جلسة 11 من إبريل سنة 2015
الطعنان رقما 20806 و 23187 لسنة 60 القضائية (عليا)
(الدائرة الرابعة)
برئاسة السيد الأستاذ المستشار/ لبيب حليم لبيب نائب رئيس مجلس الدولة
وعضوية السادة الأساتذة المستشارين/ أحمد إبراهيم زكي الدسوقي، وحسين عبد الله أمين قايد، ود.رضا محمد عثمان دسوقي، وعبد الجيد مسعد عبد الجليل. نواب رئيس مجلس الدولة
---------------
(أ) قانون:
تشريع القوانين وتطبيقها- السلطة التشريعية تتمثل أساسا في البرلمان المشكل بإرادة الناخبين، وهو السلطة المختصة بتحديد الجرائم، وبإقرار العقوبات المناسبة لها، وجهة القضاء هي المختصة وحدها بتطبيق العقوبات التي تقدرها السلطة التشريعية- عن طريق ذلك يأمن المواطن ضد كل احتمال للتعسف من قبل السلطات الحاكمة.
(ب) موظف:
تأديب- المخالفات التأديبية- إذا كان المقرر في مجال قانون العقوبات أنه "لا جريمة إلا بنص"، فإنه بالرغم من أوجه الشبه بين الجرائم الجنائية والجرائم التأديبية، ليس من اللازم أن تصدر عن السلطة التشريعية قواعد تؤثم بعض الأفعال مسبقا حتى يعاقب الموظف، بل يعاقب إذا ما ثبت قِبَلَهُ فعل أو امتناع لا يتفق مع مقتضيات وظيفته، سواء نص على ذلك صراحة أو لم ينص- الأفعال المكونة للذنب الإداري في قانون الوظيفة العامة ليست محددة حصرا ونوعا، بل مردها بوجه عام إلى الإخلال بواجبات الوظيفة العامة أو الخروج على مقتضياتها، فعدم وجود نص مانع أو مؤثم لفعل معين، لا يعني بالضرورة أن هذا الفعل مباح للموظف على نسق قانون العقوبات- إذا نص المشرع على تحريم بعض الأفعال على الموظفين، فإنما يريد أن يسترعي انتباههم إلى خطورة الأعمال المؤثمة، وأن يبدي توجيهه القاطع في اجتنابها، على أن يترك ما لم يذكره للقاعدة العامة- مادام المشرع لم يحصر الأعمال الممنوعة على الموظفين، والتي تكون جرائم تأديبية، فإن تحديد هذه الأعمال متروك لتقدير الجهات التأديبية، سواء كانت رئاسية أم قضائية- تلتزم السلطة التأديبية في تقديرها للجرائم التأديبية بضوابط الوظيفة العامة بما تتضمنه من حقوق وواجبات، فتقدير ما إذا كان الموظف قد أخطأ خطأ يستوجب الجزاء، يرجع فيه إلى هذه الحقوق والواجبات، دون غيرها، فليس لسلطة التأديب أن تتقيد بضوابط قانون العقوبات.
(ج) موظف:
تأديب- الجزاء التأديبي- إذا كانت الجريمة التأديبية لا تخضع لمبدأ "لا جريمة إلا بنص"، فإن العقوبة التأديبية تُحكم بمبدأ "لا عقوبة بلا نص"، ويعني هذا المبدأ أن السلطة التأديبية المختصة إذا كانت تترخص في تقدير ما يندرج في نطاق المخالفات التأديبية، فإنها ملزمة أن توقع عقوبة من العقوبات التي حددها المشرع- يختلف النظام العقابي التأديبي عن النظام العقابي الجنائي في أنه في مجال قانون العقوبات يوجد ارتباط كامل بين كل جريمة على حدة، وما يناسبها من عقاب، فتحديد العقوبة هو عمل المشرع بالدرجة الأولى، والحرية التي قد تترك للقاضي الجنائي محدودة، وتنحصر في تحديد العقوبة الملائمة بين حدين، أما في القانون التأديبي فإن القاعدة العامة أن المشرع يحدد قائمة بالعقوبات التأديبية التي يجوز توقيعها على الموظف المخطئ، ويترك للسلطة التأديبية المختصة حرية اختيار العقوبة الملائمة من بين قائمة العقوبات المقررة- تقدير ملاءمة العقوبة للذنب الإداري الذي ثبت في حق الموظف هو من سلطة الإدارة، ولا رقابة للقضاء عليها في هذا الشأن، إلا إذا اتسم الجزاء بعدم الملاءمة الظاهرة، أي بسوء استعمال السلطة.
(د) موظف:
تأديب- الجزاء التأديبي- مبدأ "تفريد العقوبة"- العقوبة التخييرية هي أداة تشريعية، يستند القاضي إليها بحسب ظروف كل دعوى لتطبيق مبدأ "تفريد العقوبة"- لا تجوز معاملة المتهمين بوصفهم نمطا ثابتا، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في قالبها، فالأصل في العقوبة هو تفريدها، لا تعميمها، ومخالفةُ هذا المبدأ تُفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، وتُقيد الحرية الشخصية دون مقتضٍ- في الأحوال التي يمتنع فيها إعمال هذه الأداة، فإن الاختصاص الحصري بتفريد العقوبة المعقود للقاضي يكون قد استغلق عليه، بما يفتئت على استقلاله، ويسلبه حريته في تقدير العقوبة، ويفقده جوهر وظيفته القضائية، وينطوي على تدخل محظور في شئون العدالة.
(هـ) جامعات:
أعضاء هيئة التدريس- تأديبهم- جريمة إعطاء دروس خصوصية- نص المشرع على العزل من الوظيفة عقوبةُ لهذه الجريمة، ومن ثم فإنه لا سلطة لمجلس التأديب في اختيار العقوبة الملائمة في شأنها بعد أن حدد لها المشرع عقوبة معينة بذاتها، وهو ما يخالف مبدأ "تفريد العقوبة" واختصاص القاضي باختيار الجزاء الملائم- شبهة عدم الدستورية في ذلك- تطبيق: حكمت المحكمة بوقف الطعن، وإحالة أوراقه بدون رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستورية الفقرة الأخيرة من المادة (110) من قانون تنظيم الجامعات فيما تضمنته من جزاء العزل لكل فعل فيه مخالفة لنص المادة (103) من هذا القانون.
- المواد أرقام (94) و(96) و(101) و(121) و(123) و(184) و(186) من دستور 2014.
- المواد أرقام (103) و(105) و(107) و(109) و(110) و(112) من قانون تنظيم الجامعات، الصادر بالقرار بقانون رقم 49 لسنة 1972.
---------------
الوقائع
- في يوم الخميس الموافق 20/2/2014 أودع السيد الأستاذ/... المحامي، بصفته وكيلا عن السيدين: ..... و..... قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا تقرير طعن، قيد برقم 20806 لسنة 60ق عليا، في حكم مجلس تأديب أعضاء هيئة التدريس بجامعة عين شمس الصادر بجلسة 1/1/2014 في الدعوى التأديبية رقم 57 لسنة 2013، القاضي بمجازاتهما بالعزل من الوظيفة، مع الاحتفاظ بالمعاش أو المكافأة.
- وفي يوم الخميس الموافق 27/2/2014 أودع الأستاذ/... المحامي بالنقض والإدارية العليا، بصفته وكيلا عن السيد/ سيد... قلم كتاب المحكمة تقرير طعن قيد برقم 23187 لسنة 60ق. عليا، طعنا على حكم مجلس تأديب أعضاء هيئة التدريس بجامعة عين شمس الصادر بجلسة 1/1/2014 في الدعوى التأديبية رقم 57 لسنة 2013، القاضي بمجازاته بعقوبة العزل.
وطلب الطاعنون -للأسباب التي أوردوها في تقريري طعنيهما- الحكم بقبول الطعنين شكلا، وبصفة مستعجلة بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه، وفي الموضوع بإلغائه، وببراءتهم مما أسند إليهم.
وتحددت لنظر الطعن الأول أمام دائرة فحص الطعون جلسة 9/4/2014، وفيها قررت المحكمة التأجيل لجلسة 14/5/2014 لإعلان الجامعة، وبها قررت ضم الطعن الثاني إلى الأول، وبجلسة 29/1/2014 قررت إحالة الطعنين إلى دائرة الموضوع، التي أمرت بإحالة الطعنين إلى هيئة مفوضي الدولة لتحضيرهما وإعداد تقرير بالرأي القانوني في موضوعهما، وأودعت هيئة مفوضي الدولة تقريرها الذي ارتأت فيه الحكم بقبول الطعنين شكلا، وبإلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء ببراءة الطاعنين من المخالفة المنسوبة إليهما.
وتحددت لنظر الطعنين أمام دائرة الموضوع جلسة 28/3/2015، حيث قررت الحكم فيهما بجلسة 11/4/2015، وفيها صدر الحكم وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه عند النطق به.
----------------
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات والمداولة قانونا.
وحيث إن الطعنين استوفيا أوضاعهما الشكلية، فإنهما يكونا مقبولين شكلا.
وحيث إن عناصر هذه المنازعة تخلص -حسبما يبين من عيون الأوراق- في أنه بتاريخ 14/4/2013 أصدر السيد الدكتور/ رئيس جامعة عين شمس القرار رقم 224 لسنة 2013 بإحالة كل من:
1- السيد الدكتور/ .......
2- السيد الدكتور/ .......
3- السيد الدكتور/ ......
أعضاء هيئة التدريس بقسم اللغة العبرية بكلية الآداب بجامعة عين شمس إلى مجلس تأديب أعضاء هيئة التدريس بجامعة عين شمس؛ لمحاكمتهم تأديبيا، لقيامهم بإعطاء دروس خصوصية بالمخالفة لحكم المادة (103) من قانون تنظيم الجامعات، الصادر بالقرار بقانون رقم 49 لسنة 1972، ولخروج الأول عن مقتضيات وظيفته بإصداره عبارات لبعض الطالبات على مواقع التواصل الاجتماعي تحمل قدرا من التجاوز الأخلاقي، بل عبارات تخدش الحياء.
- وبجلسة 1/1/2014 قضى مجلس تأديب أعضاء هيئة تدريس جامعة عين شمس بمجازاتهم بالعزل من الوظيفة، مع الاحتفاظ بالمعاش أو المكافأة لكل منهم، وشيد قضاءه على سند من أن ما أسند إلى المحالين الثلاثة من إعطاء دروس خصوصية ثابت في حقهم بشهادة الشهود، وبما أسفرت عنه تحريات هيئة الرقابة الإدارية، وأن ما نسب إلى المحال الأول من تلفظه بألفاظ وعبارات لبعض الطالبات على مواقع التواصل الاجتماعي تحمل قدرا من التجاوز الأخلاقي غير ثابت في حقه.
- ويقوم الطعنان على أن الحكم المطعون فيه خالف القانون، وأخطأ في تطبيقه وتأويله، وأنه جاء قاصرا في التسبيب، مخلا بحق الدفاع.
- وحيث إن المادة رقم (103) من قانون تنظيم الجامعات، الصادر بالقرار بقانون رقم 49 لسنة 1972 تنص على أنه: " لا يجوز لأعضاء هيئة التدريس إعطاء دروس خصوصية بمقابل أو بغير مقابل".
وتنص المادة رقم (105) على أن: "يكلف رئيس الجامعة أحد أعضاء هيئة التدريس في كلية الحقوق بالجامعة أو بإحدى كليات الحقوق إذا لم توجد بالجامعة كلية للحقوق بمباشرة التحقيق فيما ينسب إلى عضو هيئة التدريس. ويجب ألا تقل درجة من يكلَّف بالتحقيق عن درجة من يجري التحقيق معه. ويقدِّم عن التحقيق تقريرا إلى رئيس الجامعة ولوزير التعليم العالي أن يطلب إبلاغه هذا التقرير. ولرئيس الجامعة بعد الاطلاع على التقرير أن يحفظ التحقيق أو أن يأمر بإحالة العضو المحقق معه إلى مجلس التأديب إذا رأى محلا لذلك، أو أن يكتفي بتوقيع عقوبة عليه في حدود ما تقرره المادة (112)".
وتنص المادة رقم (107) على أن: "يُعلِم رئيس الجامعة عضو هيئة التدريس المُحال إلى مجلس التأديب ببيان التهم الموجهة إليه وبصورة من تقرير التحقيق، وذلك بكتاب موصى عليه مصحوب بعلم وصول قبل الجلسة المعينة للمحاكمة بعشرين يوما على الأقل".
وتنص المادة رقم (109) على أن: " تكون مساءلة جميع أعضاء هيئة التدريس أمام مجلس تأديب يُشكل من:
(أ) أحد نواب رئيس الجامعة يعينه مجلس الجامعة سنويا. رئيسا.
(ب) أستاذ من كلية الحقوق أو أحد أساتذة كليات الحقوق في الجامعات التي ليس بها كلية للحقوق يعينه مجلس الجامعة سنويا.
(ج) مستشار من مجلس الدولة يندب سنويا. عضوين.
وفي حالة الغياب أو المانع، يحل النائب الآخر لرئيس الجامعة ثم أقدم العمداء ثم من يليه في الأقدمية منهم محل الرئيس.
ومع مراعاة حكم المادة (105) في شأن التحقيق والإحالة إلى مجلس التأديب, تسري بالنسبة إلى المساءلة أمام مجلس التأديب القواعد الخاصة بالمحاكمة أمام المحاكم التأديبية المنصوص عليها في قانون مجلس الدولة".
وتنص المادة رقم (110) على أن: "الجزاءات التأديبية التي يجوز توقيعها على أعضاء هيئة التدريس هي:
(1) التنبيه.
(2) اللوم.
(3) اللوم مع تأخير العلاوة المستحقة لفترة واحدة أو تأخير التعيين في الوظيفة الأعلى أو ما في حكمها لمدة سنتين على الأكثر.
(4) العزل من الوظيفة مع الاحتفاظ بالمعاش أو بالمكافأة.
(5) العزل مع الحرمان من المعاش أو المكافأة وذلك في حدود الربع.
وكل فعل يزري بشرف عضو هيئة التدريس أو من شأنه أن يمس نزاهته أو فيه مخالفة لنص المادة (103) يكون جزاؤه العزل.
ولا يجوز في جميع الأحوال عزل عضو هيئة التدريس إلا بحكم من مجلس التأديب".
وتنص المادة رقم (112) على أن: "لرئيس الجامعة توقيع عقوبتي التنبيه واللوم المنصوص عليهما في المادة (110) على أعضاء هيئة التدريس الذين يخلون بواجباتهم أو بمقتضيات وظائفهم، وذلك بعد سماع أقوالهم وتحقيق دفاعهم، ويكون قراره في ذلك مسببا ونهائيا، وعلى عميد كل كلية أو معهد إبلاغ رئيس الجامعة بكل ما يقع من أعضاء هيئة التدريس من إخلال بواجباتهم أو بمقتضيات وظائفهم".
وحيث إن المادة رقم (94) من الدستور الصادر عام 2014 تنص على أن: "سيادة القانون أساس الحكم في الدولة. وتخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء، وحصانته، وحيدته، ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات".
وتنص المادة رقم (96) منه على أن: "المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة...".
وتنص المادة رقم (101) على أن: "يتولى مجلس النواب سلطة التشريع وإقرار السياسة العامة للدولة... ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية".
وتنص المادة رقم (121) على أنه: "لا يكون انعقاد المجلس (مجلس النواب) صحيحا ولا تتخذ قراراته إلا بحضور أغلبية أعضائه... وتصدر الموافقة على القوانين بالأغلبية المطلقة للحاضرين".
وتنص المادة رقم (123) على أن: "لرئيس الجمهورية حق إصدار القوانين...".
وتنص المادة رقم (184) على أن: "السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقا للقانون، ويبين القانون صلاحياتها، والتدخل في شئون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم".
وتنص المادة رقم (186) على أن: "القضاة مستقلون غير قابلين للعزل، لا سلطان عليهم في عملهم لغير القانون...".
وحيث إن مفاد ما تقدم أن السلطات التشريعية تتمثل أساسا في البرلمان المشكل بإرادة الناخبين، المعبر الحقيقي عن رغباتهم، وهو السلطة المختصة بتحديد الجرائم وبإقرار العقوبات المناسبة لها، وأن جهة القضاء هي المختصة وحدها بتطبيق العقوبات التي تقدرها السلطة التشريعية، وعن طريق ذلك يأمن المواطن ضد كل احتمال للتعسف من قبل السلطات الحاكمة.
وحيث إن القاعدة المسلم بها في مجال قانون العقوبات أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وبالرغم من أوجه الشبه بين الجرائم الجنائية والجرائم التأديبية، فإنه ليس من اللازم أن تصدر عن السلطة التشريعية قواعد تؤثم بعض الأفعال مسبقا حتى يعاقب الموظف، بل يعاقب إذا ما ثبت قبله فعل أو امتناع لا يتفق مع مقتضيات وظيفته، وسواء نص على ذلك صراحة أو لم ينص.
وحيث إن قانون الوظيفة العامة باعتباره الشريعة العامة لم يسلك مسلك قانون العقوبات والقوانين الجنائية الأخرى فلم يحصر الأفعال المؤثمة، ولم يحدد أركانها أو العقوبة المقررة لكل منها، فالأفعال المكونة للذنب الإداري في هذا القانون ليست محددة حصرا ونوعا، بل مردها بوجه عام إلى الإخلال بواجبات الوظيفة العامة أو الخروج على مقتضياتها، كما لم يحدد المشرع نوع الجزاء الواجب تطبيقه، بل ترك تحديد ذلك للسلطة التأديبية بحسب تقديرها لدرجة جسامة الفعل وما يستأهله من عقاب.
ومؤدى ذلك النتائج الآتية:
(أولا) أن عدم وجود نص مانع أو مؤثم لفعل معين، لا يعني بالضرورة أن هذا الفعل مباح للموظف على نسق قانون العقوبات، فالمشرع إذا حرم بعض الأفعال على الموظفين، فإنما يريد أن يسترعي انتباه الموظفين إلى خطورة الأعمال المؤثمة، وأن يبدي توجيهه القاطع في اجتنابها، على أن يترك ما لم يذكره للقاعدة العامة.
(ثانيا) أنه مادام المشرع لم يحصر الأعمال الممنوعة على الموظفين، والتي تكون جريمة تأديبية، فإن تحديد هذه الأعمال متروك لتقدير الجهات التأديبية، سواء كانت هذه الجهات جهات رئاسية أم جهات قضائية، ومن ثم فإن تكييف الواقعة بما يجعلها من الذنوب الإدارية المستحقة للعقاب مرجعه إلى تقدير جهة الإدارة، ومن ثم فإن السلطة التأديبية في تقديرها للجرائم التأديبية تلتزم ضوابط الوظيفة العامة بما تتضمنه من حقوق وواجبات، فتقدير ما إذا كان الموظف قد أخطأ خطأ يستوجب الجزاء، يرجع فيه إلى هذه الحقوق والواجبات، دون غيرها، ومن ثم فليس لسلطة التأديب أن تتقيد بضوابط قانون العقوبات.
(ثالثا) أن السلطة التأديبية تقوم بعمليتين مستقلتين:
الأولى: البت فيما إذا كان الخطأ المنسوب إلى الموظف، محل التأديب يعد جريمة تأديبية، فإذا ما انتهت من هذه المهمة انتقلت إلى مهمة أخرى، وهي تحديد العقوبة الملائمة للخطأ الثابت قبل الموظف، من بين قائمة العقوبات التي حددها المشرع، ومن هنا جاء مبدأ الاختصاص التقديري لسلطة التأديب فيما يتصل بتوقيع العقوبات التأديبية.
وحيث إنه إذا كانت الجريمة التأديبية لا تخضع لمبدأ "لا جريمة إلا بنص"، فإن العقوبة التأديبية تُحكم بمبدأ "لا عقوبة بلا نص"، ويعني هذا المبدأ أن السلطة التأديبية المختصة إذا كانت تترخص في تقدير ما يندرج في نطاق المخالفات التأديبية، فإنها ملزمة أن توقع عقوبة من العقوبات التي حددها المشرع، ففي قانون العقوبات يوجد ارتباط كامل بين كل جريمة على حدة، وما يناسبها من عقاب، فتحديد العقوبة هو عمل المشرع بالدرجة الأولى، والحرية التي قد تترك للقاضي الجنائي محدودة، وتنحصر في تحديد العقوبة الملائمة بين حدين، كالحبس أو السجن من كذا إلى كذا، أو الخيارين بين توقيع عقوبة مالية أو عقوبة مقيدة للحرية أو توقيع العقوبتين.
أما في القانون التأديبي فإن القاعدة العامة أن المشرع يحدد قائمة بالعقوبات التأديبية التي يجوز توقيعها على الموظف المخطئ، ويترك للسلطة التأديبية المختصة حرية اختيار العقوبة الملائمة من بين قائمة العقوبات المقررة.
وقد جرى قضاء هذه المحكمة على أن تقدير ملاءمة العقوبة للذنب الإداري الذي ثبت في حق الموظف هو من سلطة الإدارة، وأنه لا رقابة للقضاء عليها في هذا الشأن، إلا إذا اتسم الجزاء بعدم الملاءمة الظاهرة، أي بسوء استعمال السلطة.
كما جرى أيضا على أن القرارات الصادرة عن مجالس التأديب هي بمثابة أحكام قضائية، وأنه ولئن كانت لهذه المجالس سلطة تقدير خطورة الذنب الإداري، وما يناسبه من جزاء، بغير معقب عليها في ذلك، إلا أن مناط مشروعية هذه السلطة -شأنها كشأن أي سلطة تقديرية أخرى- ألا يشوب استعمالها غلو، ومن صور هذا الغلو عدم الملاءمة الظاهرة بين درجة خطورة الذنب، ونوع الجزاء ومقداره، ففي هذه الصورة تتعارض نتائج عدم الملاءمة الظاهرة مع الهدف الذي تغياه المشرع من التأديب.
وبناء على ما تقدم فإن اختيار العقوبة المناسبة هو من قبيل السلطة التقديرية التي تمارسها المحاكم ومجالس التأديب.
ولما كان المشرع في قانون تنظيم الجامعات، الصادر بالقرار بقانون رقم 49 لسنة 1972، قد حظر على أعضاء هيئة التدريس إعطاء دروس خصوصية، وحدد على سبيل الحصر في المادة (110) الجزاءات التأديبية التي يجوز توقيعها على أعضاء هيئة التدريس، إلا أنه نص في الفقرة الأخيرة من هذه المادة صراحة على أن كل فعل فيه مخالفة لنص المادة (103) يكون جزاؤه العزل، ومن ثم فإن سلطة مجلس التأديب في اختيار العقوبة الملائمة في مخالفة إعطاء الدروس الخصوصية تكون قد اختفت تماما بعد أن حدد لها المشرع عقوبة معينة بذاتها.
وحيث إنه لا تجوز معاملة المتهمين بوصفهم نمطا ثابتا، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في قالبها، بما مؤداه أن الأصل في العقوبة هو تفريدها لا تعميمها، وأن تقرير استثناء تشريعي لجريمة إعطاء دروس خصوصية من هذا الأصل العام، وأيا كانت الأغراض التي يتوخاها المشرع، مؤداه أن المذنبين جميعا تتوافق ظروفهم، وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني ابتداع جزاء في غير ضرورة، بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، وبما يقيد الحرية الشخصية دون مقتضٍ؛ ذلك أن مشروعية العقوبة مناطها أن يباشر كل قاض سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها تقديرا لها في الحدود المقررة قانونا، فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها، جَبَّا لآثار الجريمة من منظور عادل يتعلق بها وبمرتكبها.
وحيث إن تناسب العقوبة مع الجريمة داخل في إطار الحقائق الجوهرية للوظيفة القضائية، فإن حرمان من يباشرون تلك الوظيفة من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة، بما يوائم بين الصيغة التي أفردت فيها، ومتطلبات تطبيقها في كل حالة بذاتها، مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة، ولا يمكن إنفاذها إلا عملا مجردا يعزلها عن بيئتها، دالا على قسوتها، أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامدا، فجا، ونافيا لقيم الحق والعدل.
وحيث إن المقرر قانونا أن العقوبة التخييرية هي أداة تشريعية، يستند القاضي إليها بحسب ظروف كل دعوى لتطبيق مبدأ تفريد العقوبة، ومن ثم فإنه في الأحوال التي يمتنع فيها إعمال هذه الأداة، فإن الاختصاص الحصري بتفريد العقوبة المعقود للقاضي يكون قد استغلق عليه تماما، بما يفتئت على استقلاله، ويسلبه حريته في تقدير العقوبة، ويفقده جوهر وظيفته القضائية، وينطوي على تدخل محظور في شئون العدالة.
وحيث إن العقوبة المقررة لأعضاء هيئة التدريس بالجامعات لجريمة إعطاء الدروس الخصوصية هي العزل من الوظيفة، ومن ثم فإن هذه العقوبة تعد من العقوبات غير التخييرية، ويمتنع بحكم الفقرة الأخيرة من المادة (110) من قانون تنظيم الجامعات المشار إليه النزول عنها لو اتضح للقاضي التأديبي قسوتها، بما يحول بينه وبين إعمال سلطته في تفريد العقوبة.
وحيث إن النص المتقدم ألغَى سلطة القاضي في تفريد العقوبة، وهي جوهر الوظيفة القضائية، وجاء منطويا كذلك على تدخل في شئونها، مقيدا لحرية القاضي في غير ضرورة، نائيا عن ضوابط المحاكمة المنصفة، مخلا بمبدأ خضوع الدولة للقانون.
وحيث إن إلغاء سلطة القاضي في النزول بالعقوبة هو في حقيقته إلغاء لسلطته في تفريدها، والتي تعد إحدى خصائص الوظيفة القضائية، مما ينطوي على إهدار لحقوق أصلية كفلها الدستور، وافتئات من السلطات التشريعية على السلطة القضائية، بل وتدخل في شئون العدالة، مما يثير شبهة عدم دستورية النص المتقدم.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بوقف الطعنين، وإحالة أوراقهما بدون رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستورية الفقرة الأخيرة من المادة (110) من قانون تنظيم الجامعات، الصادر بالقرار بقانون رقم 49 لسنة 1972، فيما تضمنته من جزاء العزل لكل فعل فيه مخالفة لنص المادة (103) من هذا القانون، وذلك على الوجه المبين بالأسباب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق