باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت التاسع من مارس سنة 2024م،
الموافق الثامن والعشرين من شعبان سنة 1445هـ.
برئاسة السيد المستشار/ بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة
المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم ومحمود محمد غنيم والدكتور عبد العزيز محمد
سالمان وطارق عبد العليم أبو العطا وعلاء الدين أحمد السيد وصلاح محمد الرويني
نواب رئيس المحكمة وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري رئيس هيئة
المفوضين وحضور السيد/ محمـد ناجي عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 62 لسنة 37
قضائية دستورية
المقامة من
هشام هلال صادق السويدي، رئيس مجلس إدارة شركة إنرجيا للصناعات
الحديدية
ضد
1- رئيس مجلس الوزراء
2- وزيـر العدل
3- النائـب العــام
---------------
" الإجراءات "
بتاريخ الثلاثين من مارس سنة 2015، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم
كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية نص المادة (68) من
قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003، وسقوط المادة (247) من القانون
ذاته.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم، أصليًّا: بعدم قبول
الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قدم المدعي مذكرة
صمم فيها على طلباته، لمخالفة النص المطعون فيه لأحكام المواد (13 و27 و28 و33 و35
و36) من الدستور، وقررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة اليوم.
----------------
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق -
في أن النيابة العامة أسندت إلى المدعي، في الدعوى رقم 10055 لسنة 2012 جنح العاشر
من رمضان، أنه في يوم 21/ 10/ 2012، بصفته صاحب عمل، وقَّع جزاء الفصل من الخدمة
على العامل/ أحمد رجب حامد، حال كونه غير مختص بتوقيعه، وقدمته إلى المحاكمة
الجنائية، طالبة عقابه بالمـواد (1 و3 و4 و68 و237 و247/ 1) من قانون العمـل
الصادر بالقانـون رقـم 12 لسنة 2003. وبتاريخ 28/ 1/ 2013، أصدر قاضي المحكمة
الجزئية أمرًا جنائيًّا - غيابيًّا - بتغريم المدعي مائة جنيه، فاعترض المدعي على
هذا الأمر أمام محكمة جنح مستأنف بلبيس، بالدعوى رقم 2401 لسنة 2015 جنح مستأنف،
وحال نظره بجلسة 16/ 3/ 2015، قدم وكيل المدعي مذكرة، ضمنها دفعًا بعدم دستورية نص
المادة (68) من ذلك القانون، وإذ قدرت المحكمة جدية هذا الدفع، وصرحت له باتخاذ
إجراءات الطعن بعدم الدستورية؛ فأقام الدعوى المعروضة، ناعيًا على النص المطعون
فيه استلابه سلطة صاحب العمل في إنهاء عقد العمل بإرادته المنفردة دون اللجوء إلى
القضاء، إذا أخل العامل إخلالًا جسيمًا بالتزاماته، وهو ما يتعارض مع طبيعة علاقة
العمل، وسلطة صاحب العمل في تنظيم سير العمل بمنشأته، وإدارتها على نحو يكفل
نجاحها وزيادة أرباحها، بما ينال من ملكيته، ويعطل مبدأ سلطـان الإرادة والرضائية
في العقود، مخالفًا بذلك المادتين (34 و64) من دستور 1971، فضلًا عن مخالفته مبادئ
الشريعة الإسلامية، وتعارضه مع أحكام المواد (147 و157 و694 و695) من القانون
المدني، كما أنه يمثل ردة عما كان منصوصًا عليه في المادة (61) من قانون العمل
السابق الصادر بالقانون رقم 137 لسنة 1981، من حق صاحب العمل في إنهاء علاقة
العمل، إما بالفسخ أو بفصل العامل من الخدمة تأديبيًّا.
وحيث إنه عن الدفع المبدى من هيئة قضايا الدولة بعدم قبول الدعوى
للتجهيل بالنصوص الدستورية المدعى مخالفتها، وأوجه المخالفة، فمردود بما هو مقرر
في قضاء هذه المحكمة من أن كل شكلية جوهرية فرضها المشرع لمصلحة عامة حتى ينتظم
التداعي وفقًا لحكمها لا يجوز فصلها عن دواعيها، وإلا كان القول بها إغراقًا في
التقيد بضوابطها، وانحرافًا عن مقاصدها، وأن التجهيل بالنصوص التشريعية،
والدستورية المدعى مخالفتها، وأوجه تلك المخالفة، يفترض أن يكون بيانها قد غمض
فعلًا بما يحول عقلًا دون تجليتها، فإذا كان إعمال النظر في شأنها، ومن خلال الربط
المنطقي بينها وبين الطلبات في الدعوى الموضوعية يفصح عن تحديدها، وما قصد إليه
الطاعن، فإن قالة التجهيل بها تكون غير قائمة على أساس. لما كان ذلك، وكانت صحيفة
الدعوى المعروضة قد تضمنت تحديدًا للنص المطعون فيه، وهو نص المادة (68) من قانون
العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003، كما أبانت صحيفة الدعوى أوجه المخالفة
الدستورية، على النحو السالف إيراده، وهو ما ينصرف إلى مخالفة النص المطعون فيه
لأحكام المواد (2 و13 و27 و28 و33 و35 و36 و54 و92) من الدستور، الأمر الذي تضحى
معه صحيفة الدعوى المعروضة مستوفية للبيانات الجوهرية التي تطلبها نص المادة (30)
من قانون هـذه المحكمة؛ ومن ثم فإن الدفع المبدى بعـدم قبـول الدعوى - في هذا
الخصوص - يكون فاقدًا لسنده.
وحيث إن المادة (68) من قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003
المعدل بالقانون رقم 180 لسنة 2008 تنص على أن يكون الاختصاص بتوقيع جزاء الفصل من
الخدمة للمحكمة العمالية المشار إليها في المادة (71) من هذا القانون.
ويكون توقيع باقي الجزاءات التأديبية لصاحب العمل أو من يفوضه لذلك.
ويكون لمدير المنشأة توقيع جزاءي الإنذار والخصم من الأجر لمدة لا
تجاوز ثلاثة أيام.
كما تنص الفقرة الأولى من المادة (247) من القانون ذاته على أن يعاقب
صاحب العمل أو من يمثله عن المنشأة بغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز خمسمائة
جنيه إذا خالف أيًّا من أحكام المواد ( ..... و68) من هذا القانون والقرارات
الوزارية المنفذة لها.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية -
مناطها - على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين
المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يؤثر الحكم في المسألة الدستورية
على الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع. متى كان ذلك، وكانت رحى النزاع
الموضوعي تدور حول اعتراض المدعي أمام محكمة جنح مستأنف بلبيس على الأمر الجنائي
الصادر ضده من قاضي محكمة جنح العاشر من رمضان، بتغريمه مائة جنيه، إزاء ما ثبت من
قيامه بفصل أحد العاملين لديه بإرادته المنفردة، بالمخالفة لنص المادة (68) من
قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003، التي تعقد الاختصاص بتوقيع هذا
الجزاء للمحكمة العمالية دون غيرها، وكانت المادة (68) المشار إليها هى التي خصت
المحكمة العمالية بتوقيع جزاء فصل العامل من الخدمة؛ ومن ثم فإن الفصل في
دستوريتها يرتب أثرًا مباشرًا وانعكاسًا أكيدًا على موقف المدعي من الاتهام المسند
إليه في الدعوى الموضوعية، وتتوافر له مصلحة شخصية ومباشرة في الطعن على دستوريتها
في الدعوى المعروضة، ويتحدد نطاق هذه الدعوى في نص الفقرة الأولى من المادة (68)
من قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003 المعدل بالقانون رقم 180 لسنة
2008، دون سائر ما تضمنته تلك المادة من أحكام أخرى.
وحيث إنه عن النعي بمخالفة النص المطعون فيه لأحكام المواد (147 و157
و694 و695) من القانون المدني، والمادة (61) من قانون العمل الصادر بالقانون رقم
137 لسنة 1981، فمردود بأن الرقابة القضائية التي تباشرها المحكمة الدستورية
العليا في شأن دستورية النصوص التشريعية، مناطها مخالفة تلك النصوص لقاعدة تضمنها
الدستور، ولا شأن لها بالتعارض بين نصين قانونيين جمعهما قانون واحد أو تفرقا بين
قانونين مختلفين، ما لم يكن هذا التعارض منطويًا - بذاته - على مخالفة دستورية؛
مما يتعين معه الالتفات عن هذا النعي.
وحيث إنه من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن حكم المادة
الثانية من دستور سنة 1971، بعد استبدالها في 22/ 5/ 1980 - والتي تردد حكمها في
المادة الثانية من الدستور الحالي - من أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي
للتشريع، يدل على أن الدستور أوردها ليفرض بمقتضاها قيدًا على السلطة التشريعية،
يلزمها فيما تقرره من النصوص القانونية بألا تناقض أحكامها مبادئ الشريعة
الإسلامية في أصولها الثابتة - مصدرًا وتأويلًا - والتي يمتنع الاجتهاد فيها، ولا
يجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها، ولا كذلك الأحكام الظنية غير
المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معًا، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ولا
تمتد إلى سواها، وهي بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان لضمان مرونتها
وحيويتها. وإذا كان الاجتهاد في الأحكام الظنية وربطها بمصالح الناس عن طريق
الأدلة الشرعية - النقلية منها والعقلية - حقًّا لأهل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا
الحق مقررًا لولي الأمر، ينظر في كل مسألة بخصوصها بما يناسبها، وبمراعاة أن يكون
الاجتهاد دومًا واقعًا في إطار الأصول الكلية للشريعة لا يتجاوزها، ملتزمًا
ضوابطها الثابتة، متحريًا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطة
لفروعها، كافلًا صون المقاصد الكلية للشريعة، بما تقوم عليه من حفاظ على الدين
والنفس والعقل والعرض والمال، مستلهمًا في ذلك كله حقيقة أن المصالح المعتبرة هي
تلك التي تكون مناسبة لمقاصد الشريعة ومتلاقية معها؛ ومن ثم كان على ولي الأمر عند
الخيار بين أمرين مراعاة أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وكان واجبًا كذلك ألا يشرع
حكمًا يضيق على الناس أو يرهقهم عسرًا، وإلا كان مصادمًا لقوله تعالى ما يريد الله
ليجعل عليكم من حرج (الآية 6 من سورة المائدة).
متى كان ما تقدم، وكان ما قضى به النص المطعون فيه، من إسناد الاختصاص
بتوقيع جزاء فصل العامل تأديبيًّا من الخدمة إلى المحكمة العمالية بناءً على طلب
صاحب العمل، دون أن يخوله إيقاع هذا الجزاء بإرادته المنفردة، لم يرد بشأنه نص
قطعي الثبوت والدلالة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومن ثم؛ فإن هذا
التنظيم التشريعي لعلاقة العمل يعتبر من المسائل التي يجوز الاجتهاد فيها تنظيمًا
لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعًا، ولا يعطل حركتهم في الحياة، وذلك
في إطار الأصول الكلية للشريعة، وبما يصون مقاصدها العامة. وترتيبًا على ذلك، يكون
النص المطعون فيه قد جاء موافقًا للمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، ولا مخالفة
فيه لمبادئها.
وحيث إن البيّن من استقراء أحكام قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12
لسنة 2003، أن المشرع قد ضمَّنه أحكامًا آمرة متعلقة بالنظام العام، لتنظيم علاقات
العمل وروابطه وإنهائه، ولإرساء الالتزامات المتبادلة بين العامل وصاحب العمل،
مستهدفًا تحقيق التوازن في علاقات العمل بين طرفي العملية الإنتاجية، بما لا يهدر
مصلحة لحساب المصلحة الأخرى، مراعيًا من خلال هذا التنظيم الحفاظ على الحقوق
الاجتماعية والمالية للعمال من جانب، والاستقرار الإداري والاقتصادي للمنشأة من
جانب آخر؛ فوضع تنظيمًا متكاملًا لفصم صاحب العمل عرى علاقة العمل غير محددة
المدة، في حالة ارتكاب العامل أيًّا من الأخطاء الجسيمة التي وردت أمثلة لها في
المادة (69) من قانون العمل سالف الذكر، فخوله حق الولوج إلى أحد طريقين: إما عرض
أمر الفصل على المحكمة العمالية المنصوص عليها في المادة (71) من قانون العمل
المار ذكره، المعدل بالقانون رقم 180 لسنة 2008، بالإجراءات الواردة في المواد
المنظمة لتأديب العامل، وإما النكوص عن ذلك، وإنهاء العقد بإرادته المنفردة،
إعمالًا لنص المادة (110) من ذلك القانون، بشرط إخطار العامل كتابة قبل الإنهاء.
وأجازت المادة (66) من ذلك القانون لصاحب العمل أن يوقف العامل عن العمل مؤقتًا،
لمدة لا تزيد على ستين يومًا، إذا طلب من المحكمة العمالية فصله من الخدمة، وناطت
المادة (71) من القانون ذاته بالمحكمة العمالية سلطة الفصل في هذا الطلب على وجه
السرعة، بحكم واجب النفاذ، ولو تم استئنافه خلال خمسة عشر يومًا من تاريخ أول جلسة.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن لكل حق أوضاعًا يقتضيها،
وآثارًا يرتبها، من بينها - في مجال حق العمل - ضمان الشروط التي يكون أداء العمل
في نطاقها منصفًا وإنسانيًّا ومواتيًا، فلا تنتزع هذه الشروط قسرًا من محيطها، ولا
ترهق بفحواها بيئة العمل ذاتها، أو تناقض بأثرها ما ينبغي أن يرتبط حقًّا وعقلًا
بالشروط الضرورية لأداء العمل بصورة طبيعية لا تحامل فيها. ومن ثم؛ لا يجوز أن
تنفصل الشروط التي يتطلبها المشرع لمباشرة عمل أو أعمال بذواتها عن متطلبات
ممارستها، وإلا كان تقريرها انحرافًا بها عن غايتها.
وحيث إن حرية التعاقد قاعدة أساسية يقتضيها الدستور، وهى فوق كونها من
الخصائص الجوهرية للحرية الشخصية، فإنها وثيقة الصلة بحرية العمل، وذلك بالنظر إلى
الحقوق التي يرتبها عقد العمل فيما بين أطرافه - أيًّا كان العامل أو صاحب العمل-
بيد أن هذه الحرية التي لا يكفلها انسيابها دون عائق، ولا جرفها لكل قيد عليها،
ولا علوها على مصالح ترجحها، وإنما يدنيها مـن أهدافهـا قدر التوازن بين جموحها وتنظيمها،
لا تعطلها تلك القيود التي تفرضها السلطة التشريعية عليها بما يحول دون انفلاتها
من كوابحها، ويندرج تحتها أن يكون تنظيمها لأنواع من العقود محددًا بقواعد آمرة،
تحيط ببعض جوانبها، غير أن هذه القيود لا يسعها أن تدهم الدائرة التي تباشر فيها
الإدارة حركتها، فلا يكون لسلطانها بعد هدمها من أثر.
وحيث إن من المقرر - أيضًا - في قضاء هذه المحكمة، أنه يتعين تفسير
النصوص التشريعية التي تنتظم مسألة معينة، بافتراض العمل بها في مجموعها، وأنها لا
تتعارض أو تتهادم فيما بينها، وإنما تتكامل في إطار الوحدة العضوية التي تنتظمها
من خلال التوفيق بين مجموع أحكامها، باعتبار أنها متآلفة فيما بينها، لا تتماحى
معانيها، وإنما تتضافر توجهاتها، تحقيقًا للأغراض النهائية والمقاصد الكلية التي
تجمعها، ذلك أن السياسة التشريعية لا يحققها إلا التطبيق المتكامل لتفاصيل
أحكامها، دون اجتزاء جزء منها ليطبق دون الجزء الآخر، لما في ذلك من إهدار للغاية
التي توخاها المشرع من ذلك التنظيم.
وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقـوق - على ما جرى
عليه قضاء هذه المحكمة - أنها سلطة تقديرية، ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط
تحد من إطلاقها، وتكون تخومًا لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها. وكان الدستور إذ
يعهد بتنظيم موضوع معين إلى السلطة التشريعية، فإن ما تقره من القواعد القانونية
بصدده، لا يجوز أن ينال من الحق محل الحماية الدستورية، سواء بالنقض أو الانتقاص،
ذلك أن إهدار الحقوق التي كفلها الدستور أو تهميشها، يعد عدوانًا على مجالاتها
الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها، بما مؤداه أن تباشر السلطة التشريعية
اختصاصاتها التقديرية - وفيما خلا القيود التي يفرضها الدستور عليها - بعيدًا عن
الرقابة القضائية التي تمارسها المحكمة الدستورية العليا، فلا يجوز لها أن تزن
بمعاييرها الذاتية السياسة التي انتهجها المشرع في موضوع معين، ولا أن تناقشها، أو
تخوض في ملاءمة تطبيقها عملًا، ولا أن تنتحل للنص المطعون فيه أهدافًا غير التي
رمى المشرع إلى بلوغها، ولا أن تقيم خياراتها محل عمل السلطة التشريعية، بل يكفيها
أن تمارس السلطة التشريعية اختصاصاتها تلك، مستلهمة في ذلك أغراضًا يقتضيها الصالح
العام في شأن الموضوع محل التنظيم التشريعي، وأن تكون وسائلها إلى تحقيق الأغراض
التي حددتها، مرتبطة عقلًا بها.
وحيث إن مبدأ خضوع الدولة للقانون مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق
التي يُعتبر التسليم بها في الدول الديمقراطية مفترضًا أوليًّا لقيام الدولة
القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وشخصيته المتكاملة، كما أن استقلال
السلطة القضائية، وإن كان لازمًا لضمان موضوعية الخضوع للقانون ولحصول من يلوذون
بها على الترضية القضائية التي يطلبونها عند وقوع عدوان على حقوقهم وحرياتهم، إلا
أن حيدتها عنصر فاعل في صون رسالتها، لا تقل شأنًا عن استقلالها، بما يؤكد
تكاملهما.
متي كان ما تقدم، وكان النص المطعون فيه قد أوجب على صاحب العمل إذا
ما ارتأى فصل العامل تأديبيًّا من الخدمة، لارتكابه خطأ جسيمًا ذا صلة بالعمل، أن
يطلب من المحكمة العمالية توقيع هذا الجزاء، وتفصل المحكمة في الطلب على ضوء ما
تستجليه من المبررات التي ساقها صاحب العمل، ودفاع العامل بشأنها؛ الأمر الذي
تتوافر معه الحماية اللازمة للعامل من جراء عسف صاحب العمل في استعمال السلطة،
ودون إهدار لحقوق صاحب العمل في إدارة وحسن سير منشأته، إذا كان لطلب فصل العامل
ما يبرره، وعلى هذا النحو فإن النص المطعون فيه يغدو متضمنًا - إلى جانب التوازن
بين طرفي علاقة العمل الذي يوجبه نص المادة (13) من الدستور- تنظيمًا آمرًا لحرية
التعاقد، بما يحول دون انفلاتها من كوابحها، بمراعاة أن النص ذاته، لم ينفصل عن
الأهداف التي سعى المشرع إلى تحقيقها في مسألة إنهاء علاقة العمل غير محددة المدة،
على النحو المار بيانه، ليتكامل التنظيم التشريعي لهذه المسألة في إطار وحدة
عضوية، وكان هذا التنظيم يقع في إطار سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق باعتبارها
سلطة تقديرية، ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، مستلهمًا في
تنظيمه لها أغراضًا يقتضيها الصالح العام؛ بما يكون معه النعي على النص المطعون
فيه بمخالفته المادتين (13 و14) من الدستور، غير قائم على سند صحيح، خليقًا برفضه.
وحيث إن الدستور قد أكد في المواد (27 و28 و36) منه على أهمية
الاستثمار وتشجيعه وتوفير المناخ الجاذب له، وتحفيز القطاع الخاص لأداء مسئوليته
الاجتماعية في خدمة الاقتصاد الوطني والمجتمع، وجعل ذلك التزامًا دستوريًّا على
عاتق الدولة، وهدفًا للنظام الاقتصادي تسعى إلى تحقيقه من خلال خطة التنمية التي
تضعها تنفيذًا له، كما اعتبر الحفاظ على حقوق العاملين أحد أهداف هذا النظام،
وعنصرًا جوهريًّا في تحقيق التوازن بين مصالح الأطراف المختلفة في علاقة العمل،
وقيدًا على كل تشريع يتم إقراره، ويتناول بالتنظيم أيًّا من تلك الحقوق، وفي هذا الإطار
ضمَّن الدستور نص المادة (92) منه قيدًا عامًا على سلطة المشرع التقديرية في مجال
تنظيم ممارسة الحقوق والحريات، بألا يترتب على ذلك تقييد ممارستها بما يمس أصلها
وجوهرها، وإلا وقع في حومة المخالفة للدستور.
وحيث إنه ولئن كان الدستور - في المادتين (33 و35) منه - قد كفل حق
الملكية الخاصة، وأحاطه بسياج من الضمانات التي تصون هذه الملكية، وتدرأ كل عدوان
عليها، فإنه في ذلك كله لم يخرج عن تأكيده على الدور الاجتماعي لحق الملكية، حيث
يجوز تحميلها ببعض القيود التي تقتضيها أو تفرضها ضرورة اجتماعية، مادامت لم تبلغ
هذه القيود مبلغًا يصيب حق الملكية في جوهره أو يعدم جل خصائصه.
وحيث كان ما تقدم، وكان النص المطعون فيه - محددًا نطاقًا على ما سلف
- ليس إلا حلقة من حلقات ضمان حقوق العمال، وخطوة صوب تأمين مستقبل الجاد منهم،
فلا تكون أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية رهنًا بقرار فصل يصدر من غير تبصر، أو
تعسف في استعمال الحق؛ ومن ثم فقد ناط المشرع بالمحكمة العمالية الفصل في طلب صاحب
العمل إيقاع ذلك الجزاء، كونها جهة قضاء تتمتع بالاستقلال والحيدة، فتقوم
بالموازنة بين المبررات التي ساقها صاحب العمل لفصل العامل تأديبيًّا، وما يبديه
العامل من دفاع بشأنها، ودعوة ممثل عن النقابة العمالية المختصة، وآخر عن منظمة
أصحاب الأعمال لسماع رأيهم. وعلى ضوء ما تستجليه المحكمة مما تقدم تفصل في الطلب،
بإجابة صاحب العمل لطلبه، أو برفضه، وهو ما يوفر الطمأنينة للعامل، ويحقق -
بالتالي - التوازن بين أطراف علاقة العمل في هذا الخصوص، بما يؤدي إلى استقرارها،
واستمرار التعاون بين أطرافها، ويسهم في دفع عجلة الإنتاج في كافة المشروعات، ودعم
مختلف الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية والخدمية، على نحو يوفر مناخًا جاذبًا
للاستثمار، ويحفز القطاع الخاص لأداء دوره في خدمة المجتمع والاقتصاد الوطني، بما
ينعكس على حماية ملكية صاحب العمل لأدوات الإنتاج. ومن ثم؛ تتوافق أحكام النص
المطعون فيه مع أحكام المواد (27 و28 و33 و35 و36) من الدستور.
وحيث إنه عن طلب سقوط نص المادة (247) من قانون العمل المشار إليه،
فمن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن طلب السقوط لا يعتبر طلبًا جديدًا منبت الصلة
بما دفع به أمام محكمة الموضوع، وإنما هو من قبيل التقديرات القانونية التي تملكها
المحكمة الدستورية العليا فيما لو قضت بعدم دستورية نص معين، ورتبت السقوط للمواد
الأخرى المرتبطة به ارتباطًا لا يقبل التجزئة، وهو أمر تقضي به المحكمة من تلقاء
نفسها، حتى ولو لم يطلبه الخصوم. متى كان ذلك، وكانت المحكمة قد انتهت فيما تقدم
إلى القضاء برفض الدعوى بشأن الطعن على دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (68)
من قانون العمل المار ذكره، فإن طلب سقوط نص المادة (247) من ذلك القانون يكون قد
ورد على غير محل.
وحيث إن النص المطعون فيه لا يتصادم وأي نص آخر من نصوص الدستور؛ فمن
ثم يتعين القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق