الدعوى رقم 202 لسنة 32 ق " دستورية " جلسة 3 / 11 / 2018
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثالث من نوفمبر سنة 2018م،
الموافق الخامس والعشرون من صفر سنة 1440 هـ.
برئاسة السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار والدكتور عادل عمر
شريف وبولس فهمى إسكندر ومحمود محمد غنيـم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور
طارق عبد الجواد شبل نواب رئيس المحكمة
وحضور السيدة المستشار/ شيرين حافظ فرهود رئيس هيئة
المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
في الدعوى
المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 202 لسنة 32 قضائية " دستورية
"، بعد أن أحالت محكمة الجيزة الابتدائية بحكمها الصادر بجلسة 24/2/2010 ملف
الجنحة المستأنفة رقم 19340 لسنة 2008 جنح مستأنف العجوزة.
المقامة من
النيابة العامة
ضــــد
محمد سعيد عبدالرحمن
الإجـراءات
بتاريخ الثالث عشر من ديسمبر سنة 2010، ورد إلى قلم كتاب هذه المحكمة
ملف الجنحة المستأنفة رقم 447 لسنة 2010 جنح مستأنف العجوزة، والمقيدة برقم 19340
لسنة 2008 جنح العجوزة، بعد أن قضت تلك المحكمة بجلسة 24/2/2010، بقبول الاستئناف
شكلاً، وقبل الفصل في الموضوع، بوقف الدعوى تعليقًا وبإحالتها إلى المحكمة
الدستورية العليا للفصل في دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (19) من القانون
رقم 1 لسنة 1994 في شأن الوزن والقياس والكيل.
وقدَّمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر
الجلسة، وقررت المحكمة بجلسة 13/10/2018، إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم، مع
التصريح بتقديم مذكرات خلال أسبوع، ولم يقدم أى من الخصوم مذكرات في الأجل المشار
إليه
المحكمــــة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من حكــــم الإحالة وسائر
الأوراق – في أن النيابة العامة كانت قد قدمت السيد/محمد سعيد عبدالرحمن - وهو
المسئول عن محطة تزويد الوقــــود "موبيل"، الكائنة بشارع جامعة الدول
العربية - إلى المحاكمة الجنائية في الجنحة رقم 19340 لسنة 2008 جنح العجوزة متهمة
إياه، أنه في يوم 29/7/2008، بدائرة قسم العجوزة - حاز بقصد الاستعمال أدوات قياس
(طلمبة بنزين) غير صحيحة مع علمه بذلك، وطلبت عقابه بالمواد (1، 3، 4، 19، 23) من
القانون رقم 1 لسنة 1994بشأن الوزن والقياس والكيل، مستندة في ذلك إلى ما أثبت
بمحضر الضبط من أنه بالتفتيش على طلمبات تزويد الوقود بالمحطة المذكورة وجدت طلمبة
بنزين رباعية غير صحيحة، فقضت تلك المحكمة بجلسة 3/12/2009، حضوريًّا بتوكيل
بتغريم المتهم ثلاثمائة جنيه والمصادرة. وإذ لم يرتض المتهم هذا الحكم، فطعن عليه
بالاستئناف رقم 447 لسنة 2010 جنح مستأنف العجوزة، وتدوول نظره أمام تلك المحكمة
التى قضت بجلسة 24/2/2010، بوقف الدعوى تعليقًا وإحالتها إلى المحكمة الدستورية
العليا للفصل في دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (19) من القانون رقم 1 لسنة
1994 المشار إليه.
وحيث إن المادة (19) من القانون رقم (1) لسنة 1994، في شأن الوزن
والقياس والكيل، تنص على أن "يعاقب بالحبس مــدة لا تقل عن ثلاثـة أشهر ولا
تجاوز سنة وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة جنيه أو بإحدى هاتين
العقوبتين كل من استعمل أو حاز بقصد الاستعمال لغرض البيـــــع أجهزة أو آلات أو
أدوات وزن أو قياس أو كيـــل مـزورة أو غير صحيحة أو مدموغة بطريقة غير مشروعة مع
علمه بذلك.
ويفترض علم الحائز بذلك إذا كان من المشتغلين بالتجارة أو من الباعة
أو من المشتغلين بصناعة أو إصلاح تلك الأجهزة أو من الوزانين المرخـــص لهم أو من
أمناء شئون البنوك أو المخازن ما لم يثبت العكس ................".
وحيث إن المصلحة الشخصية - وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها،
أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل
في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة
على محكمة الموضوع. لما كان ذلك، وكان الثابت أن التهمة المواجه بها المتهم في الدعوى
الموضوعية هى جريمة حيازة أدوات قياس غير صحيحة بقصد استعمالها لغرض البيع، وكان
المتهم قد اعتصم في دفاعه بعدم علمه بما شاب أداة القياس محل الجريمة من عيب، إلا
أن النص المحال أقام قرينة افترض بموجبها العلم في حق المشتغلين بالتجارة،
والبائعيــــــــن، لا يحل أيهما منها إلا إذا قام المتهم بإثبات العكس، فإن
للقضاء في دستورية هذا النص انعكاس على الفصل في الدعوى الموضوعية، تتحدد به سلطات
المحكمة الموضوعية في تحقيق أركان الجريمة، بما يقيم شرط المصلحة فيها، ويتحدد
نطاق الدعوى فيما تضمنه النص المحال من افتراض علم مستعمل أدوات القياس غير
الصحيحة من المشتغلين بالتجارة والبائعين، بما لحقها من عيب، ما لم يثبت المتهم العكس
وحيث إن حكم الإحالة نعى على النص المحال في حدود نطاقه المتقدم
إخلاله بقواعد المحاكمة المنصفة لانتهاكه أصل البراءة ومساسه بمبدأ الفصل بين
السلطتين التشريعية والقضائية بتدخله في عمل السلطة القضائية، والحيلولة دون
مباشرتها صلاحيتها في التحقق من أركان الجريمة، لإقامة النص المحال قرينة افترض
بمقتضاها علم حائز أدوات القياس، من المشتغلين بالتجارة، والباعـة، بما لحقها من
عيوب، واشتراطه لدحضها إقامة المتهم الدليل على عدم علمه. الأمر الذى يشكل مخالفة
لنصوص المواد (2، 41، 67، 86، 165) من دستور سنة 1971، المقابلة لنصوص المواد (2،
54، 92 ، 94، 95، 96، 98، 99، 101) من دستور سنة 2014.
وحيث إن الرقابة على دستورية القوانين من حيث مطابقتها للقواعد
الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، ذلك أن
هذه الرقابة تستهدف أصلاً - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - صون الدستور القائم
وحمايته من الخروج على أحكامه، وأن نصوص هذا الدستور تمثل دائمًا القواعد والأصول
التى يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين
التزامها ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد
الآمرة. متى كان ذلك، وكان النص المحال - مازال ساريًا ومعمولاً بأحكامه - في حدود
النطاق المحدد سلفًا - فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها عليه، استنادًا إلى أحكام
الدستور القائم.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد اطرد على أن الدستور هو
القانون الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ويقرر
الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة
التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة
لنشاطها بما يحول دون تدخــــــــــل أى منها في أعمال السلطة الأخرى، أو مزاحمتها
في ممارسة اختصاصاتها التى ناطها الدستور بها.
وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقًا لأحكامه
فنص في المادة (101) منه على أن "يتولى مجلس النواب سلطة التشريع؛ وإقرار
السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة
العامة للدولة، ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على النحو
المبين في الدستور". كما اختص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات والخصومات
على النحو المبين في الدستور؛ فنص في المادة (184) منه على أن "السلطة
القضائية مستقلة؛ تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها
وفقًا للقانون".
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين - طبقاً لنص المادة (101)
من الدستور - لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية
وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتًا على ولايتها، وإخلالاً بمبدأ الفصل بين
السلطات، الذى حرص الدستور على توكيده في المادة (5) منه، بوصفه الحاكم للعلاقة
المتوازنة بين السلطات العامة في الدولة، ومن بينها السلطتان التشريعية والقضائية.
وحيث إن الدستور عنى في المادة (96) منه بضمان الحق في المحاكمة
المنصفة بما نص عليه من أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة
تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمى لحقوق
الإنسان في مادتيه (10، 11)، التى تقرر أولاهما أن لكل شخص حقًّا مكتملاً
ومتكافئًا مع غيره في محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولى
الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتردد
ثانيتهما في فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية في أن تفترض براءته
إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه، وهذه
الفقرة تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديموقراطية، وتقع في إطارها
مجموعة من الضمانات الأساسية، تكفل بتكاملها مفهومًا للعدالة يتفق بوجه عام مع
المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة، وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة
وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من
الناحية العملية. كما أنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية
الشخصية التى قضى الدستور في المادة (54) منه بأنها من الحقوق الطبيعية التى لا
يجـــــوز المساس أو الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالى
تفسير هذه القاعدة تفسيرًا ضيقًا، إذ هى ضمان مبدئى لرد العدوان عن حقوق المواطن
وحرياته الأساسية. وهى التى تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة. ولأن
نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائى، وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت
الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزومًا
في الدعوى الجنائية، وذلك أيًّا كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها،
وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية،
وأكثرها تهديدًا لحقه في الحياة. وهى مخاطر لا سبيل إلى توقيهـا إلا على ضوء
ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن
مصالحها الأساسية من ناحية أخرى. ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائى معرفًا
بالتهمة مبينًا طبيعتها، مفصلاً أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن
يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة محايدة ينشئها القانون، وأن تجرى
المحاكمة علانية - وخلال مدة معقولة - وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة - إذا
خلصت إليها - إلى تحقيق موضوعى أجرته بنفسها، وإلى عرض متجرد للحقائق؛ وإلى تقدير
سائغ للمصالح المتنازعة، وازنة بالقسط الأدلة المتنابذة؛ وتلك جميعها من الضمانات
الجوهرية التى لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها. ومن ثم كفلها الدستور في المادة
(96) منه وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها، وتندرجان تحت مفهومها، هما افتراض
البـــــراءة من ناحية؛ وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائى من ناحية أخرى، وهو حق
عززته المادة (98) من الدستور بنصها على أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول.
لما كان ذلك، وكان الدستور قد خطا خطوة أوسع في مقام ترسيخ قيم الحقوق والحريات ،
بنصه في المواد (5 ،51 ،92) على احترام حقوق الإنسان وكرامته وحرياته، وعلى تحصين
الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن، باشتراط ضمانة إضافية كونها لا تقبل
انتقاصًا ولا تعطيلاً، نافيًا عن المشرع مكنة أن تشملها تشريعاته بتنظيم من شأنه
تقييدها أو الانتقاص منها أو تعطيلها.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التى نص عليها في صلبه، الحماية من
جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة الجنائية من
مراعاة القواعد المنصفة الآنف بيانها عند فصلها في الاتهام الجنائي تحقيقًا
لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة، إنما هو ضمانة أولية ترتبط بكرامة
الإنسان، تهدف لعدم المساس بالحرية الشخصية - التى كفلها الدستور لكل فرد - بغير
الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه، وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلاً
ثابتًا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها؛ وليس بنوع العقوبة المقررة لها؛
وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد كان من
المحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة؛ عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة
التى تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها. ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة
عليها، وأن تقول هى وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أية جهة أخرى مفهومًا
محددًا لدليل بعينه؛ وأن يكون مرد الأمر دائمًا إلى ما استخلصته هى من وقائع
الدعوى، وحصلته من أوراقها، غير مقيدة في ذلك بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع
بشأنها.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم، فإن ضوابط المحاكمة المنصفة تتمثل في مجموعة
من القواعد المبدئية التى تعكس مضامينها نظامًا متكامل الملامح يتوخى بالأسس التى
يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة
استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقًا من إيمان الأمم المتحضرة
بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التى تنال من الحرية الشخصية؛ ولضمان أن تتقيد
السلطة التشريعية عند مباشرتها لمهمتها في مجال فرض العقوبة صونًا للنظام الاجتماعي،
بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفًا
مقصودًا لذاته، أو أن تكون القواعد التى تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم
الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة. بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد
مجموعة من القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التى لا يجوز
النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد - وإن كانت إجرائية في الأصل - إلا أن
تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية - وعلى امتداد مراحلها - يؤثر بالضرورة على
محصلتها النهائية. ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تمليها الفطرة؛ وتفرضها
مبادئ الشريعة الإسلامية في قوله عليه السلام "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما
استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فأخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير
من أن يخطئ في العقوبة"؛ وهى بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة
(96) منه، مؤكدًا بمضمونها ما قررته المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان؛ والمادة (6) من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان.
وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء كان مشتبهًا فيه أو متهمًا،
باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها
حماية المذنبين؛ وإنما لتدرأ بموجبها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة المنسوبة
إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للجريمة محل
الاتهام. ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذى يلازم الفرد
دومًا، ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها وعلى امتداد
حلقاتها؛ وأيًّا كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالى لدحض أصل
البراءة بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الإقطاعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع
مجالاً معقولاً لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها
بحكم قضائى استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتًّا.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها،
ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلى ممثلاً في الواقعة
مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة
هى التى يعتبر إثباتها إثباتًا للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر كذلك
بالنسبة إلى البراءة التى افترضها الدستور؛ فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل
واقعة أخرى وأقامها بديلاً عنها. وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل
الإنسان عليها. فقد ولد حرًّا مبرءًا من الخطيئة أو المعصية. ويفترض على امتداد
مراحل حياته أن أصل البراءة ركنٌ ركينٌ من أركان كرامته الإنسانية، يظل لصيقًا به،
مصاحبًا له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض المحكمة بقضاء جازم لا رجعة فيه هذا
الافتراض، على ضوء الأدلة التى تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التى نسبتها
إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك
القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبًا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ
هو من الركائز التى يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور؛ ويعكس
قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها،
تقتضيها الشرعية الإجرائية. ويعتبر إنفاذها مفترضًا أوليًّا لإدارة العدالة
الجنائية. ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، ليوفر من
خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل؛ بما يحول دون اعتبار
واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل؛ وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة
قانونية ينشئها.
وحيث إن النص المحال بعد أن أفصح عن أن جريمــة حيـازة أو استعمال
أدوات وزن أو قياس غير صحيحة لغرض البيع جريمة عمدية، باشتراطه العلم بعدم صحة هذه
الأدوات أو تزويرها، نص على أن هذا العلم يفترض في جانب الحائزين من المشتغلين
بالتجارة أو الباعة، ما لم يثبت المتهم العكس. وبذلك أحل المشرع توافر صفة معينة
في المتهم محل واقعة علمه بغش أو فساد هذه الأدوات، منشئًا بذلك قرينة قانونية
يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها، دليلاً على ثبوت واقعة العلم بفسادها أو
تزويرها، وهو ركن كان ينبغي أن تتولى النيابة العامة بنفسها مسئولية إثباته في إطار
التزامها الأصيل بإقامة الأدلة المؤيدة لإسناد الجريمة بكامل أركانها إلى المتهم؛
وبوجه خاص "القصد الجنائي العام" ممثلاً في إرادة إتيان الفعل، مع العلم
بالوقائع التي تعطيه دلالته الإجرامية.
وحيث إن القرينة القانونية التي تضمنها النص المحال على النحو
المتقدم، وإن كانت لا تعتبر من القرائن القاطعة؛ بإفساح المشرع للمتهم المواجه بها
إثبات عكسها، وقد التزم القانون رقم 1 لسنة 1994 في شأن الوزن والقياس والكيل،
افتراض العلم بالغش والفساد إذا كان المتهم من المشتغلين بالتجارة أو من الباعة،
ينفيه إثبات عدم علمه بما لحقها من عيب، وبذا أضحت النيابة العامة غير مكلفة
بإقامة الدليل على هذا العلم؛ وغدا نفيه عبئًا ملقى على عاتق المتهم مثلما هو
الشأن في القرائن القانونية غير القاطعة ؛ ذلك أن المشرع هو الذى تكفل باعتبار
الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة القانونية؛ وأعفى النيابة العامة
بالتالى من تقديم الدليل عليها. إذ كان ذلك؛ وكان الأصل في القرائن القانونية بوجه
عام هى أنها من عمل المشرع وهو لا يؤسسها أو يحدد مضمونهـــا إلا على ضــوء ما
يكون في تقديره غالبًا أو راجحًا في الحياة العملية، وكانت القرينة القانونية التي
تضمنها النص المحال - وحتى بافتراض جواز إعمال القرائن القانونية في المجال الجنائي
- تنافى واقع الحياة العملية، وما يتم فيها في الأغلب، ذلك أن هذه القرينة تتعلق
بأدوات كيل ووزن وقياس، يحتاج الوقوف على ما شابها من عيب إلى عمل خبير فنى، لا
يلم به بحسب غالب الأحوال، والجاري عليه الأمور من يتولى استخدام هذه الأدوات
الفنية حيازة وبيعًا، وإن اشتغل بالتجارة. ولازم ما تقدم؛ أن اشتغال حائز هذه
الأدوات أو مستعملها بالتجارة، أو قيامه على البيع استنادًا إلى مقاديرها، لا يفيد
بالضرورة علمه بتزويرها أو بفسادها، كما أن تكليفه بإثبات حسن نيته باعتباره من
المواطنين الشرفاء الذين يتعاملون في تلك الأدوات وفق أصول المهنة ومقتضياتها، لا
يعدو أن يكون أمرًا عَسِرًا ومُتميعًا في آن واحد. ومن ثم لا ترشح الواقعة البديلة
التى قررها النص المحال - وفي الأعم الأغلب من الأحوال - لاعتبار واقعة العلم
بفساد أدوات الوزن أو القياس أو الكيل، أو تزويرها ثابتة بحكم القانون؛ ولا تربطها
علاقة منطقية بها؛ وتغدو هذه القرينة بالتالي مقحمة لإهدار افتراض البراءة،
ومفتقرة إلى أسسها الموضوعية؛ ومجاوزة لضوابط المحاكمة المنصفة التي كفلها
الدستور.
وحيث إنه لما كانت جريمة حيازة أو استعمال أدوات وزن أو قياس غير
صحيحة أو مزورة من الجرائم العمدية التي يعتبر القصد الجنائي ركنًا فيهـا، وكان
الأصل هو أن تتحقق المحكمة بنفسها، وعلى ضوء تقديرها للأدلة التى تطرح عليها، من
علم المتهم بحقيقة الأمر في شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة، وأن يكون هذا العلم
يقينيًّا لا ظنيًّا ولا افتراضيًّا، وكان الاختصاص المقرر دستوريًّا للسلطة
التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها - وعلى ما جرى عليه قضاء المحكمة
الدستورية العليا - لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد المحكمة
الجنائية عن القيام بمهمتها الأصيلة في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التي
عينها المشرع إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية؛ وكان النص
المحال قد حدد واقعة بذاتها جعل ثبوتها بالطريق المباشر دالاًّ بطريق غير مباشر
على العلم بالواقعة الإجرامية، مقحمًا بذلك وجهة النظر التي ارتآها في مسألة يعود
الأمر فيها بصفة نهائية إلى محكمة الموضوع، لاتصالها بالتحقيق الذى تجريه بنفسها
تقصيًا للحقيقة الموضوعية عند الفصل في الاتهام الجنائي؛ وهو تحقيق لا سلطان
لسواها عليه، ومآل ما يسفر عنه إلى العقيدة التي تتكون لديها من جماع الأدلة
المطروحة عليها. إذ كان ذلك؛ فإن المشرع إذ أعفى النيابة العامة - بالنص المحال -
من إثباتها لواقعة بذاتها تتصل بالقصد الجنائي وتعتبر من عناصره، هي واقعة علم
المتهم بعدم صحة أدوات القياس أو الكيل التى يستخدمها، أو فسادها، حاجبًا بذلك
محكمة الموضوع عن تحقيقها؛ وعن أن تقول كلمتها بشأنها؛ بعد أن افترض هذا العلم
بقرينة لا محل لها، ونقل عبء نفيه إلى المتهم، فإن عمله هذا يعد انتحالاً لاختصاص
كفله الدستور للسلطة القضائية، وإخلالاً بمبدأ الفصل بينها وبين السلطة التشريعية؛
ومناقضًا كذلك لافتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه في كل وقائعها
وعناصرها.
وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه يقترن دائمًا من
الناحية الدستورية - ولضمان فعاليته - بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر وثيقة الصلة
بالحق في الدفاع. وتتمثل في حق المتهم في مواجهة الأدلة التي قدمتها النيابة
العامة إثباتًا للجريمة، والحق في دحضها بأدلة النفي التي يقدمها. لما كان ذلك؛
وكان النص المحال - وعن طريق القرينة القانونية التي افترض بها ثبوت القصد الجنائي
- قد أخل بهذه الوسائل الإجرائية بأن جعل المتهم مواجهًا بواقعة أثبتتها القرينة
في حقه بغير دليل؛ ومكلفًا بنفيها خلافًا لأصل البراءة، ومسقطًا عملاً كل قيمة أسبغها
الدستور على هذا الأصل؛ وكان أصل البراءة ، والحق في الدفاع هما ذروة سنام الحقوق
اللصيقة بشخص المواطن، ذلك أن أصـل البراءة – على النحو السالف بيانه - هو من
الحقوق الطبيعية التي تصاحـب المواطن منذ ولادته ولا تنفصل عنه إلا بحكم قطعي بالإدانة،
بما يستتبع إقامة السلطات القائمة على الاتهام الدليل القاطع على ما يناقض هـذا
الأصـل الذى حرم الدستور تعطيله أو الانتقاص منه، وكان النص المحال - وعلى ضوء ما
تقدم جميعه - ينال من مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية؛ ومن الحرية
الشخصية؛ كما يناقض افتراض البراءة، ويخل بضوابط المحاكمة المنصفة، وما تشتمل عليه
من ضمان الحق في الدفاع ، وينال من حق لصيق بالمواطن بتعطيله والانتقاص منه، وهو
حق يرتبط بكرامته الإنسانية، فإنه بذلك يكون مخالفًا لأحكام المواد (2، 51 ، 54،
92، 94، 95، 96، 98، 99، 101، 184 ) من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (19) من
القانون رقم 1 لسنة 1994 في شأن الوزن والقياس والكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق