الدعوى رقم 60 لسنة 31 ق "دستورية" جلسة 6 / 3 / 2021
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت السادس من مارس سنة 2021م، الموافق الثاني والعشرين من رجب سنة 1442 هـ.
برئاسة السيد المستشار / سعيد مرعى عمرو رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار ورجب عبد الحكيم سليم ومحمود محمد غنيم والدكتور عبد العزيز محمد سالمان وطارق عبد العليم أبو العطا وعلاء الدين أحمد السيد نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشرى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 60 لسنة 31 قضائية "دستورية".
المقامة من
1- عايدة ميخائيل جرجس
2- فخــــــــــرى لطيف مرقــــس
ضد
1- رئيس جمهورية مصر العربية
2- رئيس مجلس الـــــــوزراء
3- رئيس مجلـــس الشعــب (النواب حاليًا)
4- فضيلة الإمـام الأكبر شيخ الأزهـــر الشــريف
5- قداسة بابا الإسكندرية بطريرك الأقباط الأرثوذكس
6- عزيـــزة عيـــاد كاراس
7- نيفين إدوار خير الله
الإجراءات
بتاريخ الثامن من مارس سنة 2009، أودع المدعيان صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبين الحكم، أولاً: بعدم دستورية الفقرة السادسة – وصحتها الخامسة - من المادة (20) من القانون رقم 25 لسنة 1929 ببعض أحكام الأحوال الشخصية المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985. ثانيًا: بعدم دستورية المادة (127) من لائحة الأقباط الأرثوذكس الصادرة عام 1938، وبسقوط هاتين المادتين.
وقدم كل من هيئة قضايا الدولة، والمدعى عليه الخامس مذكرة، طلب فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – في أن المدعى الثاني كان متزوجًا من المدعى عليها الأخيرة، ورزق منها على فراش الزوجية بالصغيرة "ماريا". وصدر حكم لصالحه في الدعـــوى رقم 7 لسنة 2006 ملى أسرة (ثان) طنطا، بجلسة 27/2/2007، بتطليقها منه للفرقــــة، لسفرها خــــــــارج البــــلاد بتاريخ 12/2/2005، تاركة رعايــــة ابنتهما لوالدتها " المدعى عليها السادسة ". ونظرًا لكونها مريضة، لا تقـــوى على رعاية الصغيرة، فقد أقامت المدعية الأولى " والدة المدعى الثاني"، الدعوى رقم 225 لسنة 2007 ملى، أمام محكمة أسرة (ثان) طنطا، طالبة الحكم بضم الصغيرة لحضانتها، باعتبارها التالية في ترتيب الحاضنات بعد المدعى عليها السادسة. كما أقام المدعى الثاني الدعوى رقم 227 لسنة 2007 ملى، أمام المحكمة ذاتها، ضد المدعى عليها الأخيرة " طليقته "، بطلب إسقاط حضانة أمها " المدعى عليها السادسة " للصغيرة " ماريا "، وضمها لحضانة أمه " المدعية الأولى"، التي تدخلت في تلك الدعوى انضماميًّا له في طلباته. وبعد أن ضمت المحكمة الدعويين ليصدر فيهما حكم واحد، قضت بجلسة 25/9/2007، في الدعويين وموضوع التدخل، بإسقاط حضانة المدعى عليها السادسـة للصغيرة، وتسليمها للمدعيين. لــــم يصادف هذا القضاء قبول المدعى عليهما السادسة والأخيرة، فطعنا عليه بالاستئنافين رقمي 3797 و3798 لسنة 57 قضائية " أسرة "، أمام محكمة استئناف طنطا. وتم ضم الاستئنافين، وحال نظرهما بجلسة 7/2/2009، دفع المدعيان – في الدعوى المعروضة – بعدم دستورية نص المادة (20) من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985، فيما ورد بــــــه مــــــن ترتيب الحاضنات، ونص المادة (127) مــــــن لائحــــة الأقبــــــاط الأرثوذكس، الصادرة عام 1938، ونص المادة الثانية من تعديلها الصادر بتاريخ 2/6/2008، فيمـــــا تضمنه مـــــن إلغــــــــــاء المادة (72) من تلك اللائحـــــة. وإذ قدرت المحكمة جدية هذا الدفع، وصرحت للمدعيين بإقامة الدعوى الدستورية، فأقاما الدعوى المعروضة.
وحيث إن نص الفقرة الخامسة من المادة (20) من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 ببعض أحكام الأحوال الشخصية المعدل بالقانون رقــــم 100 لسنة 1985 يجرى على أنه "ويثبت الحق في الحضانة للأم ثم للمحارم من النساء، مقدمًا فيه من يدلى بالأم على من يدلى بالأب، ومعتبرًا فيه الأقرب من الجهتين على الترتيب التالى:
الأم، فأم الأم وإن علت، فأم الأب وإن علت، فالأخوات الشقيقات، فالأخوات لأم، فالأخوات لأب، فبنت الأخت الشقيقة، فبنت الأخت لأم، فالخالات بالترتيب المتقدم في الأخوات، فبنت الأخت لأب فبنت الأخ بالترتيب المذكور، فالعمات بالترتيب المذكور، فخالات الأم بالترتيب المذكور، فخالات الأب بالترتيب المذكور، فعمات الأم بالترتيب المذكور، فعمات الأب بالترتيب المذكور".
وتنص المادة (127) من لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس، التى أقرها المجلس الملى العام بجلسته المنعقدة في 9/5/1938، المعمول بها اعتبارًا من 8/7/1938 على أن " الأم أحق بحضانة الولد وتربيته حال قيام الزوجية وبعدها، وبعد الأم تكون الحضانة للجدة لأم ثم للجدة لأب ثم لأخوات الصغير، وتقدم الأخت الشقيقة ثم الأخت لأم ثم الأخت لأب ثم لبنات الأخوات، وبتقديم بنت الأخ لأبوين ثم لأم ثم لأب ثم لبنات الأخ كذلك ثم لخالات الصغير، وتقدم الخالة لأبوين ثم الخالة لأم ثم لأب ثم لعمات الصغير كذلك ثم لبنات الخالات والأخوال ثم لبنات العمات والأعمام ثم لخالة الأم ثم لخالة الأب ثم لعمة الأم ولعمة الأب بهذا الترتيب."
وحيث إن المجالس الملية هى التى كان لها اختصاص الفصل في مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين، وكان تطبيقها لشرائعهم الدينية مقارنًا لاختصاصها بالفصل في نزاعاتهم المتصلة بأحوالهم الشخصية، فلا يكون قانونها الموضوعى إلا قانونًا دينيًّا. وظل هذا الاختصاص ثابتًا لهذه المجالس إلى أن صدر القانون رقم 462 لسنة 1955 بإلغـــــاء المحاكم الشرعية والمحاكم الملية، فقد قضى هذا القانون في مادته الأولى بأن تلغى المحاكم الشرعية والملية ابتداء من 1/1/1956، على أن تحال الدعاوى التى كانت منظورة أمامها حتى 31/12/1955، إلى المحاكم الوطنية لاستمرار نظرها وفقًا لأحكام قانون المرافعات. ولئن وحد هذا القانون بذلك جهة القضاء التى عهد إليها بالفصل في مسائل الأحوال الشخصية للمصريين جميعهم، فحصرها – وأيًّا كانت دياناتهم – في جهة القضاء الوطنى، إلا أن القواعد الموضوعية التى ينبغى تطبيقها على منازعاتهم في شئون أحوالهم الشخصية، لا تزال غير موحدة رغم تشتتها وبعثرتها بين مظان وجودها وغموض بعضها أحيانًا. ذلك أن الفقرة الأولى من المادة (6) من هذا القانون تقضى بأن تصدر الأحكام في منازعات الأحوال الشخصية التى كانت أصلاً من اختصاص المحاكم الشرعية طبقًا لما هو مقرر بنص المادة (280) من لائحة ترتيبها. وتنص فقرتها الثانية على أنه فيما يتعلق بالمنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين، الذين تتحد طائفتهم وملتهم، وتكون لهم جهات قضائية ملية منظمة وقت صدور هذا القانون، فإن الفصل فيها يتم – في نطاق النظام العام - طبقًّا لشريعتهم. وهو ما تأكد بنص المادة (3) من دستور سنة 2014، من أن " شرائع المصريين المسيحيين واليهود المصدر الرئيسى للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية ....".
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن المشرع وقد أحال في شأن الأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين إلى شرائعهم، مستلزمًا تطبيقها، دون غيرها، في كل ما يتصل بها؛ فإنه يكون قد ارتقى بالقواعد التى تتضمنها هذه الشرائع إلى مرتبة القواعد القانونية من حيث عموميتها وتجريدها، وتمتعها بخاصية الإلزام، لينضبط بها المخاطبون بأحكامها، ويندرج تحتها في نطاق الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس، لائحتهم التى أقرها المجلس الملى العام في 9 مايو سنة 1938، وعُمل بها اعتبارًا من 8 يوليه سنة 1938، إذ تعتبر القواعد التى احتوتها هذه اللائحة – على ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة الثالثة من القانون رقم 1 لسنة 2000 بإصدار قانون تنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضى في مسائل الأحوال الشخصية، التى حلت محل الفقرة الثانية من المادة السادسة من القانون رقم 462 لسنة 1955 – شريعتهم التى تنظم أصلاً مسائل أحوالهم الشخصية، بما مؤداه خضوعها للرقابة الدستورية التى تتولاها هذه المحكمة.
وحيث إن تحديد ما يدخل في نطاق مسائل الأحوال الشخصية – في مجال التمييز بينها وبين الأحوال العينية – وإن ظل أمرًا مختلفًا عليه، إلا أن عقد الزواج والطلاق وآثارهما يندرجان تحتها، لتدخل حضانة صغار المطلق من زوجته في نطاق هذه المسائل، فتحكمها قواعدها.
وحيث إن ما تقدم مؤداه: أنه فيما عدا الدائرة المحدودة التى وحد المشرع في نطاقها القواعد الموضوعية في مسائل الأحوال الشخصية للمصريين جميعهم – كتلك التى تتعلق بمواريثهم ووصاياهــــم وأهليتهم – فإن المصريين غيــــر المسلمين لا يحتكمون لغير شرائعهم الدينية بالشروط التى حددها القانون رقم 462 لسنة 1955 المشار إليه، بل إن المادة (7) من هذا القانون تنص على أن تغيير الطائفة أو الملة بما يخرج أحد الخصوم عن وحدة طائفية إلى أخرى أثناء سير الدعوى، لا يؤثر في تطبيق الفقرة الثانية من المادة (6) من هذا القانون، ما لم يكن التغيير إلى الإسلام.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن يتوافر ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة التى يقوم بها النزاع الموضوعى، وذلك بأن يكون الفصل في المسائل الدستورية التى تدعى هذه المحكمة للفصل فيها لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها.
وإذ كان ما تقدم، وكان الثابت من الأوراق أن المدعى الثانى والمدعى عليها الأخيرة متحدا الطائفة والملة، فإن أحكام لائحة الأقباط الأرثوذكس، دون غيرها، هى الواجبة التطبيق على النزاع الموضوعى، ولا يكون ثمة مصلحة شخصية ومباشرة للمدعيين في الطعن على نص الفقرة الخامسة من المادة (20) من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 ببعض أحكام الأحوال الشخصية، المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985. إذ كان ذلك، وكان نص المادة (127) من لائحة الأقباط الأرثوذكس، في نطــــاق ترتيبهــــا للحاضنات، وتقديمها الجدة لأم على الجدة لأب، هو الذى يحول بين المدعيين وتحقيق مبتغاهما من الدعوى الموضوعية، الأمر الذى يوفر لهما مصلحة شخصية مباشرة في الطعن عليها، ويتحدد به نطاق هذه الدعوى، دون سائر ما تضمنه ذلك النص من أحكام أخرى.
وحيث إن المدعيين ينعيان على النص المطعون فيه مخالفة أحكام المواد (9، 11، 40) من دستور 1971، المقابلة لنصوص المواد (10، 11، 53) من الدستور القائم، لانطوائه على تمييز غير مبرر للجدة لأم عن الجدة لأب، حال أن الجدة لأب هى الأقرب للمحضون من أم الأم، فضلاً عن أن في ذلك حرمانًا لرب الأسرة من رعاية أسرته، وانتقاصًا من حقه الطبيعى في تربية أولاده ورعايتهم، مما يهدد الطابع الأصيل للأسرة المصرية.
وحيث إن الرقابة الدستورية على القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هـذه الرقابـة إنما تستهدف أصلاً - على ما جرى عليه قضاء هـذه المحكمة - صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، لكون نصوصه تمثل دائمًا القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعى التى وجهها المدعيان للنص المطعون عليه – في النطاق السالف تحديده – تندرج تحت المناعى الموضوعية، التى تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعى معين لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعى، ومن ثم، فإن المحكمة تباشر رقابتها على النص المطعون عليه – الذى مازال ساريًا ومعمولاً بأحكامه - من خلال أحكام دستور سنة 2014، باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.
وحيث إن الحق في تكوين الأسرة لا ينفصل بالضرورة عن الحق في صونها، بما يكفل تنشئة أطفالها وتقويمهم وتحمل مسئولياتهم صحيًا وتعليمًا وتربويًّا. وكان دستور سنة 1971 قد نص في المواد (9، 10، 12)، المقابلة للمادتين (10، 11) من دستور سنة 2014، على أن الأسرة أساس المجتمع، وأن قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وأن الطابع الأصيل للأسرة المصرية – وما تتمثل فيه من قيم وتقاليد – هو ما ينبغى الحفاظ عليه، وتوكيده وتنميته في العلائق داخل مجتمعها، وأن الأمومة والطفولة قاعدة لبنيان الأسرة، ورعايتها ضرورة تقدمها. وكان الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق – ومن ذلك من له حق حضانة الصغير - أنها سلطة تقديرية، جوهرها المفاضلة التى يجريها بين البدائل المختلفة لاختيار ما يقرر أنه أنسب لمصلحة الجماعة وأكثرها ملاءمة للوفاء بمتطلباتها، محققًا لما يهدف إليه ذلك التنظيم لتحقيق المصالح المشروعة التى توخاها، بما ليس فيه تضييق على الناس أو يرهقهم.
وحيث إنه إذا كان الأصل في كل تنظيم تشريعى، أن يكون منطويًا على تقسيم أو تمييز من خلال الأعباء التى يلقيها على البعض أو عن طريق المزايا أو الحقوق التى يكفلها لفئة دون غيرهـا. إلا أن مناط دستورية هذا التنظيم ألا تنفصل نصوصه عن أهدافها، ليكون اتصال الأغراض التى توخى تحقيقها بالوسائل التى لجأ إليها منطقيًّا، وليس واهنًا أو واهمًا أو منتحلاً، بما يخل بالأسس التى يقوم عليها التمييز المبرر دستوريًّا.
وحيث إن الصغير تثبت عليه منذ مولده ثلاث ولايات، أولاها: ولاية التربية، وثانيها: الولاية على النفس، وثالثها: الولاية على ماله. وتثبت الولايتان الأخيرتان – كأصل عام – للعصبة من الرجال. أما ولاية التربية، وهى الحضانة، فغايتها – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – الاهتمام بالصغير وضمان رعايته والقيام على شئونه في الفترة الأولى من حياته التى لا يستغنى فيها عن النساء ممن لهن الحق في تربيته شرعًا. والأصل فيها هو مصلحة الصغير، ودفع المضرة عنه، وهى تتحقق بأن تضمه الحاضنة إلى جناحها باعتبارها أحفظ عليه وأحرص على توجيهه، وأقدر على صيانته؛ ولأن انتزاعه منها – وهى أشفق عليه وأوفر صبرًا – مضرة به إبان هذه الفترة الدقيقة التى لا يستقل فيها بأموره. وعلى ذلك، فإن مدار الحضانة على نفع المحضون، وأن رعايته مقدمة على أية مصلحة لغيره حتى عند من يقولون بأن الحضانة لا تتمخض عن حق للصغير، وإنما يتداخل فيها حق من ترعاه، ويعهد إليها بأمره.
وحيث إن الشريعة الإسلامية خلت من نص قطعى يقرر حكمًا فاصلاً في شأن ترتيب الحاضنات – بعد الأم – فيما بينهن، ومن ثم يكون باب الاجتهاد في هذا النطاق – عن طريق الأدلة الشرعية النقلية والعقلية – مفتوحًا، فلا يصد اجتهادٌ اجتهادًا أو يكتسب عصمة من دونه، ولا يقابل اجتهاد على صعيد المسائل التى تنظم الأسرة بغيره إلا على ضوء أوضاعها وأعرافها، بما لا يناقض شريعة الله ومنهاجه. وقد جاء في الأثر أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وجدة ابنه "عاصم" – أم أمه – تنازعا على حضانته، بين يدى الخليفة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فأعطاه إياها، وقال للفاروق: "ريحها ومسها ومسحها وريقها خير له من الشهد عندك". ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك. أما الفقهاء أصحاب المذاهب فقد اتفقوا على أن أم الأم – التى تدلى إليها مباشرة – تلى الأم في ترتيب الحاضنات. وقد استقى المشـرع من ذلك من لـه حق حضانة الصغير بعد أمه، بما نص عليه في الفقرة الخامسة من المادة (20) من القانون رقم 25 لسنة 1929 ببعض أحكام الأحوال الشخصية، فجعلها لأم الأم وإن علت، ومن بعدها لأم الأب وإن علت.
وحيث إن تحديد قواعد الأهلية للحضانة وترتيب الحاضنات، لا تُعد في الديانة المسيحية من أصول العقيدة التى وردت بشأنها – في مجال الأحوال الشخصية – نصوص قاطعة – كواحدية الزوجة وحظر الطلاق إلا لعلة الزنا – فتعتبر بالتالى شأنًا اجتماعيًا خالصًا، فرُئِىَ أن تحديدها على نحو موحد يشمل كل أبناء الوطن الواحد، أقرب إلى واقع ظروف المجتمع، وأدنى إلى تحقيق المساواة بين أفراده في مجال الحقوق التى يتمتعون بها بما يكفل الحماية التى يقررها الدستور والقانون للمواطنين جميعًا بلا تمييز بينهم. ولذا، فقد جاء نص المادة (127) من لائحة الأقباط الأرثوذكس متبعًا النهج ذاته في شأن من يكون لها حضانة الصغير بعد أمه، مقدمًا الجدة لأم على الجدة لأب، لكون ترتيب الحاضنات على هذا النحو هو الأوثق اتصالاً بمصلحة الصغير، وفى الوقت ذاته ينأى عن التمييز في مجال ضبطها بين المصريين تبعًا لديانتهم، تقديرًا بأن الأصل هو تساويهم جميعًا في الحقوق التى يتمتعون بها، وكذلك على صعيد واجباتهم. فالأسرة المسيحية هى ذاتها الأسرة المسلمة، فيما خلا الأصول الكلية لعقيدة كل منهما، تجمعهما القيم والتقاليد عينها، وإلى مجتمعهم يفيئون تقيدًا بالأسس التى يقوم عليها في مقوماتها وخصائصها، وتعبيرًا عن انصهارهم في إطار أمتهم، ونأيهم عن الفواصل التى تفرقهم أو الدعوة إليها، فقد صار أمرًا محتومًا ألا يمايز المشرع بينهم في مجال ولاية التربية " الحضانة "، التى تتحد مراكزهم بشأنها سواء في موجباتها أو حد انتهائها، وإلا كان هذا التمييز منفلتًا عن الحدود المنطقية التى ينبغى أن يترسمها. يؤيد ذلك أن الدستور، قد أورد الأحكام التى تكفل رعاية الأسرة المصرية، في المواد (9، 10، 12) من دستور 1971، المقابلة للمادتين (9، 11) من دستور 2014، وقد دل بها على أن الحق في تكوين الأسرة – أيًّا كان معتقدها الدينى – لا ينفصل عن الحق في وجوب صونها على امتداد مراحل بقائها، وإقامة الأمومة والطفولة على أسس قويمة تكفل رعايتها وتنمية ملكاتها.
وحيث كان ما تقدم، وكان ترتيب الحاضنات على النحو الوارد بالنص المطعون فيه، بتقديم الجدة لأم على الجدة لأب، هو الأوثق اتصالاً بمصلحة الصغيـر، التى ارتأى ولى الأمر أنها خيرً له وأصلح لشئونه، باعتبار أن ما يصون استقراره النفسى، ويحول دون إيذائـه، ويكفـــل تقويمه، من المقاصد الشرعية التى لا يجوز المجادلة فيها، ذلك أن مدار الحضانة نفع المحضون، ورعايته مقدمة على مصلحة غيره. ومن ثم، فإن قالة إخلال ذلك النص بمبدأ المساواة بين الجدة لأب والجدة لأم يكون مفتقدًا لسنده. فضلاً عن أن أحكام ذلك النص لا يترتب عليها حرمان رب الأسرة من رعاية أسرته، أو ينال من الطابع الأصيل للأسرة المصرية: ذلك أن انفصام عرى الزوجية يجب ألا يستطيل أثره – قدر الإمكان – إلى الأبناء، بحرمانهم ممن هى أجدر على الاهتمام بهم ورعايتهم والقيام على شئونهم في الفترة الأولى من حياتهم التى لا يستغنون فيها عن النساء، ممن لهن الحق في التربية شرعًا، لكون مصلحة الصغار مقدمة على أى مصلحة لغيرهم، ومن ثم، فإن نعت النص المطعون فيه بمخالفة نصوص المواد (9، 10، 40) من دستور سنة 1971، المقابلة لأحكام المواد (10، 11، 53) من الدستور القائم، يفتقد لسنده.
وحيث إن النص المطعون فيه لا يخالف أى نصوص أخرى في الدستور، الأمر الذى يتعين معه القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفاة، وألزمــت المدعيين المصروفات، ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق