانا لتحقيق العدالة وتيسيرا على القضاة وطمأنينة للمتقاضين وبعدا عن مظان الريب ونوازع الشهوات- وذلك كله مصلحة ظاهرة توجب شرعا أن نسلك في هذا الزمن بالأحكام الفقهية العملية مسلك التقنين المحترم الواجب التطبيق"([44]).

- الشيخ أحمد فهمي أبو سنة (الأستاذ بكلية الشريعة بالأزهر سابقا): تساءل: " هل للإمام تحديد الجرائم وتقدير العقوبات ولو على وجه التقريب له؟. وأجاب : نعم، له ذلك بل يجب عليه لأمرين : الأول- أن ولايته على الأمة نظرية توجب عليه أن يسلك بها ما فيه العدل والمصلحة. الأمر الثاني- أن سلطة القضاء ملك له، وهو الذي يعطيها للقضاة نيابة عنه، فله الإطلاق للقضاة وله تقييدهم بنوع من العقوبات"([45]).

المبحث الثاني: العمل

سار العمل ويسير في الدول الإسلامية على التقنين إلا في النادر، على عكس الرأي الغالب في الفقه. قال ابن عابدين في رد المحتار([46]): "لو قيده السلطان بصحيح مذهبه، كزماننا، تقيد، بلا خلاف، لكونه معزولا عنه".

وقال أيضا في رسم المفتي([47]): "... وقال في الدر المختار: قلت: ولاسيما في زماننا، فإن السلطان ينص في منشوره على نهيه عن القضاء بالأقوال الضعيفة، فكيف بخلاف مذهبه فيكون معزولا بالنسبة لغير المعتمد من مذهبه".

ونص في عجز المادة 1801 من مجلة الأحكام العدلية على ما يأتي: "وكذلك لو صدر أمر سلطاني بالعمل برأي مجتهد في خصوص، لما أن رأيه بالناس أرفق ولمصلحة العصر أوفق، فليس للحاكم أن يعمل برأي مجتهد آخر مناف لرأي ذلك المجتهد، وإذا عمل فلا ينفذ حكمه".

وقال ابن فرحون في تبصرة الحكام([48]): "الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلا القضاء شرطوا عليه في سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده".

وقال البهوتي في كشاف القناع([49]): " فإن فعل، أي ولاه علي أن يحكم بمذهب بعينه بطل الشرط وصحت الولاية، كالشروط الفاسدة في البيع، وعمل الناس على خلافه، كما يأتي قريبا".

ومن تطبيقات ذلك:

- في الدولة العثمانية قننت المعاملات المالية في الفقه الحنفي في مجلة الأحكام العدلية التي طبقت في الدولة العثمانية وظلت تطبق إلى وقت قريب في بعض البلاد العربية.

- وفي مصر قننت أحكام كثير من المسائل الشرعية، فصدرت لائحة ترتيب المحاكم الشرعية متضمنة أحكاما في الأحوال الشخصية وفي المرافعات الخاصة بها، كما قننت أحكام بعض مسائل الأحوال الشخصية، كالوقف والوصية والميراث والولاية على المال. وهناك مشروع كامل للأحوال الشخصية قد أعد فعلا.

وفي مجلس الشعب المصري حركة تقنين كامل للشريعة الإسلامية.

وقد قطع الأزهر شوطا كبيرا في سبيل تقنين الشريعة الإسلامية، فقد قننت العقود في المذاهب الأربعة: كل مذهب على حدة.

- وفي العراق كان نصيب الفقه الإسلامي في القانون المدني العراقي حوالي النصف.

- وفي سورية وتونس والمغرب قننت أحكام مسائل الأحوال الشخصية.

- وفي الأردن وضع مشروع القانون المدني الأردني من الفقه الإسلامي.

- وهناك لجان لتقنين الفقه الإسلامي في معظم البلاد الإسلامية تمهيدا لتطبيقه.

- وقد نشر في المملكة العربية السعودية أخيرا (1401هـ- 1981م) كتاب بعنوان "مجلة الأحكام الشرعية" للقاضي أحمد بن عبد الله القاري رحمه الله المتوفى سنة 1359هـ في الطائف. وهو مشروع تقنين قام- رحمه الله- بصياغته وفقا لمذهب الإمام أحمد بن حنبل على منوال " مجلة الأحكام العدلية " في الفقه الحنفي.

المبحث الثالث: رأينا

نحن نرى رأي بعض الفقهاء وما جرى عليه العمل من جواز إلزام القاضي بحكم معين. ذلك أنه لم يعد سبيل للحفاظ على تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد التي تطبقها ولا لتطبيقها في البلاد الإسلامية التي لا تطبقها وتريد تطبيقها إلا التقنين. فالتقنين هو الوسيلة العصرية لتطبيق القوانين الآن بحيث لم يعد الآن إمكان التطبيق عن طريق الرجوع إلى كتب الفقه الإسلامي، لما يلقاه الباحث فيها من عسر. وفي عدم إتباع هذه الوسيلة فتح السبيل أمام التقنينات الأجنبية للدخول في البلاد الإسلامية التي ما زالت تحكم بالشريعة الإسلامية، ولاستقرار التقنينات الوضعية في البلاد الإسلامية التي تطبق القانون الوضعي،شأن التقنين في ذلك شأن السيارة والطائرة أمام الخيل والبغال والحمير والإبل في السفر.

وننبه إلى أن المقصود هو تقنين الفقه الإسلامي وعدم الخروج عليه. ونحن نتكلم هنا على مبدأ التقنين. أما لكلام على منهجه فيأتي في حينه في الفصل الثاني.

ونحن نستند في ذلك إلى:

أ- السياسة الشرعية من ناحية ولي الأمر، وهي توجب على ولي الأمر إتباع ما توجبه المصلحة ويدرأ المفسدة. وقد أصبح هذا متعينا بالتقنين.

ب- الطاعة من ناحية القاضي إذ يجب عليه أن ينفذ أمر ولي الأمر في القضاء بما يأمره به إذ أنه وكيله، والوكيل يتقيد بأمر الموكل.

ونعرض فيما يلي النصوص الخاصة بكل من الناحيتين:

أ- السياسة الشرعية:

قال الطرابلسي في معين الحكام([50]) تحت عنوان: "في قضاء بالسياسة الشرعية": "اعلم أن السياسة شرع مغلظ، والسياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشرعية تحرمها. وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرا من المظالم وتردع أهل الفساد ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية للعباد.

فالشرعية يجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع تضل فيه الأفهام وتزل فيه الأقدام وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود ويجرئ أهل الفساد ويعين أهل العناد، والتوسع فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة ويوجب سفك الدماء وأخذ الأموال الشرعية.

ولهذا سلك فيه طائفة مسلك التفريط المذموم فقطعوا النظر عن هذا الباب إلا فيما قل ظنا منهم أن تعاطي ذلك مناف للقواعد الشرعية، فسدوا من طرق الحق سبلا واضحة وعدلوا إلى طريق من العناد فاضحة، لأن في إنكار السياسة الشرعية ردا للنصوص الشرعية وتغليطا للخلفاء الراشدين.

وطائفة سلكت في هذا الباب مسلك الإفراط، فتعدوا حقوق الله وخرجوا عن قانون الشرع إلى أنواع من الظلم والبدع.. وتوهموا أن السياسة الشرعية قاصرة عن سياسة الحق ومصلحة الأمة، وهو جهل وغلط فاحش فقد قال عز من قائل: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾([51]) فدخل في هذا جميع مصالح العباد الدينية والدنيوية على وجه الكمال. وقال (ص): "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي".

وطائفة توسطت وسلكت فيه مسلك الحق وجمعوا بين السياسة والشرع فقمعوا الباطل ودحضوه ونصبوا الشرع ونصروه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".

ثم عقد صاحب كتاب "معين الحكام" فصلا في الدلالة على مشروعية ذلك (السياسة الشرعية) من الكتاب والسنة([52]) ثم في فصل ثان تكلم: "في أحكام هذا الباب"([53]) وجاء فيه([54]): "قال القرافي: واعلم أن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع، بل تشهد له الأدلة المتقدمة. وتشهد له أيضا القواعد الشرعية من وجوه:

أحدها- أن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع بالكلية لقوله (ص): "لا ضرر ولا ضرار"، وترك هذه القوانين يؤدي إلى الضرر، ويؤكد ذلك جميع النصوص الواردة بنفي الحرج.

وثانيها- أن المصلحة المرسلة قال بها جمع من العلماء وهي المصلحة التي لم يشهد الشرع باعتبارها ولا بإلغائها. ويؤكد العمل بالمصلحة المرسلة أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار نحو: كتابة المصحف، ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر رضي الله عنه ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير. وكذلك ترك الخلافة شورى بين ستة. وتدوين الدواوين. وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن، وغير ذلك مما فعله عمر رضي الله عنه. وهدم الأوقاف التي بإزاء المسجد: يعني مسجد النبي (ص) والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، وحرق المصاحف وجمعهم على مصحف واحد، وتجديد أذان الجمعة بالسوق مما فعله عثمان رضي الله عنه. وغير ذلك كثير جدا- فعل لمطلق المصلحة.

وثالثها- أن المشرع شدد في الشهادة أكثر من الرواية لتوهم العداوة فيشترط العدد والحرية، ووسع في كثير من العقود للضرورة، كالعرايا والمساقاة والقراض وغيرها من العقود المستثناة... وهذه المباينات والاختلافات كثيرة في الشرع لاختلاف الأحوال. فلذلك ينبغي أن يراعى عند اختلاف الأحوال في الأزمان، فتكون المناسبة الواقعة في هذه القوانين السياسية لما شهدت لها القواعد بالاعتبار، فلا تكون من المصالح المرسلة بل أعلى رتبة فتلحق بالقواعد الأصلية.

ورابعها- أن كل حكم في هذه القوانين ورد دليل يخصه أو أصل يقاس عليه كما تقدم في أدلة الباب، وقد تقدم ذكرنا لكلام بعض العلماء، وهو لمذهب. على أنه قال: إن لم نجد في جهة إلا غير العدول أقمنا أصلحهم وأقلهم فجورا للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم، لئلا تضيع المصالح وتتعطل الحقوق والأحكام. وما أظن أنه يخالفه أحد في هذا فإن التكليف مشروط بالإمكان. وإذا جاز نصب الشهود فسقة لأجل عموم الفساد، جاز التوسع في الأحكام السياسية لأجل كثرة فساد الزمان وأهله. وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "سيحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور". قال القرافي: ولا نشك في أن قضاة زماننا وشهودهم وولاتهم وأمناءهم لو كانوا في العصر الأول ما ولوا ولا عرج عليهم، وولاية هؤلاء في مثل هذا العصر فسوق، فإن خيار زماننا أراذل ذلك الزمان، وولاية الأرذال فسوق، فقد حسن ما كان قبيحا واتسع ما كان ضيقا واختلفت الأحكام باختلاف الزمان.

وخامسها- أنه يعضد ذلك من القواعد الشرعية أن الشرع وسع للمرضع في النجاسة اللاحقة لها من الصغير مما لم نشاهده كثوب الإرضاع، ووسع في زمان المطر في طين المطر كما ذكره محمد في طين بخارى على ما فيه من القذر والنجاسة، ووسع لأصحاب القروح في كثير من نجاستها، ووسع لصاحب البواسير في بللها، وجوز الشارع ترك أركان الصلاة وشروطها إذا ضاق الحال كصلاة الخوف ونحوها. وذلك كثير في الشرع. ولذلك قال الشافعي: ما ضاق شيء إلا اتسع – يشير إلى هذا الموطن. فكذلك إذا ضاق علينا الحال في درء المفاسد اتسع في تلك المواطن.

وسادسها- أن أول بدء الإنسان من زمن آدم عليه السلام كان الحال ضيقا، فأبيحت الأخت لأخيها وأشياء كثيرة وسع الله تعالى فيها. فلما اتسع الحال وكثرت الذرية حرم ذلك في زمن بني إسرائيل ورحم السبت والشحوم والإبل وأمورا كثيرا، وفرض عليهم خمسين صلاة وتوبة أحدهم بالقتل لنفسه وإزالة النجاسة بقطعها إلى غير ذلك من التشديدات. ثم جاء آخر الزمان وضعف الجسد وقل الجلد فلطف الله بعباده فأحلت تلك المحرمات وخففت الصلوات وقبلت التوبات، فقد ظهر أن الأحكام والشرائع بحسب اختلاف الزمان، وذلك من لطف الله عز وجل بعباده وسننه الجارية في خلقه، وظهر أن هذه القرائن لا تخرج عن أصول القواعد وليست بدعا عما جاء به الشرع المكرم".

وقال ابن تيمية في السياسة الشرعية([55]): "وهذه الرسالة (السياسة الشرعية) مبنية على آية الأمراء في كتاب الله وهي قوله تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا. يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾([56]).

قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور: عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل. ونزلت الآية الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم: عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك، في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك إلا أن يأمروا بمعصية الله تعالى، فإذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله ورسوله (ص). وإن لم يفعل ولاة الأمور ذلك: أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله، وأعينوا على البر والتقوى ولا يعانون على الإثم والعدوان. وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة".

وقال أيضا([57]): "وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما، هو المشروع"([58]).

وقال ابن القيم في "الطرق الحكمية"([59]): وقال ابن عقيل في الفنون: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: إنه هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام. فقال الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول (ص) ولا نزل به وحي. فإن أردت بقولك: "إلا ما وافق الشرع" أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة، وتحريق علي رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد فقال:

لما رأيت الأمر أمراً منكراً                      أججت ناري ودعوت قُنبرا

ونفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنصر بن حجاج. ا هـ.

وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام وهو مقام ضنك ومعترك صعب:

فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها مع علمهم وعلم غيرها قطعا أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع. ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول (ص) وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم. والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر. فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرا طويلا وفسادا عريضا فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك. وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله.

وكلا الطائفتين أُتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات. فإن ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأمارته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له.

فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها " سياسة" تبعا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات، فقد حبس رسول الله (ص) في تهمة وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم. فمن أطلق كل متهم وحلفه وخلى سبيله مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض وكثرة سرقاته وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل فقوله مخالف للسياسة الشرعية... (وضرب أمثلة أخرى لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم)...

وسلك أصحابه وخلفاؤه من بعده ما هو معروف لمن طلبه- فمن ذلك...

والمقصود أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة يختلف باختلاف الأزمنة... وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة وأضعافها هي من تأويل القرآن والسنة... إلخ.

ومن ذلك جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله (ص) القراءة بها، لما كان ذلك مصلحة.

فلما خاف الصحابة رضي الله عنهم على الأمة أن يختلفوا في القرآن ورأوا أن جمعهم على حرف واحد اسلم وابعد من وقوع الاختلاف فعلوا ذلك ومنعوا الناس من القراءة بغيره. وهذا كما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت وكان سلوكهم في تلك الطرق يوقعهم في التفرق والتشتت ويطمع فيهم العدو فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد فترك بقية الطرق: جاز ذلك ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود، وإن كان فيه نهي عن سلوكها لمصلحة الأمة... إلخ"([60]).

ومن القواعد الفقهية أن " تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة" ذكرها بعض الفقهاء، منهم ابن نجيم والسيوطي. وقد علق ابن نجيم على ذلك بقوله: " إذا كان فعل الإمام مبنيا على المصلحة فيما يتعلق بالأمور العامة لم ينفذ أمره شرعا إلا إذا وافق الشرع، فإن خالفه لم ينفذ".

ثم قال: فإن خالفه لم ينفذ، قال المصنف رحمه الله في شرح الكنز ناقلا عن أئمتنا: " طاعة الإمام في غير معصية واجبة، فلو أن الإمام أمر بصوم يوم وجب"([61]).

ومن تطبيقات ذلك: ما قاله الماوردي في الأحكام السلطانية)[62]( من أن السياسة تقتضي ألا ينتقل القاضي من مذهب إلى مذهب " إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم".

ب- طاعة ولي الأمر

قال ابن عابدين في رد المحتار([63]): "إذا أمر الإمام بالصيام في غير الأيام المنهية وجب، لما قدمناه في باب العيد من أن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجبة".

وقال في التكملة([64]): في شرح قوله " تجب طاعته فيما أباحه الدين"، أن ذلك "ما يعو نفعه إلى العامة كعمارة دار الإسلام والمسلمين فيما تناوله الكتاب والسنة والإجماع. وقد أخذ البيري من مجموعه هذه النقول أنه لو أمر أهل بلدة بصيام أيام بسبب الغلاء أو الوباء وجب امتثال أمره".

ومن تطبيقات ذلك:

قوله في التكملة([65]) على "مطلب طاعة أولي الأمر واجبة": " أمرك قاض عدل برجم أو قطع في سرقة أو ضرب، في حد قضى به بما ذكر، وسعك فعله لوجوب طاعة ولي الأمر. ومنعه محمد حتى يعاين الحجة. واستحسنوه في زماننا. وفي العيون- وبه يفتى،  إلا في كتاب القاضي للضرورة. وقيل يقبل لو عدلا عالما".

- "قوله: لوجوب طاعة ولي الأمر" بالآية الشريفة([66]). ومن طاعته تصديقه. قال العلامة البيري في أواخر شرحه على الأشباه والنظائر عند الكلام على شروط الإمامة: ثم إذا وقعت البيعة من أهل الحل والعقد صار إماما يفترض إطاعته كما في خزانة الأكمل، وفي شرح الجواهر تجب إطاعته فيما أباحه الدين، وهو ما يعود نفعه إلى العامة، كعمارة دار الإسلام والمسلمين مما تناوله الكتاب والسنة والإجماع 1 هـ. وفي النهاية وغيرها: روي عن أبي يوسف لما قدم بغداد صلى بالناس العيد وكلفه هارون الرشيد وكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما. وروي عن محمد هكذا. وتأويله أن هارون أمرهما أن يكبرا تكبيرة جده ففعلا ذلك امتثالا لأمره. وقد نصوا في الجهاد على امتثال أمره في غير معصية. وفي التتارخانية عن المحيط: إذا أمر الأمير أهل العسكر بشيء، فعصاه في ذلك واحد، فالأمير لا يؤدبه في أول وهلة، ولكن ينصحه حتى لا يعود إلى مثل ذلك، بل يعذره، فإن عصاه بعد ذلك أدبه، إلا إذا بين في ذلك عذرا فعند ذلك يخلي سبيله ولكن يحلفه بالله تعالى: "لقد فعلت هذا بعذر". وقد أخذ البيري من مجموع هذه النقول أنه لو أمر أهل بلدة بصيام أيام بسبب الغلاء أو الوباء وجب امتثال أمره والله تعالى أعلم. وقد تقدم في العيدين والاستسقاء- وانظر ما قدمه سيدي الوالد في باب الإمامة من كتاب الصلاة"([67]).

وقال في الدر ورد المحتار([68]): قال في الدر: "ويصلي الإمام بهم ركعتين مثنيا قبل الزوائد، وهي ثلاث تكبيرات في كل ركعة، ولو زاد تابعه إلى ستة عشر، لأنه مأثور".

وقال في رد المحتار: " (قوله ولو زاد تابعه) لأنه تبع لإمامه، فتجب عليه متابعته وترك رأيه برأي الإمام، قوله عليه الصلاة والسلام: إنما جعل الإمام ليؤتم به تختلفوا عليه- لما لم يظهر خطؤه بيقين، كان إتباعه واجبا، ولا يظهر الخطأ في المجتهدات. فأما إذا خرج عن أقوال الصحابة، فقد ظهر خطؤه بيقين، فلا يلزمه إتباعه. ولهذا لو اقتدى بمن يرفع يديه عند الركوع أو بمن يقنت في الفجر أو بمن يرى تكبيرات الجنازة خمسا، لا يتابعه لظهور خطئه بيقين، لأن ذلك كله منسوخ- بدائع، أقول: يؤخذ منه أنه الحنفي إذا اقتدى بشافعي في صلاة الجنازة يرفع يديه، لأنه مجتهد فيه، فهو غير منسوخ، لأنه قد قال به أئمة بلخ من الحنفية"([69]).

وقال في التكملة([70]): "... وقدمنا عنهم أن من القضاء الباطل القضاء بسقوط الحق بمضي سنين. لكن ما في المبسوط لا يخالفه، فإنه ليس فيه قضاء بالسقوط، وإنما فيه عدم سماعها، وقد كثر السؤال بالقاهرة عن ذلك مع ورود النهي من السلطان أيده الله تعالى بعدم سماع حادثة لها خمس عشرة سنة، وقد أفتيت بعدم سماعها، عملا بنهيه، اعتمادا على ما في خزانة المفتين، والله سبحانه وتعالى أعلم".

وقال شهاب الدين القرافي في " الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام"([71]): "...وقرر الله تعالى أيضا الإنشاء للمكلف في صورة أخرى، وذلك أن الله تعالى لما شرع الأحكام شرع الأسباب. وكما جعل الأحكام على قسمين: منها ما قرره في أصل شرعه كوجوب الصلوات الخمس ونحوها، ومنها ما وكله للمكلف وهو إيجاب المندوب بالنذر- فكذلك جعل الأسباب على قسمين:  منها ما قرره أصل الشريعة، ومنها ما وكل إنشاء سببه إلى المكلف. وهو عام لم يخصصه بمندوب ولا غيره، بل له أن ينشئ السببية في المندوبات والواجبات والمحرمات والمكروهات والمباحات وما ليس فيه حكم شرعي ألبتة، كفعل النائم والساهي والمخطئ والمجنون... وإذا تقرر أن الله جعل لكل مكلف وإن كان عاميا جاهلا الإنشاء في الشريعة لغير ضرورة، فالأولى أن يجعل الإنشاء للحكام مع علمهم وجلالتهم، لضرورة درء الفناء ودفع الفساد وإخماد الثائرة وإبطال الخصومة- فهذان بابان مقرران بطريق الأولى كما ظهر لك. وأما الدليل على ذلك فهو الإجماع من الأئمة قاطبة أن حكم الله تعالى ما حكم به الحاكم في مسائل الاجتهاد، كما تقدم، وأن ذلك الحكم يجب إتباعه على جميع الأئمة ويحرم على كل أحد نقضه، وهذا شيء نشأ بعد الحكم لا قبله، لأن الواقعة كانت قبل هذا قابلة لجميع الأقوال لأنواع البعض والمخالفات، ولا نعني بالإنشاء إلا هذا القدر فقد وضح ذلك وبان".

وخلاصة ذلك كله أنه يجوز لولي الأمر إلزام القاضي بالقضاء بحكم معين، من بين أقوال الفقهاء، غير خارج في ذلك عن الشريعة الإسلامية، نزولا على السياسة الشرعية، لمصلحة الأمة. ويجب على القاضي والرعية طاعة ولي الأمر في ذلك. وعلى ذلك جرى العمل في الدولة الإسلامية.

الفصل الثاني: المنهج

التشريع فن له قواعد وأصوله، فلا يجوز أن نغفل هذه القواعد والأصول عند القيام بعمل تشريعي خطير وهو التقنين. ويلاحظ أن الصنعة التشريعية كانت فطرة وإلهاما قبل أن تصير فنا. وكان المقنن يستوحي نصيبا من هذا الفن الخفي في تقنينه دون إحساس منه شأن كل فن في مبدئه قبل أن تبين أصوله وترسم قواعد وتوطأ سبله وخططه. وقد تم له ذلك في العصر الحاضر فتبينت معالمه واتضحت أصوله.

وقد بدأ الفيلسوف الإنجليزي بيكون Bacon والفيلسوف الفرنسي مونتسكيو Montesquieu الكلام في بعض مسائل هذه الصناعة (التقنين) في شيء من عدم التحديد والدقة، وأعقبهما بنتام Bentham فبحث بالتفصيل مسائل التقنين. ثم تناول الموضوع أيضا فقيهان ألمانيان هما سافيني Savigny وإهرنج Ihering وقد تناوله إهرنج بدقة في كتابه "روح القانون الروماني" وروسيه Rousset في مقال " في صياغة التشريعات المقننة" (المجلة الانتقادية سنة 1856-1858) وكذلك الفقيه الفرنسي جني Geny في مقال نشره في كتاب العيد المئيني للقانون المدني الفرنسي (ح 2 : ص 989-1038) وفي محاضرة ألقاها بمدرسة العلوم الاجتماعية بباريس سنة 1910 ونشرت في كتاب " طرق البحث القانوني" الصادر في باريس سنة 1911 (ص 173-196) وفي كتابه العظيم " العلم والصياغة" في أربعة أجزاء (سنة 1914-1924). ثم تناوله أيضا روجان Roguin في مجموعة جامعة لوزان بمناسبة المعرض الوطني السويسري سنة 1896 (ص 71-134). وكذا ديموج Demogue في كتابه " المبادئ الرئيسة في القانون الخاص" (باريس سنة 1911)، ومسسكو Micessco " بحث في الصناعة القانونية" (رسالة من باريس سنة 1911) وتيسييه Tissier" الصناعة الفنية للقانون الخاص" المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1923). وساباتييه Sabatier" فن عمل القوانين" (سنة 1927). وأنجلوسكو Angelesco"الصناعة التشريعية في التقنين المدني" (رسالة من باريس سنة 1930)([72]). وممن اهتم بذلك في مصر أستاذنا الجليل الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

وينبغي ألا نعرض عن هذا الفن وهذه البحوث في تقنين الفقه الإسلامي بدعوى أنه أجنبي، وإنما ينبغي أن نأخذ منه ونعدل فيه ونضيف إليه ما يوافق الفقه الإسلامي، إذ ما القوالب التي يرسمها لنا هذا إلا أشكال تبرز مضمونها، والشأن في ذلك شأن الراديو والتلفزيون: قد يستعملان في إشاعة الفتنة كما يستعملان في إذاعة الخير وتلاوة الكريم، وكذا كل أداة. وقديما قالوا: " للوسائل حكم الغايات".

وقد ثبت أن الوظيفة الأساسية للتشريع هي الصياغة الفنية للقواعد العلمية المستنبطة من علوم الاجتماع المختلفة فتوضع هذه القواعد في القوالب القانونية الملائمة.

والقانون ليس صناعة واحدة، بل هو صناعات متعددة فهناك: صناعة القضاءTechnique Jurispru-dentielle. وصناعة الفقه Technique doctrinaire. وصناعة التشريع Technique législative. وصناعة التقنين Technique de la codification.

وهذه الصناعة الأخيرة هي التي يعنينا أمرها ويهمنا معرفة قواعدها كي نفيد منها في تقنين الفقه الإسلامي. وصناعة التقنين يمكن النظر إليها من ناحيتين: الأولى: وتسمى الناحية الداخلية  coté interne. والثانية: وتسمى الناحية الخارجية coté externe وهي ناحية الإجراءات.

ولا نريد هنا مجرد سرد ما قالوه في هذا المجال، فما قالوه نابع من ظروفهم، وإنما نورد فيما يلي ما نراه مناسبا لتقنين الفقه الإسلامي. ومن أراد المزيد فليرجع إلى المصادر التي أشرنا إليها فيما تقدم وغيرها. ونتناول كلا من الناحيتين في مبحث على حدة. ونخصص مبحثا ثالثا لمراجعة التقنين بين الحين والحين([73]).

المبحث الأول: الناحية الداخلية

هناك كثير من المسائل الداخلية لتقنين الفقه الإسلامي تستحق البحث.ومنها: نطاق التقنين ومصدره وصياغته وتبويبه وروحه العامة وأسلوبه ولغته. ونتكلم باختصار على كل منها. ونقتصر هنا على المعاملات المالية ( القانون المدني) وما يقال فيها يقال في غيرها مع مراعاة ما قد يكون من خلافات بينها وبين غيرها.

أ- نطاق التقنين:

يلحظ الباحث في الفقه الإسلامي أن فقهاءنا المسلمين يفرقون بين نوعين من المساءل: أحدهما الواجب ديانة، والآخر الواجب قضاء. فالأولى هي التي تبقى بين العبد وربه دون تدخل من القضاء. والثانية هي التي تقبل بطبيعتها أن تكون محل التقاضي. والنوع الأول يجب رعايته واحترامه ولكن في داخل النفس ومكنون الضمير بعيدا عن القضاء. أما والنوع الثاني هو الذي يدخل في التقنين.

ويمكن التعبير عن ذلك بأن الشريعة الإسلامية ثلاث شعب: المعاملات (المالية والشخصية والجنائية)، والعبادات، والأخلاق. فالمعاملات بأنواعها تدخل في التقنين. أما الثانية والثالثة فيجب احترامها من المسلم ولكنها لا ترد في التقنين إلا ما يدخل منها في دائرة القضاء (كالتعزيرات).

ويجب أن نلاحظ أيضا فيما يدخل في دائرة التقنين التمييز بين المبادئ العامة الشاملة وهذه أسس تبقى، وبين الأحكام التفصيلية التطبيقية وهذه تترك للتطور حتى تماشي الزمن.

ب- مصدر التقنين:

الفقه الإسلامي متعدد المذاهب. والمشهور عندنا منها أربعة: المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي. وإلى جوارها مذاهب أخرى كالمذهب الظاهري ومذهب الشيعة الإمامية والزيدية والمذهب الإباضي.

وهناك سبيلان في التقنين: إما التزام مذهب واحد. وإذا تعددت الآراء فيه فيلتزم رأي إمامه أو أرجح الأقوال فيه أو المفتى به. وإما الأخذ من كل مذهب بما يصح منه إذ الصحيح ليس محصورا في مذهب معين.

ولسنا ننضم إلى هذا السبيل أو ذاك، لأننا نرى في الأول ضيقا قد لا يتفق ووجوب أن يكون التقنين متطورا مع المعاملات الجديدة. ونرى في الثاني توسعا قد يؤدي إلى تناقض في الأحكام أو في أدلتها وقد يؤدي إلى الاضطراب عند التفسير عند لزومه. ففي مصر مثلا يؤخذ المذهب الحنفي أساسا مع الخروج عليه إلى مذهب آخر إذا دعت المصلحة، كما في مسألة حرية التعاقد والاشتراط مثلا، فقد تدعو المصلحة إلى الأخذ فيها بالمذهب الحنبلي. وفي المملكة العربية السعودية حيث يسود المذهب الحنبلي يؤخذ بالمذهب الحنبلي أساسا مع جواز الخروج إلى غيره إن وجدت المصلحة في ذلك في مواضع محددة تنزل من الأصل منزلة الاستثناء من الأصل العام. وفي داخل المذهب يؤخذ بالرأي الذي يتفق وتطور الحياة الحاضرة فهذا هو الذي يفتى به الآن. والمرجع في ذلك كله الرغبة في أن يكون التقنين متمشيا مع الحياة حتى يقبل الناس على تطبيق الشريعة الإسلامية ولا يزوروا عنها إلى القوانين الوضعية، وهذه مصلحة عليا يقرها الشارع سبحانه وتعالى. كل ذلك بشرط عدم الخروج على الشريعة الإسلامية.

ويجب الصدور بادئ ذي بدء عن الفقه الإسلامي، وبعبارة أخرى يجب البدء بصياغة الأحكام أخذا عن كتب الفقه الإسلامي. ولا بأس من النظر أثناء ذلك إلى القانون للانتفاع بصياغته أو لمعرفة المشاكل التي تثور في العمل في هذا العصر وكيفية حلها. إنما المرجع دائما هو الفقه الإسلامي، على أن تذيل كل مادة بمذكرة إيضاحية تبين فيها أحكام الفقه الإسلامي في مذاهبه في موضوع المادة ووجه اختيار الحكم الذي اختير والمراجع.

نقول ذلك لأن هناك اتجاها ظهر في بعض لجان تقنين الشريعة الإسلامية بمجلس الشعب المصري ملخصه تناول التقنينات الوضعية ونسبتها إلى الشريعة الإسلامية ما لم تكن مخالفة للشريعة الإسلامية، ففي تقرير اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة التقاضي لإعادة النظر في قواعد الأحكام وطرق الطعن والتنفيذ الجبري جاء في (ص 1 من التقرير):

" وانتهت اللجنة إلى أن مواد قانون المرافعات المنظمة لهذه القواعد هي في مجموعها غير مخالفة للشريعة الإسلامية، وذلك استنادا إلى المصالح المرسلة، وهي دليل من أدلة الفقه الإسلامي معمول به منذ نشأة هذا الفقه". وتأسيسا على ذلك فهي "لا ترى إعادة النظر إلا في بعض القواعد التي ترى أن بعضها مخالف لأحكام الشريعة وبعضها الآخر يحسن تعديله لتكون نصوص القانون أكثر تحقيقا لمقاصد الشريعة وأهدافها" وظاهر من هذا أن نهج اللجنة هو الإكتفاء بعدم مخالفة النصوص الواردة في قانون المرافعات المدنية والتجارية الحالي (وهو قانون وضعي يعود بأصله إلى القانون الفرنسي) للشريعة الإسلامية. وما دامت غير مخالفة للشريعة الإسلامية فإنها تخرج عن إعادة النظر أي تبقى باعتبارها المقصود من عمل هذه اللجان. وقد خلصت إلى أن مواد قانون المرافعات المصري الحالي في مجموعها غير مخالفة للشريعة الإسلامية فتخرج عن إعادة النظر، أي يصدر بها القانون الجديد باعتبارها من الشريعة الإسلامية. واستندت اللجنة في ذلك إلى المصالح المرسلة وهي دليل من الأدلة الشرعية.

وهذا النهج الذي اتبعته اللجنة هي إعادة النظر في القوانين المطبقة الآن في يمصر بحيث يكون مصدرها الشريعة الإسلامية، إعمالا لما جاء في المادة الثانية من الدستور المصري من أن "مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع". ونبين فيما يلي وجوه العيب والخطأ ثم المنهج الصحيح.

أولا- وجوه العيب والخطأ

1- نحن لا نرى أن هناك، في الشريعة الإسلامية، ما يسمى " ما لا يخالف الشريعة الإسلامية"، ذلك أن الشريعة الإسلامية كاملة في أسسها ومبادئها ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾([74]). وهي بذلك – بأسسها- صالحة لكل زمان ومكان، فالأحكام في نظرها إما أن تكون صادرة عنها- أي عن الأدلة الشرعية التي تقرها وهي الكتاب والسنة والإجماع وغيرها من الأدلة الشرعية على خلاف فيها، فهي منها، وإما أن تكون غير صادرة عنها فليست منها، وليس هناك منطقة وسطى تسمى منطقة " ما لا يخالف الشريعة الإسلامية" فما " لا يخالف الشريعة الإسلامية" ليس من الشريعة الإسلامية. لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نحكم ﴿بما أنزل الله﴾ أي بالشريعة الإسلامية لا "بما لا يخالف الشريعة الإسلامية" فقال تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون... فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق... وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك﴾([75]).

إن الشريعة الإسلامية جملة من الأحكام الشرعية، والحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. فما كان من ذلك خطابا من الله تعالى فهو حكم شرعي أي من الشريعة الإسلامية، وما لم يكن من ذلك من خطاب الله تعالى فليس حكما شرعيا أي ليس من الشريعة الإسلامية. فليس من الشريعة الإسلامية مجرد ما لا يخالف الشريعة الإسلامية مادام ليس خطابا من الله تعالى يتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.

وهذا على فرض ثبوت عدم المخالفة وهو ما يحتاج إلى إثبات، وإثباته لا يكون إلا بعد الإطلاع على ما كتبه الفقهاء المسلمون في الدعوى والقضاء، والمقارنة بينه وبين قواعد القانون الوضعي القائم.

2- المصلحة المرسلة دليل تكميلي مع الخلاف فيه:

والمقصود بالمصلحة المرسلة أو الاستصلاح في اصطلاح الأصوليين تشريع الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع، بناء على مراعاة مصلحة مرسلة أي مطلقة بمعنى أنها مصلحة لم يرد عن الشارع دليل لاعتبارها أو لإلغائها.

فالمصلحة المرسلة إنما يشرع بها الحكم إذا لم يوجد نص ولا إجماع. والشافعي ينكرها دليلا شرعيا وكذا الحنفية في المشهور. ومن ثم وجب البحث أولا في الأدلة الشرعية ( الكتاب والسنة والإجماع وغيرها) فإن لم يوجد فيها الحكم التجئ إلى المصلحة المرسلة على قول من يقول بها. فلا يلجأ إلى المصالح المرسلة إلا إذا ثبت عدم وجود نص من قرآن أو سنة أو إجماع ولا يمكن أن تكون المصالح المرسلة الدليل الشرعي الوحيد لفرع كامل من فروع القانون – قال الشاطبي في الاعتصام([76]): "إن وضع الأحكام بالرأي على سبيل الدوام من البدع". فلا يقبل أن يؤخذ القانون الوضعي المستمد من القانون الفرنسي وينسب إلى الفقه الإسلامي باسم المصالح المرسلة، وإن كان لا مانع من أن نسترشد به وبغيره في بعض المواضع المحدودة التي لم يرد فيها نص ولا إجماع لتحقيق مصلحة شرعية.

ولو أخذنا بمنهج اللجنة لكان القانون المدني الفرنسي مثلا (فيما عدا نصوص الربا ونحوها) شريعة إسلامية- فهل يقول بذلك أحد؟ وهل يصدق أحد القول بذلك؟

3- التراث ووصل الحاضر بالماضي:

المقصود بتقنين الشريعة الإسلامية ليس الناحية الإسلامية الدينية فقط، وهي كافية، بل أيضا الناحية الإسلامية القومية، إذ الإسلام دين وقومية ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾([77]) ﴿وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾([78]).

ففي الرجوع إلى الفقه الإسلامي رجوع إلى تراثنا ووصل الحاضر بالماضي وإقامة المستقبل على أساس مكين. فإذا اعتز الفرنسيون بقانونهم، والإنجليز بقضائهم، فإنا- نحن المسلمين- نعتز بالفقه الإسلامي وبالقضاء الإسلامي، فقد ترك لنا أسلافنا المسلمون فقها عارما خصبا يتميز بالسعة والعمق وحسن الصياغة وقوة السبك بحيث يعلو أي فقه آخر. كما ترك لنا أسلافنا المسلمون قضاء زاخرا يشرف أي أمة، فهل نترك هذا التراث ونذهب إلى قانون مصدره الغالب فرنسي وننسبه إلى الشريعة الإسلامية زورا وبهتانا؟ ثم ماذا يكون المرجع في تفسير هذا القانون؟ أليس الفقه أو القضاء الأجنبي؟

4- أهمية المصدر:

قد يقال: إن الحلول العملية واحدة، ويكفي في الرد على ذلك: ولماذا نأخذها إذن عن الأجانب ولا نأخذها عن تراثنا؟ ولكننا لا نكتفي بهذا بل نقول: إن المصدر مهم، ذلك لأن هذا المصدر هو الذي يربط الشخص بعقيدته وتراثه مما له أكبر الأثر في الإيمان بالقانون وطاعته عن رضى، فإن أخذ الحكم عن القرآن الكريم أو سنة رسول الله (ص) غير أخذه عن قانون أجنبي.

فالتزام الصدق فلسفة غير إتباعه دينا، والإمتناع عن شرب الخمر صحة غير الإمتناع عنه ديانة. فالدين عامل قوي في حمل الناس على الطاعة والإمتثال، وفي وصل العبد بربه في كل الأمور. والمصدر هو الذي يفرق بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي. الأولى مصدرها السماء، والثاني مصدره الإنسان.

ولا ينكر تشابه القوانين كثيرا في الحلول العملية، ولكن مما يميز قانونا عن قانون هو - في الغالب- الصياغة. فهل صياغة القانون الأجنبي هي صياغة الفقه الإسلامي؟ فضلا عن المصدر على ما تقدم.

إن من يقرأ قانونا وضعيا يدرك على الفور أنه أجنبي الروح والصياغة. ومصدر النص يجر إلى المرجع في تفسيره أيضا. فإذا كان المصدر أجنبيا فإن المرجع في التفسير يكون أجنبيا أيضا، وإن كان مصدر النص الفقه الإسلامي فالمرجع في تفسيره كتب الفقه الإسلامي مما يربطنا بتراثنا، فالذي يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها هو المصدر ثم الروح والصياغة علاوة على الأحكام.

ثانيا- المنهج الصحيح

فالمنهج الصحيح هو الرجوع بادئ ذي بدء إلى كتب الفقه الإسلامي واستقاء الأحكام منها. ولا مانع من الاسترشاد بما عليه الحال الآن، بل والاقتباس من القوانين الحالية إذا وجدت في ذلك مصلحة شرعية، استنادا إلى المصلحة المرسلة، إذ عندئذ يحصر التشريع بالمصلحة المرسلة في الحدود المشروعة وفقا للمصلحة الشرعية([79]).

ج- صياغة التقنين:

تختلف الصياغة من قوم إلى قوم. فالقوانين المدنية الصادرة عن القانون الروماني تقوم على " الحق" بالاصطلاح القانوني وتقسيمه إلى حق شخصي (الالتزام) وحق عيني، ثم يبحث عن مصادر كل وأحكام كل: أي البدء بالمسبب أو الثمرة وهو الحق ثم البحث عن المصدر (أو السبب) وأحكامه. أما الفقه الإسلامي فيبدأ بإيجاب الشارع أو إيجاب المكلف (التصرف) ثم يبحث في أحكامه أي يبدأ فيه بالسبب ثم ينتقل منه إلى المسبب وهو النظر المنطقي العملي.

وقد أطنب بعض الفقهاء من رجال القانون في بيان عيوب المذهب الأول في الصياغة، ودعوا إلى هجره وإتباع ما اتبعه الفقه الإسلامي، وقد شرع فعلا المشرع الألماني في ذلك.

ونحن بالنسبة إلى الفقه الإسلامي يجب أن يكون المثل الذي نرنو إليه هو النزول عند صياغة الفقه الإسلامي وهي الصياغة التي ينادي بها رجال القانون الآن: صياغة "التصرف الشرعي" و "الواقعة الشرعية"([80]). إلا أننا قد نجد بعض صعوبات في هذا السبيل عند صياغة النظريات العامة إذ لم تضع في كتب أسلافنا العظام من فقهاء الإسلام. وفي هذه الحالة يجب ألا تصدنا هذه الصعوبة عن الغاية النهائية وهي تطبيق الفقه الإسلامي فيجوز أن نلجأ مؤقتا إلى صياغة القانون نجري عليها لأنها ممهدة وقد جرت الدراسات الحديثة في الفقه الإسلامي عليها، على أن تكون هذه مرحلة ننتقل منها إلى صياغة الفقه الإسلامي بعد التمهيد لها. وهذا ما إتبع في صياغة القانون المدني الأردني: صبت أحكام الفقه الإسلامي في القوالب الرومانية (نظرية الحق) على أن تكون هذه خطوة نحو العودة النهائية إلى الفقه الإسلامي: أحكاما وصياغة.

ومن توفيق الله جل وعلا أن انتهى بنا البحث إلى أن "الحق الشخصي والحق العيني" في القانون يقابله ويساويه في الفقه الإسلامي "الدين والعين". وهذا ييسر صياغة الفقه الإسلامي على نسق صياغة القانون الحالية. فنقسم الجزء الخاص بالمعاملات المالية من القانون المدني الإسلامي (والجزء الآخر هو الخاص بالأحوال الشخصية: الزواج... إلخ) إلى قسمين رئيسيين: الأول منهما عنوانه "الدين" والآخر عنوانه "العين" كما ينقسم القانون المدني المصري الحالي إلى قسمين رئيسين بعد الباب التمهيدي الأول منهما عنوانه "الحقوق الشخصية أو الالتزامات"، والثاني "الحقوق العينية"([81]).

د- تبويب التقنين:

يجب أن يبوب التقنين تبويبا منطقيا متماسكا، لأن التبويب المنطقي يساعد كثيرا على فهم التقنين والإحاطة به، وتيسير البحث فيه. والترتيب المنطقي المطلوب في التقنين غير الترتيب العلمي الذي نجده في كتب الفقه، لأن مقتضيات التقنين غير مقتضيات البحث الفقهي.

وخير تبويب للتقنين هو ما يلاحظ فيه أمران: أحدهما أن يكون منطقيا. والآخر  أن يكون عمليا. فيقسم التقنين إلى أبواب وفصول تبين بنوع خاص الأحكام الشرعية العملية وتخفي الأحكام الفقهية النظرية، على أن تكون هذه الأبواب والفصول مرتبطة بعضها ببعض على وجه منطقي محكم. ويحسن أن يتقدم كل الأبواب باب تمهيدي يكون موضوعه الأحكام العامة التي تسيطر على جميع مناحي القانون والتي لا تنحصر في مسألة في باب معين على أن يصاغ هذا الباب التمهيدي صياغة عملية لا فقهية نظرية على النحو الذي نجده في القانون المدني المصري الحالي وما أخذ عنه من تقنينات.

ويلاحظ أن تبويب القانون جزء من أحكامه فقد ترد فيه نصوص لا تفسر تفسيرا مقبولا إلا بعد الرجوع إلى الموضع الذي وردت فيه.

وقد عمد التقنين السويسري إلى بيان ملخص للنصوص في هوامشها. وهذه الملخصات تعتبر جزءا من التقنين تسهل فهم نصوصه وتعطي خلاصة واضحة للمعنى المقصود منها وتيسر العثور على الحكم القانوني المراد معرفته.

هـ- الروح العامة للتقنين:

ونقصد بها الروح العامة التي تسري في التقنين كله ويمكن القول بأن التقنين السليم يمتاز بسمتين:

1- السمة الأولى: غلبة الروح العملية فيه على الروح العلمية أو الفقهية:

ذلك لأن المقصود بالتقنين هو وضع الأحكام القانونية في متناول الجميع: جمهور الناس قبل خاصتهم. ومن مظاهر ذلك:

- تجنب إيراد التعريفات والتقسيمات الفقهية. فيتكلم في الالتزام وفي العقد دون إيراد تعريف لهما. ويورد مصادر الدين (الالتزام) دون تعرض لتقسيمها وترتيبها، فمجال ذلك الفقه وليس مجاله التشريع، بل إن إيراده في التشريع يضر، لأن إيراد هذه التعريفات والتقسيمات في التشريع يجمدها وهو ما لا يتفق مع تطور النظم القانونية، الأمر الذي قد يلجئ إلى التحايل للتخلص من هذا الجمود وبذل عناء كبير في هذا السبيل.

- تجنب الصيغ الفقهية والتعميمات المجردة إلا لمقتض.

- تجنب ذكر الأسباب التي أوجبت اختيار حكم ما وإيراد الدليل على صحتها، أو إيراد أمثلة توضح الحكم (كما فعلت المجلة) إذ هذه مهمة الفقه لا التشريع، ومجاله الأعمال التحضيرية والمذكرات الإيضاحية التي ترفق عادة بالتقنين دون أن تكون جزءا منه.

- تجنب التصريح بانضمام المشرع إلى المذهب الشخصي أو المذهب المادي في الالتزام أو لمذهب الإرادة الباطنة أو الظاهرة في العقد، بل يترك ذلك للفقه يستخلصه من مجموع النصوص.

- ترك الخوض في التفصيلات والجزئيات والاقتصار على وضع القواعد العامة حتى يكون التقنين من المرونة بحيث يستطيع القضاء والفقه مسايرة المعاملات المتغيرة، وهي تفصيلات.

- هجر القواعد الجامدة إلى المعايير المرنة ما أمكن، حتى يترك للقاضي المجال عند التطبيق لوضع الحلول المناسبة لظروف كل واقعة ولا يحبس القانون في نصوص جامدة تحول دون التطور إذ القانون كالكائن الحي لا بد من ترك المجال له كي يتطور بتطور الحياة المتغيرة.

على المشرع في التقنين أن يلاحظ ذلك كله، لأنه مهمة التشريع وضع قواعد عملية، لا بسط النظريات الفقهية. وقد قيل في ذلك: " إن القانون وضع ليأمر ولم يوضع ليعلم وهو في غير حاجة للإقناع"."La loi commande, elle n'est pas faite pour instruire, elle n'a pas besoin de convaincre".

2السمة الثانية: ألا يحاول المشرع الإحاطة في التقنين بكل شيء.

ذلك أن هذه المحاولة مقضي عليها بالفشل، فالمشرع – مهما كان بعيد النظر- عاجز عن أن يتصور، عند وضع التشريع، كل أمر ليضع له حكمه، بل هو عاجز عن أن يضع للأمور التي يعرفها أحكاما صالحة لكل زمان ومكان. والمشرع الحكيم هو الذي يترك مجالا واسعا لتطور القانون، فلا يقضي عليه بالجمود وبحصره في قوالب محدودة من الألفاظ والأحكام. والطريق السليم هو أم يترك المسائل التفصيلية للفقه والقضاء. بل إنه يجب أن يترك كثيرا من المسائل الرئيسية دون أن يتخذ منها موقفا معينا ما دام تطورا لم يستقر عند غاية، وما دامت الحاجة العملية لا تقتضي ذلك. والمشرع الحكيم هو الذي يجعل عبارته مرنة بحيث تتسع لتفسيرها على وضع يتغير بتغير الظروف، دون أن يصل في ذلك إلى الغموض والإبهام.

وخير طريق يسلكه المشرع للجمع بين المرونة والدقة أن يلجأ المشرع في المسائل كثيرة التطور، من القواعد الجامدة الضيقة إلى المعايير المرنة الواسعة التي يسترشد بها القاضي دون أن تقيده، فيصل إلى حلول تختلف من حالة إلى حالة، باختلاف ملابسات كل قضية عن الأخرى. ومن أمثلة التقنينات الحكيمة التقنين السويسري، فهو لم يحاول الإحاطة بكل شيء، وأكثر من استعمال المعايير المرنة دون القواعد الجامدة، وترك المجال واسعا أمام القضاء والفقه لتفسير القانون وفقا للظروف المتغيرة.

خلاصة ذلك كله أن المنهج السليم في التقنين يكمن في وظيفته، فيجب أن تفهم هذه الوظيفة على وجهها الصحيح. ووظيفة التقنين ليست حصر القواعد القانونية على وجه ثابت لا يتغير، وإنما ترتيب الأحكام الخاصة بفرع من فروع القانون بعد إزالة التناقض بينها، بحيث يكون مفتاحا ميسرا للتعرف على حكم القانون على أن يكمل ذلك بالرجوع إلى المصادر الأخرى للأحكام القانونية، وعلى رأسها القضاء والفقه، ذلك أنه لا يلبث التقنين أن يوضع موضع التطبيق حتى يقوم إلى جواره من الأحكام القانونية الصادرة عن القضاء والفقه ما قد يربو على القواعد التي وردت في التقنين. ومن أمثلة ذلك تقنينات نابليون، فرغم أنه مر عليها ما يقرب من الزمان إلا أنها بفضل القضاء والفقه ظلت إلى الآن مسايرة لما جد من تطورات وذلك تحت ستار التفسير.

ولا يمكن إنكار أن التقنين، في هذا السبيل، يسدي خدمة جليلة للباحثين وللمشغلين بالقانون، فالتشريع المقنن أسهل في التعرف على الحكم من الأحكام غير المقننة التي يجب أن تتلمس في السوابق القضائية المبعثرة في مجموعاتها أو في المؤلفات الفقهية الواسعة أو في التشريعات المتفرقة.

و- أسلوب التقنين:

يجب في هذا المجال:

- تجنب التناقض.

- تجنب التكرار إلا لضرورة أو فائدة ولسبب معروف كما إذا قرر المشرع قاعدة عامة ثم أورد تطبيقا لها في حالة خاصة، لأن هذه الحالة تحتمل اختلاف الناس في تطبيق القاعدة عليها، فيحسم المشرع الأمر بإيراد تطبيق تشريعي يمنع الخلاف.

- استعمال العبارة المناسبة للحكم، ذلك أن العبارات التي يستعملها المشرع أنواع: فمنها الآمرة ومنها الناهية ومنها المبيحة (أو المفسرة). فالأولى وكذا الثانية يجب أن تكون جازمة قاطعة، والثالثة يجب أن تكون مرنة ظاهرة المعنى المقصود. وقد وصل الأمر للتمييز بين أسلوب النصوص الآمرة والنصوص المبيحة (أو المفسرة) أن طلب مجلس الدولة الفرنسي عند وضع التقنين الفرنسي أن توضع النصوص الآمرة بصيغة المستقبل وأن توضع النصوص المبيحة بصيغة الحاضر. وفي أساليب اللغة العربية وقواعدها ما يحقق التمييز بين هذه الأنواع بكل وضوح. وقد أفاض في ذلك علماء أصول الفقه بما لا مزيد عليه.

- وينبغي للمشرع في إيراد القرائن القانونية والفروض ونحوها أن يستعمل الأسلوب الذي يساعد كثيرا على حل المسائل المعقدة ويعطي أحكام القانون نصيبها من الثبات والاستقرار.

- ويجب عدم الإكثار من الإحالة من نص إلى نص، بل ألا يلجأ إلى ذلك إلا إذا كانت الإحالة ضرورية، لأن الإحالات تجعل التشريع غامضا عسر الفهم فضلا عن أن المشرع قد لا يستوعب الإحالة إلى كل النصوص الواجب الإحالة إليها.

ومن التقنينات التي لاحظت ذلك التقنين السويسري، فقد أقل من الإحالة بقدر الإمكان، وعندما اضطر إلى الإحالة كان يحيل لا إلى رقم المادة بل إلى ملخص المحال عليه. أما التقنين الألماني فقد أكثر من الإحالة من نص إلى نص إلى ثالث حتى صار تعقبه أمرا عسيرا شاقا مع أن التقنين عمل أصلا للتسيير والتسهيل.

ز- لغة التقنين:

1- يجب في اللغة التي يستعملها المشرع في التقنين أن تكون: واضحة ودقيقة، فاللغة الغامضة تجعل القانون مغلقا. واللغة غير الدقيقة تجعل القانون مبهما.

والقانون الألماني يمتاز بدقة لفظه في غير وضوح. والقانون الفرنسي يمتاز بوضوح لفظه في غير دقة. أما التقنين السويسري فيجمع بين الوضوح والدقة. وكذا المشروع الفرنسي الإيطالي.

2- ويجب أن يكون للتشريع لغة فنية خاصة به يكون كل لفظ فيها موزونا محدد المعنى.

3- ويجب أن يأخذ اللفظ معنى واحدا في كل جنبات التقنين، فلا يتغير معناه من مكان إلى مكان في نفس التقنين بل يلتزم معناه في كل استعمالاته.

وقد درجت بعض التقنينات على إيراد تعريف للألفاظ التي ترد في التشريع لتحديد معناها كالتشريع الإنجليزي ومجلة الأحكام العدلية.

4- ويجب أن تكون لغة التقنين بسيطة يفهمها جمهور الناس ولا يتنافى هذا مع كونها فنية دقيقة.

وفي تقنين الفقه الإسلامي يجب أن تلتزم مصطلحاته هو دون مصطلحات القانون، إذ أن هذه غير تلك. فاللفظ الواحد قد يستعمل في القانون بمعنى، وفي الفقه الإسلامي بمعنى آخر. مثل ذلك: الالتزام- الفضالة- وغيرهما.

ففي مجال الفقه الإسلامي يجب استعمال مصطلحاته هو لا مصطلحات القانون والتزامها دائما([82]). بل يجب التزام مصطلحات المذهب الذي هو المصدر الرئيس للتقنين، ذلك أن المذاهب تختلف في المصطلحات، فكلمة "العين" في المذهب الحنفي غيرها في المذهب المالكي مثلا. وهناك من الألفاظ ما يكثر في مذهب ويندر استعماله في مذهب آخر.

المبحث الثاني: الناحية الخارجية

يعنى في هذه الناحية ببيان أفضل الطرق في إجراءات التقنين، وهل هي الإجراءات التشريعية المعتادة أم إجراءات خاصة بالتقنين نظرا لطبيعته الفنية المعقدة؟

أمثلة ذلك أنه صدر في يونيو سنة 1945 مرسوم بتأليف لجنة برياسة الأستاذ جوليو لامورانديير عميد كلية الحقوق بجامعة باريس لمراجعة القانون المدني الفرنسي وتعديله بما يوافق التطورات التي طرأت على المعاملات. فمن يقول بفائدة التقنين فإنه لا بد قائل بضرورة المراجعة بين الحين والحين، إذ أن القانون في المجتمع لا يلبث مع الزمن أن يصير قديما لا يعبر بأمانة عن القانون المطبق فعلا في المحاكم، ولا علاج لهذا العيب إلا بالمراجعة والتنقيح بين الحين والحين.

وفي الفقه الإسلامي ميدان التعديل واسع بالأخذ بالمذاهب والآراء الأخرى غير المذهب الذي أخذ به التقنين بما يحقق المصلحة المتجددة فضلا عن أن العرف له في الشرع اعتبار.

الخاتمة:

عرفنا في المقدمة التقنين وبينا مزاياه وعيوبه المدعاة. وعرضنا لسلسلة من التقنين لبيان أهمية التقنين وأثره في انتشار قانون دولة ما. ثم انتقلنا إلى الفصل الأول فعرضنا فيه الرأيين الموجودين لدى فقهاء المسلمين من حيث حق ولي الأمر في إلزام القضاة بالحكم برأي فقهي معين: الرأي القائل بعدم الجواز، والرأي القائل بالجواز. وبينا ما جرى عليه العمل، ثم انحزنا إلى النظر القائل بالجواز مستندين في ذلك إلى السياسة الشرعية حيث إن صالح المسلمين اليوم يقضي بالتقنين تثبيتا لدعائم الشريعة الإسلامية في البلاد التي تطبقها ونشرا لها في البلاد التي لا تطبقها، كلا أو بعضا. ثم إلى وجوب طاعة القاضي والناس لأمر ولي الأمر ما لم يخالف الشريعة الإسلامية.

وفي الفصل الثاني عرضنا منهج تقنين الفقه الإسلامي من الناحية الداخلية مبينين نطاقه باقتصاره على أحكام القضاء دون أحكام الديانة ووجوب أن لا يخرج عن الشريعة الإسلامية بعمومها. وأن يعتمد المذهب السائد في الدولة مع جواز الأخذ عن مذهب آخر إذا اقتضت المصلحة ذلك. وعرضنا لما يجب أن يكون عليه تقنين الفقه الإسلامي من حيث المصدر والصياغة والتبويب والروح العامة والأسلوب واللغة.

ومن الناحية الخارجية للتقنين، وهي تكوين لجنة قليلة العدد لوضع المشروع. ثم تكوين لجنة لمراجعة التقنين أكبر عددا. ثم عرض المشروع على الاستفتاء العام على أوسع نطاق ثم اتخاذ الإجراءات التشريعية المبسطة إصداره وإلزام الناس به. كما أكدنا على وجوب مراجعة التقنين من حين إلى آخر كي يظل متطورا مع الحياة متسقا مع المعاملات التي تجد.

والله الموفق

 


[1] إنساباتو، الإسلام وسياسة الخلفاء، ص 145-146.

[2] بيولا كازيلي، مقال في مجلة مصر العصرية، سنة 1921، المجلد 12، ص 195.

[3] راجع مجلة القانون والاقتصاد، السنة الثانية، العدد الخامس، القسم الفرنسي، ص 292-312 وخصوصا ص 301-302.

[4] أنظر: السنهوري، وجوب تنقيح القانون المدني، مجلة القانون والاقتصاد، السنة السادسة، العدد الأول، ص 3 وما بعدها. وقد أفدنا منه كثيرا وكان جل اعتمادنا- في بعض المواضع – عليه. رحم الله أستاذنا الجليل وأسكنه فسيح جناته فكل ما نكتب من علمه وعلم أساتذتنا رحمهم الله.

[5] المائدة، الآية 50.

[6] مصادر القاعدة القانونية التشريع والعرف والعادة، أما القضاء والفقه فمصدران تفسيريان (أنظر السنهوري وأوب ستيت، أصول القانون، البند 69 ص 80 وما بعدها).  

[7] في هذا إشارة إلى مدرسة الشرح على المتون التي تجعل القانون محصورا في " النصوص التشريعية" دون غيرها. وقد دالت دولة هذه المدرسة (أنظر الهامش التالي).

[8] مدرسة الشرح على المتون مذهب فرنسي يجعل المصدر الرسمي الوحيد للقانون هو التشريع وحده دون غيره من المصادر الأخرى كالعرف والعادة. وأصحاب هذا المذهب يعتقدون أن النصوص التشريعية قد حوت كل القواعد القانونية ولم تفرط فيها من شيء ( أنظر السنهوري وأبو ستيت، أصول القانون، البنود 24-27 ص 37-41). الواقع أن هناك مصادر أخرى للقانون غير التشريع هي العرف والدين والقانون الطبيعي وقاعد العدالة والفقه والقضاء (السنهوري وآخر، المرجع السابق، البند 69 ص 70).

[9] أنظر : السنهوري، المرجع السابق.

[10] أنظر: السنهوري، من مجلة الأحكام العدلية إلى القانون المدني العراقي وحركة التقنين المدني في العصور الحديثة، مجلة القضاء، بغداد، سنة 1936م، ص 5-65، ففيه مزيد من البيان.

[11] من التقنينات القديمة في الشرق: قانون حمورابي في بابل (1728-1686 ق.م) وقانون مانو في الهند (1280 ق.م) وقانون بوكخوريس في مصر (718-712 ق.م). وفي الغرب: في أثينا قانون دراكون حوالي 621 ق.م) وقانون صولون (حوالي 594 ق.م) وفي روما قانون الألواح الإثنى عشرة ( 541 ق.م).
راجع: صوفي أبو طالب، مبادئ تاريخ القانون، دار النهضة العربية سنة 1387هـ (1967 م)، ص 147-165.

[12] أنظر : السنهوري، المقال المشار إليه فيما سبق.

[13] راجع فيما تقدم اختلاف رجال القانون في مبدأ التقنين، ص 27 وما بعدها.

[14] ص: الآية 26 .

[15] ج 1: ص 22-23.

[16] ابن فرحون: تبصرة الحكام، ج 1، ص 56 وما بعدها.

[17] قال ابن فرحون في " الفصل الثامن: في التحكيم" من التبصرة (1: 56).
" مسألة – إذا حكم المحكم فليس لأحد أن ينقض حكمه، وإن خالف مذهبه، إلا أن يكون جورا بينا لم يختلف فيه أهل العلم.
مسألة- قال اللخمي: إنما يجوز التحكيم إذا كان المحكم عدلا من أهل الاجتهاد أو عاميا واسترشد العلماء. فإن حكم ولم يسترشد رد، و إن وافق قول قائل لأن ذلك تخاطر منهما وغرر.
وقال المازري: لايحكم إلى من يصح ان يولى القضاء. قال وإذا كان المحكم من أهل الاجتهاد مالكيا ولم يخرج باجتهاده عن مذهب مالك لزمه حكمه. وإن خرج عن ذلك لم يلزم إذا كان الخصام بين مالكيين لأنهما لم يحكماه على أن يخرج عن قول مالك و أصحابه. وكذلك إن كانا شافعيين أو حنفيين وحكماه على مثل ذلك لم يلزم حكمه إن حكم بينهما بغير ذلك.

[18] ص 67-68.

[19] " المشتركة" هي مسألة امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأمها وإخوتها لأمها وأبيها. فكان للزوج النصف، وللأم السدس، وما بقي وهو الثلث جعله عمر رضي الله للإخوة لأم واسقط الإخوة لأم وأب. وفي مرة أخرى أشرك بين الإخوة لأم والإخوة لأم وأب في الثلث- فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال له رجل : إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال عمر رضي الله عنه: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا. وإنما سميت " المشرَّكة" لأن بعض أهل العلم شرك فيها بين الإخوة لأب وأم والإخوة لأم في فرض الإخوة لأم، وهي مسألة اختلف أهل العلم فيها قديما وحديثا. (أنظر ابن قدامة، المغني، 7: 21 وما بعدها). وراجع عبد الرزاق بن همام الصنعاني (211 هـ)، المصنف، من منشورات المجلس العلمي، 10: 249، وسعيد بن منصور (227 هـ) : كتاب السنن، من سلسلة منشورات المجلس العلمي، القسم الأول من المجلد الثالث، باب المشركة، ص 15-18. وسنن الدرامي (255 هـ) من سلسلة مطبوعات كتب السنة النبوية، باب المشركة، ج 2: ص 251 وما بعدها).

[20] ح 9 : ص 106

[21] ص : 26.   

[22] ح 4: ص 251-252.

[23] ج 6: ص 292-293.

[24] ص : الآية 26.

[25] ج 6 : ص 307.

[26] أنظر أيضا: ابن القيم، إعلام الموقعين، 4: ص 205 وما بعدها.

[27] النساء: 59.

[28] محمد كرد علي، رسائل البلغاء، ص 125-126.

[29] وصف مالك أبا جعفر فقال: "... ثم فاتحني (أي أبو جعفر) في العلم والفقه فوجدته أعلم الناس بما اجتمع عليه، وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظا لما روى، واعيا لما سمع، (ابن قتيية، الإمامة والسياسة، 2: ص 149).

[30] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 2: ص 147.

[31] ابن قتيبة، المرجع السابق، 2: ص 149

[32]  ج 5: ص 490-491.

[33] ج 5: ص 490-491.

[34] المائدة: 49.

[35] ج 3: ص 692.  

[36] ج 5: ص 408.

[37] ص 57-58.

[38] ج 1: ص 57 وما بعدها. وراجع فيما تقدم ص 41-42.

[39] راجع فيما تقدم الهامش 1، ص 42.

[40] ص 67-28. وراجع فيما تقدم، ص 43.

[41] ج 6: ص 307. وراجع فيما تقدم ص 48.

[42]  نقلا عن: عبد الرحمن القاسم، الإسلام وتقنين الأحكام، 23-24.

[43] نقلا عن: عبد الرحمن القاسم، المرجع السابق، ص: ل وما بعدها، ومحمد أبو زهرة، العقوبة في الفقه الإسلامي، ص 84-85.

[44] نقلا عن: عبد الرحمن القاسم، المرجع السابق، ص 5.

[45] أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة، ص 192.

[46] ج 5: ص 408. وراجع فيما تقدم ص 54.

[47] ص 57-58. وراجع فيما تقدم ص 55.

[48] ج 1: ص 57. وراجع فيما تقدم ص 55.

[49] ج 6: ص 292-293. وراجع فيما تقدم ص 47 و56.

[50] ص 169 وما بعدها.

[51] المائدة: الآية 3 " ... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا...".

[52] ص 169-173.

[53] ص 173 وما بعدها.

[54] ص 176 وما بعدها.

[55] ص 15.

[56] النساء: 58-59.

[57]  ص 63.

[58] أنظر أيضا من الكتاب نفسه: ص 63 و 152 و160 و 162 و 182 و190.

[59] ص 13 وما بعدها.

[60] أنظر أيضا: ابن القيم، إعلام الموقعين، 4: 309 وما بعدها.

[61] ابن نجيم، 1: 157-158. والسيوطي، ص 83.

[62] ص 67-68. وراجع فيما تقدم ص 43 و 56.

[63] ج 1: ص 592 باب الاستسقاء.  

[64] ج 2: ص 53-54. وأنظر فيما يلي ص 73. والمقصود بالتكملة " قرة عيون الأخيار تكملة رد المحتار" لمحمد علاء الدين بن عابدين (محمد أمين).   

[65] ج 1: ص 46-47. وأنظر الهامش السابق.  

[66] وهي قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". (النساء : 59). وأنظر تفسيرها في: ابن كثير، 1: 518. والجصاص، أحكام القرآن، 2: 210. وابن العربي، 1: 451

[67] راجع فيما تقدم ص 00. والسطور التالية.

[68] ج 1: ص 573 في صلاة العيدين.

[69] وأنظر أيضا ح 3: ص 335 من الكتاب نفسه.

[70] ج 1: ص 346. راجع فيما تقدم الهامش رقم 2 ص 72.

[71] ص 4-5.

[72] نقلا عن السنهوري، في مقاله المشار إليه فيما سبق. وكنا نود تكملة هذا البيان إلى اليوم ولكن أعوزتنا المراجع في مصر. ولعلنا نستطيع ذلك في المستقبل إن شاء الله.

[73] أنظر : السنهوري، مقاله المشار إليه فيما سبق.

[74] المائدة: الآية 3.

[75] المائدة: ص 44-49.

[76] ج 2: ص 238.

[77]  الأنبياء: 92.

[78] المؤمنون: 52.

[79] يراجع في ذلك المذكرة المؤرخة في 20 من جمادى الآخرة سنة 1399هـ-17 من مايو سنة 1979م والمقدمة منا إلى لجنة التقاضي، إحدى لجان تقنين الشريعة الإسلامية بمجلس الشعب المصري.

[80] أنظر مقالاتنا الآتية في مجلة إدارة قضايا الحكومة:
- " العقود المسماة في الفقه الإسلامي" في العدد الأول من السنة التاسعة.
- " التصرفات الانفرادية في الفقه الإسلامي" في العدد الثاني من السنة التاسعة.
- " التصرفات الفعلية والوقائع الشرعية في الفقه الإسلامي" في العدد الثاني من السنة السادسة عشرة.
وقد جمعت في كتاب بعنوان " التصرفات والوقائع الشرعية"، دار القلم، الكويت، 1402هـ- 1982م.
- وفي مجلة" أضواء الشريعة" بالرياض مقالنا:" مصادر الحق في الفقه الإسلامي للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري تجربة حاسمة في أسلوب دراسة الفقه الإسلامي"، العدد الثامن سنة 1397هـ- سنة 1977م.

[81]  أنظر مقالنا " الدين والعين في الفقه الإسلامي والحق الشخصي والحق العيني في الفقه الغربي" المنشور في مجلة القانون والاقتصاد. العدد الخاص بالعيد المئوي، مطبعة جامعة القاهرة، سنة 1983، ص 79-93. ونرى - ما دام أن الفقه الإسلامي هو مصدر التقنين المدني كله- أن يشمل هذا التقنين قسمي الأحوال الشخصية (للمسلمين وفقا لأحكام دينهم) والأحوال العينية (المالية). ويبدأ التقنين كله بباب تمهيدي يعالج " الأحكام العامة" استرشادا بالقانون المدني المصري مع الالتزام بأحكام الفقه الإسلامي وصياغته.

[82] أنظر مقالنا " مصطلحات القانون ومصطلحات الفقه الإسلامي" المنشور في مجلة جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان، العدد الأول، السنة الأولى، 1968م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق