الصفحات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 4 فبراير 2013

مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ‏



لا شك في الشريعة الإسلامية المطهرة قد أنزلها الله سبحانه وتعالى لأهداف عظمى ، وغايات شريفة كبرى ، وهذه الأهداف والغايات : منها ما يتعلق بذات الله ، ومنها ما يتعلق بالإنسان ذاته ، فرداً وجماعة ، ولما كان كثير من الناس قد يجهلون هذه الأهداف ، فإنهم يقعون في أخطاء كثيرة ، من حيث الفهم والاستنباط والدعوة ، بل وقد يستخدمون النصوص في غير مواضعها ، ويعملون بها في غير أماكنها.فتأصيل المقاصد الشرعية وتوسيع آفاقها ومعانيها بما يجعلها وسيلة الربط الفعالة بين واقع الأمة وهدي التشريع الإسلامي ، مشروع طموح لابد أن يأتيه الفقهاء بهدوء ، ويُتوخى فيه الأناة والتمحيص .


ولمعرفة أهمية البحث في المقاصد ، دعونا - على سبيل المثال - نتصور الفوضى التي ستعم الشوارع ، إذا امتنع السائقون عن الالتزام بقوانين المرور ، أو عن الوقوف لدى الإشارات المرورية عندما ، تكون حمراء. أو السير عندما تكون خضراء . وسنفهم فورا كيف يتعلم الناس قيمهم ومعاييرهم السلوكية من خلال حياتهم الاجتماعية ، ويتم ذلك عن طريق آليات سالبة وموجبة متعددة ، تتألف من نظام محدد للعقوبات والردع أو من خلال المكافآت.


وما أروع ما ذكره ابن قيم الجوزية عمن يقف مع الظواهر والألفاظ ، ولم يراع المقاصد والمعاني ، إلا كمثل رجل قيل له لا تسلم على صاحب بدعة ، فقبل قدمه ولم يسلم عليه . أو من حلف ألا يشرب الخمر ، فجعلها ثريدا وثرد فيها الخبز وأكله .


وهو ما حذر منه الرسول الكريم فقال : ( سيأتي من بعدي من يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها ) فهل إذا سمينا الرشوة بالهدية ، أو الربا بالبيع ، أو الخمر بالنبيذ أو الماء ، والزنا بالنكاح ، أصبحت حلالا ؟ وسقطت بها العقوبة .


إن المحرمات من الأشياء والمعاملات من الأطعمة لم تحرم لصورة أو اسم ، وإنما حرمت وعوقب على تناولها لحقيقة ومفسدة .





الفرع الأول : تعريف المقاصد :


فالتعريف يؤسس القاعدة التي يمكن أن نرجع إليها ، عندما نحاول توسيع المعاني ، لتندرج تحت ما يسمى مقاصد الشريعة Objectives of Shari`ahوغاياتها .


ومَقَاصِد الشّريعة في اللغة : جمع مقصدٍ , وهو : الوجهة أو المكان المقصود .


وفي الاصطلاح : لم يتعرّض علماء الأصول إلى تعريف المقاصد , ولكن الّذي يمكن أن يستخلص من كلامهم في ذلك : أنّها المعاني والحكم الملحوظة للشّارع في جميع أحوال التّشريع أو معظمها , بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوعٍ خاصٍّ من أحكام الشّريعة .


فمقاصد الشريعة الإسلامية هي الغايات والأسرار التي وضعها الشارع عند الأحكام ، وأراد تحصيلها تحقيقا لمصالح عباده ، إسعادا لهم في الدنيا والآخرة . فالمقاصد عند أحد الفقهاء قد يسميها آخر بالمصالح الكلية ، ويسميها ثالث بالمصالح المعتبرة شرعا .


وهكذا تمثل المصالح إطارا يدور النظام القانوني الإسلامي برمته في فلكه . ولذلك تتطور أحكام الفقه الإسلامي كلما تبدلت مصالح العباد ، من ذلك أن الخليفة عمر t رفض توزيع الأراضي المفتوحة على المحاربين ، حتى يتوافر مورد للأموال العامة ، والإمام الشافعي عدل مذهبه في المعاملات ، حينما انتقل من العراق إلى مصر ، لاختلاف العادات والمصالح .


وقد أوضح الآمدي الحكمة المقصود من شرع الحكم ، وانقسامه إلى دنيوي وأخروي ، وكيفية إفضائه إلى تحصيل أصل المقصود بقوله : ( المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مفسدة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد ، وهما إما أن يكونا في الدنيا والآخرة ، فإن كان في الدنيا فشرع الحكم إما أن يكون مفضيا إلى تحصيل أصل المقصود ابتداء أو دواما أو تكميلا ).


ولا شك أن فهم الشريعة وإسنادها إلى مصالح الناس ليست مسالة سهلة . خاصة في حالة غياب النص ، لاسيما إذا تعلق الأمر بعقوبات توقع على الناس ، فقد يضيق بها البعض ، فيجعلونها قاصرة فيحرموا الحلال ، كما قد يتوسع فيها البعض بالفهم والتفسير والتأويل فيحلوا الحرام .


وهو ما عبر عنه ابن قيم الجوزية بقوله : " إن هذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك ، في معترك صعب ، فرط فيه طائفة ، فعطلوا الحدود ، وضيعوا الحقوق ، وجرؤا أهل الفجور على الفساد ، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل ، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع " .


وإذا كانت مقاصد الشرعية الإسلامية هي : المقاصد التي قصد الشارع تحصيلها تحقيقا لمصلحة عباده ، في العاجل والآجل ، فما هي هذه المصلحة ؟ سلك العلماء في تعريف المصلحة طريقين :


الطريقة الأولى : عند تعريفهم المناسب بأنه الوصف الظاهر المنضبط ، الذي يترتب على شرع الحكم حصول مصلحة منه فقالوا : والمراد بها اللذات وما كان وسيلة إليها . غير أنهم أدخلوا دفع المفسدة في المصلحة كنقيض لها ، فعرفوا المفسدة بأنها بالألم وما كان وسيلة إليه ، وقسموها إلى نفسي وبدني ، ودنيوي وأخروي .


ويقول العز بن عبد السلام رحمه الله : المصالح ضربان : أحدهما : حقيقي وهو الأفراح واللذات ، والثاني : مجاز وهو أسبابها ، وربما كانت أسباب المصالح مفاسد ، فيأمر بها أو تباح ، لا لكونها مفاسدا ، بل لكونها مؤدية إلى المصالح ، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح ، وكالمخاطرة بالأرواح بالجهاد ، وكالعقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبةً لكونها مفاسدا ، بل لكونها المقصودة من شرعها ، كقطع السارق وقطع الطريق وقتل الجناة ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم ، وكذلك التعزيرات كل هذه مفاسد ، أوجبها الشرع ، لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقة ، وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب .


الطريقة الثانية : عند الكلام عن المصلحة كدليلٍ شرعي ، فقد عرَّفها الغزالي رحمه الله بقوله : أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ، وقال : ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المصلحة ودفع المضرة مقاصد الخلق ، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ، ومقصود الشرع من الخلق خمسة ، وهو: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم , فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة ، فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة .


وعلى هذا فالمصلحة في نظر الشارع هي المحافظة على مقصوده ، ولو خالفت مقاصد الناس ، فمقاصد الناس إن خالفت مقاصد الشارع لا تكون مصلحة ، وإنما هي أهواء وشهوات ، زينتها النفس ، واعتبرتها العادات والتقاليد مصالحَ ، كما في وأد البنات وشرب الخمر ولعب الميسر وغير ذلك .


بهذا فرق الغزالي بين مقاصد الشارع ومقاصد الخلق ، وقرر أن المحافظة على مقاصد الشرع هي المصلحة بخلاف مقاصد الناس . وإن من الملفت للنظر أن شيخ المقاصد - الإمام الشاطبي - بدأ حديثه في أول كتابه الموافقات متجاوزا تعريف المقاصد ، حيث ابتدأ المسألة الأولى بقوله : "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ ([1])مقاصدها في الخلق ، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام ، ضرورية … وحاجية … وتحسينية … والمقاصد الضرورية ثبت بالاستقراء أنها خمسة ، وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ النسل وحفظ العقل وحفظ المال …" .


أما الإمام الشيخ الطاهر بن عاشور ([2]) ، فيضيف على ما قدمه الإمام الشاطبي . فقد قدم حديثه عن المقاصد بقوله : "مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها ، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة ، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة ، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها .." .


ثم يتابع في موضع آخر تحت عنوان " المقصد العام من التشريع " فيقول - رحمه الله : "إذا نحن استقرينا مواد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع ، استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقرة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام العالم ، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان . ويشمل صلاحه صلاح عقله ، وصلاح عمله ، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه" .


وقال في موضع ثالث "ولقد علمنا ما أراد من الإصلاح المنوه به مجرد صلاح العقيدة وصلاح العمل بالعبادة ، كما قد يُتوهم ، بل أراد منه صلاح أحوال الناس وشؤونهم في حياتهم الاجتماعية . فإن قوله تعالى ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ البقرة:205 أنبأنا أن الفساد المحذر منه هو إفساد موجودات هذا العالم" .


كما نجد أن الإمام ابن عاشور عرّف التشريع بأنه قانون الأمة ، فأدخل بُعْد الأمة في النظر إلى التشريع ، وإن كان لم يدخله في تعريفه للمقاصد ، وخرج عما حصر الإمام الشاطبي نفسه فيه عند حديثه عن المكلف "الفرد" .


فكل عمل قد يؤدي إلى خلل في الحياة واستقرارها واستمرارها ، أو يدخل عليها العسر والمشقة أو يدخل الفساد على عمارة الأرض وتسخير الكون ، فهو مصادم لمقاصد الشريعة مهما تسلح بتأويلات فاسدة . ورحم الله ابن القيم حين قال : فكل فعل خرج من المصلحة إلى المفسدة ، ومن الحكمة إلى العبث ، ومن العدل إلى الظلم ، فليس من الشريعة ، وإن أُدخل فيها بالتأويل .












([1]) وهناك الكثير من الفقهاء المعاصرين الرافضين لكلمة حفظ ، وذلك عند استعمالها في حفظ الضروريات الخمس ، وذلك أخذا من معناها السلبي الذي يعني الوقوف عن حد معين ، لا تحمل معه معنى النماء والتزكية والحركة ، ومقدار الاختزال والحصر الذي يمكن أن ينجم عن ذلك المعنى ، إلى درجة يمكن أن تفقد معها عملية الفهم المقاصدي للشريعة كل الحيوية والطاقة الكامنة فيها ، وتفقد مبرر وجودها ومبرر البحث والدراسة فيها .

راجع حوار في المقاصد (تعريفات) لرياض أدهمي . حيث يرى أن إبقاء المقاصد على صورتها وأمثلتها التاريخية ، وعلى أطرها وآفاقها المحددة ، سيجهض الدور الذي ينتظر هذا العلم ، ما لم ينهض لهذه المهمة الدارسون والباحثون لتأصيل المقاصد ، وتوسيع آفاقها ومعانيها ، بما يجعلها وسيلة الربط الفعالة بين واقع شارد يمثل حال أمتنا ، وحال البشرية اليوم ، وقمة الهدي الإلهي الخالد الذي قررته الرسالة الخاتمة.


([2]) عالم تونسي توفى (1393هـ/ 1973) مؤلف كتاب «مقاصد الشريعة» ، والذي دعا فيه لأن تكون مقاصد الشريعة علماً مستقلاً كاملاً ، وليس باباً من أصول الفقه ، وارتأى أن تبرز الحرية بين مقاصد الشريعة ، ولا تندرج فحسب ضمن مقصد حفظ النفس .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق