جلسة 7 مارس سنة 1998
برئاسة السيد المستشار
الدكتور/ عوض محمد عوض المر - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: محمد ولي
الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وحمدي محمد علي وسامي
فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض،
وحضور السيد المستشار
الدكتور/ حنفي علي جبالي - رئيس هيئة المفوضين،
وحضور السيد/ حمدي أنور
صابر - أمين السر.
----------------
قاعدة رقم (133)
القضية رقم 162 لسنة 19
قضائية "دستورية"
(1) دعوى دستورية
"المصلحة الشخصية المباشرة: مناطها".
مناط المصلحة الشخصية
المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي يقوم
بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم في المسائل الدستورية لازماً للفصل في
الطلبات الموضوعية المتصلة بها.
(2) سلطة قضائية
"استقلالها - حيدتها".
حيدة هذه السلطة عنصر
فاعل في صون رسالتها لا تقل شأناً عن استقلالها بما يؤكد تكاملها.
(3) حق التقاضي
"ترضية قضائية".
مؤدى حق التقاضي أن يكون
لكل خصومة في نهاية مطافها حل منصف يمثل الترضية القضائية التي يقتضيها رد العدوان
على الحقوق المدعى بها. افتراض هذه الترضية أن يكون مضمونها موافقاً لأحكام
الدستور.
(4) هيئة قضايا الدولة "تحقيق - فصل في التهمة:
ضمانات".
اتهام أحد أعضاء هيئة
قضايا الدولة بالإخلال بالثقة والاعتبار اللازم توافرهما فيه أو خروجه على واجبات
وظيفته ومقتضياتها ينبغي أن يكون مسبوقاً بتحقيق متكامل - يجب إسناد الفصل فيما هو
منسوب إليه إلى هيئة قضائية في تشكيلها وضماناتها، وألا يكون من بين أعضائها من
اتصل بإجراء سابق على توليها لمهامها سواء كان تحقيقاً أو اتهاماً.
(5) تشريع "المادتان
25 و26 من قانون هيئة قضايا الدولة: إهدار ضمانة الحيدة".
تضمنت المادتان المشار
إليهما أن يرأس لجنة التأديب والتظلمات رئيس الهيئة الذي طلب إقامة الدعوى
التأديبية: مؤدى ذلك: إهدار ضمانة الحيدة.
(6) حق الدفاع
"تحقيق: ضرورته".
يعتبر حق الدفاع أحد
الأركان الجوهرية لسيادة القانون لكفالته عدالة الخصومة القضائية - خلا نص الفقرة
الثالثة من المادة 26 من قانون هيئة قضايا الدولة مما يحتم سماع أقوال العضو
المحال إلى التحقيق؛ مؤدى ذلك: عدم جواز اعتبار التحقيق أساساً للاتهام.
(7) خصومة تأديبية
"خصائصها - لجنة التأديب والتظلمات بهيئة قضايا الدولة: ضمانة الاستقلال".
للخصومة التأديبية في
مجال العمل القضائي خصائصها التي ينافيها أن يُطرح أمرها على غير أهلها - تبعية
أعضاء لجنة التأديب والتظلمات بالهيئة المذكورة لرؤسائهم ثم لوزير العدل، لا تنال
من استقلالهم في أداء وظائفهم.
(8) حق التقاضي
"درجة واحدة - سلطة تقديرية".
قصر التقاضي على درجة
واحدة يدخل في إطار السلطة التقديرية للمشرع في مجال تنظيم الحقوق؛ مؤدى ذلك: أن
الوقوف بالتقاضي في مجال الخصومة التأديبية عند درجة واحدة استناداً إلى أسس
موضوعية، لا ينتقص من حق التقاضي.
-----------------
1 - المصلحة الشخصية
المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي
يقوم بها النزاع الموضوعي، ذلك بأن يكون الفصل في المسائل الدستورية التي تدعي هذه
المحكمة لحسمها، لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها؛ وكان نص المادة
25 من قانون هيئة قضايا الدولة - المطعون عليها - تقيم من لجنة التأديب والتظلمات
جهة قضائية تفصل - دون غيرها - وبصفة نهائية، في تأديب أعضاء الهيئة؛ وفي
منازعاتهم في شأن مكافآتهم ومرتباتهم؛ وكذلك فيما يصدر من القرارات الإدارية في
غير ذلك من شئونهم سواء في مجال إلغائها أو التعويض عنها مما يدخل أصلاً في اختصاص
القضاء؛ وكان عزل المدعي من وظيفته صادراً في خصومة تأديبية؛ وكانت المطاعن
الدستورية التي أثارها المدعي تتعلق جميعها بما إذا كان يجوز للجنة التأديب
المنصوص عليها في المادة 25 المطعون عليها، أن تفصل في خصومة تأديبية من طبيعة
قضائية بقرار نهائي لا رجوع فيه؛ وكانت النصوص القانونية التي أحاط بها المشرع
الدعوى التأديبية، وعلى الأخص من حيث رفعها، وضماناتها، والقائمين من أعضاء الهيئة
بإجراء التحقيق الإداري السابق عليها، لا تقتصر على نص المادة 25 المطعون عليها،
وإنما تكملها المادة التي تلتها؛ فإن المادتين 25 و26 من قانون الهيئة، تكونان
متضاممتين، فلا تنفصلان، وبهما معاً يتحدد إطار المصلحة الشخصية المباشرة للمدعي،
وكذلك نطاق الخصومة الدستورية.
2 - استقلال السلطة
القضائية، وإن كان لازماً لضمان موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على
الترضية القضائية التي يطلبونها عند وقوع عدوان على حقوقهم وحرياتهم، إلا أن
حيدتها عنصر فاعل في صون رسالتها لا تقل شأناً عن استقلالها بما يؤكد تكاملهما؛
ذلك أن استقلال السلطة القضائية، يعني أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير الخارجي
التي توهن عزائم رجالها، فيميلون معها عن الحق، إغواء أو إرغاماً، ترغيباً
وترهيباً؛ فإذا كان انصرافهم عن إنفاذ الحق تحاملاً من جانبهم على أحد الخصوم،
وانحيازاً لغيره - لمصالح ذاتية أو لغيرها من العوامل الداخلية التي تثير غرائز
ممالأة فريق دون آخر - كان ذلك منهم تغليباً لأهواء النفس؛ منافياً لضمانة التجرد
عند الفصل في الخصومة القضائية؛ ولحقيقة أن العمل القضائي لا يجوز أن يثير ظلالاً
قاتمة حول حيدته، فلا يطمئن إليه متقاضون داخلتهم الريب فيه بعد أن صار نائياً عن
القيم الرفيعة للوظيفة القضائية.
3 - حق التقاضي المنصوص
عليه في المادة 68 من الدستور، مؤداه أن لكل خصومة - في نهاية مطافها - حلاً
منصفاً يمثل الترضية القضائية التي يقتضيها رد العدوان على الحقوق المدعى بها.
وتفترض هذه الترضية أن يكون مضمونها موافقاً لأحكام الدستور. وهي لا تكون كذلك إذا
كان تقريرها عائداً إلى جهة أو هيئة تفتقر إلى استقلالها أو حيدتها أو هما معاً،
ذلك أن هاتين الضمانتين - وقد فرضهما الدستور على ما تقدم - تعتبران قيداً على
السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق. ومن ثم يلحق البطلان
كل تنظيم تشريعي للخصومة القضائية على خلافهما.
4 - إخلال أحد أعضاء هيئة
قضايا الدولة بالثقة والاعتبار اللذين ينبغي توافرهما فيه، أو بواجبات وظيفته أو
مقتضياتها، يعتبر ذنباً إدارياً مؤاخذاً عليه قانوناً. وإسناده إليه ينبغي أن يكون
مسبوقاً بتحقيق متكامل لا يقتصر على بعض عناصر الاتهام، بل يحيط بها جميعاً، ويمحص
أدلتها مع ضمان الفرص الكافية التي يقتضيها سماع أقوال العضو المحال إلى التحقيق،
فلا يكون التحقيق مبتسراً، أو مجرداً من ضمان موضوعيته، بل وافياً أميناً، وكلما
استكمل التحقيق عناصره؛ وكان واشياً بأن للتهمة معينها من الأوراق؛ كان عرضه
لازماً على الجهة التي أولاها المشرع مسئولية الفصل فيه، بشرطين أولهما: أن تكون
قضائية في تشكيلها وضماناتها. ثانيهما: ألا يكون من بين أعضائها من اتصل بإجراء
سابق على توليها لمهامها سواء كان تحقيقاً أو اتهاماً، ذلك أن عضو الهيئة القضائية
يتولى وظيفة لها خطرها أوثق اتصالاً برسالتها. وادعاء الإخلال بها يكون سقيماً إذا
كان بغير دليل، نائياً عماً يعتبر غيا، فلا يتسم بالاندفاع أو التحامل أو التعمل.
5 - الدعوى التأديبية -
وعلى ما تنص عليه المادة 26 من قانون هيئة قضايا الدولة - لا تقام من وزير العدل
إلا بناء على طلب من رئيسها؛ وكان الأصل ألا يقدم هذا الطلب منه قبل أن يستكمل
التحقيق مجراه؛ وأن يكون قد أجال بصره فيه بعد عرضه عليه، مرجحاً - على ضوء
اعتقاده - ما إذا كان بنيانه متماسكاً أو متهادماً؛ منتهياً من ذلك إلى المضي في
الخصومة التأديبية أو التخلي عنها؛ وكان ذلك لا يعدو أن يكون رأياً مؤثراً في
موضوعية ضوابطها، وحائلاً دون تأسيسها على ضمانة الحيدة التي لا يجوز إسقاطها عن
أحد من المتقاضين لتسعهم جميعاً على تباينهم؛ فإن النص المطعون فيه يكون - في هذه
الحدود - مخالفاً للدستور. كما أن رئيس الهيئة - وعلى ما تنص عليه المادة 26 من
قانونها - لا يقدم إلى وزير العدل طلبه برفع الدعوى إلا بناء على تحقيق جنائياً
كان، أم إدارياً. فإذا كان إدارياً تولاه أحد وكلاء الهيئة إذا كان المحال إلى
التحقيق مستشاراً بها. فإن كان دون ذلك أجراه مستشار في إدارة التفتيش الفني،
وكانت المادة 25 من قانون الهيئة تشكل لجنة التأديب والتظلمات بها من رئيسها وعشرة
من أعضائها من بين نوابه ووكلائها ومستشاريها وفق أقدميتهم؛ وكان لا يجوز لجهة
التحقيق ولا لسلطة الاتهام، أن تتصل بالجهة القضائية التي عهد إليها المشرع بمهمة
الفصل في الخصومة التأديبية، فلا يباشر عملاً فيها من كان قائماً بالتحقيق الذي
أفضى إليها، ضماناً لحيدتها وتوافر الأسس الموضوعية لقراراتها؛ فإن تشكيل تلك
اللجنة يكون كذلك - وفي هذه الحدود - مخالفاً للدستور.
6 - ضمان الدستور لحق
الدفاع، قد تقرر باعتباره أحد الأركان الجوهرية لسيادة القانون، كافلاً للخصومة
القضائية عدالتها، وبما يصون قيمها، ويندرج تحتها ألا يكون الفصل فيها بعيداً عن
أدلتها، أو نابذاً الحق في إجهاضها من خلال مقابلتها بما يهدمها من الأوراق وأقوال
الشهود؛ فلا يكون ينيان الخصومة متحيفاً حقوق أحد من الخصوم؛ بل مكافئاً بين فرصهم
في مجال إثباتها أو نفيها؛ استظهاراً لحقائقها، واتصالاً بكل عناصرها. متى كان
ذلك؛ وكان نص الفقرة الثالثة من المادة 26 من قانون الهيئة، قد خلا مما يحتم سماع
أقوال العضو المحال إلى التحقيق، فإن مضمونه يكون دائراً في الفراغ، ولا يجوز أن
ينبني عليه اتهام.
7 - ما ينعاه المدعي من
أن لجنة التأديب والتظلمات التي شكلها النص المطعون فيه لا تفصل في الخصومة
التأديبية بصفة قضائية، وأن أعضاءها تابعون لرئيسها بحكم وظائفهم مما يؤثر في
موضوعية قراراتها، مردود أولاً: بأن للخصومة التأديبية - في مجال العمل القضائي -
خصائصها ودقائقها التي ينافيها أن يطرح أمرها على غير أهلها: لتظل خفاياها وراء
جدران مغلقة لا تمتد إليها أبصار تريد هتكها؛ ولا آذن تتلصص عليها، ومردود ثانياً:
بأن أعضاء هذه اللجنة يحتلون من الهيئة التي ينتمون إليها أعلى مواقعها، بل أن
رئيسها يتصدرها. وجميعهم مدركون أكثر من غيرهم نطاق وظائفها، والحدود التي ينبغي
فيها على أعضائها مباشرة واجباتهم؛ فلا يكون إسناد الفصل في الخصومة التأديبية
إليهم تنصلاً من ضماناتها؛ بل توكيداً لأولويتهم في مجال البصر بشئونها، ومردود
ثالثاً: بأن ما نص عليه قانون الهيئة من أن أعضاءها تابعون لرؤسائهم، ثم لوزير
العدل، لا يفيد خضوعهم لسلطة يباشرها هؤلاء عليهم بما ينال من استقلالهم في أداء
وظائفهم.
8 - جرى قضاء هذه المحكمة
على أن قصر التقاضي في المسائل التي فصل فيها الحكم على درجة واحدة، لا يناقض الدستور؛
وإنما يدخل في إطار السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق؛
وكان ما قرره النص المطعون فيه من امتناع الطعن في القرار الصادر في الخصومة
التأديبية بأي وجه، يبلور اتجاهاً عاماً نحاه المشرع فيما أورده من نصوص نظم بها
عديداً من الهيئات القضائية، واقفاً بالتقاضي في مجال الخصومة التأديبية عند درجة
واحدة، تقديراً منه لكفايتها في الفصل في الحقوق موضوعها؛ وكان هذا التقدير من
المشرع مبناه أسس موضوعية يظاهرها أن هذه الخصومة لا يفصل فيها إلا من يحيطون
بدقائقها، وبقرار يصدر بأغلبية ثلثي أعضائها، فلا يكون بعيداً في الأعم من الأحوال
عما يعتبر قضائياً حلاً منصفاً لها؛ فإن ما ينعاه المدعي من ذلك، يكون مفتقراً إلى
سنده.
الإجراءات
بتاريخ 10 أغسطس سنة
1997، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالباً الحكم بعدم دستورية
المادة 25 من قانون تنظيم هيئة قضايا الدولة الصادر بالقانون رقم 75 لسنة 1963.
وقدمت هيئة قضايا الدولة
مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت
هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو
المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق،
والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما
يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعي كان شاغلاً لوظيفة مندوب
بهيئة قضايا الدولة. ثم أحيل إلى لجنة التأديب والتظلمات بها بقرار من وزير العدل
بناء على طلب رئيس الهيئة، وقيدت الدعوى التأديبية برقم 2 لسنة 1996 حيث قضى فيها
بعزله عن وظيفته. وقد طعن المدعي في قرار اللجنة أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس
الدولة تحت رقم 5674 لسنة 51 قضائية طالباً الحكم بصفة مستعجلة بوقف تنفيذه، وفي
الموضوع بإلغائه، ودفع أثناء نظرها بعدم دستورية نص المادة 25 من قانون هيئة قضايا
الدولة الصادر بالقانون رقم 75 لسنة 1963. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع،
وخولته إقامة الدعوى الدستورية، فقد رفعها إلى هذه المحكمة.
وحيث إن المدعي ينعى على
هذه المادة مخالفتها لأحكام المواد 40 و64 و65 و68 و69 و165 من الدستور، تأسيساً
على أن لجنة التأديب والتظلمات التي يرأسها رئيس الهيئة تعتبر لجنة إدارية لا يجوز
الطعن في القرار الصادر عنها بأي وجه، وتنتفي في شأنها كذلك ضمانة التجرد والحيدة
التي يتحقق بها الفصل في الدعوى التأديبية التي تقيمها ضده جهة عمله بطريقة منصفة.
فليس مقبولاً أن يكون العمل القضائي مدموغاً بشبهة تداخل تجرده، وتثير ظلالاً
قاتمة حول حيدته، فلا يطمئن إليه المتقاضون. ولا يجوز بالتالي لرئيس الهيئة أن
يكون رئيساً لهذه اللجنة بعد أن طلب إحالة المدعي إلى المحاكمة التأديبية
لمجازاته، كاشفاً بذلك عن رأية فيما هو منسوب إليه، جامعاً بذلك بين سلطتي الاتهام
والمحاكمة فلا تستقيم للعدالة ولا لحق التقاضي ضماناتهما.
هذا فضلاً عن أن أعضاء
مجلس التأديب تابعون بحكم وظائفهم لرئيس لهيئة؛ وهو يهيمن على شئونهم الوظيفية؛
ومن شأن النهائية التي أسبغها النص المطعون فيه على قرارات لجنة التأديب، حرمان من
يريد التظلم منها من اللجوء إلى قاضية الطبيعي، مما يمثل إخلالاً بمبدأ مساواة
المواطنين أمام القانون؛ وانتقاصاً من ضمانة الحق في التقاضي؛ وإهداراً لمبدأ
الخضوع للقانون.
وحيث إن المصلحة الشخصية
المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي
يقوم بها النزاع الموضوعي، ذلك بأن يكون الفصل في المسائل الدستورية التي تدعي هذه
المحكمة لحسمها، لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها؛ وكان نص المادة
25 من قانون هيئة قضايا الدولة - المطعون عليها - تقيم من لجنة التأديب والتظلمات
جهة قضائية تفصل - دون غيرها - وبصفة نهائية، في تأديب أعضاء الهيئة؛ وفي
منازعاتهم في شأن مكافآتهم ومرتباتهم؛ وكذلك فيما يصدر من القرارات الإدارية في
غير ذلك من شئونهم سواء في مجال إلغائها أو التعويض عنها مما يدخل أصلاً في اختصاص
القضاء؛ وكان عزل المدعي من وظيفته صادراً في خصومة تأديبية؛ وكانت المطاعن
الدستورية التي أثارها المدعي تتعلق جميعها بما إذا كان يجوز للجنة التأديب
المنصوص عليها في المادة 25 المطعون عليها، أن تفصل في خصومة تأديبية من طبيعة
قضائية بقرار نهائي لا رجوع فيه؛ وكانت النصوص القانونية التي أحاط بها المشرع
الدعوى التأديبية، وعلى الأخص من حيث رفعها، وضماناتها، والقائمين من أعضاء الهيئة
بإجراء التحقيق الإداري السابق عليها، لا تقتصر على نص المادة 25 المطعون عليها،
وإنما تكملها المادة التي تلتها؛ فإن المادتين 25 و26 من قانون الهيئة، تكونان
متضاممتين، فلا تنفصلان، وبهما معاً يتحدد إطار المصلحة الشخصية المباشرة للمدعي،
وكذلك نطاق الخصومة الدستورية.
وحيث إن المادتين 25 و26
من قانون هيئة قضايا الدولة، تنصان على ما يأتي:
مادة 25:
"تشكل لجنة التأديب
والتظلمات من رئيس هيئة قضايا الدولة أو من يحل محله رئيساً، ومن عشرة أعضاء بحسب
ترتيبهم في الأقدمية من بين نواب الرئيس والوكلاء والمستشارين.
وتختص هذه اللجنة بتأديب
أعضاء الهيئة، وبالفصل في طلبات إلغاء القرارات الإدارية المتعلقة بشئونهم، وفي
طلبات التعويض المترتبة عليها مما يدخل أصلاً في اختصاص القضاء.
وتفصل اللجنة فيما ذكر
بعد سماع أقوال العضو والاطلاع على ما يبديه من ملاحظات. وتصدر قراراتها بالأغلبية
المطلقة إلا في حالة التأديب، فتصدر قراراتها بأغلبية ثلثي أعضائها. ويكون قرار
اللجنة في جميع ما تقدم نهائياً، ولا يقبل الطعن فيه بأي وجه من الوجوه أمام أية
جهة.
كما تختص اللجنة دون
غيرها بالفصل في المنازعات الخاصة بالمرتبات والمكافآت المستحقة لأعضاء الهيئة".
مادة 26:
"تنظم اللائحة الداخلية
الأحكام الخاصة بتأديب أعضاء هيئة القضايا. والعقوبات التي يجوز توقيعها هي:
الإنذار - اللوم - العزل.
وتقام الدعوى التأديبية
من وزير العدل بناء على طلب من رئيس الهيئة.
ولا يقدم هذا الطلب إلا
بناء على تحقيق جنائي؛ أو بناء على تحقيق إداري يتولاه أحد وكلاء الهيئة بانتداب
من وزير العدل بالنسبة إلى المستشار؛ أو مستشار من إدارة التفتيش الفني بالنسبة
لغيرهم من الأعضاء".
وحيث إن ضمانة الحيدة -
في نطاق النزاع الماثل - إنما تتصل أساساً بما إذا كان يجوز لرئيس الهيئة أو لأحد
أعضائها، أن يفصل في منازعة تأديبية من طبيعة قضائية سبق أن اتخذ موقفاً منها أو
أبدى رأياً فيها.
وحيث إنه على ضوء ذلك،
يرتبط الفصل في دستورية تشكيل لجنة التأديب والتظلمات، بما إذا كان الإخلال بضمانة
حيدة رئيسها وأعضائها، يعتبر إهداراً لأحد الحقوق التي كفلها الدستور، فلا يتم
الفصل إنصافاً في الخصومة القضائية مع غيابها، أم أن هذه الضمانة لا ترقى بوزنها
إلى مرتبة الحقوق التي تستمد من الدستور أصلها، فلا ينافيها إلغاؤها أو تقييدها
بقانون تقره السلطة التشريعية في حدود سلطتها التقديرية.
وحيث إن قضاء المحكمة
الدستورية العليا قد جرى على أن استقلال السلطة القضائية، وإن كان لازماً لضمان
موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على الترضية القضائية التي يطلبونها
عند وقوع عدوان على حقوقهم وحرياتهم، إلا أن حيدتها عنصر فاعل في صون رسالتها لا
تقل شأناً عن استقلالها بما يؤكد تكاملهما؛ ذلك أن استقلال السلطة القضائية، يعني
أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير الخارجي التي توهن عزائم رجالها، فيميلون معها عن
الحق، إغواء أو إرغاماً، ترغيباً وترهيباً؛ فإذا كان انصرافهم عن إنفاذ الحق
تحاملاً من جانبهم على أحد الخصوم، وانحيازاً لغيره - لمصالح ذاتية أو لغيرها من
العوامل الداخلية التي تثير غرائز ممالأة فريق دون آخر - كان ذلك منهم تغليباً
لأهواء النفس؛ منافياً لضمانة التجرد عند الفصل في الخصومة القضائية؛ ولحقيقة أن
العمل القضائي لا يجوز أن يثير ظلالاً قاتمة حول حيدته، فلا يطمئن إليه متقاضون
داخلتهم الريب فيه بعد أن صار نائياً عن القيم الرفيعة للوظيفة القضائية. يؤيد ذلك: -
أولاً: إن إعلان المبادئ
الأساسية في شأن استقلال القضاء التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة
بقراريها الصادرين في 19/ 1/ 1985 و13/ 12/ 1985 يؤكد بوضوح أن المنازعات التي
تدخل في اختصاص السلطة القضائية، ينبغي الفصل فيها بطريقة محايدة؛ وعلى ضوء
وقائعها ووفقاً لحكم القانون بشأنها؛ مع تجرد قضاتها من عوامل التأثر والتحريض،
وكذلك من كل صور الضغوط أو التهديد أو التدخل غير المشروع - مباشراً كان أم غير
مباشر - وأياً كان مصدرها أو سببها.
ثانياً: إن استقلال
السلطة القضائية وحيدتها ضمانتان تنصبان معاً على إدارة العدالة بما يكفل
فعاليتها. وهما بذلك متلازمتان. وإذا جاز القول - وهو صحيح - بأن الخصومة القضائية
لا يستقيم الفصل فيها حقاً وعدلاً إذا خالطتها عوامل تؤثر في موضوعية القرار
الصادر بشأنها - ما كان منها خارجياً أو معتملاً في دخائل النفس البشرية - وأياً
كانت دوافعها أو أشكالها؛ فقد صار أمراً مقتضياً أن تتعادل ضمانتا استقلال السلطة
القضائية وحيدتها في مجال اتصالهما بالفصل في الحقوق انتصافاً ترجيحاً لحقيقتها
القانونية، لتكون لهما معاً القيمة الدستورية ذاتها، فلا تعلو إحداهما على أخراهما
أو تجبها، بل تتضاممان تكاملاً، وتتكافآن قدراً.
ثالثاً: إن ضمانة الفصل
إنصافاً في المنازعات على اختلافها وفق نص المادة 67 من الدستور، تمتد بالضرورة
إلى كل خصومة قضائية، ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، وكذلك إلى كل
خصومة تأديبية يكون موضوعها ذنباً إدارياً؛ وقوامها أن يكون تحقيقها وحسمها عائداً
إلى جهة قضاء أو إلى هيئة منحها القانون اختصاص الفصل فيها بعد أن كفل استقلالها
وحيدتها، وأحاط الحكم الصادر فيها بضمانات التقاضي التي يندرج تحتها حق كل خصم في
عرض دعواه، وطرح أدلتها، والرد على ما يعارضها على ضوء فرص يتكافأ أطرافها فيها
جميعاً، ليكون تشكيلها وقواعد تنظيمها وطبيعة النظم المعمول بها أمامها، وكيفية
تطبيقها عملاً، محدداً للعدالة مفهوماً تقدمياً يلتئم مع المقاييس المعاصرة للدول
المتحضرة.
وحيث إن حق التقاضي
المنصوص عليه في المادة 68 من الدستور، مؤداه أن لكل خصومة - في نهاية مطافها -
حلاً منصفاً يمثل الترضية القضائية التي يقتضيها رد العدوان على الحقوق المدعى
بها. وتفترض هذه الترضية أن يكون مضمونها موافقاً لأحكام الدستور. وهي لا تكون
كذلك إذا كان تقريرها عائداً إلى جهة أو هيئة تفتقر إلى استقلالها أو حيدتها أو
هما معاً، ذلك أن هاتين الضمانتين - وقد فرضهما الدستور على ما تقدم - تعتبران
قيداً على السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق. ومن ثم يلحق
البطلان كل تنظيم تشريعي للخصومة القضائية على خلافهما.
وحيث إن إخلال أحد أعضاء
هيئة قضايا الدولة بالثقة والاعتبار اللذين ينبغي توافرهما فيه، أو بواجبات وظيفته
أو مقتضياتها، يعتبر ذنباً إدارياً مؤاخذاً عليه قانوناً. وإسناده إليه ينبغي أن
يكون مسبوقاً بتحقيق متكامل لا يقتصر على بعض عناصر الاتهام، بل يحيط بها جميعاً،
ويمحص أدلتها مع ضمان الفرص الكافية التي يقتضيها سماع أقوال العضو المحال إلى
التحقيق، فلا يكون التحقيق مبتسراً، أو مجرداً من ضمان موضوعيته، بل وافياً
أميناً، وكلما استكمل التحقيق عناصره؛ وكان واشياً بأن للتهمة معينها من الأوراق؛
كان عرضه لازماً على الجهة التي أولاها المشرع مسئولية الفصل فيه، بشرطين أولهما:
أن تكون قضائية في تشكيلها وضماناتها. ثانيهما: ألا يكون من بين أعضائها من اتصل
بإجراء سابق على توليها لمهامها سواء كان تحقيقاً أو اتهاماً، ذلك أن عضو الهيئة
القضائية يتولى وظيفة لها خطرها أوثق اتصالاً برسالتها. وادعاء الإخلال بها يكون
سقيماً إذا كان بغير دليل، نائياً عماً يعتبر غيا، فلا يتسم بالاندفاع أو التحامل
أو التعمل.
وحيث إن الدعوى التأديبية
- وعلى ما تنص عليه المادة 26 من قانون هيئة قضايا الدولة - لا تقام من وزير العدل
إلا بناء على طلب من رئيسها؛ وكان الأصل ألا يقدم هذا الطلب منه قبل أن يستكمل
التحقيق مجراه؛ وأن يكون قد أجال بصره فيه بعد عرضه عليه، مرجحاً - على ضوء
اعتقاده - ما إذا كان بنيانه متماسكاً أو متهادماً؛ منتهياً من ذلك إلى المضي في
الخصومة التأديبية أو التخلي عنها؛ وكان ذلك لا يعدو أن يكون رأياً مؤثراً في
موضوعية ضوابطها، وحائلاً دون تأسيسها على ضمانة الحيدة التي لا يجوز إسقاطها عن
أحد من المتقاضين لتسعهم جميعاً على تباينهم؛ فإن النص المطعون فيه يكون - في هذه
الحدود - مخالفاً للدستور.
وحيث إن رئيس الهيئة -
وعلى ما تنص عليه المادة 26 من قانونها - لا يقدم إلى وزير العدل طلبه برفع الدعوى
إلا بناء على تحقيق جنائياً كان، أم إدارياً. فإذا كان إدارياً تولاه أحد وكلاء
الهيئة إذا كان المجال إلى التحقيق مستشاراً بها. فإن كان دون ذلك أجراه مستشار في
إدارة التفتيش الفني، وكانت المادة 25 من قانون الهيئة تشكل لجنة التأديب
والتظلمات بها من رئيسها وعشرة من أعضائها من بين نوابه ووكلائها ومستشاريها وفق
أقدميتهم؛ وكان لا يجوز لجهة التحقيق ولا لسلطة الاتهام، أن تتصل بالجهة القضائية
التي عهد إليها المشرع بمهمة الفصل في الخصومة التأديبية، فلا يباشر عملاً فيها من
كان قائماً بالتحقيق الذي أفضى إليها، ضماناً لحيدتها وتوافر الأسس الموضوعية
لقراراتها؛ فإن تشكيل تلك اللجنة يكون كذلك - وفي هذه الحدود - مخالفاً للدستور.
وحيث إن ضمان الدستور لحق
الدفاع، قد تقرر باعتباره أحد الأركان الجوهرية لسيادة القانون، كافلاً للخصومة
القضائية عدالتها، وبما يصون قيمها، ويندرج تحتها ألا يكون الفصل فيها بعيداً عن
أدلتها، أو نابذاً الحق في إجهاضها من خلال مقابلتها بما يهدمها من الأوراق وأقوال
الشهود؛ فلا يكون بنيان الخصومة متحيفاً حقوق أحد من الخصوم؛ بل مكافئاً بين فرصهم
في مجال إثباتها أو نفيها؛ استظهاراً لحقائقها، واتصالاً بكل عناصرها. متى كان
ذلك؛ وكان نص الفقرة الثالثة من المادة 26 من قانون الهيئة، قد خلا مما يحتم سماع
أقوال العضو المحال إلى التحقيق، فإن مضمونه يكون دائراً في الفراغ، ولا يجوز أن
ينبني عليه اتهام.
وحيث إن ما ينعاه المدعي
من أن لجنة التأديب والتظلمات التي شكلها النص المطعون فيه لا تفصل في الخصومة
التأديبية بصفة قضائية، وأن أعضاءها تابعون لرئيسها بحكم وظائفهم مما يؤثر في
موضوعية قراراتها، مردود أولاً: بأن للخصومة التأديبية - في مجال العمل القضائي -
خصائصها ودقائقها التي ينافيها أن يطرح أمرها على غير أهلها: لتظل خفاياها وراء
جدران مغلقة لا تمتد إليها أبصار تريد هتكها؛ ولا آذن تتلصص عليه.
ومردود ثانياً: بأن أعضاء
هذه اللجنة يحتلون من الهيئة التي ينتمون إليها أعلى مواقعها، بل إن رئيسها
يتصدرها. وجميعهم مدركون أكثر من غيرهم نطاق وظائفها، والحدود التي ينبغي فيها على
أعضائها مباشرة واجباتهم؛ فلا يكون إسناد الفصل في الخصومة التأديبية إليهم تنصلاً
من ضماناتها؛ بل توكيداً لأولويتهم في مجال البصر بشئونه.
ومردود ثالثاً: بأن ما نص
عليه قانون الهيئة من أن أعضاءها تابعون لرؤسائهم، ثم لوزير العدل، لا يفيد خضوعهم
لسلطة يباشرها هؤلاء عليهم بما ينال من استقلالها في أداء وظائفهم.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة
قد جرى كذلك على أن قصر التقاضي في المسائل التي فصل فيها الحكم على درجة واحدة،
لا يناقض الدستور؛ وإنما يدخل في إطار السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في
مجال تنظيم الحقوق؛ وكان ما قرره النص المطعون فيه من امتناع الطعن في القرار
الصادر في الخصومة التأديبية بأي وجه، يبلور اتجاهاً عاماً نحاه المشرع فيما أورده
من نصوص نظم بها عديداً من الهيئات القضائية، واقفاً بالتقاضي في مجال الخصومة
التأديبية عند درجة واحدة، تقديراً منه لكفايتها في الفصل في الحقوق موضوعها؛ وكان
هذا التقدير من المشرع مبناه أسس موضوعية يظاهرها أن هذه الخصومة لا يفصل فيها إلا
من يحيطون بدقائقها، وبقرار يصدر بأغلبية ثلثي أعضائها، فلا يكون بعيداً في الأعم
من الأحوال عما يعتبر قضائياً حلاً منصفاً لها؛ فإن ما ينعاه المدعي من ذلك، يكون
مفتقراً إلى سنده.
وحيث إنه لما تقدم، يكون
النص الطعين فيه - مرتبطاً بنص المادة 26 من قانون هيئة قضايا الدولة - مخالفاً
لأحكام المواد 40 و65 و67 و68 و69 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة:
أولاً: بعدم دستورية نص
المادة 25 من قانون تنظيم هيئة قضايا الدولة الصادر بالقانون رقم 75 لسنة 1963،
وذلك فيما تضمنته من:
( أ ) أن يرأس لجنة التأديب
والتظلمات رئيس الهيئة الذي طلب من وزير العدل أن يقيم الدعوى التأديبية.
(ب) أن تفصل اللجنة المشار
إليها في الخصومة التأديبية ولو كان من بين أعضائها من شارك في التحقيق أو الاتهام.
ثانياً: بعدم دستورية نص
الفقرة الثالثة من المادة 26 من القانون المشار إليه، وذلك فيما لم يتضمنه من وجوب
سماع أقوال العضو في مرحلة التحقيق.
ثالثاً: برفض ما عدا ذلك
من الطلبات وألزمت الحكومة المصروفات، ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق