باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثالث من أغسطس سنة 2024م،
الموافق الثامن والعشرين من المحرم سنة 1446ه.
برئاسة السيد المستشار/ بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة
المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد
الجواد شبل وخالد أحمد رأفت دسوقي والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز ومحمد أيمن
سعد الدين عباس نواب رئيس المحكمة وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري
رئيس هيئة المفوضين وحضور السيد/ عبد الرحمن حمدي محمود أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 178 لسنة 26
قضائية دستورية، بعد أن أحالت محكمة القضاء الإداري بالقاهرة الدائرة الرابعة،
بحكمها الصادر بجلسة 12/ 6/ 2001، ملف الدعوى رقم 935 لسنة 51 قضائية.
المقامة من
زينب صالح عبد المولى
ضد
وزير المالية، بصفته الرئيس الأعلى لمصلحة الجمارك
------------------
" الإجراءات "
بتاريخ السادس والعشرين من أغسطس سنة 2004، ورد إلى قلم كتاب المحكمة
الدستورية العليا ملف الدعوى رقم 935 لسنة 51 قضائية، بعد أن حكمت محكمة القضاء
الإداري الدائرة الرابعة بجلسة 12/ 6/ 2001، بوقف الدعوى، وإحالة الأوراق إلى هذه
المحكمة للفصل في دستورية البند (2) من المادة (118)، والمادة (119) من قانون
الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963، قبل تعديلهما
بالقانون رقم 160 لسنة 2000.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى.
وقدمت المدعية - في الدعوى الموضوعية - مذكرة، طلبت فيها الحكم بعدم
دستورية المادتين المحالتين.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى بجلسة 14/ 1/ 2007، وفيها قررت المحكمة إعادتها لهيئة
المفوضين لاستكمال التحضير؛ فأودعت الهيئة تقريرًا تكميليًا برأيها، ونُظرت الدعوى
على النحو المبين بمحضر جلسة 8/ 6/ 2024؛ فقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت
فيها الحكم، أصليًّا: بعدم قبول الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها، وقررت المحكمة إصدار
الحكم بجلسة اليوم.
-----------------
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق -
في أن المدعية في الدعوى الموضوعية، أقامت الدعوى التي صار قيدها أمام محكمة
القضاء الإداري الدائرة الرابعة برقم 935 لسنة 51 قضائية، طلبًا للحكم بإلزام
المدعى عليه برد مبلغ 28133,924 جنيهًا، قيمة ما سددته من ضرائب ورسوم جمركية على
بضائع استوردتها من الخارج، والغرامة الجمركية الموقعة عليها من مدير جمرك
المحمودية، على سند من أن المعاينة التي أجراها الجمرك، وأيدتها لجنة التحكيم
العالي، قد خلصت إلى عدم صحة الإقرار المقدم منها عن قيمة البضائع، وإلزامها بسداد
المبلغ محل دعوى الاسترداد؛ مما حدا بها إلى إقامة دعواها، التي اقتصر نطاقها أمام
محكمة الإحالة على طلب الحكم بإلغاء قرار مدير الجمرك المختص بفرض غرامة على مشمول
الرسالة محل البيان الجمركي موضوع الدعوى، وما يترتب على ذلك من آثار، أخصها رد
قيمة الغرامة. ونعى حكم الإحالة على النصين المحالين أن المشرع إذ فرض غرامة على
المستورد لتقديم بيانات خاطئة عن قيمة البضائع إذا ظهرت فيها زيادة تجاوز عشرين في
المائة، وناط بمدير الجمرك المختص توقيع هذه الغرامة بقرار منه، فإنه يكون قد فرض
عقوبة جنائية بغير حكم قضائي، مما يخالف أحكام المواد (66 و67 و69 و165) من دستور
سنة 1971.
وحيث إنه عن الدفع المبدى من هيئة قضايا الدولة بعدم قبول الدعوى لسبق
حسم المسألة الدستورية المثارة في الدعوى المعروضة، وذلك بحكم المحكمة الدستورية
العليا الصادر بجلسة 2/ 8/ 1997، في الدعوى رقم 72 لسنة 18 قضائية دستورية، فمردود
بأن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعاوى
الدستورية يقتصر نطاقها على النصوص التشريعية التي كانت مثارًا للمنازعة حول
دستوريتها، وفصلت فيها المحكمة فصلًا حاسمًا بقضائها، أما النصوص التي لم تكن
مطروحة على المحكمة ولم تفصل فيها فلا تمتد إليها تلك الحجية. متي كان ذلك، وكان
الحكم المحاج به قد انصب على المادتين (37 و38) من قانون الجمارك الصادر بقرار
رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963، بعد ربطهما بالمادتين (117 و119) من
القانون ذاته، حال وجود نقص غير مبرر في الطرود التي تم تفريغها من الطائرة عما هو
مدون بشأنها في قائمة الشحن، سواء اتصل هذا النقص بعدد الطرود أو بمحتوياتها،
وقُضي فيها بعدم دستورية تلك النصوص، الأمر الذي يفارق مؤدى نص البند (2) من
المادة (118) والمادة (119) في مجال تطبيقها على البند ذاته من القانون المار
ذكره، ومقتضى ما تقدم أن تكون حجية ذلك الحكم مقصورة على نطاقه، دون أن تجاوزه إلى
نصوص أخرى لم يفصل فيها؛ ومن ثم يكون الدفع المبدى بسبق الفصل في موضوع هذه الدعوى
بالحكم المار ذكره قائمًا على غير أساس، ويتعين تبعًا لذلك رفضه.
وحيث إن المادة (118) من قانون الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية
بالقانون رقم 66 لسنة 1963، قبل استبدالها بالقانون رقم 160 لسنة 2000 تنص على أن
تفرض غرامة لا تقل عن عشر الضرائب الجمركية المعرضة للضياع ولا تزيد على مثلها في
الأحوال الآتية: (1) ... (2) تقديم بيانات خاطئة عن القيمة إذا ظهرت فيها زيادة
تجاوز عشرين في المائة. (3) ... (4) ....
وتنص المادة (119) من القانون ذاته، قبل استبدالها بالقانون رقم 160
لسنة 2000، على أن تفرض الغرامات المنصوص عليها في المواد السابقة بقرار من مدير
الجمرك المختص ويجب أداؤها خلال خمسة عشر يومًا من تاريخ إعلان المخالفين بهذا
القرار بخطاب مسجل مصحوب بعلم وصول ما لم يتظلم ذوو الشأن بكتاب يقدم للمدير العام
للجمارك خلال الخمسة عشر يومًا المذكورة وللمدير العام في هذه الحالة أن يؤيد
الغرامة أو يعدلها أو يلغيها.
وتحصل الغرامات بطريق التضامن من الفاعلين والشركاء وذلك بطريق الحجز
الإداري. وتكون البضائع ضامنة لاستيفاء تلك الغرامات.
ويجوز الطعن في قرارات المدير العام للجمارك خلال خمسة عشر يومًا من
إعلانها بخطاب موصى عليه مصحوب بعلم وصول وذلك أمام المحكمة المختصة، ويكون حكم
المحكمة نهائيًّا وغير قابل للطعن فيه.
وحيث إن المصلحة في الدعوى الدستورية - وهي شرط لقبولها - مناطها -
على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة
القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يؤثر الحكم في المسألة الدستورية على
الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع، ويستوي في شأن توافر المصلحة
أن تكون الدعوى قد اتصلت بالمحكمة عن طريق الدفع أو عن طريق الإحالة.
متى كان ذلك، وكان النزاع المردد أمام محكمة الموضوع ينصب على طلب
إلغاء قرار مدير الجمرك المختص بتوقيع غرامة على المدعية، لتقديمها بيانات خاطئة
عن قيمة البضاعة بما يجاوز عشرين في المائة، وكان سند فرض هذه الغرامة النصان
المحالان - سواء من حيث صحة فرضها أو السلطة الموسد إليها توقيعها-؛ ومن ثم فإن
للفصل في دستوريتهما أثرًا مباشرًا وانعكاسًا أكيدًا على قضاء محكمة الموضوع في
النزاع المردد أمامها، ويتحدد نطاق هذه الدعوى في المادة (118/ 2) من قانون
الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963 قبل استبدالها
بالقانون رقم 160 لسنة 2000، وصدر المادة (119) من قانون الجمارك المشار إليه،
فيما تضمنه من تخويل مدير الجمارك الاختصاص بفرض الغرامة المنصوص عليها في المادة
(118/ 2) من القانون ذاته.
ولا ينال من ذلك استبدال النصين المحالين بالقانون رقم 160 لسنة 2000
بتعديل بعض أحكام قانون الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة
1963، وإلغاء هذا القانون برمته بموجب المادة الخامسة من القانون رقم 207 لسنة 2020
بإصدار قانون الجمارك؛ ذلك أن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الأصل في تطبيق
القاعدة القانونية أنها تسري على الوقائع التي تتم في ظلها، أي خلال الفترة من
تاريخ العمل بها حتى إلغائها، فإذا أُلغيت هذه القاعدة وحلت محلها قاعدة قانونية
أخرى، فإن القاعدة الجديدة تسري من الوقت المحدد لنفاذها، ويقف سريان القاعدة
القديمة من تاريخ إلغائها، وبذلك يتحدد النطاق الزمني لسريان كل من القاعدتين
القانونيتين؛ ومن ثم فإن المراكز القانونية التي نشأت وترتبت آثارها في ظل أي من
القانونين - القديم أو الجديد - تخضع لحكمه. ولما كانت الغرامة المالية محل الدعوى
الموضوعية قد فُرضت على وقائع حدثت في ظل العمل بقانون الجمارك الصادر بقرار رئيس
الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963، وقبل العمل بأحكام القانون رقم160 لسنة
2000، والقانون رقم 207 لسنة 2020؛ فمن ثم يكون القانون الأول هو الواجب التطبيق
على النزاع الموضوعي.
وحيث إن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن حماية هذه
المحكمة للدستور إنما تنصرف إلى الدستور القائم، إلا أنه لما كان هذا الدستور ليس
ذا أثر رجعي، فإنه يتعين إعمال أحكام الدستور السابق الذى صدر القانون المطعون
عليه في ظل العمل بأحكامه، طالما أن هذا القانون قد عمل بمقتضاه إلى أن تم إلغاؤه
أو استبدال نص آخر به خلال مدة سريان ذلك الدستور. متى كان ذلك، وكان النصان
المحالان، في النطاق السابق التحديد، قد جرى استبدالهما بالقانون رقم 160 لسنة
2000، أثناء العمل بدستور سنة 1971، ومن ثم فإن هذه المحكمة تعمل رقابتها
الدستورية عليهما استنادًا إلى أحكام الدستور الذي أُلغي النصان في ظله.
وحيث إنه عن دستورية نص البند (2) من المادة (118) من قانون الجمارك
المار ذكره، فإن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن تجريم أفعال بذواتها لا يتم إلا
من خلال عقوبة جنائية، تمثل جزاء قدره المشرع عند مقارفتها، ولا يعتبر هذا الجزاء
- وتلك طبيعته - عوضًا ماليًا عن الجريمة التي عينها المشرع، بل جزءًا منها لا
ينفصل عنها، فلا جريمة بغير عقوبة، ولا عقوبة إلا عن فعل أو امتناع أخل بقيم
الجماعة أو نقضها؛ وصار مؤثمًا ضمانًا لصونها، فلا تُقَابَل الجرائم- أيًا كان
نوعها- بتعويض يكون مكافئًا للضرر الناجم عنها، وإنما يتحدد جزاؤها بقدر خطورتها
ووطأتها؛ فلا يكون مجاوزًا قدر الضرورة الاجتماعية التي يقتضيها، ولا واقعًا دون
متطلباتها، فالضريبة لا تقابل جرمًا؛ ولا يفترض فيما نشأ عنها من إيراد أن يكون
متأتيًا من مصدر غير مشروع، ولا يقصد بها كذلك أن تكون إيلامًا للمكلفين بها،
وإنما يقع عبؤها على أموالهم بوصفهم مواطنين يسهمون عدلًا في تحمل نصيبهم من
التنمية وتطوير مجتمعهم، بما يؤكد تضامنهم، ولا كذلك الغرامة التي يفرضها المشرع
متوخيًا بها أن تكون عقابًا زاجرًا، حائلًا بمداه دون الجريمة التي نهى عن
ارتكابها، ومحيطًا بها بعد وقوعها من خلال جزاء جنائي يناسبها.
وحيث إن المقرر - أيضًا - في قضاء هذه المحكمة أن القانون الجنائي وإن
اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض،
وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، فإن هذا القانون يفارقها في اتخاذه الجزاء الجنائي
أداة لحملهم على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها، أو التخلي عن تلك التي ينهاهم عن
مقارفتها، وهو بذلك يتغيّا أن يحدد من منظور اجتماعي، ما لا يجوز التسامح فيه من
مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مخالفا للدستور، إلا إذا
كان مجاوزًا حدود الضرورة التي اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها،
فإذا كان مبررًا من وجهة اجتماعية انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية؛ ومن ثم
يتعين على المشرع، حين يقدر وجوب التدخل بالتجريم حماية لمصلحة المجتمع، أن يجري
موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وضمان حريات
وحقوق الأفراد من جهة أخرى.
وحيث إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات المنصوص عليه
في المادة (66) من دستور سنة 1971، إنما يتحدد على ضوء عدة ضمانات، يأتي على رأسها
وجوب صياغة النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها ولا غموض، فلا تكون
هذه النصوص شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع، متصيّدًا باتساعها أو بخفائها من
يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وهى ضمانات غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص
العقابية على بيّنة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيًا لها، بل اتساقًا معها
ونزولًا عليها.
وحيث إن المشرع يعمد أحيانًا إلى تقرير جرائم عن أفعال ذات طبيعة
تنظيمية، لا يتصل بها قصد جنائي، باعتبار أن الإثم ليس كامنًا فيها، ولا تدل
بذاتها على ميل إلى الشر والعدوان، ولا يختل بها قدر مرتكبها أو اعتباره، وإنما
ضبطها المشرع تحديدًا لمجراها، وأخرجها بذلك من مشروعيتها -وهى الأصل - وجعل
عقوباتها متوازنة مع طبيعتها، وكان ما توخاه المشرع من التجريم في هذه الأحوال، هو
الحد من مخاطر بذواتها بتقليل فرص وقوعها، وإنماء القدرة على السيطرة عليها،
والتحوط لدرئها، فلا يكون إيقاع عقوبتها معلقًا على النوايا المقصودة من الفعل،
ولا على تبصر النتيجة الضارة التي أحدثها، وإنما على استواء قيام الركن المعنوي
لهذه النوعية من الجرائم بأي من هاتين الصورتين كبديلين متساويين -وقد بدا هذا
الاتجاه متصاعدًا إثر الثورة الصناعية وتعقد الوظيفة الإدارية للدولة وزيادة
مقتضيات ضبط التنظيم القانوني لأعمالها -الأمر الذي يكون معه الخوض في هذين
الأمرين معطلاً لأغراض التجريم، على تقدير أن المتهم -ولو لم يكن قد أراد الفعل-
كان باستطاعته أن يتوقاه لو بذل جهدًا معقولًا لا يزيد وفقًا للمقاييس الموضوعية
عما يكون متوقعًا من الشخص المعتاد. وغدا منطقيًا - بالتالي - أن يتحمل الأضرار
التي أنتجها، وأن يكون مسئولًا عنها، حتى ما وقع منها بصفة عرضية أو مجاوزًا
تقديره. ولازم ما تقدم، أن هذا النوع من الجرائم - وتلك هي خصائصها - يعد استثناءً
من الأصل في جرائم القانون العام، التي لا تكتمل مقوماتها إلا باعتبار أن القصد
الجنائي ركن فيها.
وحيث إن افتراض أصل البراءة الذي نص عليه دستور سنة 1971 في المادة
(67) منه - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - يُعد أصلًا ثابتًا يتعلق بالتهمة
الجنائية، وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها، وقد
غدا حتمًا عدم جواز نقض البراءة بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة،
وتتكون من مجموعها عقيدتها، حتى تتمكن من دحض أصل البراءة المفروض في الإنسان، على
ضوء الأدلة المطروحة أمامها، التي تثبت كل ركن من أركان الجريمة، وكل واقعة ضرورية
لقيامها.
وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق أنها سلطة
تقديرية، يتمثل جوهرها - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - في المفاضلة بين
البدائل المختلفة وفق تقديره لتنظيم موضوع محدد، فلا يختار من بينها إلا ما يكون
منها عنده مناسبًا أكثر من غيره لتحقيق الأغراض التي يتوخاها. وكلما كان التنظيم
التشريعي مرتبطًا منطقيًّا بهذه الأغراض - وبافتراض مشروعيتها - كان هذا التنظيم
موافقًا للدستور.
وحيث إن المشرع في الجريمة المؤثمة بالبند (2)من المادة(118)من قانون
الجمارك المار ذكره، تقديرًا منه لثقل العبء الملقى على الإدارة الجمركية في مقام
تحصيل الضريبة، وصعوبة قيامها بفحص شتى الرسائل التي تتولى فرض الضريبة عليها،
استحدث في المادتين(22 و23) من القانون ذاته نظامًا، بمقتضاه كلف كل صاحب شحنة بالإقرار
عن قيمتها إقرارًا يتعين مطابقته للحقيقة في تاريخ تسجيل البيان الجمركي، حتى
يتسنى لمأموري الجمرك فرض الضريبة المناسبة استنادًا إلى هذا الإقرار، قاصدًا من
ذلك منح الإدارة الجمركية مكنة الاعتماد على الإقرار المذكور، دون فحص، في الأحوال
التي ترتئيها، دون إخلال بحقها في معاينة الرسالة وفحصها، ليكون أعون لقدرات
الدولة على تحصيل مستحقاتها الضريبية، وكان سبيل المشرع لإنفاذ هذا الالتزام وضمان
تفعيله سن الجريمة التنظيمية موضوع النص المحال، ألزم بمقتضاه المخاطبين بحكمه
سلوكًا قويمًا ييسر للإدارة الجمركية الاعتماد عليه، ويلقي عليهم التزامًا ببذل
العناية التي يتوقعها المشرع من أوسطهم، للحد من العبء الإداري الملقى على موظفي
الجمارك، فإنه يكون قد استهدف مصلحة جديرة بالحماية الجنائية، قاصدًا إلى تحقيق
غاية تشريعية مبررة. إذ كان ذلك، وكانت صياغة النص المحال قد جاءت واضحة، لا
يشوبها لبس ولا يعتريها غموض، وقد عينت الركن المادي للجريمة، وحددت مناط تحققه
بأن تكون القيمة الفعلية للرسالة المستوردة تزيد على قيمتها الواردة بالإقرار
زيادة تجاوز عشرين في المائة، فإن تجاوزت القيمة الفعلية ما أثبته المستورد
بالإقرار، قامت مسئوليته الجنائية؛ بما يكون معه التجريم في النص المحال قد جاء
موافقًا لأحكام الدستور. ولما كانت عقوبة الغرامة المفروضة بموجب هذا النص - وهي
عقوبة جنائية- تستجمع سائر عناصر عقوبة الغرامة النسبية المقررة في القوانين
العقابية، إذ فرضت على أساس نسبي يتماهى مع مقدار الضرر المحتمل حدوثه للحصيلة
الضريبية من ارتكاب الجريمة، وكان هذا التنظيم الجنائي قد أتى في حدود السلطة
التقديرية للمشرع، وفي إطار متناسب مع الفعل المؤثم، وكانت تلك العقوبة قد وردت
بين حدين أعلى وأدنى، فأتاحت للقائم على توقيعها أن يتخير بين هذين الحدين، مراعيًا
في ذلك جسامة الفعل، متخذًا من قيمة الضرائب الجمركية المعرضة للضياع أساسًا
لتحديد مقدار الغرامة، ولم يرد في هذا النص ما يحول دون جواز وقف تنفيذ هذه
العقوبة؛ فمن ثم تكون هذه العقوبة قد استوفت سائر الأحكام الموضوعية التي تطلبها
الدستور في العقوبة الجنائية.
لما كان ذلك جميعه، فإن نص البند (2) من المادة (118) من قانون
الجمارك المشار إليه، لا يكون قد خالف نصوص المواد (66 و67 و69) من دستور سنة
1971، أو أي حكم آخر من أحكامه؛ ومن ثم فإن المحكمة تقضي برفض الدعوى بشأنه.
وحيث إنه عن دستورية نص المادة (119) من قانون الجمارك المار ذكره -
في النطاق المحدد سلفًا - فلما كان الدستور قد أعلى قدر الحرية الفردية، فاعتبرها
من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها
بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدًا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في
تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجزائية قد تفرض على هذه الحرية
- بطريق مباشر أو غير مباشر- أخطر القيود وأبلغها أثرًا على هذه الحرية
الجوهرية. وإذ جرى نص الفقرة الثانية من المادة (66) من دستور سنة 1971 على أنه لا
جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، فقد دل ذلك
على انعقاد اختصاص القضاء الجنائي وحده، دون سواه، بنظر الدعوى الجنائية؛ بما
لازمه عدم جواز توقيع عقوبة جنائية إلا بحكم قضائي، ذلك أن اختصاص السلطة
التشريعية بإقرار القواعد القانونية ابتداءً، أو تفويض السلطة التنفيذية في
إصدارها في الحدود التي بينها الدستور، لا يخول أيتهما العدوان على اختصاص عهد به
الدستور إلى السلطة القضائية وقصره عليها، وإلا كان هذا افتئاتًا على ولايتها،
وتقويضًا لاستقلالها. ومن ثم لا يجوز أن يمتد اختصاص السلطة التشريعية في مجال
إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، إلى نزع اختصاص السلطة القضائية في نظر الجرائم
وتوقيع العقوبات عليها، لتحول بها بين السلطة القضائية ومباشرة مهامها، في نطاق
الدعوى الجنائية التي اختصها الدستور بالفصل فيها.
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الحق في التقاضي يفترض -
ابتداءً وبداهةً - تمكين كل متقاضٍ من النفاذ إلى القضاء نفاذًا ميسرًا، لا تثقله
أعباء مالية، ولا تحول دونه عوائق إجرائية، ولا يعدو هذا النفاذ - بما يعنيه من حق
كل شخص في اللجوء إلى القضاء- وأن أبوابه المختلفة غير موصدة في وجه من يلوذ بها،
وأن الطريق إليها معبد قانونًا- ولا يستقيم هذا الحق إلا إذا كان الفصل في الحقوق
التي تقام الدعوى لطلبها موكولًا إلى أيد أمينة عليها، تتوافر لديها - وفقًا للنظم
المعمول بها أمامها - كل ضمانة تقتضيها إدارة العدالة إدارة فعالة، بما يعكس حيدة
المحكمة واستقلالها، وحصانة أعضائها والأسس الموضوعية لضماناتها العملية، وهي بذلك
تكفل بتكاملها المقاييس المعاصرة التي توفر لكل شخص حقًا مكتملًا ومتكافئًا مع
غيره في محاكمة منصفة وعلنية، تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة ينشئها القانون،
تتولى الفصل - خلال مدة معقولة - في حقوقه والتزاماته المدنية أو في التهمة
الجنائية الموجهة إليه، ويتمكن في كنفها من عرض دعواه، وتحقيق دفاعه، ومواجهة أدلة
خصمه، ردًّا وتعقيبًا، في إطار من الفرص المتكافئة، وبمراعاة أن تشكيل المحكمة،
وأسس تنظيمها، وطبيعة القواعد الموضوعية والإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية
تطبيقها من الناحية العملية، هي التي تحدد الملامح الرئيسية التي يتطلبها الدستور
في الجهة التي يعهد إليها بالفصل في الأنزعة القضائية.
متى كان ذلك، وكانت الجرائم التنظيمية الواردة بقانون الجمارك المشار
إليه، لا يجوز الفصل في ثبوتها وتقرير المسئولية الجنائية عنها في حق من وجهت
إليه، إلا بتقديم مرتكبيها إلى محاكمة جنائية، تتولى بمقتضاها محكمة جنائية تتمتع
بالحيدة والاستقلال، تكون مهمتها تمحيص الأدلة القائمة ضده، تحريًا لثبوتها، لتقف
على استقامة أركان كل جريمة منها، وتتيح بالمقابل لكل من المتهم وسلطة الاتهام،
مناقشة الأدلة القائمة ضده إيرادًا وردًا وتعقيبًا، فلا يكون إخفاقهم في نفيها،
إلا تقريرًا لمسئوليتهم الجنائية عنها، بما يناقض افتراض براءتهم، ويحول دون
انتفاعهم بضمانة الدفاع، التي تفترض لممارستها قيام اتهام محدد ضدهم، معزز
بالبراهين الجائز قبولها قانونًا؛ وإخلالًا بالضوابط التي فرضها الدستور في مجال
محاكمتهم إنصافًا؛ وتعديًا كذلك على الحدود التي فصل بها بين ولاية كل من السلطتين
التشريعية والقضائية، وكان الدستور قد أسند الاختصاص بالفصل في الجرائم وتقرير
عقوباتها إلى القضاء الجنائي وحده دون غيره؛ باعتباره صاحب الولاية العامة فيها،
وكان النص المطعون فيه قد أسند سلطة إيقاع الغرامة المنصوص عليها في المادة (118)
من قانون الجمارك المار بيانه إلى مدير الجمرك، منحيًا بذلك سلطة المحكمة الجنائية
عن هذا الاختصاص المعقود لها؛ الأمر الذي يصم النص المحال، في مجال تطبيقه على
الجريمة المنصوص عليها في البند رقم (2) من المادة (118) السالفة الذكر، بمخالفته
لأحكام المواد (41 و66 و67 و69 و165) من دستور سنة 1971.
وحيث إن مقتضى قضاء هذه المحكمة بعدم دستورية صدر المادة (119) من
قانون الجمارك المار ذكره، سقوط باقي أحكام هذه المادة، لارتباط سائر أحكامها بما
قُضي بعدم دستوريته ارتباطًا لا يقبل التجزئة، ولا يمكن فصلها أو تطبيقها
استقلالًا عنها.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية صدر المادة (119) من قانون الجمارك الصادر
بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963 قبل استبدالها بالقانون رقم 160
لسنة 2000، فيما تضمنه من تخويل مدير الجمرك الاختصاص بفرض الغرامة المنصوص عليها
في المادة (118/ 2) من القانون ذاته، وسقوط باقي أحكام المادة (119) المار بيانها،
وبرفض ما عدا ذلك من طلبات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق