مجلة المحاماة
الخبراء في الخطوط في مصر
تُوفي شخص في ثغر الإسكندرية عن تركة جسيمة، فادعى نفر من الناس أن المتوفى أوصى لهم بحصة كبيرة من ماله ثم طعن الورثة في الوصية بالتزوير وقالوا إن الإمضاء المنسوبة إلى مورثهم ليست إمضاءه ولم تخطها يده، فعينت المحكمة ثلاثة خبراء من كبار رجال فن الخط فأجمعوا رأيهم على أن الإمضاء مزورة ثم طعن المُوصى لهم في تقرير الخبراء الثلاثة فندبت المحكمة خبراء ثلاثة آخرين من أشهر الخطاطين في مصر فأجمعوا رأيًا على أن الإمضاء صحيحة كتبها المورث بخط يده، ستة رجال من أشهر رجال الخط اختلفوا في أمر معرفة حقيقة الإمضاء الموجودة على الوصية وحارت المحكمة في أمر الإمضاء وفي أمر الخبراء فأمرت بتحقيق واقعة الإيصاء وسمعت شهادة الشهود فتبين لها من أقوالهم ومن ظروف وقرائن الواقعة أن الوصية صحيحة فحكمت للمُوصى لهم بالحصة المُوصى بها وأيدت محكمة الاستئناف حكمها.
قل لي وأبيك ماذا يكون حال المُوصى لهم وهم من ذوي الحيثيات الرفيعة في البلد لو كانت المحكمة أخذت بأقوال الخبراء الثلاثة الأول الذين قرروا بالإجماع أن الإمضاء مزورة.
ومن يستقرئ الحوادث التي تقع بين جدران المحاكم يجد وقائع كثيرة تشابه حادثة الوصية بينما يحد خبيرًا يقول بصحة الإمضاء تجد عشرة خبراء يقولون بتزويرها وقد يكون الخبير الأول أصدق وبينما نجد عشرة خبراء يقولون بصحة الإمضاء نجد واحدًا يقول بتزويرها وقد يكون رأي الخبير الأخير أصح، لهذا نجد القضاة لا يميلون عادة إلى الاعتداد برأي الخبراء كثيرًا بل يعتمدون في أحكامهم على التحقيقات التي يجرونها بأنفسهم وعلى الأدلة الكتابية والقرائن المعنوية وعلى شهادة الشهود أكثر من اعتمادهم على آراء الخبراء في الخطوط، لأن البينة والقرائن والأدلة أقوى في الإثبات وأحوط للحكم من استنتاج الخبراء في الخطوط ولاسيما أن الخبراء ليس لهم قواعد ثابتة يرجعون إليها لمعرفة صحة الخط أو تزويره، بينما تجد خبيرًا يستنتج التزوير من سنة الباء أو لفة الهاء أو ذيل الميم أو رأس الواو أو استدارة الكاف أو شرطة الألف أو تقويسة الحاء أو تقعيرة الخاء نجد خبيرًا آخر يستدل بهذه الأشكال نفسها على صحة الإمضاء، وبينما تجد زيدًا الخبير يستدل على التزوير من استدارة الحرف أو استطالته أو اعوجاجه تجد زميله يستنتج الصحة من نفس الاستدارة أو الاستطالة أو الاعوجاج، وإن واجهت الخبيرين قالا لك إن المسألة مسألة نظر، ولعل اختلاف النظر هذا هو الذي حدا بالشارع إلى إطلاق الحرية للقضاء في الأخذ أو في عدم الأخذ برأي الخبراء، تركهم أحرارًا في تكوين عقيدتهم من مجموع الأدلة والقرائن التي تعرض عليهم بغير أن يقيدهم برأي الخبراء حتى ولو اتفق الخبراء جميعًا على رأي واحد.
قرأنا في الجرائد ذات يوم أن أحد حضرات المحامين سأل خبيرًا في الخطوط (استشهد البعض برأيه أمام المحكمة العسكرية) عن صناعته لتقدير رأيه في عملية المضاهاة، فأجابه الخبير بأنه كان باشكاتبًا لمحكمة مصر الشرعية ونُقل إلى دفتر خانة مجلس الوزراء وأن اسمه غير مقيد في جدول الخبراء، فالتفت رئيس المحكمة العسكرية إلى زملائه ثم بدرت منه ابتسامة ذات معنى، معناها طبعًا كيف يمكن للقضاء أن يثق برأي خبير في الخطوط وليس الخط صناعته ما دامت صناعته الكتابية تباين صناعة الخبراء في الخطوط.
في مصر يخلطون بين الكاتب والخطاط والبون بينهما بعيد، ويظنون أيضًا أن كل خطاط يصح أن يكون خبيرًا في مضاهاة الخطوط، وهو خطأ فاحش، لأن عميلة مضاهاة الخطوط ليست عملية فنية فقط بل هي عملية علمية أيضًا، العمدة فيها ليس على فن الخط وحده، بل يجب الاستعانة بالنظريات العملية أيضًا، كون حروف الكلمات مقعرة أو محدبة أو مستديرة أو مستطيلة أو فيها وقفات أو تقطعات وكون الحبر باهتًا أو زاهيًا، وكون الخط مكتوبًا بريشة أو قلم أو بما شاكل ذلك ليس كل ما يهم الخبير ملاحظته لاستنباط أدلة التزوير أو أدلة الصحة، بل هناك مسائل جمة معنوية يجب على خبراء الخطوط العلم بها والبحث فيها والتحقق منها قبل تكوين رأي باتً في أمر التزوير أو في أمر الصحة.
فمن القواعد الصحيحة التي يجب على كل خبير في الخطوط أن يجعلها نصب عينيه وقت المضاهاة القاعدة التي مقتضاها أن الخط يتنوع بتنوع حالة الشخص العقلية ويتغير بتغير حالته النفسية ويتطور بتطور حالته الجسدية، الكلمات التي يكتبها زيد وهو قوي البنية تختلف عن الكلمات نفسها التي يكتبها زيد بنفسه وهو ضعيف البنية والكلمات التي يكتبها وعقله سليم تباين الكلمات نفسها إذا كتبها وعقله غير حافظ توازنه الطبيعي والكلمات التي يكتبها الشخص وباله مطمئن لا تشبه الكلمات نفسها إذا كتبها وروعه مضطرب والكلمات التي يكتبها خالد وهو هادئ الأعصاب لا تشابه الكلمات نفسها إذا كتبها وأعصابه هائجة، وكتابة الشخص في سن العشرين ليست مثلها وهو في سن الأربعين، وكتابة المرأة نوع وكتابة الرجل نوع، فخطوط الشخص تتنوع بتنوع حالاته العقلية والنفسية والجسدية.
كل هذا متفرع من قاعدة علمية وهي أن الخط مرتبط بمراكز الشخص المخية، والمراكز المخية هي مراكز الحركة التي منها حركة اليد، كل حركة تسطرها يد الكاتب تعبر عن حركات مخية، ولا يخفى أن المخ شديد التأثر سريع التشكل، فالمرض والصحة والشيخوخة والشبيبة والسكر واليأس والفرح والغم والغضب والعشق والذهول والبله والتأني والتسرع والبخل والإسراف وسائر الحالات التي تؤثر في العقل وفي الفكر وفي النفس وفي الجسم عوامل مهمة يجب أن يراعيها القضاة والخبراء في وقت المضاهاة وعند تحقيق الخطوط ولدى الحكم.
أعرف خبيرًا أفتى بتزوير إمضاء بحجة خلو الإمضاء من بعض نقط ومن بعض شرط وبحجة وجود حرف مشطور شطرين، مع أن النظريات العلمية الصحيحة تعلمنا أن شطر بعض الكلمات شطران أو أكثر ليس دليلاً على التقليد لأن المشاهدات دلت على أن شطر بعض الكلمات شطرين أو أكثر وترك بعض النقط وبعض الشرط قد يكون سببه ضعف ذاكرة الكاتب أو نتيجة اضطراب أو أثر من آثار حالة نفسية مثل حزن شديد أو غم وما شابه ذلك، أو أن حركة عقل كاتبها تُخالف حركة عقل كاتب آخر يوصل الكلمات بعضها ببعض.
وقد وجدوا بالاختبار أن فكر بعض الكتَّاب ينحصر وقت الكتابة في نطاق محدود ينصرف إليه المجهود العصبي فلا يتعداه، فتجد في كتاباته وقفات وتقطعات وحركات قلمية تدل على الذلل أو الاضطراب أو ضعف الذاكرة أو الخوف أو اليأس أو حالات نفسية أخرى ينتقل أثرها من النفس إلى اليد ثم إلى الورقة فيظن الخبير أن هذه الآثار دالة على التقليد، وما هي إلا آثار انفعالات نفسية أو تطورات عقلية أو فكرية لا علاقة لها بفن الخط من حيث هو، مثل هذه النظريات العلمية يجب أن تراعي عند تحقيق الخطوط مثل ما تراعي القواعد الفنية في الخط تمامًا بل ربما كانت القواعد العلمية أشد والاستنباط بها أصح إنما دعانا إلى عرض هذا البحث على أنظار رجال القضاء ورجال المحاماة في مصر ما نراه كل يوم بين جدران المحاكم من المظالم التي تُبنى على رأي أشخاص ليسوا على شيء من فن الخطوط وليسوا على شيء من هذه النظريات العلمية الرشيدة، فيجب على من يهمهم الأمر أن يضعوا حدًا لهذه الفوضى السائدة في المحاكم فإن تبعة القضاء بالظلم واقعة على من بيدهم زمام العدل في مصر، وهذا واجب لا تبرأ ذمة الحكومة إلا بأدائه والسلام.
عزيز خانكي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق