مجلة المحاماة
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
جريمة إهمال أمر العائلة
(Délit d’abandon de famille)
وضع الشارع المصري القوانين المصرية من مختلطة وأهلية ولم يكن أمامه وقتئذٍ سوى القوانين الفرنسية فتقيد بها كثيرًا وكان لها أثر فعال في كل ما سن من قوانين مختلفة ولم يلتفت إلى شرائع البلدان الأخرى ليقتبس منها أكثرها موافقةً لمصالح المصريين وعاداتهم.
ولقد كان مقدار أخذنا بالقوانين النابوليونية وما سنته من القواعد العامة كبيرًا وأكثر مما يلزم حتى أننا أغفلنا بعض مبادئ سديدة واردة في أحكامنا الشرعية.
أقول ذلك بمناسبة ما اطلعت عليه اليوم في جريدة (الماتان) الفرنسية الصادرة في 24 مايو سنة 1924 متعلقًا بسن قانون (إهمال العائلة) فقد صدر في فرنسا بتاريخ 7 فبراير سنة 1924 قانون يعاقب بالحبس من ثلاثة شهور إلى سنة أو بالغرامة من 100 إلى 2000 فرنك كل من يمتنع متعمدًا أكثر من ثلاثة شهور من تنفيذ حكم صادر عليه بالنفقة لزوجه أو أصوله أو فروعه.
وقد أشار الكاتب بإيجاز إلى الإجراءات التي تتبع أمام قاضي المصالحات والتي يعقبها رفع الدعوى العمومية على الجاني بناءً على طلب النيابة أو بطريق تحريكها بواسطة المجني عليه.
ونوه بأن أكثر الممالك قررت اعتبار الأمر المتقدم جرمًا معاقبًا عليه جنائيًا وذكر أن الولايات المتحدة من سنة 1888 وسويسرا من سنة 1891 وألمانيا من سنة 1894 والنرويج من سنة 1902 ونيوزلندة وأستراليا من سنة 1910 وبلجيكا من سنة 1912 سنت كل منها عقوبة لجريمة إهمال العائلة.
وقد أظهر الكاتب ما يجيش بنفسه من الألم لهذا التأخير في التشريع ولم يتمالك إخفاء أسفه لإحراز ألمانيا قصب السبق على بلاده في إدخال هذا الإصلاح في قوانينها إذ جاهر بأنه من المحزن أن يكون قد مضى نحو ثلاثين سنة على المادة (361) من قانون العقوبات الألماني التي تعاقب بالحبس أو التشغيل في محل خاص كل من يؤدى سوء سلوكه وفساد أخلاقه وإدمانه على الخمر بعائلة إلى السقوط في مهاوي الفاقة.
وأني أيضًا كمصري آسف كل الأسف لأننا لم نقرر مبدأ حبس الممتنع من أداء النفقة متعمدًا مع أنه مباح شرعًا إلا في سنة 1910 (م 343 من لائحة الإجراءات الشرعية) بعد تردد كثير وتلكؤ في التشريع وتخلص من أنات المتألمين وشكوى المظلومين كأن ما بدا من مثل هذا الشخص الجاني على الإنسانية والمتسبب في قتل النفوس البريئة لا يدخل إلا في دائرة المعاملات، وقد كنا نخشى أن نتهم بالرجوع بالتشريع إلى الوراء وقد تبين لنا في وضح هذا العصر الزاهر خطأ مثل هذا الظن بدليل أن العدد الغفير من الأمم الراقية يستنكر مثل هذه الجريمة الشنعاء وقد سن لها عقوبات رادعة.
ثم أليس مما يؤسف له أن تكون مدة الحبس عندنا مقصورة على شهر واحد حبسًا بسيطًا ليس فيه ما يكفي لإلزام جميع المحكوم عليهم بالنفقة بوفائها على أنه ليس في كتب الفقه ما يحتم التقيد بمدة بل يجوز أن يتجاوز الحبس أضعاف المدة المتقدمة.
وليس يوجد من جهة أخرى ما يعوق عن إلحاق مثل هذه الجريمة ضمن الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات العام لتكون المعاقبة عليها أكثر أثرًا في النفوس وأشد فعلاً بما يسن لها من عقوبات خاصة تتناسب مع الجرم المرتكب وتسري عليها أحكام العودة أسوةً بسائر الجنح.
فيا حبذا لو وجه نوابنا الكرام (وعدد المتشرعين منهم ولله الحمد وفير) أنظارهم إلى هذا الأمر الهام وفكروا في تعديل النصوص الواردة بهذا الصدد في اللائحة الشرعية وفى إضافة نصوص جديدة إلى قانون العقوبات بطريقة ملائمة للحالة الاجتماعية مما يكون من شأنه أن يخفف كثيرًا من الويلات التي يجرها جهل كثير من الأفراد فيهملون أقدس الواجبات عليهم نحو أهلهم وذويهم لعدم توفر الوازع التشريعي الكفيل بردعهم وزجرهم عما تقترفه قلوبهم القاسية.
وأختم كلمتي هذه بأن كاتب مقال (الماتان) لو كان ملمًا بقواعد الشريعة الإسلامية واقفًا على تطورات التشريع عندنا لأشار إلى مصر بوجه خاص لاشتمال الشريعة الإسلامية على العناية بأمر النفقة منذ القدم.
وعلى كل حال فإن الذي يعزينا أننا كنا أسبق من بعض الأمم الغربية في العمل بقاعدة شرعية كان يظن الكثيرون أنها غريبة في بابها وأنها من بقايا العصور الحالية فإذا هي معمول بها في صميم القرن العشرين بين أرقى الأمم مدنية وتهذيبًا بأقسى مما هو مقرر في الشريعة الإسلامية.
عبد الفتاح السيد
المدرس بالحقوق الملكية
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
جريمة إهمال أمر العائلة
(Délit d’abandon de famille)
وضع الشارع المصري القوانين المصرية من مختلطة وأهلية ولم يكن أمامه وقتئذٍ سوى القوانين الفرنسية فتقيد بها كثيرًا وكان لها أثر فعال في كل ما سن من قوانين مختلفة ولم يلتفت إلى شرائع البلدان الأخرى ليقتبس منها أكثرها موافقةً لمصالح المصريين وعاداتهم.
ولقد كان مقدار أخذنا بالقوانين النابوليونية وما سنته من القواعد العامة كبيرًا وأكثر مما يلزم حتى أننا أغفلنا بعض مبادئ سديدة واردة في أحكامنا الشرعية.
أقول ذلك بمناسبة ما اطلعت عليه اليوم في جريدة (الماتان) الفرنسية الصادرة في 24 مايو سنة 1924 متعلقًا بسن قانون (إهمال العائلة) فقد صدر في فرنسا بتاريخ 7 فبراير سنة 1924 قانون يعاقب بالحبس من ثلاثة شهور إلى سنة أو بالغرامة من 100 إلى 2000 فرنك كل من يمتنع متعمدًا أكثر من ثلاثة شهور من تنفيذ حكم صادر عليه بالنفقة لزوجه أو أصوله أو فروعه.
وقد أشار الكاتب بإيجاز إلى الإجراءات التي تتبع أمام قاضي المصالحات والتي يعقبها رفع الدعوى العمومية على الجاني بناءً على طلب النيابة أو بطريق تحريكها بواسطة المجني عليه.
ونوه بأن أكثر الممالك قررت اعتبار الأمر المتقدم جرمًا معاقبًا عليه جنائيًا وذكر أن الولايات المتحدة من سنة 1888 وسويسرا من سنة 1891 وألمانيا من سنة 1894 والنرويج من سنة 1902 ونيوزلندة وأستراليا من سنة 1910 وبلجيكا من سنة 1912 سنت كل منها عقوبة لجريمة إهمال العائلة.
وقد أظهر الكاتب ما يجيش بنفسه من الألم لهذا التأخير في التشريع ولم يتمالك إخفاء أسفه لإحراز ألمانيا قصب السبق على بلاده في إدخال هذا الإصلاح في قوانينها إذ جاهر بأنه من المحزن أن يكون قد مضى نحو ثلاثين سنة على المادة (361) من قانون العقوبات الألماني التي تعاقب بالحبس أو التشغيل في محل خاص كل من يؤدى سوء سلوكه وفساد أخلاقه وإدمانه على الخمر بعائلة إلى السقوط في مهاوي الفاقة.
وأني أيضًا كمصري آسف كل الأسف لأننا لم نقرر مبدأ حبس الممتنع من أداء النفقة متعمدًا مع أنه مباح شرعًا إلا في سنة 1910 (م 343 من لائحة الإجراءات الشرعية) بعد تردد كثير وتلكؤ في التشريع وتخلص من أنات المتألمين وشكوى المظلومين كأن ما بدا من مثل هذا الشخص الجاني على الإنسانية والمتسبب في قتل النفوس البريئة لا يدخل إلا في دائرة المعاملات، وقد كنا نخشى أن نتهم بالرجوع بالتشريع إلى الوراء وقد تبين لنا في وضح هذا العصر الزاهر خطأ مثل هذا الظن بدليل أن العدد الغفير من الأمم الراقية يستنكر مثل هذه الجريمة الشنعاء وقد سن لها عقوبات رادعة.
ثم أليس مما يؤسف له أن تكون مدة الحبس عندنا مقصورة على شهر واحد حبسًا بسيطًا ليس فيه ما يكفي لإلزام جميع المحكوم عليهم بالنفقة بوفائها على أنه ليس في كتب الفقه ما يحتم التقيد بمدة بل يجوز أن يتجاوز الحبس أضعاف المدة المتقدمة.
وليس يوجد من جهة أخرى ما يعوق عن إلحاق مثل هذه الجريمة ضمن الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات العام لتكون المعاقبة عليها أكثر أثرًا في النفوس وأشد فعلاً بما يسن لها من عقوبات خاصة تتناسب مع الجرم المرتكب وتسري عليها أحكام العودة أسوةً بسائر الجنح.
فيا حبذا لو وجه نوابنا الكرام (وعدد المتشرعين منهم ولله الحمد وفير) أنظارهم إلى هذا الأمر الهام وفكروا في تعديل النصوص الواردة بهذا الصدد في اللائحة الشرعية وفى إضافة نصوص جديدة إلى قانون العقوبات بطريقة ملائمة للحالة الاجتماعية مما يكون من شأنه أن يخفف كثيرًا من الويلات التي يجرها جهل كثير من الأفراد فيهملون أقدس الواجبات عليهم نحو أهلهم وذويهم لعدم توفر الوازع التشريعي الكفيل بردعهم وزجرهم عما تقترفه قلوبهم القاسية.
وأختم كلمتي هذه بأن كاتب مقال (الماتان) لو كان ملمًا بقواعد الشريعة الإسلامية واقفًا على تطورات التشريع عندنا لأشار إلى مصر بوجه خاص لاشتمال الشريعة الإسلامية على العناية بأمر النفقة منذ القدم.
وعلى كل حال فإن الذي يعزينا أننا كنا أسبق من بعض الأمم الغربية في العمل بقاعدة شرعية كان يظن الكثيرون أنها غريبة في بابها وأنها من بقايا العصور الحالية فإذا هي معمول بها في صميم القرن العشرين بين أرقى الأمم مدنية وتهذيبًا بأقسى مما هو مقرر في الشريعة الإسلامية.
عبد الفتاح السيد
المدرس بالحقوق الملكية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق