جلسة 19 مايو سنة 1941
برياسة سعادة مصطفى محمد
باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات، عبد الفتاح السيد بك ومحمد كامل الرشيدي بك وسيد
مصطفى بك وحسن زكي محمد بك المستشارين.
---------------
(259)
القضية رقم 697 سنة 11
القضائية
(أ ) إجراءات المحاكمة.
ادعاء مخالفتها. سبيل
الإثبات. العبرة في مخالفة الإجراءات أو عدم مخالفتها بحقيقة الواقع. عدم الإشارة
في محضر الجلسة أو في الحكم إلى شيء خاص بها. مجرّد الإشارة خطأ إلى شيء منها. لا
يبرر بذاته القول بوقوع المخالفة.
(المادة 229 تحقيق)
(ب) حكم.
قاضٍ لم يحضر تلاوة
الحكم. توقيعه على نسخة الحكم الأصلية. الغرض منه. مجرّد عدم توقيعه. لا يبطل
الحكم. التوقيع على مسودّة الحكم لا على نسخته الأصلية. لا يبطله. مناط البطلان.
عدم اشتراك القاضي في إصدار الحكم.
(المادتان 100 و102
مرافعات)
(جـ) قاضٍ.
نقله إلى محكمة أخرى. متى
تزول عنه ولاية القضاء في المحكمة المنقول منها؟ تبليغه مرسوم النقل بصفة رسمية من
وزير العدل.
زنا:
(د) دعوى الزوج. المراد
منها. مجرّد شكواه أو طلبه رفع الدعوى.
(المادتان 235 و239 ع =
273 و277)
(هـ) دعوى الزنا. الفرق
بينها وبين سائر الدعاوى العمومية. تقديم البلاغ والتنازل عنه. تقديم الزوج شكواه.
جريان إجراءات التحقيق والمحاكمة فيها.
)و) متهم بالزنا. الأدلة
التي تقبل وتكون حجة عليه. المرأة. إثبات الزنا عليها. يصح بطرق الإثبات كافة.
(المادة 238 ع = 276)
(ز) متهم بالزنا. أدلة الإثبات. التلبس. المقصود
منه. جواز إثباته بشهادة من شاهدوا هذه الحالة. حالة التلبس في هذه الجريمة غير
الحالة المعرّفة في المادة 8 تحقيق. الغرض من المادة 8 تحقيق. مشاهدة الجاني حال
ارتكابه الزنا بالفعل. لا يشترط.
(ع) متهم بالزنا. أدلة الإثبات.
لا يشترط أن يكون الدليل مباشراً بذاته. عدم صراحة الدليل. لا مانع من الاعتماد
عليه.
(المادة 238 ع = 276)
(ط) قانون. تطبيقه.
حق القاضي
في الرجوع إلى الوثائق التشريعية والأعمال التحضيرية لتحديد معنى الألفاظ الواردة
في نصوص القانون.
(ي) تنازل الزوج.
ادّعاء
الزوجة حصول التنازل ضمناً. تحصيل القاضي من الأدلة والوقائع. عدم قيام التنازل.
تحصيل سائغ. لا تجوز مناقشته فيه.
(ك) سرية المكاتبات.
اعتقاد الزوج بوجود وسائل غرام من عشيق زوجته في حقيبة يدها الموجودة في بيته. حقه
في الاستيلاء على هذه الرسائل ولو خلسة. استشهاده بها على زوجته. جوازه.
(ل) واقعة زنا حصلت في
بلد أجنبية. تحقيقها هنالك وتعليق الدعوى. محاكمة المتهم عن واقعة أخرى حصلت هنا.
جوازها.
(م) إثبات.
صور
فوتوغرافية للأوراق. متى يجوز الاستشهاد بها في الدعاوى الجنائية؟
(ن) حكم.
مداولة القاضي
في القضية لإصدار الحكم. محاسبته عما أجزاء في أثناء ذلك. لا يجوز.
---------------
1 - إن الشارع في المادة
229 من قانون تحقيق الجنايات قد نص على أن الأصل في إجراءات المحاكمة هو اعتبار
أنها جميعاً - على اختلاف أهميتها - قد روعيت أثناء الدعوى، على ألا يكون من وراء
ذلك إخلال بما لصاحب الشأن من الحق في أن يثبت أن تلك الإجراءات قد أهملت أو خولفت
في الواقع. وذلك بكل الطرق القانونية إلا إذا كان ثابتاً بمحضر الجلسة أو بالحكم
أن هذه الإجراءات قد روعيت، ففي هذه الحالة لا يكون لمن يدعي مخالفتها سوى أن يطعن
بالتزوير في المحضر أو في الحكم. وهذا يلزم عنه أن تكون العبرة في مخالفة
الإجراءات أو عدم مخالفتها هي بحقيقة الواقع. ولذلك فإن مجرّد عدم الإشارة في محضر
الجلسة أو في الحكم إلى شيء خاص بها أو مجرّد الإشارة خطأ إلى شيء منها لا يبرر في
حدّ ذاته القول بوقوع المخالفة بالفعل، بل يجب على من يدعي المخالفة أن يقيم
الدليل على مدعاه بالطريقة التي رسمها القانون.
2 - إن الشارع إذ نص في
المادة 102 من قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية على أنه إذا حصل لأحد
القضاة الذين سمعوا الدعوى مانع يمنعه من الحضور وقت تلاوة الحكم فيكتفى أن يوقع
على نسخة الحكم الأصلية قبل تلاوته - إذ نص على ذلك، ولم ينص على البطلان إذا لم
يحصل هذا التوقيع مع أنه عني بالنص عليه بصدد مخالفة الإجراءات الواردة في المواد
السابقة على هذه المادة والمواد التالية لها مباشرة، إنما أراد بإيجابه التوقيع
مجرّد إثبات أن الحكم صدر ممن سمع الدعوى، ولم يرد أن يرتب على مخالفة هذا الإجراء
أي بطلان، فإذا لم يوجد أي توقيع للقاضي الذي سمع الدعوى ولم يحضر النطق بالحكم
فلا بطلان ما لم يثبت أن هذا القاضي لم يشترك بالفعل في إصدار الحكم، ففي هذه
الحالة يكون الحكم باطلاً كما تقول المادة 100 من القانون المذكور. وكلما ثبت
اشتراط هذا القاضي في الحكم كان الحكم صحيحاً مهما كانت طريقة الثبوت. فالتوقيع
على مسودّة الحكم لا على النسخة الأصلية لا يبطل الحكم.
3 - إن صدور مرسوم بنقل
القاضي من محكمة إلى أخرى أو بترقية في السلك القضائي إلى أعلى من وظيفته بمحكمة
أخرى لا يزيل عنه ولاية القضاء في المحكمة المنقول منها إلا إذا أبلغ إليه المرسوم
من وزير العدل بصفة رسمية.
4 - إن المادتين 273 و277
من قانون العقوبات الحالي (المقابلتين للمادتين 235 و239 قديم) إذ قالتا عن
المحاكمة في جريمة الزنا بأنها لا تكون إلا بناءً على دعوى الزوج لم تقصد بكلمة
"دعوى" إلى أكثر من مجرّد شكوى الزوج أو طلبه رفع الدعوى.
5 - إن جريمة الزنا ليست
إلا جريمة كسائر الجرائم تمس المجتمع لما فيها من إخلال بواجبات الزواج الذي هو
قوام الأسرة والنظام الذي تعيش فيه الجماعة، ولكن لما كانت هذه الجريمة تتأذى بها
في ذات الوقت مصلحة الزوج وأولاده وعائلته فقد رأى الشارع في سبيل رعاية هذه
المصلحة أن يوجب رضاء الزوج عن رفع الدعوى العمومية بها. وإذ كان هذا الإيجاب قد
جاء على خلاف الأصل كان من المتعين عدم التوسع فيه وقصره على الحالة الوارد بها
النص. وهذا يقتضي اعتبار الدعوى التي ترفع بهذه الجريمة من الدعاوى العمومية في
جميع الوجوه إلا ما تناوله الاستثناء في الحدود المرسومة له، أي فيما عدا البلاغ
وتقديمه والتنازل عنه. وإذن فمتى قدّم الزوج شكواه فإن الدعوى تكون ككل دعوى تجري
فيها جميع الأحكام المقرّرة للتحقيق الابتدائي وتسري عليه إجراءات المحاكمة، ولا
يجوز تحريكها ومباشرتها أمام المحاكم من صاحب الشكوى إلا إذا كان مدّعياً بحق مدني.
6 - إن المادة 276 من
قانون العقوبات الحالي المقابلة للمادة 238 من قانون العقوبات القديم لم تقصد
بالمتهم بالزنا في قولها "إن الأدلة التي تقبل وتكون حجة على المتهم بالزنا
هي القبض عليه حين تلبسه بالفعل أو اعترافه أو وجود مكاتيب أو أوراق آخر مكتوبة
منه أو وجوده في منزل مسلم في المحل المخصص للحريم" - لم تقصد بذلك سوى الرجل
الذي يرتكب الزنا مع المرأة المتزوّجة، فهو وحده الذي رأى الشارع أن يخصه بالأدلة
المعينة المذكورة بحيث لا تجوز إدانته إلا بناءً على دليل أو أكثر منها. أما
المرأة فإثبات الزنا عليها يصح بطرق الإثبات كافة وفقاً للقواعد العامة.
7 - إن المادة 276
المذكورة إذ نصت على التلبس بفعل الزنا كدليل من أدلة الإثبات على المتهم بالزنا
مع المرأة المتزوّجة لم تقصد التلبس كما عرفته المادة 8 من قانون تحقيق الجنايات.
وإذن فلا يشترط فيه أن يكون المتهم قد شوهد حال ارتكابه الزنا بالفعل، بل يكفي أن
يكون قد شوهد في ظروف لا تترك عند القاضي مجالاً للشك في أنه ارتكب فعل الزنا.
وإثبات هذه الحالة غير خاضع لشروط خاصة أو أوضاع معينة. فلا يجب أن يكون بمحاضر
يحرّرها مأمورو الضبطية القضائية في وقتها، بل يجوز للقاضي أن يكوّن عقيدته في
شأنها من شهادة الشهود الذين يكونون قد شاهدوها ثم شهدوا بها لديه. وذلك لأن الغرض
من المادة 8 من قانون تحقيق الجنايات غير الغرض الملحوظ في المادة 276 المذكورة.
إذ المقصود من الأولى هو بيان الحالات الاستثنائية التي يخوّل فيها لمأموري
الضبطية القضائية مباشرة أعمال التحقيق مما مقتضاه - لكي يكون عملهم صحيحاً - أن
يجروه ويثبتوه في وقته. أما الثانية فالمقصود منها ألا يعتمد في إثبات الزنا على
المتهم به إلا على ما كان من الأدلة صريحاً ومدلوله قريباً من ذات الفعل إن لم يكن
معاصراً له، لا على أمارات وقرائن لا يبلغ مدلولها هذا المبلغ.
8 - إن القانون في المادة
276 المذكورة بتحديده الأدلة التي لا يقبل الإثبات بغيرها على الرجل الذي يزني مع
المرأة المتزوّجة لا يشترط أن تكون هذه الأدلة مؤدية بذاتها فوراً ومباشرة إلى
ثبوت فعل الزنا. وإذن فعند توافر قيام دليل من هذه الأدلة المعينة - كالتلبس أو
المكاتيب - يصح للقاضي أن يعتمد عليه في ثبوت الزنا ولو لم يكن صريحاً في الدلالة
عليه ومنصباً على حصوله. وذلك متى اطمأن بناءً عليه إلى أن الزنا قد وقع فعلاً.
وفي هذه الحالة لا تقبل مناقشة القاضي فيما انتهى إليه على هذه الصورة إلا إذا كان
الدليل الذي اعتمد عليه ليس من شأنه أن يؤدي إلى النتيجة التي وصل إليها. ذلك لأنه
بمقتضى القواعد العامة لا يجب أن يكون الدليل الذي يبنى عليه الحكم مباشراً بل للمحاكم
-وهذا من أخص خصائص وظيفتها التي أنشئت من أجلها - أن تكمل الدليل مستعينة بالعقل
والمنطق وتستخلص منه ما ترى أنه لا بد مؤدٍ إليه.
9 - إنه وإن كان من
المقرّر أنه لا عقوبة إلا بنص يعرّف الفعل المعاقب عليه ويبيّن العقوبة الموضوعة
له مما مقتضاه عدم التوسع في تفسير نصوص القانون الجنائي وعدم الأخذ فيه بطريق
القياس إلا أن ذلك ليس معناه أن القاضي ممنوع من الرجوع إلى الوثائق التشريعية
والأعمال التحضيرية لتحديد المعنى الصحيح للألفاظ التي ورد بها النص حسبما قصده
واضع القانون. والمفروض في هذا المقام هو إلمام الكافة بالقانون بمعناه الذي قصده
الشارع ما دامت عبارة النص تتحمل هذا المعنى ولا تتعارض معه.
10 - إن التنازل الذي
يدعي صدوره من الزوج المرفوعة دعوى الزنا بناءً على شكواه لا يصح افتراضه والأخذ
فيه بطريق الظن، لأنه نوع من الترك لا بد من إقامة الدليل على حصوله. والتنازل إن
كان صريحاً، أي صدرت به عبارات تفيده ذات ألفاظها، فإن القاضي يكون مقيداً به، ولا
يجوز له أن يحمّله معنى تنبو عنه الألفاظ. أما إن كان ضمنياً، أي مستفاداً من
عبارات لا تدل عليه بذاتها أو من تصرفات معزوّة لمن نسب صدورها إليه، كان للقاضي
أن يقول بقيامه أو بعدم قيامه على ضوء ما يستخلصه من الأدلة والوقائع المعروضة
عليه. ومتى انتهى إلى نتيجة في شأنه فلا تجوز مناقشته فيها إلا إذا كانت المقدّمات
التي أقام عليها النتيجة لا تؤدي إليها على مقتضى أصول المنطق.
11 - إن الزوج في علاقته
مع زوجه ليس على الإطلاق بمثابة الغير في صدد السرية المقرّرة للمكاتبات، فإن
عشرتهما وسكون كل منهما إلى الآخر، وما يفرضه عقد الزواج عليهما من تكاليف لصيانة
الأسرة في كيانها وسمعتها - ذلك يخوّل كلاً منهما ما لا يباح للغير من مراقبة
زميله في سلوكه وفي سيره وفي غير ذلك مما يتصل بالحياة الزوجية لكي يكون على بينة
من عشيره. وهذا يسمح له عند الاقتضاء أن يتقصى ما عساه يساوره من ظنون أو شكوك
لينفيه فيهدأ باله أو ليتثبت منه فيقرّر فيه ما يرتئيه. وإذن فإذا كانت الزوجة قد
حامت حولها عند زوجها شبهات قوية فإنه يكون له أن يستولي - ولو خلسة - على ما
يعتقد بوجوده من رسائل العشق في حقيبتها الموجودة في بيته وتحت بصره. ثم أن يستشهد
بها عليها إذا رأى محاكمتها جنائياً لإخلالها بعقد الزواج.
12 - إن عدم الفصل في
واقعة زنا حصلت في بلد أجنبية (فرنسا) وحققت هناك لا يمنع من محاكمة المتهم عن
واقعة أخرى حصلت في مصر تكوّن وحدها - بغض النظر عن الواقعة الأخرى - جريمة الزنا.
13 - يصح في الدعاوى
الجنائية الاستشهاد بالصور الفوتوغرافية للأوراق متى كان القاضي قد اطمأن من أدلة
الدعوى ووقائعها إلى أنها مطابقة تمام المطابقة للأصول التي أخذت عنها. وتقديره في
هذا الشأن لا تصح المجادلة فيه لدى محكمة النقض لتعلقه بموضوع الدعوى وكفاية
الثبوت فيها.
14 - متى كان القاضي قد
سمع الدعوى وفقاً للأوضاع المقرّرة في القانون فلا يصح - إذا ما خلا إلى نفسه
ليصدر حكمه فيها - أن يحاسب عما يجريه في هذه الخلوة، وعما إذا كانت قد اتسعت له
للتروّي في الحكم قبل النطق به أو ضاقت عن ذلك، فإن مردّ ذلك جميعاً إلى ضمير
القاضي وحده لا حساب عنه لأحد ولا يمكن أن يراقبه أحد فيه.
الوقائع
تتحصل وقائع هذه الدعوى -
على ما يؤخذ من أوراقها المنضمة - في أن المدّعي بالحق المدني....... رفعها مباشرة
إلى محكمة جنح العطارين الجزئية ضدّ الطاعنين بعريضة أعلنها إليهما في 19 من يناير
سنة 1939 ووجه إليهما فيها أنهما في خلال السنتين السابقتين على تاريخ إعلانها
بدائرة قسم الرمل ارتكبا معاً جريمة الزنا حالة كون الأولى متزوّجة به. وطلب إلى
المحكمة من أجل ذلك معاقبتهما بالمادتين 274 و275 من قانون العقوبات مع القضاء له
عليهما متضامنين بقرش واحد على سبيل التعويض.
وقيدت القضية بجدول تلك
المحكمة تحت رقم 441 جنح قسم الرمل لسنة 1939. ولدى نظرها دفعت النيابة في جلسة 21
مارس سنة 1939 بعدم قبول الدعوى لبطلان إجراءاتها بالنسبة للمدّعى عليه الثاني إذ
لم ترفع عنه الحصانة البرلمانية بعد، وترافع الخصوم في هذا الدفع، ثم قضت المحكمة
في شأنه بتاريخ 4 إبريل سنة 1939 ببطلان إعلان عريضة الدعوى للمدّعى عليه المذكور
واستبعاد القضية من الرول بالنسبة له وبإرجاء نظرها بالنسبة للمدّعى عليها الأولى
لجلسة مقبلة.
ولما وافق مجلس النوّاب
على رفع الحصانة عن المدّعى عليه الثاني كطلب المدّعي المدني أعلنه هذا الأخير مرة
ثانية بعريضة الجنحة المباشرة وطلب فيها معاقبته عن الوقائع التي حصلت في باريس
أيضاً والتي بينها له في العريضة.
وبجلسة 27 يونيه سنة 1939
عدّل المدّعي المدني وصف التهمة في مواجهة المتهمين معاً بالوصف الوارد في
إعلان....... على اعتبار أن الوقائع كلها، ما حصل منها في الإسكندرية وما حصل منها
في باريس، إنما تكون جريمة واحدة. وعارضت النيابة في هذا التعديل، ودفعت بعدم جواز
نظر الدعوى عن الوقائع المقول بحصولها في باريس لأن الدعوى العمومية لا تجوز
إقامتها في مثل هذه الصورة طبقاً للمادة 4 من قانون العقوبات إلا من النيابة
العامة وهي قد أمرت بحفظ الشكوى بالنسبة لتلك الوقائع فأصبحت مقيدة بقرارها هذا،
ولم تعارض في تحريك المدّعي المدني للدعوى العمومية بشأن وقائع الإسكندرية ولو
أنها قرّرت إرجاء التحقيق بشأنها إلى أجل غير مسمى حتى يصدر الحكم عنها من القضاء
الفرنسي.
وفي الجلسات التالية عدّل
المدّعي المدني طلب التعويض إلى واحد وعشرين جنيهاً يلزم بها المدّعى عليهما
متضامنين على سبيل التعويض له عما ناله من ضرر. ودفع المتهمان فرعياً بعدم جواز
نظر الدعويين العمومية والمدنية لأنه لا يجوز أن يحاكم المتهم مرتين، وقد طرحت
القضية على محاكم فرنسا فلا يجوز عرضها بعد ذلك على المحاكم المصرية لأن موضوع
الخصومة واحد سواء كان الدليل عليها ما وقع في مصر أو ما وقع في باريس، بل إن
المدّعي المدني - أكثر من هذا - ما كان يحق له أن يتقدّم للقضاء الفرنسي بعد أن
علم بالعلاقة ثم قبل معاشرة زوجه على حدّ قوله. وأتمت المحكمة سماع أقوال الخصوم
ورأي النيابة في الدفوع التي أبديت وفي موضوع الدعوى وقامت بعمل معاينة رأت
ضرورتها للتحقق من أقوال الشهود، ثم حكمت حضورياً بتاريخ 5 ديسمبر سنة 1939:
(أوّلاً) بقبول الدفع المقدّم من النيابة ورفض الدفع المقدّم من المتهمين وجواز
نظر الدعويين العمومية والمدنية عن جميع الوقائع عدا ما حصل منها في باريس.
(وثانياً) في موضوع الدعوى العمومية بمعاقبة كل من المتهمين بالحبس أربعة شهور مع
الشغل وبإيقاف تنفيذ العقوبة لخمس سنوات من اليوم الذي يصبح الحكم فيه نهائياً
وذلك عملاً بالمواد 274 و275 و276 و55 و56 من قانون العقوبات. (وثالثاً) عن الدعوى
المدنية بإلزام المدّعى عليهما متضامنين بأن يدفعا للمدّعي المدني واحداً وعشرين جنيهاً
تعويضاً والمصاريف المدنية وعشرة جنيهات مقابل أتعاب المحاماة تطبيقاً للمادة 151
من القانون المدني. استأنف المتهمان هذا الحكم في 12 مايو سنة 1939 وقيدت القضية
استئنافياً برقم 1744 سنة 1940. وفي أثناء نظرها أمام محكمة إسكندرية الابتدائية
الأهلية دفع المتهمان فرعياً ببطلان كل إجراء اتخذته النيابة أو المحكمة في الدعوى
لأنها دعوى فردية بل دعوى مدنية لا يملكها إلا الزوج، وكذلك ببطلان الدليل المستمد
من الصور الشمسية للرسائل المنسوب صدورها من المتهم الثاني للمتهمة الأولى إذ
استولى الزوج على أصولها من طريق غير مشروع، كما نسبا إلى المدّعي المدني أنه
تنازل عن الدعوى فلا يحق له أن يقيمها ثانية، واستند في ذلك إلى سكوته عن التبليغ
بعد اطلاعه على ما كان بين المتهمين من علاقة غير شريفة بمدينة الإسكندرية وإلى
أنه ظل يعاشرها بعد ذلك وكان يرسل إليها رسائل تحمل معاني الود والتدليل. وأتمت
المحكمة سماع الدعوى، ثم حكمت فيها حضورياً بتاريخ 28 أغسطس سنة 1940 بقبول
الاستئناف شكلاً وبرفض الدفوع المقدّمة من المتهمين وفي موضوع الاستئناف بتأييد
الحكم المستأنف مع إلزام المتهمين بالمصاريف المدنية الاستئنافية وألف قرش مقابل
أتعاب المحاماة للمدّعي المدني. فطعن المحكوم عليهما في الحكم الاستئنافي بطريق
النقض.
المحكمة
ومن حيث إن الطاعنين
يستندان في أوجه الطعن المقدّمة منهما معاً على الحكم إلى وجوه متنوّعة قسماها إلى
طوائف وأوردا تحت كل طائفة ما فرعاه عنها من جزئيات. الطائفة الأولى: يقول
الطاعنان إن الحكم المطعون فيه بذاته يعتبر غير موجود أي باطلاً من نفسه، وذلك:
(أوّلاً) لأن الحكم الذي يجب أن يصدر من ثلاثة قضاة لا بد أن يدوّن ضمن بياناته
أنه صدر من هؤلاء القضاة الثلاثة بالاسم، وأن يكون فيه ما يدل على أن هؤلاء القضاة
هم الذين سمعوا المرافعة في الدعوى. وقد نص على ذلك في المادة 100 من قانون
المرافعات في المواد المدنية والتجارية، لكن الحكم المطعون فيه بعد أن ذكر أنه صدر
"تحت رياسة حضرة صاحب العزة محمد توفيق رضوان بك رئيس المحكمة وبحضور حضرتي
فؤاد عزيز ويحيى مسعود القاضيين" انتهى بذكر أنه "تحت رياسة حضرة أبو
العينين سالم القاضي وبحضور حضرتي مصطفى عبد المجيد ومحمد جمال الدين". أمام
هذا التناقض بين العبارتين يكون الحكم على مقتضى بياناته صادراً من هيئة غير
معروفة أو غير صادر من أحد. (وثانياً) لأنه إذا أخذ بالبيان الأوّل يكون الحكم قد
اشترك فيه قاضٍ لم يحضر المرافعة وهو حضرة فؤاد أفندي عزيز. وإذا أخذ بالبيان
الأخير يكون الحكم قد أصدره قاضيان لم يحضرا المرافعة. (وثالثاً) لأن قاضيين من
القضاة الذين سمعوا المرافعة - وهما حضرتا رضوان بك ويحيى مسعود - لم يحضرا جلسة
الحكم، والمادة 102 من قانون المرافعات تقضي بأن الحكم في هذه الحالة لا يجوز
النطق به إلا إذا تحرّرت نسخته الأصلية أوّلاً ووقع عليها من لم يستطع من القضاة
الذين سمعوا المرافعة الحضور في جلسة النطق به، لكن الحكم المطعون فيه نسخته
الأصلية ليس عليها توقيع من القاضيين اللذين تعذر عليهما الحضور، بل الموقع عليها
هو حضرة أبو العينين سالم وحده الذي نطق بالحكم في الجلسة. وبناءً على هذا التدوين
في نسخة الحكم الأصلية يكون الحكم قد صدر من قاضٍ واحد من القضاة الثلاثة الذين
سمعوا المرافعة فهو ورقة لا قيمة لها. ويقول الطاعنان إنه قد خطر على الإفهام أن
القانون يعني بنسخة الحكم الأصلية - وهي التي يسميها القانون الفرنساوي والمصري في
ترجمته الفرنسية (minute) - مسودّة الحكم فإذا كان عليها توقيع القاضيين
اللذين لم يحضرا جلسة الحكم كان ذلك كافياً، ولكن هذا خطأ فإن ترجمة (minute) بكلمة مسودّة ترجمة غير
صحيحة يقضي عليها النصان العربي والفرنسي معاً. فالفرنسي يعني بالكلمة أصل الحكم
ذاته، والعربي يعبر عنها بنسخة الحكم الأصلية، فهي أصل الحكم وهي التي تؤخذ منها
الصور الرسمية التنفيذية وغير التنفيذية، ولما كانت هذه النسخة الأصلية خالية من
توقع القاضيين اللذين لم يحضرا النطق بالحكم وإنما عليها توقيع قاضٍ واحد هو الذي
نطق به في الجلسة، فالحكم ورقة لاغية من نفسها. (ورابعاً) لأنه إذا سلم أن النسخة
الأصلية للحكم تساوي مسودّته فإن ذلك لا يصحح الموقف، إذ أن توفيق بك رضوان الذي
وقع على المسودّة قد تعين مستشاراً بمقتضى مرسوم صدر في 21 أغسطس سنة 1941 فأصبح
من هذا اليوم مجرّداً من ولاية القضاء في محكمة الإسكندرية وما كان يجوز له أن
يتداول أو يشترك في إصدار الحكم. أما ما يقال من أن هذا المرسوم معلق تنفيذه على
تبليغه من وزير العدل فهو غير سديد لأن المرسوم لا يمكن أن يعلق تنفيذه على إرادة
وزير، وإنما المرسوم يكون في حاجة إلى سلطة الوزير من ناحية التولية الجديدة
للقضاء الجديد نظراً إلى أن الموظف في هذه الحالة لا يستطيع أن يقتحم دار المحكمة
ليجلس فيها، ولا يستطيع أن يقتحم جلسة الملك ليحلف اليمين، ولا بدّ لإتمام هذه
الأعمال من عمل الوزير، ولكن فيما يختص بزوال الولاية الأولى فذلك قد تم بمجرّد
صدور المرسوم. (وخامساً) لأن النسخة الأصلية التي تجعل الحكم قائماً إذا لم يحضر
القضاة الذين أصدروه جلسة النطق به علناً يجب أن تحرّر قبل النطق بالحكم كما تقول
المادة 102 مرافعات في صراحة. وذلك لتكون دليلاً رسمياً لا نزاع فيه على أنه قد
صدر ممن يجب صدوره منهم، ثم لتكون من ناحية أخرى عملاً دالاً برسميته وحجيته على
إثبات أن الحكم صدر ممن يجب عليهم أن يصدروه ويحضروا النطق به، وذلك ليتحملوا
مسئوليته علناً إتماماً لإجراءات العلنية إلى آخر الفصل في القضايا. ولهذا كانت
هذه هي الحالة الوحيدة في القانون التي يجب فيها تحرير نسخة الحكم الأصلية قبل
النطق به والتي يجب فيها توقيع الكاتب على الحكم أيضاً قبل النطق به والتي يجب
فيها للضرورة القصوى أن يضحى بسر المداولة فيعلم كاتب الجلسة بالحكم قبل إعلانه.
وحيث إن الشارع في المادة
229 من قانون تحقيق الجنايات قد نص على أن الأصل في إجراءات المحاكمة هو اعتبار
أنها جميعها - على اختلاف أهميتها - قد روعيت أثناء الدعوى على أن لا يكون في ذلك
إخلال بما لصاحب الشأن من الحق في أن يثبت بكل الطرق القانونية أن تلك الإجراءات
قد أهملت أو خولفت في الواقع. وذلك ما لم يكن ثابتاً بمحضر الجلسة أو بالحكم أن
هذه الإجراءات قد روعيت، ففي هذه الحالة لا يكون لمن يدعي مخالفتها من سبيل لإثبات
مدعاه سوى أن يطعن بالتزوير في المحضر أو في الحكم. وهذا يلزم عنه أن تكون العبرة
في مخالفة الإجراءات أو عدم مخالفتها هي بحقيقة الواقع. ولذلك فإن مجرّد عدم
الإشارة في محضر الجلسة أو في الحكم إلى شيء خاص بها أو وجود إشارة عنها مخالفة
للحقيقة لا يبرر في حدّ ذاته القول بوقوع المخالفة بالفعل، إلا إذا ادعى صاحب
الشأن ذلك وأقام الدليل على مدعاه بالطريقة التي رسمها القانون في هذه الحالة.
وحيث إن الشارع إذ نص في
المادة 102 من قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية على أنه إذا حصل لأحد
القضاة الذين سمعوا الدعوى مانع يمنعه عن الحضور وقت تلاوة الحكم فيكتفى بأن يوقع
على نسخة الحكم الأصلية قبل تلاوته - إذ نص على ذلك، ولم ينص على البطلان إذا لم
يحصل هذا التوقيع مع أنه عني بالنص عليه بصدد مخالفة الإجراءات الواردة في المواد السابقة
على هذه المادة وفي المواد التالية لها مباشرة، إنما أراد بإيجاب التوقيع مجرّد
إثبات أن الحكم صدر ممن سمع الدعوى، ولم يرد أن يرتب على مخالفة هذا الإجراء أي
بطلان. فإذا لم يوجد أي توقيع للقاضي الذي سمع الدعوى ولم يحضر النطق بالحكم فلا
بطلان ما لم يثبت أن هذا القاضي لم يشترك بالفعل في إصدار الحكم، ففي هذه الحالة
يكون الحكم باطلاً كما تقول المادة 100 من القانون المذكور. وكلما ثبت اشتراك هذا
القاضي في الحكم كان الحكم صحيحاً مهما كانت طريقة هذا الثبوت. والتوقيع على
مسودّة الحكم في هذا المقام أدنى إلى الخاطر وأقطع في الدلالة على هذا الاشتراك.
أما التوقيع على نسخة الحكم الأصلية وإن كان هو الذي جرت به ألفاظ النص فإن ما
يقتضيه من اطلاع الكاتب على الحكم قبل النطق به مع ما في ذلك ما فيه من نتائج هو
الذي دعا إلى ما درجت عليه المحاكم من التوقيع على المسودّة بدلاً من النسخة
الأصلية. وهذا وإن كانت فيه مخالفة للنص في ظاهره إلا أن فيه صوناً لما يجب
للأحكام من سرية من جهة وليس فيه - كما سلف القول - تفويت لغرض الشارع من جهة أخرى.
وحيث إن صدور مرسوم بنقل
القاضي من محكمة إلى أخرى أو بترقيته في السلك القضائي إلى أعلى من وظيفته بمحكمة
أخرى لا يزيل عنه ولاية القضاء في المحكمة المنقول منها إلا إذا أبلغ إليه بصفة
رسمية من وزير العدل. هذا هو الذي يقتضيه النص في المرسوم على تكليف الوزير بالعمل
على تنفيذه. وهذا هو الذي جرى عليه العمل، وهو هو الذي لوحظ باطراد لدى أولي الأمر
في نقل القضاة أو ترقيتهم. وذلك لأن الأخذ بخلافه - فضلاً عن مخالفته لمقتضى نص
المرسوم - يستوجب علم القاضي دائماً بنقله فور صدور المرسوم لكي يمتنع من فوره عن
إصدار أحكام لا صفة له في إصدارها، وهذا يستحيل أن يكون، لأنه يصح أن يصدر المرسوم
والقاضي جالس للقضاء أو وهو في محكمة نائية أو وهو في ظروف أخرى تدل بذاتها على
عدم علمه بأمر نقله. في هذه الصور وأشباهها تكون كل أحكامه باطلة. ولأن هذا لا يصح
أن يكون قد اقتضت الضرورة وضع ضابط لهذه الحال. وهذا الضابط هو أن يكون الحدّ
الفاصل بين ولاية القاضي للقضاء في المحكمة القديمة وولايته في المحكمة الجديدة هو
قيام الدليل القاطع على علمه بالنقل، وذلك بطريقة تبليغه رسمياً بالمرسوم من وزير
العدل القائم على تنفيذه لا الاعتماد في ذلك على مجرّد افتراض العلم لديه. ثم إن
هذا أيضاً هو ما توجبه المصلحة، إذ الأخذ بخلافه يقتضي بقاء القاضي بلا عمل حتى
يتم نقله، كما يقتضي إعادة نظر جميع القضايا التي يكون القاضي المنقول قد سمعها
قبل نقله ولما تصدّر فيها الأحكام. وهذا وحده لما فيه من ضياع الوقت والجهد وتأخير
الفصل في المنازعات والجرائم وما يجرّ ذلك إليه من تهوين شأن العدالة في أنظار
الأهلين يدل حتماً على أن القانون إنما أراد أن تبقى ولاية القاضي حتى يبلغه
الوزير المرسوم الصادر بنقله.
وحيث إنه ثابت بمحضر جلسة
المحاكمة أن القضاة الذين سمعوا الدعوى في جميع جلساتها هم محمد توفيق رضوان وأبو
العينين سالم ويحيى مسعود، وأن الذين نطقوا بالحكم بالجلسة العلنية هم أبو العينين
سالم ومصطفى عبد المجيد ومحمد جمال الدين المذكورون في نهاية الحكم. وثابت كذلك
بمسودّة الحكم توقيع كل من محمد توفيق رضوان وأبو العينين سالم ويحيى مسعود، وهذا
قاطع في أن القضاة الذين سمعوا الدعوى هم الذين أصدروا فيها الحكم الذي وقعوا على
مسودّته. أما ما جاء في صدر الحكم من أن الهيئة التي أصدرته كانت مشكلة من القضاة
محمد توفيق رضوان وفؤاد عزيز ويحيى مسعود فإنه ليس إلا خطأ مادياً وقع في ذكر اسم
القاضي فؤاد عزيز بدلاً من القاضي أبو العينين سالم. وعلة هذا الخطأ - على ما يظهر
- هو أن المحكمة كانت مشكلة في أوّل جلسة حدّدت لنظر الدعوى ولم تسمع فيها مرافعة
إطلاقاً من أولئك القضاة الثلاثة الذين صُدر الحكم بأسمائهم نقلاً عن هذا المحضر.
ومتى تقرّر ذلك، وكان الطاعنان لا ينازعان في أن القضاة الذين سمعوا المرافعة في
الدعوى هم بعينهم الذين أصدروا الحكم فيها. وهم هم الموقعون على مسودّته، كان لا
وجه لكل ما أثاراه فيما أورداه تحت عنوان الطائفة الأولى من وجوه طعنهما.
الطائفتان الثانية
والثالثة:
يقول الطاعنان في الطائفة
الثانية إن الحكم جاء معيباً متعيناً نقضه وذلك: (أوّلاً) لأنه قال "إن الأمر
الأوّل الذي دلل به الدفاع على هذه النظرية (وهي أن كلمة دعوى في المادة 273 من
قانون العقوبات ليس معناها مجرّد الشكوى) إن هو إلا استنتاج نظري بحت لا يستند إلى
شيء من الحقائق التاريخية التي تتصل بالتشريع المصري الحديث بل يخالفها مخالفة
صارخة، إذ المعروف أن المشرع المصري عند ما وضع قانون العقوبات في سنة 1883 نقل
أحكامه من القانون الفرنسي، وثبت على هذه القاعدة في التشريع إلى الآن اللهم إلا
القليل من أحكام الشريعة الغرّاء التي أخذ بها". وفي هذا القول خروج من
القاضي عن مأموريته القضائية وهي تطبيق القانون بما تدل عليه نصوصه لفظاً أو نظرياً،
والحكم يقرّر أن هذا "دفاع نظري بحت" فهو إذن داخل في مأمورية القاضي،
وهو وحده الذي يجب عليه تطبيقه. فقول الحكم بعد ذلك إنه لا يعبأ بهذا البحث النظري
بل يأخذ بالحقائق التاريخية التي تتصل بالتشريع إنما هو اطّراح للمبادئ وما تفيده
المبادئ من النظر الفقهي. والتشريع الملزم للقاضي إنما هو نصوصه وما تدل عليه
نظرياً، ولا يوجد تاريخ ملزم غير أعمال التشريع المتوالية أخذاً من أقدم قانون إلى
ما بعده، ثم استطراداً إلى القانون الذي تلاه، والذي تلاه، وهكذا مع تداول
القوانين، فإن هذا هو التاريخ التشريعي الذي يجوز لعلماء القانون وللقاضي أن
يستنبطوا منه تحديد معاني النصوص. أما التاريخ "الذي يتصل بالتشريع"
فينقسم إلى قسمين: فإما أن يكون موافقاً للنص الذي يوضع وإما أن يكون مخالفاً له،
ففي الحالة الأولى يجوز الرجوع إليه وإلا فلا يجوز الأخذ به لأنه يكون حينئذٍ
تطبيقاً للأخبار والروايات والأحاديث - وهي تحتمل الصدق والكذب - وتغليباً لها على
نص صريح. وهذا لا يمكن أن يقول به أحد إذ الأخبار تختلف وتتناقض والمقام مقام
قانون للعقوبات يستحيل أن يفرض على الناس العلم بالأخبار وتفضيل الراجح على
المرجوح باعتبار أن ذلك يقوم مقام النص. إذن فقول الحكم إنه يستبعد الاستدلال
النظري أي الفقهي ويطبق التاريخ إنما هو من ناحية القاضي إعدام لمأموريته الصحيحة
في التطبيق، وجلال القضاء إنما يقوم على النظريات العلمية السليمة التي تثار أمامه
ويتناولها بالبحث. (وثانياً) لأنه خالف الشارع بناءً على أسباب متخاذلة متناقضة إذ
قرّر في الحيثية الخامسة أن دليل الدفاع مسند إلى نص المادة 273 من قانون العقوبات
المصري وهي تقول لا يجوز محاكمة الزانية إلا بناءً على طلب زوجها. ثم سار حتى وصل
إلى الحيثية التاسعة فقال فيها "يقصد المشرع المصري من كلمة (دعوى) في المادة
273 عقوبات كلمة (الدعوى) بالمعنى المعروف عادة لها". فالدفاع إذن قد استند
إلى نص صريح ظاهر في ألفاظه وفي معناه المعروف عادة، وليست قراءة النصوص وطلب
تطبيقها بألفاظها جدلاً نظرياً. ثم إن فهم الاستدلال الواحد مرة بأنه نظري بحت
وأخرى بأنه لفظي بحت لا يدل إلا على أن الدفاع ضاع بين المتناقضين. وفضلاً عن ذلك
فإن تجاوز القاضي حدود سلطته واضح من قول الحكم إن من حقه أن يلغي هذا النص الصريح
وأن لا يتقيد بما تدل عليه ألفاظه "عادة" وإن من حق المحاكم في توقيع
العقوبات أن تضع من عندها نصاً مغايراً للنص الصريح الذي جاء في القانون. وفي ذلك
أيضاً تعدّ على الناس جميعاً وتكليف لهم بالمحال، فإن الناس لا يجوز أن يكلفوا
بفهم قانون العقوبات إلا بما تدل عليه ألفاظه عادة، والفهم العادي هو فهم أوساط
الناس، ولا يكلفهم الشارع أن يكونوا جميعاً فقهاء أو مؤرّخين يتركون الألفاظ
الصريحة ثم يبحثون وراءها على ما قد يقال إن خطأ أو صواباً أو على ما يصح الجدل
به. فهذا إذن كله هدم لمأمورية القضاء من أساسها وتهديد للناس في حياتهم وحرياتهم.
(وثالثاً) لأنه قرّر أن في نص قانون العقوبات المذكور غموضاً ولبساً، وأنه لذلك
يفسره بالترجمة الفرنسية، ويرى أن هذه الترجمة تقتضي توقيع العقوبة على المتهمين,
فذكر ضمن الحيثية التاسعة "وتعلل المحكمة هذا الغموض أو اللبس الظاهر في
النصوص العربية إلخ" مع أن ذلك الذي ذكره يتناقض مع قوله بأن النص صريح ظاهر
المعنى العادي، ويقتضي أن يحكم بالبراءة بلا تردّد، لأن اللبس والغموض شك، والشك في
قانون العقوبات يؤول لمصلحة المتهم، وتوقيع العقوبة لا يكون عن طريق التفسير
والتأويل، بل لا بدّ لذلك من النص الصريح الذي يفهمه الناس كما يقتضيه اللفظ
"عادة". وإذن فالحكم قد قرّر العقوبة على خلاف مفهوم النص العادي. ثم
إنه من جهة أخرى يقول مرة إن الدفاع نظري بحت ومرة إن النص صريح المعنى لا يعدو
الفهم العادي، ثم يصفه أخيراً بأنه غموض ولبس. وأمام هذه التقريرات الثلاثة يستبعد
الحكم القول العلمي النظري البحت ويستبعد النص بما يدل عليه من المعنى الصريح،
ويستبعد الغموض أيضاً ويجعله ظاهراً اعتماداً على ما سماه بالحقائق التاريخية أي
الروايات والأحاديث المنقولة عن بعض الذين اتصلوا بأعمال الحكومة في العهد القديم.
(ورابعاً) لأن المحكمة تجاوزت سلطتها إذ قالت في الحيثية التاسعة المذكورة
"تعلل المحكمة هذا الغموض أو اللبس الظاهر في النصوص العربية بأن المشرع
المصري لما بدأ في وضع القوانين الحديثة مستمداً إياها من القوانين الفرنسية عبر
عن الكلمة الفرنسية الواحدة بكلمات عربية مختلفة في بعض المواضع دون أن يقصد
الخروج عن المعنى الذي ترمي إليه الكلمة الفرنسية كما أشار إلى ذلك بحق وكيل
المدّعي المدني في مرافعته ومذكرته... وكان سبب ذلك أن رجال القانون في مصر لم
يكونوا قد تواضعوا بعد على اصطلاحات وكلمات فقهية بالذات تدل على المعنى الذي
ينقله من الكلمات الفرنسية التي تعارف عليها الفقهاء ورجال القانون في فرنسا من
قبل، بل كان يختار للكلمة الفرنسية الواحدة كلمة عربية في موضع وكلمة أخرى تحتوي
على معناها في موضع آخر"، وفي هذا إعلان صريح من القاضي بعدم أهلية الشارع،
وبأن القاضي يغتصب لنفسه الولاية على الشارع يستبدل من نصوصه ما يرى أنه مظهر من
مظاهر عدم الأهلية. ومع ذلك فإنه لو سلم بأن الشارع كان لا يدري معنى كلماته لكان
واجباً على القاضي حتماً وهو يطبق قانون العقوبات أن يحترم ما قاله الشارع.
(وخامساً) لأنه أبدل الدفاع الذي عرض على المحكمة بدفاع وضعه من عنده ويتناقض مع
الدفاع المعروض، ثم بنى حكمه على ذلك الذي افترضه فلم يصدر في الواقع حكم في
القضية المعروضة. فقد جاء في الحيثية الرابعة "وحيث إن الدفاع عن المتهمين
قال إن المشرع المصري استمدّ أحكام جريمة الزنا من أحكام الشريعة الغرّاء، ثم أفاض
الدفاع في الشرح والتفصيل في أصول الشريعة الغرّاء، ورتب على ذلك كله أن الزنا في
القانون المصري إن هو إلا عبث بعقد عرفي لا شأن لأحد فيه غير الزوجين، فهي ليست جريمة
على المجتمع". ثم قال: "وحيث إن الدفاع دلل على هذه النظرية بأمرين:
الأوّل... والثاني أن النصوص العربية في جريمة الزنا في القانون المصري تشير بجلاء
إلى صدق هذه النظرية وإلى أنها مأخوذة من أصول الشريعة الغراء فهي تخالف النصوص
المقابلة لها في القانون الفرنسي، مثال ذلك: أن المادة 273 من قانون العقوبات
المصري تقول (لا يجوز محاكمة الزانية إلا بناءً على دعوى زوجها) بينما تقول المادة
336 من القانون الفرنسي (لا يجوز التبليغ عن زنا المرأة إلا بواسطة الزوج). ثم ضرب
الدفاع أمثلة أخرى وردت تفصيلاً في مرافعته ومذكرته". والواقع أن هذا الذي
يرويه الحكم لتحديد الدفاع المعروض غير صحيح، فإن الدفاع قرّر شفوياً وكتابة في
بحثه المكتوب عكس ذلك تماماً، فذكر أن هذه المادة (273) لم تؤخذ عن الشريعة
الغرّاء وبيّن أنها تخالف حكم الشريعة مخالفة صريحة، وبيّن السبب لهذه المخالفة
بأن إقامة الحدّ للزنا في الشريعة يملكه كل فرد من الناس، فدعوى الزنا في الشريعة
عامة. أما القانون المصري فقد اعتبرها فردية وقرّرها للزوج وحده. أما وقد جمعت كل
البحوث القانونية التي قدّمت في هذا المثال الوحيد الذي وضعه الحكم فكان طبيعياً
أن ترى المحكمة عدم صحة الدفاع كله. وحينئذٍ يكون الحكم قد صدر تقريراً لدفاع وضعه
من عنده فهو باطل. (وسادساً) لأنه أخطأ وهو يتحدّث عن الدفاع بتنازل الزوج عن
دعواه فبدله بنقيضه، ثم أخذ يسرد الأدلة التي عرضها الدفاع لإثبات التنازل ولكنه
في هذا الحصر ترك الدليل الأقطع وهو تقرير المدّعي، بل تقريراته المتوالية
الصريحة، بالتنازل. ثم ذكر الأدلة التي يجوز فيها للقاضي التقدير دون مراقبة من
محكمة النقض، فقد جاء فيه: "وحيث إن الدفاع عن المتهمين ينسب إلى المدّعي
المدني أنه تنازل عن الدعوى ويدلل على ذلك ببعض الأمور التي صدرت منه، ومنها أنه
سكت عن التبليغ بعد اطلاعه على ما كان بين المتهمين، وظل يعاشرها، ومنها أنه كان
يرسل إلى المتهمة الأولى وسائل تحمل معاني الود والتدلل، ومنها أنه إنما قصد
بالدعوى تصيد الأدلة للوصول إلى حكم بالطلاق، وأنه بعد واقعة باريس سكت عن التبليغ
عن الجريمة وأخذ يفاوض محامي المتهمة ليحصل على الطلاق". ثم بعد أن حدّد أدلة
الدفاع على التنازل بهذا التحديد أضاف إلى هذا "وحيث إن مسألة التنازل عن
الدعوى مسألة تقدّرها المحكمة وتستنتجها من ظروف الدعوى ووقائعها". وهذه
القاعدة الأخيرة صحيحة. ولكن تطبيقها محدود بأن يكون التنازل معروضاً على أنه
نتيجة لوقائع تقبل تقدير القاضي في هل هي صحيحة أو باطلة ثم تقبل استنتاجه في
دائرة العقل من ناحية سلامة الاستنتاج. ولكن تحديد الحكم للأدلة على التنازل ليس
صحيحاً، فقد تصرف في هذا الشأن فأسدل ستاراً على التنازل القاطع الصريح ولم يذكر
من الأدلة إلا ما يجوز فيه التقدير فقط. والواقع أن التنازل الذي عرضه الدفاع على
المحكمة إنما كان دليله القاطع الذي لا يبقى للقاضي سلطة تقدير ولا بحث إنما هي
تقريرات المدّعي نفسه مرات عديدة بأنه قد تنازل عن طلب العقوبة.
ومن البديهي أنه إذا قرّر
المدّعي بلسانه تقريرات صريحة بأنه قبل تقديم الدعوى الجنائية كان قد تنازل عنها
فالقاضي لا يملك الحكم على خلاف هذا الاعتراف، اللهم إلا إذا طعن صاحب هذه
الاعترافات بطعن يقبله القانون، ولم يحصل من هذا شيء، والحكم قد أسدل على هذه
الاعترافات المتكررة ستاراً كثيفاً كأنها لم تقدّم دليلاً للتنازل، فهو إذن لم
يبطلها فبقيت ثابتة بلا قضاء. على أن هذه الاعترافات التي تمسك بها الدفاع عن
المتهمين لا سبيل للشك في أنها عرضت، فإنها مبينة في محضر الجلسة مراراً بياناً
صريحاً وثبت في المحضر أن الدفاع قرأها في الجلسة مراراً من واقع صحف التحقيق.
(وسابعاً) لأنه لم يعرض للدفاع الذي أثير لدى المحكمة الاستئنافية وأغفل الرد
عليه. حقيقة إنه قرّر في الحيثية الثالثة ثم في الثامنة أنه لا بد له أن يرد على
الدفاع الجديد، غير أنه مع تقريره هذا، وبعد أن انتهى من البحث القانوني على
الأساس الذي تقدّم ذكره، ترك الموضوع كله وجميع الأدلة التي تقدّمت لإثبات البراءة
ولم يتعرّض لدليل واحد منها بكلمة بل ولم يشر إليها، ثم جعل أن كل الأدلة التي
عرضت في الموضوع قد انحصرت في الطعن على شهادة السائق رينو بلو وكتب عنها حيثيتين
لم يضمنهما حتى حقيقة ما قيل في حق هذا الشاهد أو حقيقة شهادته التي رواها. ذلك أن
السائق كان موضوع شهادته أنه لاحظ تلك العلاقة لأوّل مرة في باريس، وأن الذي لفت
نظره وجعله يستنتج تلك العلاقة واقعتان: إحداهما أنه نظر السيدة تدخل في اللوكاندة
التي كان يقيم فيها الرجل في يوم معين حدّده بالتاريخ وهو في سنة 1936 وحدّد
الساعات والدقائق، في ساعة كذا ركبت، وفي ساعة كذا صرفته، وفي أية لحظة تدخل
اللوكاندة، وفي أية دقيقة رآها تخرج منها ومن أي باب، وهذا كله يرويه في أكتوبر
سنة 1938 بعد الواقعة بسنتين. ثم قال إنه افترض هذه العلاقة لمجرّد دخولها
اللوكاندة والمقيمون فيها يبلغون المئات بل وكان فيها على الترجيح بعض أقاربها،
وعلى التأكيد كثيرون من عارفيها، لكنه على كل حال رأى أن يحدّد أن هذه الزيارة
كانت للرجل المقصود. ثم حدّد كذلك أنه بعد هذه الزيارة بأسبوعين بالضبط. ومع بيان
التواريخ والساعات، حصلت زيارة مثلها. بناءً على ذلك فالواقعة التي يقرّرها الشاهد
تستلزم أن الرجل المقصود أقام في باريس خمسة عشر يوماً أو أقام يوماً هو ذلك اليوم
الأوّل ثم رجع في ذلك اليوم الثاني فحصلت فيه الزيارة. كذلك أمام هذه الشهادة -
وهي تقتضي حتماً وجود الرجل في باريس يومين يفصل بينهما أسبوعان - قدّم الدفاع
جواز السفر للتدليل على أن هذه الواقعة كاذبة من أساسها، لأن الرجل لم يقم في
باريس مدّة أسبوعين أبداً حتى تحصل الزيارتان ولم يرجع إليها بعد أسبوعين أبداً
حتى تحصل الزيارة الثانية. وهذا الدليل كان قاطعاً في إثبات كذب سائق المدّعي. لكن
الحكم بدأ بقوله إن الدفاع قدّم جواز السفر يستدل به على "أن تردّد الرجل على
باريس كان لفترات قصيرة ومتباعدة لا تسمح عقلاً باجتماعه بالمتهمة". وهذا هو
إبدال الدفاع بغيره.
أما عن إبدال شهادة
السائق بغيرها فإن الحكم قد وضع بدلها أن الشهادة كانت قاصرة على مقابلات خفية.
هكذا إجمالاً وبدون تفصيل ولا تحديد أيام حتى يجوز القول بعد ذلك بأن جواز السفر
لا يمنع من صحة الشهادة. وأما عن ترك الموضوع كله فقد ترافع الدفاع أمام محكمة
الاستئناف في الموضوع - بعد أن انتهى من البحث القانوني ومن التنازل - أربعة أيام
كاملة، ومن المستحيل أن تكون المرافعة في هذه الأيام المتوالية قاصرة على الطعن
على شهادة السائق كما روى الحكم، ولقد كانت المرافعة في تلك الأيام شاملة للأدلة
الموضوعية بجميع أطرافها، وكان هم الدفاع منصرفاً إلى تكذيب المدّعي في جميع
أقواله وإلى التمسك باعترافاته الصريحة التي تدل على كذب شهوده وإلى التمسك بهذه الاعترافات
لإثبات أنه قد استأجر جميع أولئك الشهود الذين تقدّم بهم بعد تقريره عدّة مرات أنه
لا شهود لديه مطلقاً وأنه لا يوجد من يعلم عن الواقعة أحد أصلاً، فإذا به وبعد سنة
كاملة يتقدّم بشهود عديدين فقرّروا أنه علم منهم موضوع الشهادة قبل تلك التقريرات
في التحقيق.
هذا وينعي الطاعنان في
الطائفة الثالثة على الحكم أنه أهدر نصوص القانون الصريحة. ذلك لأن الدفاع تمسك
بالمادة 235 عقوبات قديم المقابلة للمادة 273 في القانون الجديد لأنها صريحة في أن
عقوبة الزوجة إنما يملكها الزوج ولا تطلب إلا بدعواه هو فلا شأن للنيابة في
الخصومة، والدعوى فردية لا عمومية، والنيابة لا تقدّم إلا الدعوى العامة ولا تحقق
إلا فيها. وعقّب الدفاع على ذلك بأن تصرف النيابة من تحقيق وضبط أوراق إنما كان
تصرفاً باطلاً لا يعمل بنتائجه ولا تقوم به حجة. ثم تمسك الدفاع بنص المادة 238/
275 عقوبات وهي صريحة في أنها قد اختلفت عن نص القانون الفرنسي ولكنها تتفق مع
الحكم الشرعي فتسوّي بين الرجل والمرأة تسوية تامة في وصف الاتهام وفي وحدة
العقوبة على خلاف نص القانون الفرنسي فإنه يصف الرجل بالشريك ثم يزيد في عقابه.
ولهذا التوافق بين القانون المصري والحكم الشرعي مع مخالفته نص القانون الفرنسي في
الوصف والعقوبة نتائج كبرى فصّلها الدفاع واستنتج نتائجها. كما تمسك الدفاع كذلك
بنص المادة 238/ 276 عقوبات، وهي صريحة في أن تحديد الأدلة ينطبق على كل من الرجل
والمرأة بلا فارق بينهما وذلك طبقاً لحكم الشريعة الغرّاء أيضاً، وهي صريحة أيضاً
في تحديد نوع التلبس المقصود، وهي تتفق أيضاً مع القاعدة الشرعية، وصريحة كذلك في
أنها تأخذ عن الشريعة لأنها جعلت الاعتراف دليلاً وهو ليس وارداً في نص القانون
الفرنسي. وكان للأصول المقرّرة في هذه النصوص نتائج حاسمة في القضية، لأن هذه
النصوص - على صراحتها - لم تتحقق شروطها. وقد تناول الدفاع في بحثه النصوص
الفرنسية في القانون الفرنسي الأصيل، ثم النصوص الفرنسية للقانون المصري، ثم
النصوص العربية، وشرح الخلاف العظيم بين هذه النصوص الأخيرة وبين نصوص المواد في
النسخة الفرنسية وخرج بأن تطبيق النص العربي هو وحده الجائز. أما محامي المدّعي
المدني فقد تمسك بما هو ثابت في الأذهان خطأ من القانون المصري وضع أوّلاً بنصوصه
الفرنسية فهي الأصل، ثم ترجم بعد ذلك، فإن حصل خلاف بين النصين فلا بدّ من الرجوع
إلى الأصل. غير أن الدفاع عن الطاعنين كان قد شرح للمحكمة في بيانه أن هذا القول
تهدمه النسخة الفرنسية بنصها فإنها صُدرت بعبارة صريحة وضعها الشارع حتى يمنع
الناس عن الجري مع هذا الوهم الباطل، فنص على أن هذه النسخة إنما هي ترجمة عن
النسخة العربية، فالأصل هي النسخة العربية، وهي التي يجب العمل بها. عند ذلك قال
محامي المدعي إن تقرير الشارع هذا تقرير إنما أريد به المحافظة على المظاهر
الرسمية فقط، وإن شراح القانون المصريين استدلوا من أقوال الذين عاصروا ذلك
التشريع القديم على أن النسخة الفرنسية وضعت أوّلاً. فاعترض الدفاع على هذا القول
بأنه في موضوعه ووصفه القانوني يكون دعوى بإثبات صورية نص الشارع بقوله إن النسخة
الفرنسية ترجمة لتقرير بطلان هذا النص بناءً على كذب الشارع فيه. وهذا لا يملكه
مترافع، ولا يملكه قاضٍ. ولكن الحكم ذكر أن الشارع في ذلك الوقت عندما وضع قانون
العقوبات في سنة 1883 لم يعبر بألفاظ فقهية وتعذر عليه التعبير عن معاني النص
الفرنسي فعبر عن المعنى الواحد بكلمة ثم عن هذا المعنى بذاته بكلمة أخرى. وهذا غير
سديد فضلاً عما فيه من خروج القاضي عن سلطته: (أوّلاً) لأن هذه المواد تخالف
مخالفة صريحة نصوص القانون الفرنسي في اللفظ والمعنى، فلا يمكن أن تكون منقولة عنه
- كما فهم الحكم - بينما نجد الترجمة الفرنسية منقولة بالحرف الواحد عن النص
الفرنسي، فهي التي وقع فيها الخطأ. (وثانياً) لأن الشارع إذ وضع على النسخة
الفرنسية أنها ترجمة فإنه أراد بذلك أن النسخة العربية هي النافذة وحدها، فلا يسع
أحداً أن يقول إن الترجمة هي الأصل. (وثالثاً) لأن الشارع عند وضع المادة 235
عقوبات في سنة 1883 لا يمكن إذا قصد أن ينقلها عن نص القانون الفرنسي - وهو يتكلم
عن البلاغ - أن يعجز عن إدراك معنى هذه الكلمة وعن إدراك الفرق بين البلاغ والدعوى
فيعبر بالدعوى وهو يريد البلاغ، فإن الفارق بين الأمرين يدركه كل إنسان، بل إن
الشارع نفسه في سنة 1883 وضع في القانون باباً خاصاً عماده التفرقة بين البلاغ
والدعوى، فلا بدّ أنه قصد إلى ما كتب. وواجب القاضي على كل حال أن يفترض أن الشارع
قصد ما تدل عليه ألفاظه الصريحة فلا ينازع فيها. (ورابعاً) لأن الشارع المصري رجع
إلى التشريع في قانون العقوبات في سنة 1904 فوضع هذه النصوص بذاتها بلا تغيير، ثم
رجع أيضاً إلى التشريع بذاته في سنة 1937 فوضع النصوص القديمة كما هي بلا تغيير
ولا إصلاح، والذي عرض على الشارع في سنة 1904 وكذلك في سنة 1937 إنما هو النص
العربي وحده - عرض على مجلس الشورى في سنة 1904 وتناقش فيه كما هو وأقرّه، وعرض
على البرلمان في سنة 1937 وهو الذي عرفه البرلمان وأقرّه، ولم يعرض النص الفرنسي
على أحد ولا يعرفه الشارع، فلا محل إذن للقول بأنه هو أصل التشريع وأن النصوص
العربية لا قيمة لها. كذلك ليس بمفهوم أن يقال بأن الشارع وضع تشريعاً بناه على
جهل بمعاني "التلبس بالجريمة وأنواعه". على أن هذا الشارع بذاته في سنة
1883 قد عرف التلبيس بالجريمة بأنواعه، لكنه لما جاء إلى الزنا اختار من الأنواع
الثلاثة للتلبس النوع الأوّل وحده وهو التلبس الحقيقي. وفي هذه النقطة أيضاً قد
خالف المشرع المصري نص القانون الفرنسي مخالفة صريحة. فلا يملك القاضي أن يهمل نص
المشرع في بلده وأن يعمل بنص القانون الفرنسي أو بترجمة نقلت ذلك النص.
وحيث إن المادتين 273
و277 من قانون العقوبات الحالي المقابلتين للمادتين 235 و239 من قانون العقوبات
القديم إذ قالتا عن المحاكمة في جريمة الزنا بأنها لا تكون إلا بناءً على دعوى
الزوج لم تقصدا بكلمة "دعوى" إلى أكثر من مجرّد شكوى الزوج أو طلبه رفع
الدعوى. هذا هو المعنى المتبادر من سياق النص، وهو المعنى الذي اعتبرته المحاكم في
أحكامها باطراد، وهو هو الذي كان مفهوماً عند تعديل القانون في جميع المناسبات
التي حصل تعديله فيها، بل كان واضحاً إلى حدّ أن أحد أعضاء البرلمان في 26 يوليه
سنة 1937 اقترح استبدال كلمة "طلب" بكلمة "دعوى" فلم يُرَ محل
للأخذ باقتراحه على اعتبار أن النص ليس في حاجة إلى زيادة إيضاح. وإذا كان هذا هو
المعنى المفهوم من نص القانون الفرنسي الذي أخذت عنه هاتان المادتان ومن نص
الترجمة الفرنسية لهما امتنع أي شك في هذا الشأن.
وحيث إن جريمة الزنا إنما
هي جريمة كسائر الجرائم تمس المجتمع لما فيها من إخلال بواجبات الزواج الذي هو
قوام الأسرة والنظام الذي تعيش فيه الجماعة، إلا أنه لما كانت هذه الجريمة تتأذى
بها في ذات الوقت مصلحة الزوج وأولاده وعائلته فقد رأى الشارع في سبيل رعاية هذه
المصلحة أن يوجب رضاء الزوج رفع الدعوى العمومية بها. ولما كان هذا الإيجاب قد جاء
على خلاف الأصل فإنه يجب قصره على الحالة الوارد بها النص وعدم التوسع فيه، وهذا يقتضي
اعتبار الدعوى المرفوعة بهذه الجريمة من الدعاوى العمومية في جميع الوجوه إلا ما
تناوله الاستثناء في الحدود المرسومة له. وإذن فمتى قدّم الزوج شكواه فإنها تكون
ككل دعوى تجري فيها جميع الأحكام المقررة للتحقيق الابتدائي وتسري عليها إجراءات
المحاكمة، ولا يجوز تحريكها ومباشرتها أمام المحاكم من صاحب الشكوى إلا إذا كان
مدّعياً بحق مدني فيها. هذا هو مقتضى التفسير الصحيح المنصوص كما هي، وهو الذي
يتفق مع ما نص عليه في قانون تحقيق الجنايات بالمادة الثانية منه من أنه "لا
تقام الدعوى العمومية بطلب العقوبة إلا من النيابة العمومية" وبالمادة 157 من
أنه "تحال الدعوى على المحكمة بناءً على أمر يصدر من قاضي التحقيق أو أودة
المشورة أو بناءً على تكليف المدّعى عليه مباشرة بالحضور أمامها من قبل أحد أعضاء
النيابة العمومية أو من قبل المدّعي بالحقوق المدنية" وبغير ذلك من مواد أخرى
تدل بجلاء على أن هذا القانون في الدعوى العمومية لم يجعل للشاكي شأناً أزيد من
حقه في تقديم شكواه، ولهذا فهو لا يعتبره طرفاً في الدعوى إلا إذا ادّعى بحق مدني
فيها، وذلك فيما يختص بحقوقه المدنية فقط ولو كان الشارع لم يعتبر دعوى الزنا من
الدعاوى العمومية وقصد أن يعدّها مجرّد دعوى شخصية لكان أفرد لها مكاناً خاصاً،
وبيّن لها النصوص التي تخرجها عن الأحكام العامة للدعاوى العمومية. على أنه حتى
إذا جاز القول بأن هذه الدعوى تعتبر شخصية بالنسبة لكل من الزوجين لما بينهما من
علاقة فإنه لا يجوز اعتبارها كذلك بالنسبة للشريك الذي لا تربطه بهما أية علاقة
قانونية. ولما كان من غير المتصوّر أن تكون الدعوى الواحدة بوجهين على هذا النحو
كان من المتعين القول بأنها - فيما عدا البلاغ وتقديمه والتنازل عنه - دعوى عمومية
تسير فيها النيابة وتحققها وتتصرف فيها كما تفعل في سائر الدعاوى الجنائية.
وحيث إن المادة 276 من
قانون العقوبات الحالي المقابلة للمادة 238 من قانون العقوبات القديم لم تقصد
بالمتهم بالزنا في قولها "إن الأدلة التي تقبل وتكون حجة على المتهم بالزنا
هي القبض عليه حين تلبسه بالفعل أو اعترافه أو وجود مكاتيب أو أوراق أخرى مكتوبة أو
وجوده في منزل مسلم في المحل المخصص للحريم" - لم تقصد بذلك سوى الرجل الذي
يرتكب الزنا مع المرأة المتزوّجة، فهو وحده الذي رأى الشارع أن يخصه بالأدلة
المعينة المذكورة بحيث لا تجوز إدانته إلا بناءً على دليل أو أكثر منها، أما
المرأة فإثبات الزنا عليها يصح بطرق الإثبات كافة وفقاً للقواعد العامة. هذا هو
الذي قصدت إليه المادة المذكورة، وهو المستفاد من سياق النص وعبارته، وهو الذي
استقرّ عليه قضاء المحاكم في تفسير تلك المادة، وهو هو الذي كان قائماً في ذهن
الشارع حين عدّل قانون العقوبات في أكثر من مناسبة حتى أنه في سنة 1904 أضاف
الدليل المستمد من الوجود في المحل المعد للحريم، وهو لا يتصوّر قيامه إلا في حق
الرجل، كما أضاف الاعتراف معه. فإذا كان باقي الأدلة قد أخذ عن القانون الفرنسي
وهو صريح أيضاً في أنها متعلقة بالرجل، وإذا كانت الترجمة الفرنسية التي عملت عند
وضع المادة المذكورة معيناً في نصها هذا المقصود على الصورة المتقدمة، فإن ذلك -
مهما كان أمر هذه الترجمة - يكون أقطع في الدلالة على صدق النظر السالف الذكر.
وحيث إن المادة 276 من
قانون العقوبات المذكورة إذ نصت على التلبس بفعل الزنا كدليل من أدلة الإثبات على
المتهم بالزنا مع المرأة المتزوّجة لم تقصد التلبس كما عرفته المادة 8 من قانون
تحقيق الجنايات. وإذن فلا يشترط فيه أن يكون المتهم قد شوهد حال ارتكابه الزنا
بالفعل، بل يكفي أن يكون قد شوهد في ظروف لا تترك عند قاضي الدعوى مجالاً للشك في
أنه ارتكب فعل الزنا. وإثبات هذه الحالة غير خاضع لشروط أو أوضاع خاصة، فلا يجب أن
يكون بمحاضر يحرّرها مأمورو الضبطية القضائية في وقتها، بل يجوز للقاضي أيضاً أن
يكون عقيدته في شأنها من شهادة الشهود الذين يكونون قد شاهدوها ثم شهدوا بها لديه.
وهذا هو الذي جرى عليه قضاء المحاكم باطراد. وذلك لأن الغرض من المادة 8 من قانون
تحقيق الجنايات غير الغرض الملحوظ في المادة 276 من قانون العقوبات. إذ المقصود من
الأولى هو بيان الحالات الاستثنائية التي يخوّل فيها لمأموري الضبطية القضائية
مباشرة أعمال التحقيق، مما مقتضاه - لكي يكون عملهم صحيحاً - أن يجروه ويثبتوه في
وقته. أما الثانية فالمقصود منها أن لا يعتمد في إثبات الزنا على المتهم به إلا
على ما كان من الأدلة صريحاً ومدلوله قريباً من ذات الفعل إن لم يكن معاصراً له لا
على أمارات وقرائن لا يبلغ مدلولها هذا المبلغ.
وحيث إن القانون عند
تحديده في المادة 276 عقوبات الأدلة التي لا يقبل الإثبات بغيرها على الرجل الذي
يزني مع المرأة المتزوّجة لم يشترط أن تكون هذه الأدلة مؤدّية بذاتها فوراً
ومباشرة إلى ثبوت فعل الزنا. وإذن فعند توافر قيام دليل من هذه الأدلة المعينة -
كالتلبس أو المكاتيب - يصح للقاضي أن يعتمد عليه في ثبوت الزنا ولو لم يكن صريحاً
في الدلالة عليه ومنصباً على حصوله، وذلك متى اطمأن بناءً عليه إلى أن الزنا لا بد
قد وقع فعلاً. وفي هذه الحالة لا تقبل مناقشة القاضي فيما انتهى إليه على هذه
الصورة إلا إذا كان الدليل الذي اعتمد عليه ليس من شأنه أن يؤدّي إلى النتيجة التي
وصل إليها. ذلك لأنه لا يجب - وفقاً للقواعد العامة - أن يكون الدليل الذي ينبني
الحكم عليه مباشراً، بل للمحكمة - وهذا من أخص خصائص وظيفتها التي أنشئت من أجلها
- أن تكمل الدليل مستعينة بالعقل والمنطق، وتستخلص منه ما ترى أنه لا بد مؤدّ
إليه. ومجادلتها في ذلك لا يكون لها من معنى سوى فتح باب المناقشة في مبلغ قوّة
الدليل في الإثبات، وهذا غير حائز لتعلقه بصميم الموضوع.
وحيث إنه وإن كان المقرّر
أن لا عقوبة إلا بنص يعرّف الفعل المعاقب عليه ويبين العقوبة الموضوعة له، مما
يقتضي عدم الأخذ في القانون الجنائي بالقياس والتوسع في تفسير نصوصه، إلا أن ذلك
ليس معناه منع القاضي من الرجوع إلى الوثائق التشريعية والأعمال التحضيرية لتحديد
المعنى الصحيح للألفاظ التي ورد بها النص حسبما قصده واضع القانون، والمفروض في
هذا المقام هو إلمام الكافة بالقانون بمعناه الذي قصده الشارع ما دامت عبارة النص
تتحمل هذا المعنى ولا تتعارض معه.
وحيث إن التنازل الذي
يدعي صدوره من الزوج الذي رفعت دعوى الزنا بناءً على شكواه لا يصح افتراضه والأخذ
فيه بطريق الظن، لأنه نوع من الترك، فلا بد من إقامة الدليل على حصوله. والتنازل
إن كان صريحاً صدرت به عبارات تفيده ذات ألفاظها فإن القاضي يكون مقيداً به ولا
يجوز له أن يحمله معنى تنبو عنه ألفاظه. أما إن كان ضمنياً مستفاداً من عبارات لا
تدل عليه بذاتها أو من تصرفات معزوّة لمن نسب صدورها إليه كان للقاضي أن يقول
بقيامه أو بعدم قيامه على ضوء ما يستخلصه من الأدلة والوقائع المعروضة عليه. ومتى
انتهى إلى نتيجة في شأنه فلا تجوز مناقشته فيها إلا إذا كانت المقدّمات التي أقام
عليها النتيجة لا تؤدّي إليها على مقتضى أصول المنطق.
وحيث إنه يبين مما تقدّم
أن كل ما يثيره الطاعنان بهاتين الطائفتين من وجوه الطعن مردود بأن ما ينعيانه على
الحكم من ناحية ما جاء بأسبابه خاصاً بتاريخ التشريع وعلاقة نص القانون بحكم
الشريعة الغرّاء وبالقانون الفرنسي ومقارنة النص العربي بالترجمة الفرنسية له إلخ
- ما ينعيانه من هذا كله لا محل له. لأنه حتى مع التسليم بخطأ الحكم في شيء من هذا
الذي يقولان به فإنه لا يصح أن يكون وجهاً للطعن، ما دام الحكم على حسب منطوقه لم
يخطئ في شيء بل قضى في الدعوى على الوجه الذي يتفق مع القانون كما تقدّم. وذلك
لأنه يكفي لسلامة الحكم أن يكون قد بنى قضاءه على صحيح حكم القانون، ولو أخطأ في
إيراد علة التشريع أو في تحرّي تاريخه. ومتى كان الأمر متعلقاً بالقانون وتفسيره
فقط فإن المناقشة فيه لدى محكمة النقض لا تكون مقيدة بما جاء في الحكم من أسباب
خاصة بهذا الأمر، بل يصح عرض جميع وجوه النظر المتصلة به، ولو لم يكن سبق عرضها
على محكمة الموضوع، أو كان قد سبق عرضها عليها ولم تبحثها أو بحثتها على صورة
خاطئة. أما عن دعوى الزنا وطبيعتها فإن المحكمة إذ انتهت إلى القول بأنها - فيما
عدا وجوب حصول شكوى من الزوج - من الدعاوى العمومية لم تخطئ في شيء، ولذلك فلا
تثريب عليها إذا ما هي اعتمدت في قضائها على التحقيقات التي أجرتها النيابة وعلى
ما أسفرت عنه هذه التحقيقات. وأما عن التلبس فإن الحكم قد انتهى كذلك إلى أن ما
شهد به الشهود الذين ذكرهم من رؤيتهم الطاعنة الأولى تتردّد خفية وفي أوقات وظروف
مريبة على الطاعن الثاني في محل بقيم فيه بمفرده وتقضي معه مدّة من الزمن في خلوة
صحيحة - إلى أن ذلك تتوافر به حالة التلبس بالزنا. ثم إنه اعتمد في إدانة الطاعنين
على أقوال هؤلاء الشهود التي اقتنعت منها المحكمة بأن فعل الزنا لا بد قد وقع من
الطاعنين في خلوتهما معاً. كما اعتمد في ذلك أيضاً على أوراق وصور فوتوغرافية
لمراسلات ثبت للمحكمة صدورها من الطاعنين وجدت عند الطاعنة الأولى، منها خطاب
أرسله الطاعن الثاني لها وهو بعيد عنها يتضمن عبارة "إني أشتهيك الآن"
إلخ. والحكم إذ فعل ذلك لم يخطئ في شيء. لأن حالة التلبس لا يشترط فيها - كما مر
القول - مشاهدة ذات فعل الزنا، ولأنها يصح إثباتها بشهادة الشهود إذا استخلص
القاضي منها ثبوت الواقعة. فإذا أضيف إليها الدليل المستمد من المكاتيب المتبادلة
بين الطاعنين، ومنها ما هو صادر من الطاعن الثاني، كان ذلك أقطع في الدلالة على
وقوع الجريمة وعلى عدم الخروج على حكم القانون فيما يختص بطريقة إثبات الزنا على
أحد من الطاعنين. أما عن القول بأن الأدلة المعينة التي أوردها القانون في باب
الزنا إنما تتعلق بكل من الرجل والمرأة على السواء فغير صحيح كما سلف. وأما عن
التنازل فإنه متى كان الثابت بمحضر الجلسة وبما أورده الطاعنان بوجوه الطعن أنهما
نسبا إلى المدّعي بالحق المدني أنه تنازل عن دعوى الزنا ولم يكن فيما استندا إليه
في هذا الخصوص أية عبارة صريحة في التنازل الذي قالا به بل كل ما أورداه عن ذلك
عبارات جاءت على لسانه ادعيا أنها تتضمن التنازل أو تفيده أو تقطع بحصوله.
فالمحكمة في هذه الحالة إذ فصلت في دعواهما قائلة إن تنازلا لم يحصل لا يصح أن
ينعى عليها بأنها أخطأت، لأن من حقها أن تقول ذلك متى اقتنعت به، ولأن مجادلتها
فيما تقول تكون في الواقع مناقشة في الموضوع غير مقبولة أمام محكمة النقض. وإذن
فلا يجوز للطاعنين مساءلتها في شيء خاص بذلك ما دامت النتيجة التي قالت بها لا
تتعارض مع ما تمسك به الدفاع من أدلة بل تسوغها المقدّمات التي رتبت عليها. وأما
عن عدم الرد على دفاع الطاعنين في موضوع الدعوى، فإن المحكمة، وقد اقتنعت بوقوع
الجريمة من الطاعنين من الأدلة التي أوردتها والتي من شأنها أن تؤدي إلى ما رتبته
عليها، لم تكن ملزمة بأن ترد على كل ما أثاره الدفاع رداً خاصاً تتحدّث فيه عن كل
وجه من الأوجه الموضوعية التي أبدياها لنفي التهمة ثم تفنده، لأن قضاءها بالإدانة
يفيد بذاته أنها لم ترَ في هذه الأوجه ما يغير نظرها الذي ذهبت إليه ويعتبر لذلك
أنه رد على الدفاع. وأما فيما يختص بشهادة الخادم فإن المحكمة وقد أوردت من هذه
الشهادة ما رأت الأخذ به لا يصح مجادلتها على أساس كل ما ورد في الشهادة من أوّلها
إلى آخرها من تفصيلات، وما دام ما ذكرته من ذلك يتفق وما قالته عن جواز السفر
لخلوه - كما يقول الطاعنان أنفسهما - من تحديد تواريخ وتعيين فترات زمنية إلخ مما
لم يعرض الحكم له فإن المجادلة في هذا الأمر بعد ذلك تكون مناقشة في موضوع الدعوى
غير جائزة لدى محكمة النقض.
ومن حيث إن مبنى الوجه
الأوّل من التقرير المقدّم من الطاعن الثاني وحده هو بطلان الإجراءات التي بني
عليها الحكم. وبياناً لذلك يقول إن المحكمة الاستئنافية سمعت مرافعة الدفاع عن
المتهمين في عشر جلسات بيّن فيها الدفاع وجوهاً جديدة لم تكن قد أبديت لدى محكمة
أوّل درجة، ثم أصدرت المحكمة قرارها بتأجيل النطق بالحكم لخمسة أسابيع مع تقديم
مذكرات، فقدّمها الدفاع فعلاً واقتصر فيها - بناءً على طلب المحكمة - على الأبحاث
القانونية دون سواها، ولكن المحكمة أجلت الحكم أربعة أسابيع أخرى ثم أربعة ثانية
تنتهي في يوم 21 أغسطس سنة 1940 الذي صدر فيه مرسوم بتعيين رئيس المحكمة الذي سمع
المرافعة مستشاراً في محكمة الاستئناف، وكذلك صدر قرار بتأجيل الحكم أسبوعاً آخر،
ويعلق الطاعن على كل ذلك بأن فيه مخالفة للمادة 151 من قانون تحقيق الجنايات من
وجهين: (الأوّل) أن ما لم تستطع المحكمة إتمامه في ثلاثة عشر أسبوعاً أتمته في
أسبوع بل في ثلاثة أيام لأن مرسوم التعيين أبلغ لرئيس المحكمة في 25 أغسطس.
(والثاني) أن المحامين قبلوا طلب المحكمة ولم يدوّنوا في مذكراتهم المكتوبة بعض
دفاعهم اعتماداً على أن الحكم سيصدر في فترة قصيرة لا يزول فيها ما علقه القضاة في
أذهانهم أو قيدوه في مذكراتهم فكان في تكرار تأجيل الحكم إهدار لحق المتهم.
وحيث إن ما يقول به
الطاعن في هذا الوجه ليس مما يصح أن يعيب به حكم. فإنه لا يعدو أن يكون تكهناً
بشيء غير قابل لتقضي الحقيقة فيه لتعلقه بأمر داخلي بحت لا يمكن بطبيعته أن يكون
لغير ضمير القاضي شأن فيه. فمتى كان القاضي قد سمع الدعوى وفقاً للأوضاع المقرّرة
في القانون فلا يصح - إذا ما خلا إلى نفسه ليصدر حكمه فيها - أن يحاسب عما يجريه
في هذه الخلوة وعما إذا كانت قد اتسعت للتروّي في الحكم قبل النطق به أو ضاقت عن
ذلك، فإن مرد ذلك جميعاً هو - كما تقدّم - إلى ضمير القاضي وحده لا حساب عنه لأحد
ولا رقيب عليه فيه.
وحيث إن حاصل الوجهين
الثاني والثالث أن محكمة الموضوع أخطأت فيما ذهبت إليه من أن المكاتيب التي قدّمت
صورها تصلح للإثبات لأنها تفيد قيام علاقة مما أراد القانون العقاب عليها، وكذلك
أخطأت في القول بإمكان الاعتماد على الصور الشمسية للمكاتيب، وبأن سرقة أصولها
لأخذ صورها مما يدخل في ولاية الزوج على زوجه. وذلك لأن القانون إذ نص على نوع
معين من الأدلة في هذه الجريمة إنما قصد أن يعصم القاضي من الأخذ بالدليل العقلي
كي يلتزم الدليل المحسوس، ويكون من غير المفهوم إذن أن يباح للقاضي الاستنتاج من
عبارة مدوّنة في ورقة ويمتنع عليه الأخذ بأدلة أخرى قد تكون أقوى دلالة من تلك
الكتابة. ويضيف الطاعن إلى ذلك أن ما أورده الحكم عن واقعة الضبط في باريس معيب من
ناحية أنه اعتمد عليها لإثبات واقعة أخرى في الإسكندرية وما كان يجوز الاستشهاد
بذلك لأنه ليس من الأدلة المعينة المحدّدة في القانون.
وحيث إن الزوج في علاقته
مع زوجه ليس على الإطلاق بمثابة الغير في صدد سرية المكاتبات، فإن عشرتهما وسكون
كل منهما إلى الآخر وما يفرضه عقد الزواج عليهما من تكاليف لصيانة الأسرة في
كيانها وسمعتها - ذلك يخوّل لكل منهما ما لا يباح للغير من مراقبة زميله في سلوكه
وفي سيرته وفي غير ذلك مما يتصل بالحياة الزوجية لكي يكون كل على بينة من عشيره.
وهذا يسمح له عند الاقتضاء أن يتقصى ما عساه يساوره من ظنون أو شكوك لينفيه فيهدأ
باله أو ليتثبت منه فيقرر فيه ما يرتأيه. وإذن فإذا كانت الزوجة قد حامت حولها الشبهات
وتفوّت إلى الحد الذي تحدّث عنه الحكم، فإنه لا شك يكون للزوج، وهو ممتلئ اقتناعاً
بأن حقيبة زوجته الموجودة في بيته وتحت بصره بها رسائل من عشيق، أن يستولي على هذه
الرسائل ولو خلسة ثم أن يستشهد بها على زوجته إذا ما رأى محاكمتها جنائياً
لإخلالها بعقد الزواج.
وحيث إن الصور
الفوتوغرافية للأوراق يصح الاستشهاد بها في الدعاوى الجنائية كلما اطمأن القاضي من
أدلة الدعوى ووقائعها إلى أنها مطابقة تمام المطابقة للأصول التي أخذت عنها.
وتقديره في هذا الشأن لا تصح المجادلة فيه لدى محكمة النقض لتعلقه بموضوع الدعوى
وكفاية الثبوت فيها.
وحيث إن الحكم الابتدائي
المؤيد لأسبابه بالحكم المطعون فيه إذ ذكر عن الأوراق المقدّمة في الدعوى أنها
أوراق وصور فوتوغرافية لأوراق تراسل بين الطاعنين كانت عند الطاعنة الأولى وثبت
لدى المحكمة أنها صادرة من الطاعن الثاني وأنها تدل قطعاً على أن علاقته بالطاعنة
الأولى لم تكن بريئة بل كانت علاقة جنسية لما تضمنته هذه الأوراق من عبارات لا
يمكن حملها إلا على ذلك كقوله "إني أشتهيك الآن" و"إني أغار عليك
من زوجك" إلخ ما جاء بالحكم، وإذ قال في هذا الصدد إنه لا يشترط أن تكون
الأوراق الجائز الاستشهاد بها في دعوى الزنا صريحة في وقوع الزنا، بل يكفي أن يكون
فيها ما يدل عليه حسبما يستخلصه القاضي ويقتنع به، وإذ قال عن الاستشهاد بالصور
الشمسية للأوراق إن المحكمة لها الحق في ذلك وفي اعتبار هذه الصور في مقام الأصول
متى اقتنعت بصحتها ومطابقتها للأصول التي رسمت عنها، وإذ قال عن الدفع بعدم جواز
الاستناد إلى تلك الأوراق لأن حصول المدّعي المدني عليها لم يكن من طريق مشروع إن
المدّعي لما رابته الشكوك في سلوك زوجته لاحظ أن هناك خطابات خاصة كانت ترسل إليها
بواسطة دار بريد غير الدار المعتادة، كما لاحظ أن زوجته كانت تحتفظ بهذه الخطابات
في حقيبة يدها ولا تتخلى عنها إلا عند تناول الطعام بعد أن تضعها في دولابها الخاص
وتقفله وتحتفظ بمفتاحه فزاد ذلك في ريبته واعتقد أن هذه الخطابات لا بد أن تكون
أرسلت لها من عشيقها فأخذ ينتهز فرصة جلوسها إلى المائدة ويفتح الدولاب بمفتاح آخر
ويأخذ ما كان يعثر عليه منها ويرسله إلى مصوّر قريب من الدار يصوّره أوّلاً
فأوّلاً ثم يردّه إلى مكانه، وإن الزوج بذلك الذي أتاه لم يتعدّ الحقوق التي
تخوّلها ولايته على زوجته وهو يعتقد أنه خدش في شرفه واعتباره، فإذا ما قدّم صور
تلك المراسلات والبرقيات كدليل على ارتكاب زوجته وشريكها لجريمة الزنا فلا غبار
عليه، لأن حرمة عقد الزواج والمحافظة على كيان الأسرة يجب أن تصغر أمامهما حرمة
المراسلات الخاصة، وإن للزوج بما له من الولاية على زوجه بصفته رأس الأسرة الحق في
مراقبة سلوكها والاطلاع على المحرّرات التي تتبادلها مع الغير، وهذا الحق يقوى إذا
ما رابه سلوكها واعتقد بوجود علاقات أثيمة بينها وبين الغير، فيكون له في هذه
الحالة بلا شك التحرّي والاستقصاء وتفتيش متاعها للحصول على الأدلة التي تؤيد أو
تنفي شكوكه - إذ قال الحكم كل ذلك ثم انتهى منه إلى التعويل في الإثبات على
الأوراق المذكورة وصورها لم يخطئ فيما انتهى إليه. لأن الزوج ما دام لم يعمل على
الحصول على المكاتيب خلسة, وقد كانت في بيته وتحت نظره, إلا بعد أن كان ممتلئاً
اعتقاداً بأن هذه المكاتيب لم تكن بريئة، بل لا بد أن تكون متبادلة بين زوجته
وعشيقها - ما دام الأمر كذلك فإن استشهاد الحكم بتلك الأوراق في دعوى الزنا يكون
صحيحاً. ولأن الصور الفوتوغرافية لتلك المراسلات يصح الاستشهاد بها ما دام القاضي
قد تثبت من مطابقتها للأصل الذي أخذت عنه. ولأن الأوراق والمكاتيب التي يجوز إثبات
الزنا بها لا يشترط فيها - كما مر القول - أن تكون ناطقة بوقوع الفعل المعاقب
عليه، بل يكفي أن يكون تحصّل الذي يستخرجه القاضي منها مؤدّياً إلى ثبوت وقوع
الفعل المذكور. وما دام ما أوردته المحكمة من الأوراق المتقدّم ذكرها من شأنه أن
يؤدّي إلى ما قالت به من وقوع الزنا فلا يصح النعي عليها بأنها في ذلك قد خالفت
القانون لأن هذا لا يكون له من معنى سوى المجادلة في قوّة الأدلة التي أوردتها في
الإثبات، وتقدير الدليل ومبلغ قوّته في الإثبات من سلطة محكمة الموضوع وحدها ولا
رقابة لمحكمة النقض عليها فيه. أما عن الاستشهاد بواقعة باريس فإن المحكمة قالت
بخصوصها إن الظروف التي وقعت فيها كما هو ثابت بمحضرها تدل على سابقة ارتكاب
الطاعنين لفعل الزنا بالإسكندرية، وهي إذ قالت ذلك لا تثريب عليها ما دامت قد
اقتنعت من هذا المحضر أن مشاهدة الطاعنين هناك على الحالة التي شوهدا عليها تدل
على أنهما لا بد قد ارتكبا فعل الزنا قبل مجيئهما إلى باريس. وذلك لأن الدليل على
الزنا يصح أن يكون مستمداً من واقعة لاحقة له. بل إن هذا هو ما يحصل في أغلب
الأحوال. على أن الحكم لم يُحمل على الدليل المستمد من هذه الواقعة فقط بل إنه
استند إلى أدلة أخرى وهي أقوال الشهود والمكاتيب التي أفاض في بيانها واستخلص منها
في منطق سليم مقارفة الطاعنين للجريمة التي أدانهما فيها.
وحيث إن الطاعن يقول في
الوجه الرابع إنه دفع بسقوط حق المدّعي المدني في متابعة الدعوى لأنه تنازل عنها
فعلاً، ولأنه من جهة أخرى تقدّم بها إلى جهة قضائية مختصة فلا يجوز له أن يتقدّم
بها إلى جهة أخرى حتى ولو كانت مختصة أيضاً. لكن المحكمة ذهبت في سردها الوقائع
إلى ما يدل على أنها تقدّر أن التنازل لم يحصل، وهذا التقدير من جانبها كان يستلزم
حتماً أن تورد وجوهه ولكنها لم تفعل. ثم إنها أخطأت في الإسناد فروت عن الأوراق ما
ليس فيها، وذلك لأن المدّعي المدني قد قرّر أنه اعتقد قطعاً بوجود العلاقة بما رأى
العين في الإسكندرية قبل سفر زوجته في أواخر مايو ومع ذلك ظل يعاشرها ثم ذهبت إلى
باريس وسعى إلى تدبير واقعة الضبط وحصل ذلك في 18 يوليه، ثم تقدّم بخطاب إلى قاضي
التحقيق يطلب إيقافه وذلك لسبب مفاوضات بين المحاميين لتسوية الخلاف، وأن الزوجة
في سبيل ذلك حررت إليه خطاب 23 يوليه، وأنه ظل من ذلك التاريخ إلى 11 أكتوبر تاريخ
التبليغ لا يحرّك ساكناً. ثم إنه قد حصل الاتفاق بين أطراف الخصومة على أن دعوى
الزنا إنما تقوم على عدم الأمانة لعقد الزواج فكل وقائعها أدلة وليست جرائم.
وبناءً على ذلك يكون تعليق الدعوى أمام محاكم فرنسا وهي مختصة حتماً بواقعة باريس
مانعاً من طرحها على المحاكم المصرية حتى عن وقائع يدعى حصولها في مصر.
وحيث إن ما يتمسك به
الطاعن في هذا الوجه مردود بما أثبته الحكم - كما سلف القول - من عدم حصول أي
تنازل من جانب المدّعي بالحق المدني، وبما أثبته بحق من أن التحقيق الذي حصل في
فرنسا عن الواقعة التي وقعت في باريس لا يمنع من محاكمة الطاعنين عن الواقعة
الأخرى التي حصلت في مصر لأن كلاً من الواقعتين يكوّن جريمة الزنا.
وحيث إنه لكل ما تقدّم
يكون الطعن بجميع وجوهه على غير أساس متعيناً رفضه موضوعاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق