الصفحات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 10 يونيو 2021

الطعن 28746 لسنة 54 ق جلسة 5 / 4 / 2015 إدارية عليا مكتب فني 61 ج 2 ق 124 ص 1709

جلسة 5 من إبريل سنة 2015
الطعن رقم 28746 لسنة 54 القضائية (عليا)
(الدائرة السابعة)
برئاسة السيد الأستاذ المستشار/ حسن كمال محمد أبو زيد شلال نائب رئيس مجلس الدولة
وعضوية السادة الأساتذة المستشارين/ د. محمد ماهر أبو العينين، وصلاح شندي عزيز تركي، وحسن محمود سعداوي محمد، ود. مجدي صالح يوسف الجارحي. نواب رئيس مجلس الدولة
-----------------
(أ‌) دعوى:
الصفة في الدعوى- يجب اختصام وزير الصحة في الدعاوى المقامة على الهيئة العامة للتأمين الصحي؛ لأنه رئيسها الأعلى، وما يصدر من أحكام على الهيئة تتولى تنفيذه تحت إشرافه.

(ب‌) مسئولية:
المسئولية على أساس الخطـأ المفترض- المسئولية المدنية بنوعيها (التقصيرية والعقدية) قامت في الأساس على فكرة الخطأ الذي يسبب ضررا- تطور الحياة الاجتماعية أدى إلى محاولة تعويض الأضرار التي لا تنسب مباشرة إلى من قام بالخطأ، فتبلورت فكرة التعويض عن الخطأ المفترض من المتبوع، أو حارس الأشياء، أو متولي الرقابة، وذلك بقصد حماية المضرور- كانت هذه حيلة قانونية لاستمرار فكرة الخطأ أيا كان مرتكبه بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

(ج‌) مسئولية:
نظرية المسئولية دون خطأ- نظرة تاريخية على نشأتها وتطورها في مصر وفرنسا- المقصود بها- يقصد بالمسئولية دون خطأ: المسئولية التي يكفي أساسا لقيامها وجود علاقة سببية مباشرة بين الضرر والعمل أو النشاط، في غيبة أي خطأ من جانب الإدارة، حتى لو كان العمل أو النشاط مصدر الضرر في ذاته سليما وصحيحا- الفكرة المحورية في ذلك تقوم على إقامة نوع من التوازن بين المزايا المترتبة على وجود المرافق العامة، والأضرار الناجمة عنها- يميز هذه المسئولية أنها تتعلق بالنظام العام، وأن المدعى عليه لا يستطيع أن يدفعها إلا بإثبات خطأ المضرور نفسه أو القوة القاهرة، فلا تأثير من ثم لخطأ الغير أو الحادث الطارئ في قيامها.

(د‌) مسئولية:
المسئولية دون خطأ- الفرق بينها وبين المسئولية على أساس قرينة الخطأ- في نطاق (المسئولية على أساس قرينة الخطأ) يوجد خطأ، لكن يتعذر اكتشافه، وهنا يأتي دور القرينة في إثباته، ويتم التعويض على أساس توفرها، أما في نطاق (المسئولية دون خطأ) فيستحق المضرور التعويض، ولو كان العمل مشروعا؛ على أساس العدالة ومساواة الأفراد أمام التكاليف العامة.

(هـ) مسئولية:
المسئولية دون خطأ- تطبيقها في مصر- بات القضاء الإداري المصري مهيئا للأخذ بنظرية "المسئولية دون خطأ"، تأسيسا على اعتبارات العدالة، ومبدأ المساواة أمام الأعباء العامة المنبثق من مبدأ التضامن الاجتماعي- للقضاء الإداري في المرحلة الأولى أن يأخذ بضوابط هذه النظرية المستقرة في قضاء مجلس الدولة الفرنسي، ومن أهمها أنها مسئولية استثنائية، لا يتم اللجوء إليها إلا في حالة تخلف وجود أي خطأ ولو بسيط في سير المرافق الإدارية، وبشرط أن يكون الضرر المترتب على هذا الفعل من الجهة الإدارية جسيما، ومباشرا، لم يتدخل المضرور في إحداثه- اعتراض جانب من الفقه على الأخذ بهذه النظرية هو لأسباب فنية بحتة، ومنها الخوف من اتساع نطاق تطبيقها على نحو يخل بالموازنة العامة للدولة، إلا أن اعتبار هذه المسئولية هي في الأصل مسئولية استثنائية يخفف من هذا الاعتراض.
مجلس الدولة في تبنيه لهذه النظرية يستطيع الانطلاق نحو تعويض الأضرار المترتبة على أعمال السيادة، وعن الجرائم الإرهابية والجنائية الجماعية، والتجمعات والتظاهرات حتى لو كان مسموحا بها، مادامت قد أصابت بعض الأفراد بأضرار، ويتمكن القاضي الإداري من إكمال منظومة العدالة بقضائه بالتعويض عن قرارات وإجراءات هي في الأصل مشروعة، لكنها سببت أضرارا لبعض الأفراد حتى لو كانوا جمعا كبيرا، فمن العدل وتطبيقا لمبدأ المساواة أمام الأعباء العامة أن يعوض من أصابه ضرر من هذه الإجراءات أو القرارات أو الأفعال.
على المشرع أن يتدخل -مثلما هو الحال في فرنسا- لوضع قوانين تنظم التعويض عن أعمال السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية دون خطأ، فقواعد التضامن الاجتماعي وضمان أمن المجتمع وسلامته والعدالة، تتطلب تعويض من أضيروا من جراء الجرائم الجنائية والإرهابية، ومضاعفات الجراحات والتقنيات الحديثة في العلاج أو الأمراض الجديدة التي ظهرت وتؤثر بصورة جماعية في الصحة العامة.

(و) مسئولية:
المسئولية دون خطأ- المسئولية عن الأعمال المادية لجهة الإدارة في خصوص المرفق الطبي- هذه المسئولية تقوم على أساس الخطر أو المخاطر، فاستخدام التقنيات العلاجية يمكن أن يكون له ردود فعل غير متوقعة على جسم الإنسان، والمرفق الطبي العام كغيره من الأشخاص المعنوية الأخرى يجب أن يضمن هذه المخاطر- مخاطر العملية الجراحية يجب أن يتحملها المرفق الطبي، وأن يقوم بتعويض المضرور، ولو لم يكن هناك خطأ من جانب المرفق، أو من جانب أي من أطبائه- المجال الخصب لنظرية المخاطر في المجال الطبي يظهر في الصعوبات الناتجة عن إثبات خطأ الطبيب المعالج في أغلب الأحيان، نتيجة وجود مسائل فنية دقيقة يصعب الفصل فيها- إقرار نظام المسئولية دون خطأ في المرفق الطبي العام يكتسب بعدا إنسانيا بإعلاء قيمة الفرد وتأكيد حماية القانون لجسده وضمان سلامته، خاصة في بعض الحالات الدقيقة، كنقل الدم ونقل الأعضاء.
-------------
الوقائع
في 9/6/2008 أقام الطاعن طعنه بإيداع تقريره قلم كتاب المحكمة، مقررا الطعن على الحكم الصادر عن محكمة القضاء الإداري بقنا- الدائرة الأولى، في الدعوى رقم 1414 لسنة 11ق بجلسة 24/4/2008، الذي انتهى إلى رفض الدعوى وإلزام المدعي المصروفات، وطلب الطاعن في ختام تقرير طعنه الحكم بإلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء مجددا بأحقيته في التعويض بمبلغ مليون جنيه مع إلزام جهة الإدارة المصروفات.
وتم إعلان تقرير الطعن على النحو الثابت بالأوراق.
وانتهت هيئة مفوضي الدولة في تقريرها إلى أنها ترى الحكم بإلغاء الحكم المطعون فيه، وتقدير المحكمة التعويض المناسب للطاعن، وتدوول الحكم أمام المحكمة على النحو الثابت بمحاضر الجلسات حيث تقرر إصدار الحكم بجلسة اليوم، وفيها صدر الحكم وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه عند النطق به.
-------------
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.

وحيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية المقررة، ويتعين رفض ما دفعت به هيئة قضايا الدولة من عدم قبول الطعن في مواجهة وزير الصحة بصفته؛ ذلك أن وزير الصحة هو الرئيس الأعلى للهيئة العامة للتأمين الصحي، وما يصدر من أحكام على الهيئة تتولى الهيئة تنفيذها تحت إشرافه، فاختصامه واجب حتى يكون الحكم الصادر على الهيئة في مواجهته لإلزامها تنفيذه.

وحيث إن واقعات الحكم المطعون فيه تخلص -حسبما يظهر من الأوراق- في أن الطاعن كان قد أقام دعواه رقم 1414 لسنة 11ق أمام محكمة القضاء الإداري بقنا في 25/2/2003، مختصما وزير الصحة ومدير عام التأمين الصحي بقنا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتأمين الصحي (بصفاتهم)، طالبا الحكم بالتعويض المناسب عما أصابه من أضرار مادية ومعنوية، وإلزام جهة الإدارة المصروفات.

وقال المدعي شرحا لدعواه إنه من المنتفعين بنظام التأمين الصحي، وفي 1/5/1997 أصيب بإرهاق في عينه، فتم تحويله إلى مستشفى التأمين الصحي بمدينة نصر بالقاهرة، وبعد إجراء عملية جراحية بالعين اليسرى، تم تحويله إلى مستشفى القصر العيني، وتم إجراء عدة عمليات لترقيع القرنية، إلا أنها باءت بالفشل، وترتب على ذلك فقدان بصره للعين اليسرى نتيجة أخطاء المسئولين بالتأمين الصحي. وانتهى إلى طلباته المبينة سالفا.

وبجلسة 28/12/1997 قضت المحكمة -وقبل الفصل في الموضوع- بندب فرع مصلحة الطب الشرعي بقنا لندبه بدوره كبير أطبائه المتخصصين لأداء المأمورية المبينة بالحكم، وبعد ورود التقرير انتهت المحكمة إلى حكمها المطعون فيه برفض الدعوى، وأقامته على أن تقرير كبير الأطباء الشرعيين المودع بملف الدعوى قرر عدم وجود أي خطأ طبي أو إهمال أو تقصير يمكن نسبته للأطباء الذين تناولوا حالة المدعي بالعلاج، وأن المضاعفات التي حدثت في حالة المدعي تعد من المضاعفات المسلم بإمكان حدوثها عقب عملية إزالة المياه البيضاء وزرع وتركيب القرنية، وانتهى التقرير إلى عدم وجود أي صورة من صور الخطأ، فقضت المحكمة بحكمها المطعون فيه.

ويقوم الطعن على أن الحكم المطعون فيه قد أخطأ في تطبيق القانون وتأويله؛ ذلك أن الإصابة التي حدثت في عين الطاعن اليسرى كانت بسبب الأطباء التابعين للهيئة، أو بسبب إهمال المرفق الصحي نفسه بالهيئة، وأن الهيئة ملزمة بتعويضه عما أصابه من أضرار، منها فقد إبصاره بعينه اليسرى تماما، كذلك يجب أن يشمل التعويض تكاليف العلاج وإجراء الفحوصات ومصاريف التقاضي، وهو ما يقدره بمبلغ مليون جنيه.

وتدوول الطعن أمام هذه المحكمة التي قررت بجلسة 16/2/2014 ندب لجنة طبية مكونة من ثلاثة أطباء استشاريين -تخصص عيون- بكلية الطب جامعة القاهرة، يناط بهم الكشف على العين اليسرى للطاعن، وأداء المهمة الموضحة بالحكم، والتي تضمنت الاطلاع على الأوراق والتقارير العلاجية الخاصة به، وتحديد ما إذا كانت الجراحات التي أجريت له قد تمت على وفقالأصول الطبية من عدمه، وما إذا كان هناك خطأ يمكن نسبته إلى أي من الأطباء الذين قاموا بإجراء هذه الجراحات من عدمه، وما إذا كانت الإصابة التي لحقت بعينه كانت بسبب جراحى أو علاجي من عدمه.

وورد تقرير اللجنة إلى المحكمة، وجاء به أنه بتوقيع الكشف الطبي على الطاعن، وبالاطلاع على ملف علاجه والتقارير الطبية السابق إعدادها بشأن الحالة الطبية للعين اليسرى بالمستشفيات والجهات المختلفة، تبين أن العين اليسرى لا ترى الضوء، وبها ضمور، وضغطها منخفض، وتوجد آثار عملية زرع قرنية صناعية، ولا يوجد بها ما يشير إلى عدم مراعاة الأصول الطبية في إجرائها، ولا يمكن التكهن بسبب إصابة العين، ولا يوجد ما يشير إلى وجود خطأ جراحي أو علاجي أو بسبب أي طبيب، ولم يتبين من الأوراق وجود أي خطأ أو إهمال طبي تجاه المريض، وحالة المريض نهائية، ولا يرجى منها أي تدخل جراحي أو علاجي لاسترداد أي إبصار، بالداخل أو الخارج.

وحيث إن الطاعن وإن طلب التعويض عما أصابه من أضرار نتيجة فقد إبصار عينه اليسرى بعمليات جراحية متعددة، ناسبا الخطأ إلى أطباء الهيئة، إلا أن التقارير المشار إليها توضح أنه لم يكن هناك خطأ شخصي أو مرفقي أدى إلى الإضرار بالعين اليسرى في خصوص حالة الطاعن، ومن ثم فإنه لم يتبق لبحث مسئولية الهيئة العامة للتأمين الصحي عن تعويض الطاعن إلا البحث عن حقه في التعويض في ضوء (نظرية المخاطر الطبية)، وهي فرع عن نظرية (المسئولية دون خطأ)، التي يطبقها القضاء الإداري الفرنسي دائما، ويطبقها قضاء مجلس الدولة المصري في بعض الأحيان، وهو ما يستدعي من المحكمة استعراض أسس وقواعد هذه المسئولية في القانون المدني والقضاء الإداري.

وحيث إنه في مجال المسئولية المدنية بنوعيها (المسئولية التقصيرية والمسئولية العقدية) فقد تطور الفكر القانوني (الفقه والقضاء والتشريع) فيما يتعلق بالقواعد الأساسية التي قامت عليها هذه المسئولية، فهي مسئولية قامت في الأساس على فكرة الخطأ الذي يسبب ضررا، ويتعين لذلك تعويض المضرور، إلا أن تطور الحياة الاجتماعية أدى إلى محاولة تعويض الأضرار التي لا تنسب مباشرة إلى من قام بالخطأ، فجاءت مسئولية المتبوع، ومسئولية متولي الرقابة، والمسئولية عن الأشياء، لتضع قرائنَ بعضُها بسيط والبعضُ الآخر لا يقبل إثبات العكس حول وجود الخطأ، أي إنه في بعض الحالات يعد الخطأ مفترضا، وظهر من خلال هذه المسئولية وجود من يلتزم بالتعويض دون أن يقوم بارتكاب فعل مادي ينسب إليه في هذا الخصوص، بل ينسب الفعل إلى غيره، وإن كانت هناك علاقة بين من تسبب في الخطأ ومن هو مسئول عن التعويض، فجاءت مسئولية المتبوع عن خطأ تابعه فيمايقع منه في حالة تأديته وظيفته أو بسببها (المادة 174 مدني)، وجاءت مسئولية متولي الرقابة عن العمل غير المشروع الذي يرتكبه من هو تحت رقابته، لتشدد من أسباب دفع المسئولية عن متولي الرقابة بإلقاء العبء عليه ليتخلص من المسئولية إذا أثبت أنه قام بواجب الرقابة،أو أثبت أن الضرر كان لابد واقعا ولو قام بهذا الواجب بما ينبغي من العناية (المادة 33 مدني).

وبتطور المجتمع، وازدياد الحاجة إلى الآلات الميكانيكية، كانت مسئولية حارس الأشياء مفترضة، وعليه لنفيها أن يثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي لا يد له فيه.

وهذا التطور في افتراض الخطأ كان المقصود به حماية المضرور، حيث إنه لن يستطيع مطالبة التابع أو القاصر أو مَنْ به إعاقة عقلية أو جسمية بالتعويض عما يصيبه من أضرار؛ لأن هؤلاء في الغالب الأعم من الحالات لا يملكون مالا يتم تعويضه منه، وكذلك المسئولية عن الأشياء، فبدون افتراض مسئولية الحارس عليها سيضيع حق المضرور، ومن هنا تبلورت فكرة التعويض عن الخطأ المفترض من المتبوع أو حارس الأشياء أو متولي الرقابة، وكانت هذه حيلة قانونية لاستمرار فكرة الخطأ، أيا كان مرتكبه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وقد انتهى الفكر في القانون المدني إلى تبني المسئولية دون خطأ في خصوص مضار الجوار غير المألوفة على وفق ما نصت عليه المادة (807) فقرة (2) من القانون المدني، ويظهر بوضوح أن هذه المضار غير المألوفة هي مسئولية دون خطأ عند النظر إلى الفقرة (1) من المادة نفسها التي ذهبت إلى أنه على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار، فهذه الفقرة أوضحت أنه مع عدم وجود أي نوع من الخطأ لا يجوز للمالك أن يصل في استعمال حقه إلى أن يضر بملك الجار، وجاءت الفقرة الثانية ونصت على أنه ليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، إنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت حد المألوف، على أن يراعى في ذلك العرف وطبيعة العقارات، وهو ما أكد معه بعض الفقه أن هذه صورة من صور المسئولية دون خطأ في القانون المدني. (د..........، تحديد الأساس القانوني للمسئولية عن مضار الجوار غير المألوفة، مجلة الحقوق بالكويت، السنة السابعة، العدد الثاني، يونيو 1983، وتراجع رسالة د. .............، المسئولية عن الأشياء، سنة 1952، جامعة عين شمس).

وعلى كل، فإن التطور الحديث في الفقه والقضاء يرسخالنظر إلى الجوانب الموضوعية في المسئولية بالتركيز على ركن الضرر، أكثر من التركيز على الجانب الشخصي، وهو ركن الخطأ؛ نظرا إلى الصعوبات العديدة التي أظهرتها نواحي التقدم العلمي والتكنولوجي في خصوص الأضرار التي قد تسببها أدوات هذا التقدم، والتطورات الاجتماعية التي تظهر من بعض الأفكار المتطرفة في شأن المسئولية عن تعويض ضحايا حوادث المرور وضحايا الإرهاب ومستغلي المنشآت النووية.

وقد وقفت القواعد القديمة لفكرة "شخصية الخطأ" عائقا أمام تحقيق تعويض عادل لضحايا هذه الجوانب، مما أدى إلى تدخل المشرع بالنص على قواعد خاصة للتعويض دون خطأ عن الأضرار الناجمة عن استعمال المنشآت النووية أو عن الحوادث التي تقع من بعض المنظمات الإرهابية، وكذلك تدخل المشرع ليضع قواعد للتعويض عن الأضرار التي تسببها بعض المهن الخطرة، كالخدمة في القوات المسلحة, وتدخل في بعض الأحيان لوضع قواعد للتعويض عن الإصابة أثناء العمل وبسببه في جميع الوظائف، وهو ما يوضح بجلاء قصور الجانب الشخصي في المسئولية بالتركيز فقط على الخطأ، دون النظر إلى الجانب الموضوعي الثابت دائما، ألا وهو الضرر.

وكذلك الأمر بخصوص المسئولية العقدية التي تقوم في الأساس على وجود مخالفة من أحد الطرفين للعقد بما يشكل خطأ يستوجب التعويض، وقد عبر أحد الباحثين عن هذا التطور حيث ذهب إلى أنه في الواقع فإنه بقدوم نظرية تحمل التبعة -التي ظهرت في نهاية القرن الماضي بغرض إزاحة فكرة الخطأ باعتباره أثرا من مخلفات الماضي- تحولت قضايا المسئولية إلى مجرد مشاكل موضوعية تقتصر على البحث عن علاقة السببية أو عن المساهمة في الضرر على وفق المادة الأولى من قانون 5 يوليو 1985 الخاص بحوادث المرور.ومما لا شك فيه أن الفوائد العملية لنظرية تحمل التبعة لا يمكن إنكارها؛ إذ هي تسمح بصفة عامة بسهولة تعويض الضحايا بدرجة أفضل من نظرية الخطأ، ولقد أفلتت جوانب عديدة للأنشطة البشرية من النفوذ المطلق للخطأ تماما، وأصبحت تخضع بصفة جزئية أو كلية لنظرية تحمل التبعة، سواء عن طريق القضاء أم عن طريق المشرع نفسه. ومن الجدير بالذكر أن هذه المجالات التي أفلتت من نفوذ الخطأ تمس القطاعات الأكثر حيوية في الحياة الاجتماعية، مثل حوادث العمل وحوادث المرور وغيرها، وبفضل انتشار التأمين وصناديق الضمان في معظم هذه المجالات أصبحت اجتماعية المخاطر أمرا واقعا مسلما به، بينما تراجعت المسئولية الفردية القائمة على الخطأ، ولم تعد تحتل بعد سوى مكانة هامشية متواضعة. (د...........، تطور مفهوم الخطأ كأساس للمسئولية المدنية، رسالة جامعة عين شمس 1998، ص417).

علما بأن تأسيس المسئولية على فكرة "تحمل التبعة" فيه إعفاء للمضرور من إثبات الخطأ، وهذه النظرية تحقق التوازن بين الحقوق، وتحقق التضامن الاجتماعي وفكرة المساواة، مما يؤدي في النهاية إلى تحقيق العدل. (د........، الوسيط، ج 1، ص240).

وقد أخذ المشرع المصري بالمسئولية دون خطأ في القانون المدني، فكما سبق وأشرنا كانت المادة (78) من القانون المذكور تنظم مضار الجوار غير المألوفة، وهي مسئولية دون خطأ.

كما أخذ المشرع المصري أيضا بالمسئولية في حالة الضرورة في المادة (168) مدني، التي تقضي بأن من سبب ضررا للغير ليتفادى ضررا أكبر محدقا به أو بغيره، لا يكون ملزماإلا بالتعويض الذي يراه القاضي مناسبا.

ويرى الفقه في هذه المسئولية استثناءً من قواعد المسئولية القائمة على الخطأ، وهو ما يشير بدوره إلى هذا الطريق الذي اختاره التشريع والقضاء في سبيل إعمال التعويض، دون التقيد بفكرة الخطأ نفسها في مثل هذه الفروض الخاصة للمسئولية.

وجاءت المادة (147) من القانون المدني، وأخذت من تطبيقات مجلس الدولة الفرنسي نظرية "الظروف الطارئة" في نطاق العقد، وهي المسئولية التي رسخها مجلس الدولة الفرنسي في حكمه في قضية "غاز مدينة بوردو" في 30/3/1916، وهي مسئولية دون خطأ في نطاق التعاقد، وطبقها مجلس الدولة الفرنسي، وتقضي بتدخل القاضي في حال وجود ظروف طارئة غير متوقعة من شأنها أن تجعل تنفيذ الالتزام مرهقا على المتعاقد مع الإدارة، برد الالتزام المرهق للحد المعقول، وكان ذلك من مجلس الدولة عملا على مبدأ "دوام سير المرافق العامة بانتظام واضطراد"، وقد انتقل هذا المبدأ إلى الفقه والتشريع المدني، ونصت عليه المادة (147) من القانون المدني المصري، وهذا تكريس للمسئولية العقدية دون خطأ من المتعاقد، وخروج على مبدأ سلطان الإرادة في القانون المدني.

وتفوق مجلس الدولة الفرنسي أيضا في مجال المسئولية العقدية دون خطأ في ابتداع نظرية "عمل الأمير" في 19/11/1909، ونظرية "الصعوبات المادية غير المتوقعة" في 18/3/1869، وهي في مجملها النظريات التي يطلق عليها في فقه القانون الإداري "نظريات التوازن المالي في العقد".

وَسَبْقُ مجلس الدولة الفرنسي إلى ابتداع هذه النظريات كان لاتصال العقود الإدارية بسير المرافق العامة، فكان لابد لحماية سير هذه المرافق بانتظام واطراد أن يتم الأخذ في الاعتبار ضرورة مساعدة المتعاقد مع الإدارة لتنفيذ التزاماته، وإلا اختل سير المرافق العامة، مما شجع مجلس الدولة على ابتداع هذه النظريات، ثم الانطلاق إلى تطبيق قواعد المسئولية دون خطأ في جميع الأنشطة الإدارية.

وفي نطاق القانون العام ظلت فكرة "سيادة الدولة" حائلا دون تقرير مسئولية الدولة عن أفعالها الضارة، إلا أن هذا المبدأ قد انهار مع قيام الثورة الفرنسية، وصدور وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 26/8/1789، التي تضمنت مبدأين أساسيين كان لهما دور في التحول إلى قاعدة المسئولية الإدارية دون خطأ، (المبدأ الأول) المساواة بين المواطنين أمام الأعباء العامة، و(المبدأ الثاني) مبدأ المسئولية الشخصية للموظف.

ومؤدى مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة أنه مادام جميع المواطنين على قدم المساواة في تحمل التكاليف العامة، فالجميع يلتزم بدفع الضرائب للدولة في مقابل ما تؤديه لهم من خدمات، ونتيجة لذلك فعليهم أن يتحملوا ما ينجم من أضرار مألوفة، فإذا تحمل البعض دون البعض الآخر عبئا إضافيا، فهذا من شأنه الإخلال بمبدأ المساواة، وتلتزم الدولة بتعويض المضرور عن هذا العبء غير العادي، رغبة في إعادة التوازن المفقود طبقا لهذا المبدأ الدستوري الذي يعد أساسا لقيام مجتمع ديمقراطي حر. (د.فوزي أحمد شادي، تطور أساس مسئولية الدولة، رسالة جامعة عين شمس، سنة 2009).

وعلى ذلك تم التحول تدريجيا من مبدأ "عدم مسئولية الدولة" إلى تقرير مبدأ "مسئولية الموظفين الشخصية"، ثم الانتقال إلى مبدأ "مساءلة الدولة نفسها"، وقد كان مجلس الدولة الفرنسي سباقا إلى تقرير وجود قواعد للمسئولية الإدارية مختلفة عن القواعد الواردة في القانون المدني،وذلك في حكم "روتشلد" في 6/12/1855، إلا أن هذا المبدأ لم يترسخ إلا بصدور حكم محكمة التنازع الفرنسية في حكم "بلانكو" الصادر في 8/2/1873، حيث جاء حاسما في تقرير وجود مسئولية إدارية مختلفة عن قواعد القانون المدني.

وقد تبنت محكمة التنازع اتجاه مجلس الدولة في هذا الصدد على وجه مطلق، إذ قررت أن مسئولية الإدارة عن الأضرار التي تلحق الأفراد بسبب تصرفات الأشخاص الذين تستخدمهم في المرفق العام لا يمكن أن تحكمها المبادئ التي يقررها القانون المدني للعلاقات فيما بين الأفراد، وهذه المسئولية ليست عامة ولا مطلقة بل لها قواعدها الخاصة التي تتنوع على وفق حاجات المرفق وضرورة التوفيق بين حقوق الدولة والحقوق الخاصة، وقد تعلق حكم "بلانكو" في الأساس بمسئولية الإدارة عن أعمالها المادية، وهو ما ساعد -كما سيبين- على الوصول إلى "المسئولية دون خطأ".

وتطور قضاء مجلس الدولة الفرنسي، وظهرت التفرقة بين "الخطأ الشخصي" و"الخطأ المرفقي" في حكم محكمة التنازع في فرنسا في 30/7/1873 في قضية "بيليتييه"، ثم بتعميم مسئولية الإدارة عن أخطائها، وكان ذلك في قضية "تيفاجيوني" في 1/7/1904، وتأكد ذلك في قضية "توماس وجريكو" في 1/2/1905، واطردت بعد ذلك الأحكام التي تناولت الخطأ المرفقي، فالخطأ المرفقي دائماهو خطأُ شخصٍ طبيعي أو أكثر، سواء كان معلوما أم مجهولا، وتتحمل الإدارة نتائجه الضارة، والأشخاص الاعتبارية ليست لها إرادة مستقلة، بل يعبر ممثلوها عنها، كما أن إدارة المرافق العامة لا تعدو أن تكون مجموعة من الأعمال التي يتولاها الأفراد، والتي يشوب بعضها أحيانا نقص أو مخالفة للقانون مما تسأل عنه الإدارة، ومن صور الخطأ المرفقي: سوء قيام المرفق بالخدمة المطالب بأدائها، أو عدم قيام المرفق بالخدمة المطالب بأدائها، أو تأخر قيام المرفق بالخدمة المطالب بأدائها.

ومن حالات المسئولية عن الخطأ المرفقي التي تلتزم الجهة الإدارية بالتعويض عنها: مسئوليتها عن الأعمال المادية غير المشروعة، وكذلك القرارات الإدارية غير المشروعة.

ويفرق بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي في الغالب الأعم أن الخطأ الشخصي هو خطأ جسيم.

وفي خصوص التقاضي المتعلق بالخطأ المرفقي أو الشخصي: تطورت أحكام مجلس الدولة الفرنسي من عدم الجمع بين المسئولية عن الخطأ الشخصي والمرفقي، إلى الجمع بين المسئولية عن الخطأ الشخصي والمرفقي في حالة مساهمة الخطأين في إحداث الضرر، ثم استقر على مسئولية الدولة عن الخطأ الشخصي للموظف، وعليها الرجوع عليه بعد أن تقوم بسداد المبلغ المحكوم به عليه في حالة الخطأ الشخصي، أي إنها أصبحت محل التقاضي الأصلي، حتى لو كان الخطأ شخصيا. (يراجع في تطور هذا الأمر: د.............، نظرية الخطأ المرفقي، دراسة مقارنة، جامعة القاهرة، 1968، ص 234، ورسالة د................، نظرية الخطأ الشخصي في مجال المسئولية الإدارية، سنة 1988).

وتختلف قواعد المسئولية الإدارية عن المسئولية المدنية في عدة أمور، منها أن المسئولية الإدارية ذات مصدر قضائي، على عكس الأمر في خصوص المسئولية المدنية، ويزيد على ذلك:

1- تتسم قواعد المسئولية الإدارية بالمرونة، حيث لا يعتمد مجلس الدولة الفرنسي أو المصري على معيار ثابت في تقدير الخطأ كأساس للمسئولية، بل يتم تقدير كل منازعة على حدة على وفق ظروف المرفق وطبيعة نشاطه وأهميته الاجتماعية ومدى صعوبة العمل المنوط به، في حين يلتزم القاضي العادي بمعيار ثابت في هذا الصدد.

2- اشتراط درجة جسامة معينة لانعقاد المسئولية الإدارية بالنسبة لبعض المرافق ذات الطبيعة الخاصة، بخلاف المسئولية المدنية التي تنعقد بمجرد تحقق الخطأ.

3- اعتماد مسئولية الإدارة عن أعمال موظفيها على التفرقة التقليدية بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي، وذلك لحصر مسئولية كل منهما على وفق طبيعة الخطأ المرتكب.

4- تنفرد المسئولية الإدارية بجانب الخطأ كأساس عام بأساس تكميلي ذي أصل قضائي في فرنسا وتشريعي في مصر، وهي مسئولية المخاطر، التي يتجلى دورها في الحالات التي تتعارض فيها اعتبارات العدالة تعارضا صارخا مع اشتراط إثبات خطأ ما في جانب الإدارة.

بينما يتخلف الأمر في نطاق المسئولية المدنية التي لا تعرف هذا الأساس التكميلي، أو بمعنى أدق لا تطبقه إلا بناء على نص صريح. (د..........، رسالة مسئولية الإدارة على أساس المخاطر، جامعة عين شمس، سنة 1995، ص 65).

ولكن كيف حدث التطور في قضاء مجلس الدولة الفرنسي من مسئولية الدولة عن الخطأ المرفقي إلى تقرير مسئوليتها دون خطأ؟

إن هذا التطور ساهم فيه إلى حد كبير تقرير اختصاص مجلس الدولة بنظر التعويض عن أعمال الإدارة المادية منذ حكم "بلانكو"، كما ساهم فيه أيضا مسعى مجلس الدولة الفرنسي إلى ابتداع فكرة القرينة القضائية على وجود الخطأ، وإلقاء عبء نفيها على الجهة الإدارية، ذلك أنه نظرا لصعوبة إثبات خطأ الإدارة في بعض الحالات المتعلقة بالمسئولية الإدارية عن الأعمال المادية القائمة على أساس الخطأ، وضعف موقف المدعي (المضرور) في الدعوى الإدارية، ورغبة من القضاء الإداري في التخفيف عن كاهله؛ اتجه القضاء في مصر وفرنسا إلى الاستعانة بالقرائن القضائية، ولاسيما قرينة الخطأ لإثبات هذا الركن، مما يؤدي إلى تحرر المضرور مؤقتا من عبء الإثبات المنوط به أصلا في هذا الشأن، ونقله إلى عاتق الإدارة المدعى عليها، بحيث لا يلتزم المضرور بإثبات الخطأ، ويكفي عندئذ لقيام المسئولية الإدارية أن يثبت المدعي الضرر الذي أصابه، وعلاقة السببية بينه وبين تصرفات الإدارة أو أنشطتها التي يفترض معها الخطأ، وهو إثبات ميسور نسبيا.

وقد استند مجلس الدولة الفرنسي صراحة إلى قرينة الخطأ في 22 ديسمبر عام 1924، وذلك في مجال حوادث السير التي تسببها سيارات الإدارة، وجعلها قرينة غير قابلة لإثبات العكس، حتى عَدَلَ عن ذلك في 5/3/1931، ثم انتقل الاختصاص بالنظر في منازعات حوادث السيارات إلى القضاء العادي، وكانت فكرة قرينة الخطأ مدخلا أخيرا لتبني مجلس الدولة وتوسعه في الأخذ بالمسئولية دون خطأ.

وتفترق "المسئولية على أساس قرينة الخطأ" عن "المسئولية بدون خطأ" في أن الأولى يوجد بشأنها خطأ، لكن يتعذر اكتشافه، وهنا يأتي دور القرينة في إثباته ويتم التعويض على أساسه، في حين أنه في الثانية يستحق المضرور التعويض، ولو كان العمل مشروعا، على أساس العدالة ومساواة الأفراد أمام التكاليف العامة. (د.................، قرينة الخطأ في مجال المسئولية الإدارية دراسة مقارنة، دار النهضة المصرية، سنة 2005، ص 114).

وقد ولدت "المسئولية دون خطأ" أو "المسئولية على أساس المخاطر" بحكمين: الأول حكم مجلس الدولة في قضية "كاميه" في 21/6/1895، ويتعلق بحادثة عمل أصابت المذكور أثناء ممارسته لعمله بإحدى مؤسسات الدفاع الوطني في يده اليسرى على نحو أدى إلى عدم استطاعته استعمالها بصفة نهائية، فكان مجال حوادث العمل أول مجالات المسئولية على أساس المخاطر. وكذلك حكم مجلس الدولة في قضية "رينيه ديزروازيه" في 28/3/1999، حيث تعلق الأمر بانفجار هائل في مخزن للقنابل اليدوية وقع بالقرب من تجمع سكني كبير، مما أوقع العديد من القتلى والجرحى وسبب خسائر مادية كبيرة، فقد قام الحكم على وجوب تعويض الضرر، دون النظر إلى الخطأ المرفقي. (د...........، تراجع فكرة الخطأ أساس لمسئولية المرفق الطبي العام، منشأة المعارف 2003، ص80، ورسالة د...........، الاختصاص بدعاوى التعويض عن الأعمال المادية للإدارة سنة 2004).

ويمكن القول إنه بجانب المسئولية الإدارية التي تقوم على أساس فكرة الخطأ، أنشأ مجلس الدولة الفرنسي نوعا آخر من المسئولية لا علاقة له بفكرة الخطأ، بمعنى أنه قرر التعويض عن أضرار نتجت عن تصرف مشروع من جانب الإدارة، غير أن هذه المسئولية ماتزال ذات صفة استثنائية، وتقوم بدور تكميلي بالنسبة للمسئولية القائمة على أساس الخطأ، بمعنى أن مجلس الدولة لا يحكم فيها على الإدارة بتعويض جميع الأضرار الناجمة عن نشاطها الإداري، لكنه يقتصر على حالات خاصة يكون فيها تطبيق قواعد المسئولية القائمة على أساس الخطأ مجحفا بالأفراد، ومتنافيا بصورة صارخة مع مبادئ العدالة.

وتعتمد الفكرة المحورية لنظام المسئولية دون خطأ على إقامة نوع من التوازن بين المزايا المترتبة على وجود المرافق العامة، والأضرار الناجمة عنها.

وقد أقر مجلس الدولة مسئولية الإدارة دون خطأ في مجالات عديدة استنادا إلى الخطر الكامن في النشاط المادي بالنسبة للأعمال المادية، أو استنادا إلى مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة بالنسبة للأعمال القانونية.

والمسئولية على أساس المخاطر، أو المسئولية دون خطأ، أو المسئولية الموضوعية، هي تلك المسئولية التي يكفي أساسا لقيامها وجود علاقة سببية مباشرة بين الضرر والعمل أو النشاط مصدره، في غيبة أي خطأ من جانب الإدارة، حتى لو كان العمل أو النشاط مصدر الضرر في ذاته سليما وصحيحا.

ويميز المسئولية على أساس المخاطر أيضا:

1- أنها تتعلق بالنظام العام، ويستطيع المدعي إثارتها في أي حالة تكون عليها الدعوى، كما يستطيع القاضي من تلقاء نفسه أن يفصل في الدعوى على أساسها.

2- أن المدعى عليه لا يستطيع أن يدفع المسئولية إلا بإثبات خطأ المضرور نفسه أو القوة القاهرة، ولا تأثير من ثم لخطأ الغير أو الحادث الطارئفي قيامها.

وعلى الرغم من أن أغلب الفقهاء يُعرفون "المسئولية دون خطأ" على أنها "المسئولية على أساس المخاطر"، إلا أن منهم من ينتهي إلى أن المسئولية دون خطأ تشمل طائفتين: الأولى مسئولية المخاطر، والثانية: المسئولية الناشئة عن الإخلال بمبدأ المساواة بين المواطنين أمام الأعباء العامة، وهذا التقسيم هو الأدق؛ لأن مسئولية المخاطر تصلح للتعويض عن الأضرار الناشئة عن الأشغال العامة والأنشطة الخطرة والمخاطر المهنية، في حين أن المسئولية القائمة على الإخلال بمبدأ المساواة بين المواطنين أمام الأعباء العامة تتحقق في حالة مسئولية الدولة عن قراراتها المشروعة، وعن القوانين والمعاهدات الدولية. (في هذا الفهم: د...........، قانون القضاء الإداري، الكتاب الثالث، مسئولية السلطة العامة ، دار النهضة العربية، سنة 2004، ص240).

ونظرا إلى أن المسئولية دون خطا تقوم في الأساس على عنصرين فقط، هما علاقة السببية والفعل الذي تسبب في الضرر، فبخصوص علاقة السببية لم يتطلب القضاء فيها سوى أن يكون الضرر ناتجا مباشرة عن الفعل أو الإجراء الذي اتخذته الجهة الإدارية، وقد تشدد مجلس الدولة في شروط الضرر الموجب للتعويض في حالة المخاطر، فاشترط، بالإضافة إلى كونه مباشرا، أن يكون محقَّقا، بحيث يكون قد صدر فعلا، أو لم يصدرلكن تحققه مؤكد، وأن يكون ماسا بمركز يحميه القانون، فمشروعية مركز المضرور هي التي تبرر -مع الخصائص الأخرى- إمكانية المطالبة بالتعويض.

وبالإضافة إلى هذه الخصائص العامة للضرر فقد اشترط مجلس الدولة الفرنسي شرطين جوهريين في الضرر: الأول: ضرورة توفر الخصوصية في الضرر، والثاني: الصفة غير العادية للضرر.

ويقصد بمفهوم "الخصوصية": انحصار آثار الضرر الناجم عن نشاط الإدارة في فرد أو أفراد محددين، إلا أن مجلس الدولة الفرنسي لم يستقر على معيار ثابت ومحدد في هذا الخصوص، لكن أغلب التطبيقات تأخذ بالمعيار الكمي، أي الاعتماد على نسبة المضرورين وإمكانية حصرهم، إلا أنه طبق في أحيان أخرى النظرية على الأضرار التي تسببها القوانين باعتبار أنها من قبيل العبء العام رغم ضخامة أعداد المضرورين.

وبخصوص "الضرر غير العادي" فيقصد به: الضرر الذي يفوق في أهميته -سواء من حيث استمراره أو قيمته المادية- الأضرار التي يتحملها المواطن عادة في حياته اليومية، مما يجعل تركه دون تعويض إجحافا بالعدالة، ولا يتقيد مجلس الدولة الفرنسي بضابط محدد في هذا المجال، فهو يستخدم تعبير "مخاطر الجوار غير العادية" أو مصطلح "ضرر ذو جسامة كافية"، كما اعتمد في بعض الأحيان على القيمة الاقتصادية للضرر.

ومن المجالات التي طبق فيها مجلس الدولة الفرنسي المسئولية دون خطأ ومسئولية المخاطر: مسئولية الإدارة دون خطأ عن استخدامها لأشياء خطرة، كاستخدام الأسلحة النارية، وحوادث السيارات، والأنشطة ذات الطابع العسكري، وكذلك في مجال إصابات العمل،والأضرار عن الأشغال العمومية، والمخاطر التي تصيب العاملين والمتعاملين بمرفق الصحة، كما طبق مجلس الدولة الفرنسي المسئولية دون خطأ عن الأعمال التي تتم تحت مظلة "الظروف الاستثنائية"، مثل تعرض قنصل فرنسا في كوريا الجنوبية للاعتقال حين اندلعت الحرب بينها وبين كوريا الشمالية في حكم "بيروش" في أكتوبر 1963.

ومن التطبيقات المتصلة بالأعمال القانونية: التطبيقات الخاصة بالمسئولية دون خطأ في مجال القرارات الفردية واللائحية المشروعة، ومنها قرارات الفصل الفجائي، أو المتعلقة بإلغاء الوظيفة، والقرارات الصادرة بالاستيلاء، أو إيقاف النشاط، أو القرارات اللائحية التنظيمية الصادرة بإعادة تنظيم المرور في الشوارع التجارية، مما يلحق الضرر بأصحاب المحلات.

كذلك طبق مجلس الدولة الفرنسي المسئولية دون خطأ عن الأضرار غير العادية التي تسببها القوانين، وكانت البداية في حكم "لافلوريت" في 1938، وكذلك تلك التي تسببها المعاهدات الدولية، وكان ذلك في الحكم الصادر الخاص بقضية "بيرجا" في 29 أكتوبر 1976، وإن كان قد سبقته أحكام أخرى اعترفت بعدم وجود خطأ في المعاهدة، إلا أنها لم تصرف التعويض؛ لانتفاء الخصوصية.

ويُرجع الفقهاء أساس المسئولية دون خطأ إلى عدة مبادئ كلها صالحة لإقامة النظرية عليها، ومنها: مبدأ "المساواة أمام الأعباء والتكاليف العامة الناشئة عن سير المرافق العامة"، وهو المبدأ الذي سبق وأشرنا إلى أساسه في نص المادة (13) من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26/8/1789، وأقام آخرون هذه النظرية على أساس "الغرم بالغنم" و"تحمل التبعة"، وهي تغطي حالات مخاطر الجوار غير المألوفة، ويرى آخرون أن فكرة "المخاطر" هي الأساس الوحيد للمسئولية دون خطأ، في حين أن بعض الفقه –وبحق- ينسب هذه النظرية إلى فكرة "العدالة"، فهي الفكرة الوحيدة القادرة على تفسير كل حالات المسئولية أيا كانت طبيعتها، إلا أنها لا تكفي بذاتها لتحقيق الدور المناط بها كأساس للمسئولية إلا من خلال مشاركة ومعاونة مبدأ المساواة بين المواطنين أمام الأعباء العامة، وهذا المبدأ لا يقوم بهذا الدور إلا إذا توفر ضرر خاص غير عادي من شأنه الإخلال بهذا المبدأ، وهو الركن الأساسي لانعقاد هذه المسئولية. (يراجع فيما جاء بهذا الخصوص: د...............، المرجع السابق، ود...............، المرجع السابق، ود.............، المسئولية دون خطأ للمرافق الطبية العامة، ورسالة د..................، مسئولية الدولة على أساس المخاطر، دراسة مقارنة، جامعة القاهرة، 1997، ص 340، ص 340 وما بعدها).

وفي خصوص المسئولية عن الأعمال المادية لجهة الإدارة في خصوص المرفق الطبي، فإن هذه المسئولية تقوم على أساس الخطر أو المخاطر، فاستخدام التقنيات العلاجية يمكن أن يكون له ردود فعل غير متوقعة على جسم الإنسان، والمرفق الطبي العام -كغيره من الأشخاص المعنوية الأخرى- يجب أن يضمن هذه المخاطر، ومع ذلك ظل القضاء العادي الفرنسي وجانب من الفقه مدة طويلة يرفضان فكرة مسئولية المرفق الطبي العام إلا بالنسبة لأعمال تنظيم وإدارة المرفق، أما بالنسبة للأعمال الطبية فإن المسئولية عنها تنشأ على عاتق الطبيب الممارس على وفق قواعد القانون الخاص.

وقد حسمت محكمة التنازع اختصاص القضاء الإداري وتطبيق قواعد المسئولية الإدارية بالنسبة لأخطاء الأطباء؛ لأنها متعلقة بأداء نشاط المرفق العام، باستثناء الأخطاء الشخصية المنفصلة عن نشاط المرفق، وهذه يختص بها القضاء العادي (تنازع 2 مارس 1957 شيلو)، ومنذ ذلك الحين أصبحت الدعاوى ترفع على المرفق الطبي العام أمام القضاء الإداري لطلب التعويض عن الضرر الناتج عن ممارسة العمل الطبي داخل المرفق، وكانت بداية إقرار القضاء لفكرة الخطأ المفترض في مجال المسئولية الطبية بحكم "ديجو" في 7/3/1958 في مجال التطعيم الإجباري، وذلك قبل أن يتدخل المشرع نفسه بقانون أول يوليو عام 1964 ليقيم المسئولية في هذا المجال على أساس المخاطر. (د...............، المرجع المشار إليه، ص 155، ورسالة د................. سالفة البيان، ص 119).

والمجال الخصب لهذه النظرية (نظرية المخاطر) في المجال الطبي تجد أساسها في الصعوبات الناتجة عن إثبات خطأ الطبيب المعالج في أغلب الأحيان، نتيجة وجود مسائل فنية دقيقة يصعب الفصل فيها، فضلا عن اعتبارات المجاملة بين الأطباء لزملائهم في حالة اتهامهم بالتقصير، فإقرار نظام المسئولية دون خطأ في المرفق الطبي العام يكتسب بعدا إنسانيا بإعلاء قيمة الفرد وتأكيد حماية القانون لجسده وضمان سلامته، خاصة في بعض الحالات الدقيقة، كنقل الدم ونقل الأعضاء.

إلا أن حكم "بياتشي" في 9/4/1993 كان واضحا وصريحا في تطبيق فكرة المخاطر في المسئولية الطبية، حيث أجريت عملية تصوير إشعاعي للعمود الفقري للسيد بياتشي، وكان هذا الفحص ضروريا بسبب ما كان يعانيه من آلام، إلا أنه بعد أن أفاق من المخدر وجد نفسه مصابا بشلل رباعي، ولم يثبت حدوث خطأ فيما يتعلق بالعمل الطبي نفسه، ومع ذلك قرر له مجلس الدولة التعويض عما أصابه من أضرار. (تراجع التطورات في رسالة الدكتور ............ المشار إليها، ص230 و د...................، تراجع فكرة الخطأ أساسا لمسئولية الخطأ الطبي العام ص 45 وكذلك د. ............، المرجع السابق المشار إليه، ص330).

وقد استمر مجلس الدولة الفرنسي في تطبيق قواعد المسئولية دون خطأ في المجال الطبي بالنسبة لموظفي المستشفيات العامة والعاملين المؤقتين والمتطوعين (كعمليات نقل الدم وإجراء الأبحاث)، وكذلك المرضى العقليين، وكذلك بالنسبة للمتعاملين مع المرفق عن التبعات الناتجة عن التطعيمات الإجبارية، والأمراض الناتجة عن نقل الأعضاء أو الدم، أو استخدام التقنيات العلاجية الجديدة، كنقل الأعضاء والأنسجة البشرية في حال التبرع بها.

ومن ثم فإن مجلس الدولة الفرنسي يعوض الضرر الناشئ عن نشاط المرافق العامة الطبية، بشرط أن يكون الضرر محققا وخاصا وغير عادي أو جسيما، ولا تدفع علاقة السببية إلا بفعل المضرور أو القوة القاهرة. (د...............، رسالة المسئولية الإدارية عن أضرار المرافق العامة الطبية، دراسة مقارنة، كلية الحقوق، جامعة عين شمس، سنة 2005، ص240).

وكما اختلف الفقه في أساس المسئولية دون خطأ، اختلفوا أيضا في أساس المسئولية على أساس المخاطر في المجال الطبي، فمنهم من أرجعها إلى الخطر العلاجي الاستثنائي كأساس لهذه المسئولية، ومنهم من أرجعها إلى مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة كأساس لهذه المسئولية، إلا أن من الفقهاء من يرجع أساس هذه المسئولية إلى العدالة وقواعد التكافل والتضامن في المجتمع التي أرساها مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة. (تراجع تفصيلات هذه الآراء في: د. ........، نحو مسئولية موضوعية عن التبعات الطبية، دار الجامعة الجديدة، سنة 2011، ص202).

والملاحظ أن الغالبية العظمى من الفقهاء في مصر يؤيدون ضرورة أخذ مجلس الدولة المصري بهذه النظرية في نطاق القانون العام، وليس هناك من يعترض عليها إلا قلة قليلة من الفقهاء، يرجع اعتراضهم لأسباب فنية بحتة، ومنها الخوف من اتساع نطاق تطبيقها على نحو يخل بالموازنة العامة للدولة، إلا أن اعتبار هذه المسئولية هي في الأصل مسئولية استثنائية يخفف من هذا الاعتراض. (عرض لآراء المؤيدين والمعارضين: رسالة د................... المشار إليها، ورسالة د. ...........، مسئولية الدولة على أساس المخاطر, المرجع السابق، ص 230).

وقبل أن نتناول اتجاهات القضاء الإداري المصري في هذا الخصوص، نشير إلى أن الشريعة الإسلامية قد عرَفت المسئولية دون خطأ، حيث استنبط الفقهاء هذا الفهم من حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم):"لا ضرر ولا ضرار"، ومنه استنبط الفقهاء قاعدة "الضرر يزال"، وهذه القاعدة توجب التعويض دون اشتراط وقوع اعتداء أو فعل محظور، اكتفاءً بتوفر الضرر، ومنها أيضا أن المباشر ضامن وإن لم يتعدَّ، حيث يكفي لتطبيقها أن يكون هناك مجرد ضرر أدى إليه فعل المباشر، دون أن يمثل تعديا منه، ودون أن يتدخل معه فعل آخر تنقطع به رابطة السببية. (الشيخ ...........، الضمان في الفقه الإسلامي، ورسالة د....................، المشار إليها، ص17).

أما عن مجلس الدولة المصري فقد طبق قاعدة الخطأ الشخصي والمرفقي منذ إنشائه،وتوسع فيها، حتى يظهر جليا من تحليل أحكام المجلس اتجاهُ المجلس لقبول فكرة التعويض دون خطأ، ومن تطبيقاته الأولى التي أخذت بفكرة الخطأ الشخصي: ما ذهبت إليه محكمة القضاء الإداري من تعويض أحد الضباط تم إنهاء خدمته، حيث ألغت محكمة القضاء الإداري هذا القرار، إلا أن وزير الحربية أشر على طلب تنفيذ الحكم بالرفض، فقضت المحكمة بتعويض الضابط بمبلغ ألفي جنيه بالتضامن بين الوزارة ووزير الدفاع بصفة شخصية؛ لأن ما ارتكبه الوزير هو خطأ شخصي، وعندما اعترض الوزير على الخصم من راتبه تنفيذا للحكم المذكور أيد قسم الرأي هذا الفهم. (حكم محكمة القضاء الإداري في القضية رقم 88 لسنة 3ق، جلسة 29/6/1950، وطلب الرأي ملف رقم 29/1/7 في 20/12/1953- تفاصيل القضية: د. .....................، قضاء التعويض عن أعمال السلطات العامة، 2007).

وبجانب هذا التطبيق لفكرة الخطأ الشخصي والمرفقي ذهبت محكمة القضاء الإداري في بعض أحكامها القديمة إلى مسئولية الحكومة عن تعويض الموظفين الذين أحالتهم على المعاش، وقالت المحكمة إن الحكومة تملك حق إحالة الموظف على المعاش،لكن يجب حين يحكم بالتعويض أن يتضح من الأوراق أن هذه القرارات قد صدرت بغير مسوغ، ودون أن يأتي الموظف المفصول عملا يستوجب إبعاده عن الوظيفة التي يشغلها، أو أن تكون هذه القرارات قد صدرت في وقت غير لائق، وتوجب قواعد العدالة تعويض الموظف المفصول عن الأضرار التي لحقته بسبب قرار الفصل أو الإحالة على المعاش حتى لو تعذر عليه إثبات عيب إساءة استعمال السلطة، أو استبان أن هذا القرار قد صدر بغير مبرر شرعي أو قانوني، وطبقت هذا الفهم في قضايا عديدة، وهو ما دعا بعض الفقه إلى القول بأن المحكمة أخذت بالمسئولية دون خطأ، وهذا قول غير صحيح؛ لأن المحكمة قد أخذت بفكرة الخطأ المرفقي فقط، حيث أشارت إلى وجود خطأ في هذا الأمر، وأن هذا الخطأ وإن كان لا يصل إلى حد جواز إلغاء القرار بدعوى إساءة استعمال السلطة، إلا أنه يجب التعويض عن هذا الخطأ المرفقي. (الحكم الأول صدر سنة 1949 في القضية رقم 312 لسنة 2ق، وهناك أحكام أخرى منها الحكم الصادر في القضية رقم 21 لسنة 4ق جلسة 15/6/1950، وفي تحليل هذه الأحكام: تراجع رسالة د. ............... المشار إليها ص430 وما بعدها).

وبعد إنشاء المحكمة الإدارية العليا، اطردت أحكامها على الأخذ في التعويض بضرورة توفر الخطأ حتى لو كان مرفقيا، وأن عبء إثبات هذا الخطأ يقع على عاتق من يدعي وقوعه (أي المتضرر)، وهذه هي القواعد الأساسية في المسئولية القائمة على أساس الخطأ، إلا أنه عبر المسيرة الطويلة للمحكمة فإنها أخذت بفكرة المسئولية دون خطأ في أحيان قليلة جدا، ثم توسعت على نحو كبير في الأخذ بقرينة الخطأ على نحو اقترب كثيرا من اعترافها القديم بالمسئولية دون خطأ، وأصبحت في الوقت الحالي مؤهلة لتتبنى نظرية المسئولية دون خطأ على النحو الذي سنوضحه.

فقد ذهبت المحكمة في أحد أحكامها إلى تعويض الأضرار الناجمة عن تعطيل قرار إداري لحكم قضائي، وتتلخص وقائع هذا الحكم في قيام ممثل إحدى المدارس التابعة لوزارة المعارف (كما كان يطلق على وزارة التربية والتعليم آنذاك) باستئجار مبنى بمدينة القاهرة من أحد الأفراد لاستخدامه كمدرسة طبقا لشروط العقد المتفق عليها، والتي تضمنت فيما بينها شرطا هاما بمقتضاه يحظر على المستأجر إجراء تعديلات أو تغييرات بالعين إلإ بإذن كتابي من المالكين. وإذ قام السكرتير المسئول بالمدرسة بإجراء تعديلات وتوسعات مخالفة لشروط العقد، فقد ثارت حفيظة الملاك ولجأوا إلى جهة القضاء العادي (محكمة مصر الابتدائية)، فأصدرت حكمها بإلزام المدعى عليه إخلاء ما يشغله بالعين المؤجرة وملحقاتها، مع إلزامه المصروفات ومقابل أتعاب المحاماة.

وإزاء هذه التطورات، وحرصا من وزارة المعارف على ما قد يترتب من آثار خطيرة قد تؤثر في مستقبل التلاميذ وتشريدهم، أصدر الوزير المختص قرارا بالاستيلاء على المبنى، وقد بررت الإدارة قرارها بالخشية من أن يترتب على تنفيذ حكم الإخلاء تشريد هؤلاء التلاميذ وتعطيل مرفق التعليم بما لا يتفق مع المصلحة العامة بأية حال، فأريد بالقرار تفادي هذه النتائج الخطيرة، فيكون القرار قد صدر لضرورة ملحة اقتضتها المصلحة العامة.

وفي ضوء ذلك طعن المحكوم لمصلحتهم أمام مجلس الدولة بطلب إلغاء قرار الاستيلاء لصدوره بدافع الرغبة في تمكين المستأجر من التخلص من الحكم القضائي الصادر بالإخلاء، ولأنه مخالف للقانون بعدم احترام الأحكام، وإعانة المستأجر على الإفلات من تنفيذها.

وقد قررت المحكمة الإدارية العليا في هذا الحكم أنه ولئن كان لا يجوز للقرار الإداري أن يعطل تنفيذ حكم قضائي إلا إذا كان مخالفا للقانون، إلا أنه إذا كان يترتب على تنفيذه فورا إخلال خطير بالمصلحة العامة يتعذر تداركه، كحوادث فتنة أو تعطيل سير مرفق عام، فترجح حينئذ المصلحة العامة على المصلحة الفردية، لكن بمراعاة أن تقدر الضرورة بقدرها، وأن يعوض صاحب الشأن إن كان لذلك وجه. (حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 724 لسنة 7ق.ع جلسة 10/1/1959).

وقد أكدت هذا الفهم في حكم حديث نسبيا، حيث ذهبت إلى أن الامتناع العمدي بدون مبرر عن تنفيذ الأحكام القضائية، وإن كان يتضمن عدوانا على الدستور والقانون، ويعد جريمة جنائية بالنسبة لمرتكبها من الموظفين العموميين المختصين، فإن ثبوت عدم المبادرة إلى تنفيذ الأحكام التي يترتب على تنفيذها تحقيق مصلحة خاصة لأصحاب حق ملكية عقار أو منقول أو ما يماثلها، مع الخلل أو الاضطراب في الأمن العام مما يهدد السلام الاجتماعي والاستقرار العام على مستوى منطقة معينة، أو على مستوى الدولة ككل، فإن تجنب ما سيحدث حتما من صدام الجماهير ورجال الأمن، لا يعد خطأ من جهة الإدارة يبرر إلزامها التعويض عما يحيق بصاحب الحقوق الفردية من أضرار خاصة، كما هو الشأن في الخطأ العادي الذي يقوم عليه التزام المخطئ بالتعويض على وفق قواعد المسئولية المدنية، بل هو تصرف تفرضه الضرورة المتعلقة بحسن سير وانتظام المرافق العامة أو استقرار الأمن العام لفترة تطول أو تقصر بحسب الأوضاع الواقعية التي تفرضها مصالح المجتمع وأمنه واستقراره، واستمرار الخدمات العامة اللازمة لحياة المواطنين بدون تضحيات بالأرواح أو بالممتلكات، ونتيجة لذلك يلزم بناء المجتمع على التضامن الاجتماعي -الذي يقوم عليه طبقا للمادة (7) من الدستور- بتعويضِ مَن يصيبه الضرر من هذا الإجراء الضروري الذي تفرضه الظروف لمصلحة جميع المواطنين، ويتعين على الخزانة العامة للدولة الوفاء بهذا التعويض لمن تحمل من المواطنين عبء الضرر الخاص ماديا أو أدبيا لوقايتهم من ضرر عام يتعين توقيه للمصلحة العامة والخير العام للشعب. (الطعنان رقما 1771 لسنة 34 ق.ع و1767 لسنة 3.ع جلسة 22/11/1992).

وحيث إنه لا ريب أن الطريق المؤدي إلى توطيد نظرية المسئولية دون خطأ -كما هو الحال في فرنسا- هو في تقرير مسئولية الدولة عن أعمالها المادية، وهذه المسئولية قررتها محاكم مجلس الدولة منذ فترة طويلة، لكن كان التطبيق عرضيا، دون تأكيد الاختصاص بنظر هذه الأعمال، حيث كان اختصاص مجلس الدولة على سبيل الحصر، وكان الاختصاص بذلك معقودا للمحاكم المدنية قبل أن يصبح مجلس الدولة صاحب الاختصاص العام.

فقد قضت محكمة القضاء الإداري بتعويض أحد الأفراد عن احتجاز جواز سفره دون مقتضٍ، وهو ما أدى إلى تقييد حريته في السفر. (القضية رقم 628 لسنة 4ق بجلسة 8/4/1952).

وذهبت المحكمة إلى التعويض عن حالات القبض على المتهم في غير الحالات التي يجيزها القانون باعتباره إجراءً إداريا لا يستند إلى أساس من القانون. (حكم محكمة القضاء الإداري القضية رقم 469 لسنة 5ق بجلسة 4/12/1955).

وقضت المحكمة الإدارية العليا بالتعويض لأحد المواطنين لأن الجهة الإدارية بعد أن احتجزت معداته ومنقولاته تركتها في العراء دون حراسة، مما أدى إلى ضياعها. (حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعنين رقمي 3501 و363 لسنة 14ق. ع بجلسة 21/4/1973).

إلا أن الحكم الواضح والصريح في اختصاص مجلس الدولة بنظر التعويض عن أعمال الإدارة المادية بوصفها منازعة إدارية -بعد صدور دستور 1971، وقانون مجلس الدولة الصادر بالقرار بقانون رقم 47 لسنة 1972، وجعْل المجلس مختصا بنظر المنازعات الإدارية وصاحب الولاية العامة في المنازعات الإدارية- هو الحكم الصادر في 25/6/1981 في الطعن رقم 114 لسنة 24ق.ع، حيث أكد بوضوح اختصاص محاكم مجلس الدولة بالتعويض عن الأضرار الناشئة عن الأعمال المادية في نطاق القانون العام كلما اتصلت المنازعة مباشرة بمرفق يدار على وفق أحكام القانون العام وأساليبه، ويبدو واضحا وجه السلطة العامة ومظهرها.

وتأكد هذا الحكم بحكم آخر صادر عن دائرة فحص الطعون بالمحكمة برفض الطعن على تعويض قدرته محكمة القضاء الإداري لإحدى المواطنات من جراء سقوط عمود كهرباء بالشارع عليها. (الطعن رقم 2056 لسنة 30ق بجلسة 18/1/1988)(تفصيلات هذه الطعون في: د. ................، المرجع المشار إليه، ص 198 وما بعدها، والدكتور ................، مسئولية الإدارة عن أعمالها المادية، 1992، دار النهضة العربية، ص 46، ورسالة د. ..............، الاختصاص بدعاوى التعويض عن الأعمال المادية للإدارة، سنة 2004).

ومن هنا كان انطلاق المحكمة الإدارية العليا إلى تقرير التعويض عن أي أعمال مادية لجهة الإدارة أصابت المواطنين بضرر، وتوسعت فكرة الخطا المرفقي إلى حد كبير.

وإذا أضفنا إلى ذلك استخدام المحكمة لقرينة الخطأ في العمل المادي الصادر من جهة الإدارة لَتَبين لنا بما لا يدع مجالا للشك أن المحكمة تتقدم باطراد صوب تبني مبدأ المسئولية دون خطأ، فقد ذهبت المحكمة إلى تعويض ورثة أحد العاملين عن وفاته نتيجة حريق شب في دورة مياه الوحدة التي يعمل بها، وكان ناتجا عن عدم صيانة وإهمال الجهة الإدارية في تزويد الوحدة بأدوات الإطفاء ومعداته. (الطعن رقم 2288 لسنة 39ق.ع بجلسة 15/3/1998).

وكذلك التعويض عن انهيار أحد الجسور مما أدى إلى غرق أراضي الطاعنين، وأرجعت المحكمة الخطأ إلى وجود عيوب في تصميم الجسر. (الطعن رقم 4262 لسنة 44ق.ع جلسة 5/5/2001 والطعن رقم 8223 لسنة 47ق.ع جلسة 1/2/2003).

وكذلك قررت التعويض عن الأضرار الناجمة عن سقوط سقف جراج على الطاعن دون تحديد المسئول عن ذلك. (الطعن رقم 1606 لسنة 45ق.ع جلسة 10/5/2003).

وقد توسعت المحكمة الإدارية العليا إلى حد كبير في تقرير مسئولية الجهة الإدارية عما يصيب الجنود من أضرار داخل الوحدات العسكرية على نحو جعلها (أي تلك المسئولية) أقرب إلى المخاطر، فقد ذهبت إلى أنه ثبت نشوب حريق بالورشة أدى إلى وفاة مورث الطاعنين، وكان ذلك داخل وحدة عسكرية، وأنه وإن لم تسفر التحقيقات عن معرفة المتسبب في نشوب الحريق أو قصور في آلات مقاومة الحريق، إلا أن القدر المتيقن منه هو أن المتسبب هو أحد الموجودين بالوحدة،ولو لم تتوصل التحقيقات إلى معرفته، فإن مورث الطاعنة كان تحت إمرة وحدته العسكرية، وكان واجبا اتباع وسائل الأمان داخل الوحدة، وتجنب حدوث الحريق الذي أدى إلى وفاته، وانتهت إلى تعويضهم. (الطعن رقم 12716 لسنة 50ق.ع بجلسة 5/3/2011).

وأخذت المحكمة في هذا الخصوص بقرينة لا تقبل إثبات العكس، مفادها أن من تم تجنيده هو لائق للخدمة العسكرية، فإذا أصابه أي ضرر خلال مدة خدمته العسكرية فإن الجهة الإدارية تلتزم بتعويضه عن هذا الضرر؛ بوصف أن هناك خطأً مرفقيا مفترضا، فالمجند إما أن يكون غير لائق للخدمة ثم يتم تجنيده بالرغم من ذلك فتتفاقم حالته المرضية، ويكون خطأ الجهة الإدارية واقعا. (الطعن رقم 613 لسنة 53ق.ع جلسة 19/2/2011)، وإما أنه أصيب بسبب العمليات العسكرية فترتب عليها ضرر لحق به فيستحق تعويضا عن عدم قيام الجهة الإدارية بإجراء تحقيق حول الحادث، وتراخي الجهة الإدارية لا يعد مانعا من حصوله على حقوقه. (الطعنان رقما 2481 و2485 لسنة 46ق .ع بجلسة 8/12/2001، والطعن رقم 25891 لسنة 52ق.ع جلسة 28/5/2011).

وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة الإدارية العليا في خصوص تعويض المجندين أو رجال الشرطة أو أي فرد يقع عمله في إطار الأعمال الخطرة لا تكتفي بالتعويض الذي قرره القانون في بعض حالات الإصابة أثناء الخدمة وبسببها، بل استقرت على صرف تعويض إضافي للمضرور على وفقنص المادة (233) من القانون المدني، التي تجيز للدائن المطالبة بتعويض تكميلي إذا ثبت أن الضرر الذي يجاوز الفوائد قد تسبب فيه المدين بسوء نية، وربطت المحكمة الإدارية العليا بين عبارة سوء النية والخطأ المرفقي الجسيم في أحكامها، وحكمت بالتعويض التكميلي في عدة حالات. (يراجع في التعويض الإضافي بالنسبة إلى الخدمة العسكرية: د.محمد ماهر أبو العنين، المبادئ القضائية الحديثة للمحكمة الإدارية العليا، ص 229).

وذهبت في ذلك إلى أن قانون التقاعد والتأمين والمعاشات للقوات المسلحة الصادر بالقانون رقم 90 لسنة 1975 أوجب إجراء تحقيق في كل إصابة تحدث للمجند ينشأ عنها جرح أو عاهة أو وفاة، بواسطة الجهات العسكرية المختصة لإثبات سبب ذلك، وأوجبت حقوقا تأمينية وتعويضية ومعاشات مستحقة للمجند الذي يصاب بسبب الخدمة بهذه الجروح أو العاهات أو الأمراض، دون أن يحول ذلك عن أنه في حالات الخطأ العمدي أو الخطأ الجسيم فإن الحقوق التي قدرها وقررها المشرع في القانون المذكور لا تكون كافية لتغطية الضرر الذي يصيب المجند، وعندئذ يكون ظرف العمد أو الخطأ الجسيم موجبا للحكم بتعويض مكمل يوازي حجم الضرر، إلى جانب ما قدره القانون للمستحقين من حقوق، ويكون من حق المضرور المطالبة بحقه في التعويض الجابر للضرر الذي سببه الخطأ طبقا للقواعد العامة خارج ما هو منصوص عليه في القانون المشار إليه، استنادا إلى أحكام المسئولية التقصيرية المنصوص عليها في المواد 225 إلى 231 من القانون المدني (استقرت على هذا المبدأ بدءا من حكمها في الطعن رقم 2343 لسنة 32ق.ع الصادر بجلسة 25/1/1995، وحتى حكمها في الطعن رقم 2464 لسنة 56ق.ع جلسة 28/6/2014)، وفي هذا الحكم الأخير انتهت المحكمة إلى أن إلغاء القرار الصادر بعدم اعتبار إصابة المجند أثناء الخدمة وبسببها، يجعل له أحقية في التعويض عنها حتى لو كانت الإصابة هي استئصال غضروف قطني في ركبته تخلف عنه عجز جزئي، وأقامت المحكمة جميع المنازعات المتعلقة بهذا الأمر على قرينة لا تقبل إثبات العكس، وهي أن المجند سليم وصحيح بدنيا، وما يحدث له من إصابة أثناء تجنيده يجب أن يعوض عنها من جهة الإدارة، وتوسعت المحكمة الإدارية العليا في هذا الأمر توسعا كبيرا اقتربت فيه حالات الخطأ المرفقي من حالات المسئولية دون خطأ، وقد انتهت المحكمة إلى وجوب تعويض ورثة المجند عن المرض الذي ألم به أثناء التجنيد، وتطور حتى أدى إلى وفاته، مما ينبئ عن أنه كان غير لائق أصلا للخدمة العسكرية. (الطعن رقم 6663 لسنة 47ق.ع بجلسة 25/6/2005، وأكدت ذلك في حكم أحدث: الطعن رقم 613 لسنة 53ق.ع بجلسة 19/2/2011).

وقضت بتعويض إضافي قدره خمسون ألف جنيه عن العاهة العقلية التي أصابته نتيجة كدمات بالمخ بحادث تصادم أثناء التجنيد. (الطعنان رقما 2471 و2620 لسنة 48ق.ع بجلسة 3/3/2012).

كما ارتفعت قيمة التعويضات في قضائها الحديث، واتسعت فكرة الخطأ المفترض على نحو كبير، فذهبت إلى تعويض مجند عن إصابة لحقته عند عبور الشارع لركوب سيارة وزارة الداخلية بعد انتهاء نوبة حراسته،نشأت عنها عاهة مستديمة بعجز 40%، بمبلغ مئة ألف جنيه، وقالت في تبرير التعويض الإضافي إن الوزارة لم تكفل سلامة المجند لإمكانه عبور الشارع بأمان للوصول إلى السيارة المعدة لنقله. (الطعن رقم 13953 لسنة 48ق.ع بجلسة 9/4/2011).

كما قررت التعويض نفسه نتيجة إصابة المجند عندما حاول إصلاح مركبة عسكرية، حيث لم تكفل له الإجراءات والوسائل التي تساعد على تجنب حدوث ذلك. (الطعن رقم 17258 لسنة 52ق.ع بجلسة 15/6/2013).

كما قررت تعويضا بمبلغ خمسين ألف جنيه عن استئصال كلية أحد المجندين نتيجة أمراض أصابته أثناء الخدمة، وأقامت حكمها على قرينة أن إصابته كانت بعد دخوله الخدمة سليما. (الطعن رقم 45070 لسنة 56ق.ع جلسة 18/1/2015).

علما بأن المحكمة الإدارية العليا قررت وجوب التعويض في حال عدم إجراء التحقيق المنصوص عليه في قانون التقاعد والتأمين. (الطعن رقم 15481 لسنة 53ق.ع بجلسة 17/3/2012).

كما ذهبت إلى صرف تعويض قدره مئة وخمسون ألف جنيه، مع تعويض شهري ثابت عن إصابة أمين شرطة بحريق نتج عنه عاهة مستديمة لاندلاع النيران في إحدى الشقق حال تفقد تسرب الغاز منها، نتج عنها عجز مستديم بنسبة 50%. (الطعن رقم 23881 لسنة 51ق.ع بجلسة 18/1/2015).

وكذلك قضت بتعويض بمبلغ مئة ألف جنيه لإصابة مساعد شرطة بورم في المخ نتج عنه وفاته؛ لأن الجهة الإدارية لم تتخذ الإجراءات العاجلة حيال حالته المرضية التي تتطلب سرعة التعامل معها نظرا لخطورتها. (الطعن رقم 37798 لسنة 56ق.ع بجلسة 18/1/2015).

وبخصوص المسئولية الإدارية عن الأعمال المادية، ذهبت في أحد أحكامها إلى تعويض مورث أحد المواطنين عن الإصابة التي أدت إلى وفاته من جراء تطاير قطعة خشبية من اصطدام قطار بعربة يد وكان المذكور واقفا في انتظار القطار، وقررت المحكمة وجود خطأ مرفقي من الجهة الإدارية في عدم غلق المزلقان، مما يقتضي تعويضا قدره مئتا ألف جنيه. (الطعن رقم 2104 لسنة 55ق.ع والطعن رقم 12540 لسنة 55 ق.ع بجلسة 18/5/2014).

بل إن المحكمة الإدارية العليا قد انتهت إلى اختصاص محاكم مجلس الدولة بنظر التعويض عن القرارات الصادرة بناء على قوانين أو لوائح قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستوريتها، فتصبح هذه القرارات في نظر المحكمة منعدمة وقضت بالتعويض عنها. (الطعنان رقما 4855 و4964 لسنة 46ق.ع بجلسة 22/11/2003، والطعن رقم 8803 لسنة 48ق.ع جلسة 3/5/2003، والطعنان رقما 6012 و3148 لسنة 48ق.ع بجلسة 7/12/2003، ويراجع حكمها في الطعن رقم 7036 لسنة 46ق.ع بجلسة 26/1/2001 حيث أجازت طلب التعويض، إلا أنها اشترطت خصوصية الضرر، في حين أن التعويض في هذه الحالة هو عن خطأ، وليس على أساس المخاطر، وهو لا يتطلب في هذه الحالة خصوصية الضرر).

وفي المجال الطبي أكدت في حكم مهم لها أن دعوى التعويض التي أقامها المدعي بغرض تعويضه عن الأضرار التي يدعيها بسبب خطأ أطباء مستشفى قناة السويس هي دعوى تعويض عن عمل مادي، مدارها مسئولية الدولة عن أعمالها المادية في نطاق القانون العام ومجالاته، فهي منازعة يتأكد اتصالها بمرفق عام يدار على وفقا لقانون العام وأساليبه، ويبدو فيها واضحا وجه السلطة العامة ومظاهرها، ومن ثم يتعين الفصل فيها على هذا الأساس، وتقدير التعويض على وفق توفر الخطأ المرفقي. (الطعن رقم 3475 لسنة 32ق.ع بجلسة 26/12/1993).

وعلى وفق هذا الفهم انتهت في حكم آخر إلى مسئولية المستشفى الحكومي عن إصابة أحد الأطفال أثناء الولادة في رأسه، ولو لم يكن ذلك عن إهمال طبقا لآراء الأطباء الذين أخذت النيابة أقوالهم، وأخذت المحكمة بشهادة الشهود من معاوني الطبيب الذي أجرى الولادة، وانتهت إلى وجود تقصير أثناء عملية الولادة أدى إلى إصابة الطفل، واستبعدت تقرير الطبيب الشرعي الذي انتهى إلى عدم وجود خطأ أو إهمال أديا إلى الإصابة التي لحقت بالطفل، ولم تأخذ أيضا بحفظ النيابة للتحقيق في الواقعة لعدم وجود مسئولية جنائية، وقررت تعويض والدي الطفل بمبلغ مئة ألف جنيه تدفعها المستشفى نظرا لجسامة الإصابة. (الطعنان رقما 9646 و10170 لسنة 53ق.ع بجلسة 14/1/2012).

كما قضت المحكمة الإدارية العليا بتعويض أحد المرضى عن الأضرار التي أصابته من جراء نقل دم ملوث له أثناء عملية جراحية أدت إلى إصابته بالعديد من الأمراض بالرغم من تضارب التقارير الطبية، إلا أن المحكمة اعتبرت نكول جهة الإدارة عن تقديم الملف الطبي يكفي لتأكيد صحة ما ذهب إليه المدعي في دعواه، وانتهت إلى تعويضه بمبلغ خمسين ألف جنيه. (الطعن رقم 5949 لسنة 50ق.ع بجلسة 25/5/2013).

وحيث إنه لما تقدم، فإن مجلس الدولة أصبح مهيئا للأخذ بنظرية المسئولية دون خطأ في نطاق القانون العام، حيث إنه أكثر تطورا من القضاء المدني الذي يلتزم دائما بالنصوص القانونية، أما القانون الإداري فهو قانون قضائي في المقام الأول، ولهذا يمكن لمجلس الدولة إذا تطرق إلى اعتماد المسئولية دون خطأ أن يأخذ في هذا الخصوص في المرحلة الأولى بضوابط هذه النظرية المستقرة في قضاء مجلس الدولة الفرنسي، ومن أهمها أنها مسئولية استثنائية لا يتم اللجوء إليها إلا في حالة تخلف وجود أي خطأ ولو بسيط في سير المرافق الإدارية من ناحية، وأن يكون الضرر المترتب على هذا الفعل من الجهة الإدارية جسيما ومباشرا لم يتدخل المضرور في إحداثه.

ففي هذه الحالة فقط يتم النظر في تحقق المسئولية الإدارية دون خطأ؛ استنادا إلى العدالة، وكذلك مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة، المنبثق من مبدأ التضامن الاجتماعي المنصوص عليه في جميع الدساتير المصرية، وأكدته المادة (8) من الدستور الحالي الصادر في يناير 2014، التي تنص على أن يقوم المجتمع على التضامن الاجتماعي، وتلتزم الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير سبل التكافل الاجتماعي بما يضمن الحياة الكريمة لجميع المواطنين،ونص المادة (18) منه على أن لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقا لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة ودعمها. ونص الفقرة الثانية من هذه المادة على التزام الدولة بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطي كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين في اشتراكاته.

وبناء على ذلك فإن المحكمة الإدارية العليا سبق لها أن قضت في أحد أحكامها بإلزام الهيئة العامة للتأمين الصحي أن تؤدي للطاعن تكاليف عملية زرع كبد له بالصين، مخصوما منها ما حصل عليه قبل إجراء هذه العملية، مع ما يترتب على ذلك من آثار. (حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 44712 لسنة 57ق.ع بجلسة 23/9/2012).

ومجلس الدولة في تبنيه لهذه النظرية يستطيع الانطلاق نحو تعويض الأضرار المترتبة على أعمال السيادة، وعن الجرائم الإرهابية والجنائية الجماعية، والتجمعات والتظاهرات حتى لو كان مسموحا بها، مادامت قد أصابت بعض الأفراد بأضرار، ويتمكن القاضي الإداري من إكمال منظومة العدالة بقضائه بالتعويض عن قرارات وإجراءات هي في الأصل مشروعة، لكنها سببت أضرارا لبعض الأفراد حتى لو كانوا جمعا كبيرا، فمن العدل وتطبيقا لمبدأ المساواة أمام الأعباء العامة أن يعوض من أصابه ضرر من هذه الإجراءات أو القرارات أو الأفعال، والأمر مهيأ لمجلس الدولة مادام قد أصبح قاضي القانون العام.

- وحيث إنه لما كان ذلك، وفي خصوص حالة الطاعن الذي فقد الرؤية بعينه اليسرى تماما، وإن كان من الممكن للمحكمة أن تنتهي إلى تلمس أو اختلاق أي خطأ للجهة الإدارية، وتتجاهل تقارير الأطباء كما سبق وذهبت إلى ذلك في بعض أحكامها المشار إليها سالفا، إلا أن وضع الأمور في نصابها، وترسيخ الناحية الفنية الدقيقة في وصف الواقعة محل حكمها الماثل، وتقرير واقع يؤكد عدم وجود خطأ نتيجة عدة عمليات جراحية لزرع القرنية وإزالة المياه البيضاء بدأت بمستشفى مدينة نصر بالقاهرة للتأمين الصحي (على وفق الكتاب المرافق لحافظة المستندات المقدمة من الهيئة العامة للتأمين الصحي المقدمة أمام محكمة القضاء الإداري بقنا بجلسة 13/6/2005)، ومرورا بعمليات ترقيع للقرنية فاشلة بمستشفى القصر العيني، وانتهاء بفقد الإبصار بهذه العين؛ فإنه يتعين تعويضه عن مخاطر العمليات الجراحية الطبية، فعلى وفق تقرير الطب الشرعي فإن العمليات الخاصة بترقيع القرنية تتضمن زرع قرنية قد يرفضها الجسم، وهذا وارد في مثل هذه العمليات، ومن ثم فإن مخاطر العملية الجراحية يجب أن تتحملها الهيئة، وأن تقوم بتعويض المضرور، حتى لو لم يكن هناك خطأ من جانبها أو من جانب أي من أطبائها، وهو ما تنتهي إليه المحكمة.

وتراعي المحكمة في تقدير هذا التعويض أن الطاعن كان يكابد منذ إجراء هذه العملية في عام 2000 (أي من قرابة خمسة عشر عاما) آلاما بدنية ونفسية من جراء هذه العمليات المتتالية، وكذلك ما أنفقه من مصروفات للعلاج والانتقال ومصاريف التقاضي على درجتين، وهو ما تقدره المحكمة تعويضا بمبلغ ثلاث مئة ألف جنيه.

- والمحكمة في النهاية تهيب بالمشرع أن يتدخل -مثلما هو الحال في فرنسا- لوضع قوانين تنظم التعويض عن أعمال السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية دون خطأ، فلا يمكن تصور وجود أبحاث ورسائل دكتوراه تناولت مسئولية الحكومة والدولة على أساس المخاطر (تناول الدكتور/ ....... مسئولية الحكومة المصرية بوصفها صاحبة الولاية العامة في عام 1915 أي منذ قرن، وأعقب ذلك رسالته عن مسئولية الدولة عن أعمال السلطات العامة عام 1928، وطلب فيها تطبيق المسئولية على أساس المخاطر، وتكلم الدكتور/ .... عن مسئولية الدولة عن أعمالها المشروعة- القوانين واللوائح - عام 1952، وأشار فيها إلى المسئولية دون خطأ)، وها نحن نواجه اليوم جرائم جماعية جنائية وإرهابية، ولم نفكر في وضع تنظيم لتعويض المضارين من هذه الجرائم دون خطأ من الدولة، فقواعد التضامن الاجتماعي وضمان أمن المجتمع وسلامته والعدالة تتطلب تعويض من أضيروا من جراء الجرائم الجنائية والإرهابية، ومضاعفات الجراحات والتقنيات الحديثة في العلاج أو الأمراض الجديدة التي ظهرت وتؤثر بصورة جماعية في الصحة العامة، ولنا فيما انتهت إليه فرنسا في هذا الشأن مثال يحتذى به في هذا الخصوص.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلا، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبإلزام الهيئة العامة للتأمين الصحي دفع مبلغ ثلاث مئة ألف جنيه تعويضا شاملا للطاعن -على النحو المبين بالأسباب-، وإلزامها المصروفات عن الدرجتين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق