الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 2 نوفمبر 2022

صفة الفاعل في جريمة اختلاس المال العام بين الشروط المفترضة له وأركانها

 

صفة الفاعل في جريمة اختلاس المال

العام بين الشروط المفترضة له  وأركانها

 

أ.زهرة مراد

كلية الحقوق

جامعة قسنطينة 1

الجزائر

ملخص:

هناك نوع من الجرائم عند قيامه لا يكتفي بالعناصر الأساسية العامة المشتركة بين جميع الجرائم وهي الركن المادي والركن المعنوي، لأن النموذج القانوني لها يتطلب زيادة علي ذلك توافر عناصر أخرى خاصة كصفة الموظف العام في بعض الجرائم منها جريمتي الرشوة واختلاس الممتلكات العامة، هذه الصفة ترتبط بهذا النوع من الجرائم وجودا وعدما بحيث إذا ما انتفت عن الفاعل قبل ارتكابها، أو اكتسبت بعد ذلك فإننا لا نكون أمام هذا النوع من الجرائم، وإن أمكن قيام جرائم أخرى.

هذا النوع من الجرائم تطلق عليه عدة تسميات منها الجرائم الخاصة، أو جرائم ذوي الصفة، والإشكال المطروح هنا لا يقوم على أساس الصفة بذاتها، أو عدد الصفات التي قد يشترطها المشرع في الفاعل، إنما في موقع هذه الصفة داخل النموذج القانوني للجريمة.

Résumé

Il y a un genre d’infraction où, lors de sa commission, l’on ne se contente pas des éléments essentiels généraux requis pour toute infraction, car sa construction juridique suppose d’autres éléments particuliers tels que la qualité de fonctionnaire public dans les infractions de corruption et de détournement de deniers publics, appelés aussi biens publics.

Ce genre d’infractions a plusieurs appellations telles que les infractions spéciales ou infractions de qualité.

 

مقدمة:

جريمة اختلاس المال العام من الجرائم ذات الطابع الخاص، أو من جرائم اليد الخاصة أو الفاعل الموصوف(1) إذ يشترط لقيامها وجود صفات معينة يتطلبها القانون في فاعلها قبل لحظة اقترافه للسلوك المجرم فيها، بحيث إذا ما تخلفت هذه الصفة أو الصفات أو اكتسبت بعد ذلك لا نكون بصدد هذه الجريمة.

وبالتالي هذه الصفات أو الصفة ترتبط بالجريمة وجودا وعدما وأن الغير الذي لا يتصف بها لا يعد فاعلا لها وإن أمكن –مثلا– اعتباره شريكا(2) وأن تكون هذه الصفات قد لازمت الفاعل في ارتكابه لجريمته. كما أن مساهمة الفاعل ذي الصفة التبعية في الجريمة مع فاعل آخر لا يتصف بها تستبعد قيام الجريمة، وإن كان الفعل يمكن أن يكون ركنا في جريمة أخرى.(3)

وفي مجال بحثنا هذا نجد أن المشرع الجزائري قبل التعديل الأخير لقانون العقوبات بمقتضى القانون رقم 06، 01 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته، كان يشترط في الفاعل في جريمة اختلاس المال العام صفة معينة، وهي كونه إما قاضيًا أو موظفًا عامًا ومن في حكمه أو ضابطًا عموميًا غير أن التعديل السابق ذكره خص الفاعل في هذه الجريمة بصفة واحدة وهي كونه موظفا عاما بالمفهوم الواسع لهذا المصطلح الذي يشمل بالإضافة إلى مصطلح الموظف العام بمفهومه الحقيقي في القانون الإداري الذي يعرف بأنه (كل شخص يشغل وظيفة دائمة ضمن درجة من درجات السلم الإداري ويسهم في تسيير مرفق عام بطريقة مباشرة). الصفتان المتبقيتان المذكورتان في القانون المعدل وهما القاضي والضابط العمومي أصناف أخرى من الأشخاص الذين ذكرتهم المادة (2) من قانون الوقاية من الفساد ومكافحته.

وموقع صفة الفاعل في النموذج القانوني للجريمة بصفة عامة، وجريمة اختلاس المال العام بصفة خاصة محل خلاف بين فقهاء القانون الجنائي، فمنهم من يعتبرها من الشروط المفترضة في الجريمة، أي أنه يفترض وجودها أصلا في الجريمة وارتباطها بها ارتباطا وثيقا لا ينفك(4). ومنهم من يرى بأنها ركنا خاصا من أركانها.

ولكي نصل الى الرأي الراجح والمتفق عليه بين معظم فقهاء القانون الجنائي، ونأخذ موقفا منه، لا بد قبل ذلك أن نعرف ما المقصود بالشروط المفترضة في الجريمة، والركن الخاص فيها؟ وأي منهما صفة الموظف العام في جريمة اختلاس المال العام؟ وما الآثار المترتبة على ذلك؟

1.    ماهية الشروط المفترضة في الجريمة؟

الجريمة هي كل فعل غير مشروع صادر عن إرادة جنائية، يقرر له القانون عقابا أو تدابير أمن(5) والقواعد العامة تقضي بأنه لقيام جريمة ما لا بد من توافر أركانها العامة وهما ركنان، ركن مادي أي الجانب الموضوعي للجريمة أو ماديتها أي كل ما يدخل في كيانها ويكون له طبيعة مادية، وركن معنوي أي الجانب الشخصي للجريمة أو الخطأ بمعناه الواسع، هذان الركنان يعداّن المكونين الأساسين لأية جريمة، زيادة على ذلك توجد عناصر أخرى يمكن أن تكون جوهرية، كما يمكن أن تكون ثانوية. قانونية، أو مادية سابقة على الواقعة المكونة للجريمة، تدخل في تكوينها ولا قيام للجريمة من دونها أو من دون الوصف المحدد لها قانونا(6)، أطلق عليها فقهاء القانون اصطلاح الشروط المفترضة في الجريمة.

وفكرة الشروط المفترضة في الجريمة بوجه عام ليست حديثة النشأة، إذ عرفت في نطاق القانون الخاص، حيث أطلق عليها الفقيه الفرنسي (أوتولان) تسمية الظروف المكونة constituantes،circonstances، التي يمكن أن تقترن بعناصر أساسية، وتجعل منها عناصر مركبة، ضرورية وأساسية لوجود الجريمة(7). إلا أن هذه الفكرة لم تتطور، وترتب نتائجها، وتلقى الاهتمام إلا لدى فقهاء القانون الجنائي، ومن ثم عادت وانتشرت في فرعي القانون الخاص والعام(8). وقد أطلقت عليها تسميات مختلفة منها: الشروط الأولية أو السابقة(9) les conditions préalables ومنها les. présuppositions .

كما أطلق عليها فقهاء القانون المصري تعبيرات مختلفة، كالشروط المفترضة(10) أو العناصر المفترضة(11) أو الأركان المفترضة(12) أو مفترضات الجريمة(13) أو الجانب المفترض في الجريمة(14).

وقد اخترنا مبدئيا –حتى يسهل البحث– التسمية الأولى أي الشروط المفترضة اعتمادا على حجج من ذهب إلى تبني هذه التسمية (15) على اعتبار أن الشرط كما يعرف، هو بداية لأية علاقة، وبالتالي فهو يسبق النشاط ويكون خارجا عن إرادة فاعله وكما يسهل بحثه ومعرفة موقعه داخل البنيان القانوني للجريمة أو داخل النموذج القانوني لها، واتخاذ موقفا منه بعد ذلك.

وإذا عدنا لتطور فكرة الشروط المفترضة، نجد أن الفضل في عودة وظهور هذه الفكرة يعود إلى الفقه الجنائي الإيطالي حيث طورها وأظهر نتائجها بمقابلتها بأركان الجريمة. وعلى رأس هذا الفقه الفقيه Manzini الذي أوضح وبين مفهوم الشروط المفترضة وقسمها إلى قسمين، شروط مفترضة للجريمة ويقصد بها تلك العناصر القانونية الموجودة مسبقا على تنفيذ الجريمة والتي يتوقف عليها وجود الجريمة من عدمه وفق الوصف المقرر لها في النص القانوني الخاص بها. أما إذا تخلفت فإننا نكون أمام جريمة أخرى بوصف آخر. وشروط مفترضة للواقعة (للفعل)(16). ويقصد بها العناصر القانونية أو المادية السابقة على تنفيذ الجريمة أو المعاصرة لها التي يتطلبها القانون كي يطبق عليها. وتخلف هذه الأخيرة يترتب عليه عدم جواز توقيع العقاب على الواقعة.

بخلاف الحال بالنسبة للفقه الفرنسي الذي لم يحفل في البداية بفكرة الشروط المفترضة في الجريمة، إلى أن أثارها الفقيه (Robert Vouin) حيث يرى بأن للجريمة عناصر مكونة لها، إلا أن هذه العناصر، ليست لها نفس القيمة من الأهمية حيث إنّ بعضها له الأولوية على غيره، وهذه لها أهمية في تحديد النطاق الذي يمكن أن ترتكب فيه الجريمة، وطبق هذه الفكرة عند تحليله لبعض الجرائم مثل جريمة هجر العائلة، وعدم دفع النفقة العائلية، فهو يرى بأن مثل هذه الجرائم لا تقوم إلا إذا سبقها عنصر خارج على الجريمة، يتمثل إما في الحكم القضائي كما هو الحال بالنسبة لجريمة هجر العائلة، أو وجود عقد التزام في الامتناع عن دفع النفقة، وعليه وحسب نظريته هذه فإن بعض الجرائم تتطلب لقيامها أن يكون هنالك عنصر سابق على وجودها.

وقد أخذ القضاء الفرنسي بهذه النظرية خاصة في مجال الاختصاص الدولي للقضاء، الذي تنظمه المادة 693 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي، والتي تستبعد الشروط السابقة على ارتكاب الجريمة من مجال انعقاد الاختصاص للقضاء الفرنسي، وتنص على أن القضاء الفرنسي لا يكون مختصا إلا إذا ارتكب على الأرض الفرنسية عنصر من العناصر المنشئة للجريمة فقط(17). وتطبيق القضاء الفرنسي لهذه النظرية جاء متذبذبا حسب مصلحة اختصاصه.

وعلى الرغم من اتفاق غالبية الفقه الفرنسي على أهمية الشروط المفترضة في الجريمة إلا أن الفقيه (Andre Vitu) قد انتقدها من الناحية العملية بسبب عدم وضع معيار ثابت ومميز بين الشروط السابقة للجريمة والشروط المنشئة لها كي يستعين به القضاء عند تطبيقه لها، مما جعل موقف هذا القضاء متذبذبا كما سبق (18). وإن كان البعض من الفقه الفرنسي يرى بأنه رغم عدم وجود معيار محدد للتميز بين ما يعد شرطا سابقا وما يعد عنصرا منشئا للجريمة، إلا أن المجال القانوني لكل من الشروط المفترضة والعناصر المنشئة للجريمة مختلف. فهذه الأخيرة غالبا ما يكون مجالها القانون الجنائي الخاص، بينما الشروط السابقة قد تنتمي إلى أي نوع من فروع القانون كالقانون التجاري أو الإداري أو المدني(19).

2.    تعريف الشروط المفترضة في الجريمة:

المفترض هو الواجب وجمعها مفترضات وهي لغة: من الأمور المفروضة أو الواجبة(20) أي اللازم توافرها لتحقيق واقعة معينة. أما في لغة القانون وبالتحديد في الفقه الجنائي، فقد عرفها الفقيه الإيطالي ماتسيني بأنها: (عنصر أو ظرف إيجابي أو سلبي يسبق بالضرورة وجود الجريمة أو الواقعة)(21). أما في الفقه الفرنسي فقد عرفها الفقيه (Robert Vouin) بأنها: (العناصر التي تحددّ المجال الذي يمكن للجريمة أن ترتكب فيه)(22). كما عرفها جانب آخر من الفقه الفرنسي بأنها: (حالة قانونية أو واقعية سابقة على النشاط الإجرامي، وبدونها لا يكون الفعل معاقبا عليه)(23).

أما في الفقه المصري فقد تعرض لها الدكتور عبد الفتاح مصطفى الصيفي والذي عرفها كما يلي: بأنها (مركز أو عنصر قانوني أو فعلي، أو واقعة قانونية أو مادية، ينبغي قيامها وقت ارتكاب الجريمة، ويترتب على تخلفها ألا توجد الجريمة)(24). وعرفت لدى الفقه المصري أيضا بأنها: (العناصر أو العنصر الذي يفترض قيامه وقت مباشرة الفاعل لنشاطه الإجرامي)(25)، أو هي (العناصر القانونية السابقة على تنفيذ الجريمة، ويتوقف عليها وجود أو عدم وجود الجريمة حسب النموذج القانوني المقرر لها، بحيث إذا ما تخلفت هذه الشروط خضعت الواقعة المرتكبة لنموذج قانوني آخر لا يتطلب توافر هذه الشروط أو الشرط)(26)، وتعرف كذلك بأنها: (نسيج من شروط أو عناصر قانونية أو أوضاع إيجابية أو سلبية تتعلق بموضوع الجريمة، أو بالجاني، أو المجني عليه)(27).

وهكذا ومما سبق نجد بأن هذه الشروط تتمثل إما في مركز قانوني، أي وضع قانوني سابق على ارتكاب الجريمة أو تصرف قانوني، أي وجود عمل إرادي منتج لآثاره القانونية سواء كان صادر عن إرادة منفردة أم عن تلاقي إرادتين أو قد يتمثل الشرط المفترض في إجراء قانوني، وهو طريق يحدده القانون الإجرائي –جنائي أو مدني أو إداري– تحقيقا لغرض معين بواسطة الخصومة أو قد يتمثل في واقعة قانونية وهي تلك الواقعة التي يرتب القانون عليها أثرا كمن يستعمل الأوراق المزورة وهو يعلم بتزويرها، أو واقعة مادية ومثالها كون المجني عليه في جريمة القتل إنسانًا حيًا، أو صفة قانونية في مرتكب الجريمة كما هو الحال بالنسبة لجريمة اختلاس الممتلكات العامة في قانون الوقاية من الفساد ومكافحته والتي تنص عليها المادة 29 منه التي تشترط صفة في الجاني وهي كونه موظفا عاما. بالمعني المقصود في هذا القانون والوارد بالمادة (2) منه. وكما هو الشأن كذلك في جريمة الرشوة المنصوص عليها في نفس القانون والتي تفترض –أيضا، في وجودها أن يكون الجاني موظفًا عامًا، فلا توجد هاتين الجريمتين إلا إذا كان مرتكب أي منها يتصف بالصفة التي اشترطها القانون فيه. وهي كونه موظفًا عامًا.

ومن استعراضنا للتعاريف المختلفة التي قدمت للشروط المفترضة في الجريمة، نجد بأنها وإن اختلفت ألفاظها إلا أنها تشترك في بعض العناصر الأساسية التي تعد بمثابة خصائص لها تميزها عن ما يشابهها من شروط أو ظروف، والتي يمكن أن نستخلصها وأهمها:

1.    أن التعاريف التي قيلت في الشروط المفترضة للجريمة أغلبيتها، اتفقت جميعا حول كنه هذه الشروط والمتمثلة إما في مراكز، أو عناصر، أو وقائع قانونية أو مادية، أو صفات قانونية.

2.    اتفقت التعاريف أيضا على أن الشرط المفترض يكون دائما سابقا ومستقلا على نشاط الجاني.

3.    كما اتفقت على أن الشرط لابد أن يكون موجودا في لحظة ارتكاب الجريمة، ويستمر لحين انتهاء الجاني من نشاطه الإجرامي.

4.    أن هذه الشروط تعتبر عنصرًا أو عناصر جوهرية تدخل في تكوين الجريمة، ولا قيام لها من دونها بالوصف القانوني المحدد لها من قبل المشرع.(28)

3.    الطبيعة القانونية للشرط المفترض في الجريمة :

إذا كانت تعاريف فقهاء القانون للشرط المفترض في الجريمة، قد اتفقت على عناصره الأساسية وبكونه ضروريًا ولازمًا لوجودها، إلا أن هؤلاء الفقهاء لم يتفقوا على طبيعة هذا الشرط، أي تحديد موقعه داخل الهيكل القانوني للجريمة، وذهبوا في ذلك اتجاهين مختلفين، أحدهما يقول باستقلالية هذا الشرط عن بقية مكونات الجريمة والآخر يرى بتبعية الشرط المفترض في الجريمة، وإدماجه فيها.

الاتجاه الأول: تبعية الشرط المفترض لمكونات الجريمة

أصحاب هذا الاتجاه(29) يرون بأن الشرط المفترض في الجريمة يعد من المكونات الأساسية لها، ويدخل في بنيانها القانوني، ويعد من عناصر النموذج القانوني في قاعدة التجريم، وإن كان يختلف عنها في كونه سابقا من الناحية الزمنية على ارتكاب الفاعل بنشاطه المخالف للقانون ويرون بأن هذه الأسبقية ليست لها أهمية(30)، لأنها لا تعني الاستقلال التام عن بقية المكونات.

واتفق أصحاب هذا الاتجاه في كون الشرط المفترض يكون تابعا للواقعة الإجرامية، إلا أنهم ذهبوا في ذلك مذاهب ثلاثة مختلفة.

الأول منها يرى أصحابه بأن الشرط المفترض في الجريمة، يدخل ضمن ملابسات السلوك الإجرامي بحسب وصفه القانوني المكون للركن المادي لها، على أساس أن السلوك، إنما ينظر له مقترنا بما لابسه من ظروف تضفي عليه دلالته الخاصة(31). وبالتالي ليس للشرط المفترض ذاتية خاصة به.

أما الثاني فيعتبر الشرط المفترض من الأركان العامة للجريمة، دون تمييز بينهما سوى أن الشرط المفترض سابق من حيث الوجود عليها(32) والرأي الغالب فيه يربط الشرط المفترض بعناصر الجريمة في مجموعها، باعتباره من قبيل الأركان الخاصة التي يتطلبها المشرع في بعض الجرائم، والتي تختلف باختلاف النموذج القانوني لكل جريمة(33).

أما أصحاب المذهب الثالث في هذا الاتجاه،، أي أنصار التبعية –فقد ردوا الشرط المفترض في الجريمة إلى محلها القانوني، باعتباره مصلحة أو مال محل الحماية القانونية(34).

الاتجاه الثاني: استقلالية العنصر المفترض عن الواقعة الإجرامية ومكوناتها:

إذا كان الاتجاه الأول –كما رأينا– يذهب إلى إدماج الشرط المفترض، إما في الواقعة الإجرامية برده للأركان العامة أو الخاصة، أو إلى عناصر السلوك الإجرامي المكون للركن المادي أو إلى المحل القانوني أو المصلحة محل الحماية القانونية من وراء تقرير الجريمة. فإنه يوجد اتجاه حديث، يقر أصحابه باستقلالية الشرط المفترض عن أركان الجريمة، وإن كانوا يعتبرونه من العناصر الأساسية لها، التي لا توجد من دونها، كما يقر أصحاب هذا الاتجاه بإمكانية عزله عن أركان الجريمة، باعتباره سابقا من الناحية الزمنية والمنطقية(35).

ويقوم هذا الاتجاه على أساس أن الشرط المفترض، زيادة على كونه عنصرا سابقا على نشاط الجاني، ومستقل عن إرادته، فهو أيضا خارج عن أركان الجريمة، لأنه رغم ارتباطه بها ولزومه لوجودها، إلا أنه لا يدخل في تكوينها وإن كان يعد من العناصر المكونة للنموذج القانوني لها(36). وبنوا نتائجهم علي هذا الأساس. ومنها قولهم إنه لما كان الشرط المفترض لا ينتمي إلى أركان الجريمة فهو بالتالي لا ينتمي إلى قانون العقوبات، وإنما يعود انتماؤه الي فرع آخر من فروع القانون الأخرى غير القانون الجنائي. كما يرون بأنّه لما كان الشرط المفترض في بعض الأحيان يعتبر من عناصر النموذج القانوني للجريمة، فإنّ هذا لا يعني أنّ الجريمة مركبة. ومن الآراء المعول عليها في هذا الاتجاه، هو اختلاف مفترضات الجريمة عن مفترضات الفعل، حيث إنّ الأولى تكون سابقة على وقوع الجريمة، بينما الثانية هي أيضا سابقة على وقوع الفعل، إلا أنها تظل معاصرة ومسايرة له حتى يفرغ الجاني من نشاطه(37). ومثال الأولى صفة الموظف العام في جريمة اختلاس المال العام، فتوافر هذه الصفة يترتب عنه قيام الجريمة، أما تخلفها فيترتب عنه قيام الجريمة لكن بوصف آخر، أي تحولها إما لجريمة سرقة أو جريمة خيانة أمانة، التي لا يشترط في فاعل أي منهما صفة معينة.

أما الحالة الثانية أي مفترضات الفعل، فيشترط أن تكون هذه الصفة موجودة قبل ارتكاب الفعل وتظل مستمرة ومعاصرة له حتى يفرغ الجاني من نشاطه، ويترتب على توافرها قيام الجريمة باسم معين، وعلى تخلفها انتفاء الجريمة كلية تحت أي إثم كان. ومثالها عدم وجود مقابل الوفاء في جريمة إصدار شيك بدون رصيد فالشرط المفترض هنا هو عدم وجود مقابل الوفاء، ويجب أن يظل مستمرًا، أما إذا تخلف انتفت الجريمة(38).

4.    موقع صفة الفاعل في النموذج القانوني لجريمة اختلاس المال العام:

هذا العنوان هو تساؤل مطروح حول الطبيعة القانونية لكل من القاضي والموظف العام ومن في حكمه والضابط العمومي باعتبار أن كل واحد منهم كان يعتبر من الفاعلين في جريمة الاختلاس في قانون العقوبات الملغى. والتي اختصرها القانون الحالي أي قانون الوقاية من الفساد ومكافحته في صفة وحيدة وهي كون الفاعل موظفا عاما بالمعنى الواسع. هل تعد هذه الصفة شرطا مفترضا في الجريمة؟ أم أنها تعتبر من أركانها ؟وهل هي من الأركان العامة أم الخاصّة؟

إذا كان من المتفق عليه أن للجريمة أركان تقوم عليها، وأنّ الركن لغة هو كل ما يدخل في تكوين الشيء بحيث لا يقوم إلا به ومن ثم كان ركن الجريمة هو أحد أعمدتها التي لا تقوم بغير تحققه(39)، والأركان إما تكون عامة تشترك فيها كافة الجرائم ويترتب على تخلف أحدها عدم قيام الجريمة تحت أي اسم قانوني أو وصف معين، وهذان ركنان أساسيان هما الركن المادي والركن المعنوي، ولا يوجد أي منهما إلا باستجماع جميع عناصره، فالركن المادي يتطلب وجود سلوك ونتيجة وعلاقة سببية بينهما، والركن المعنوي يتطلب ثبوت الخطأ بمعناه الواسع من الجاني سواء كان عمديا أم غير عمدي(40). وإما أن تكون الأركان خاصة، وتتمثل في وقائع أو عناصر أو صفات قانونية تلحق الجاني أو محل الجريمة(41)، وسميت أركانا خاصة لاقتصارها على بعض الجرائم دون البعض الآخر ولا قيام للجريمة بدونها تحت وصف معين وإن كان تخلفها لا يؤدي إلى انتفاء الجريمة، فالركن الخاص يقتصر أثره على وصف الجريمة وتحديد مقدار العقوبة المقررة لها وليس على قيامها، أي لا يؤثر على التجريم كما هو الحال بالنسبة للركن العام.

وقد رأينا –سابقا– موقف الفقه الجنائي من فكرة الشرط المفترض، وكيف انقسم إلى فريقين بين مؤيد لوجود هذا الشرط وأغلبيته يقصره على بعض الجرائم دون البعض الآخر(42). وبين المنكر له وهذا الأخير يرى بأنه لا أساس لهذه التسمية، لأنه إذا كان هناك شرط مفترض لا قيام للجريمة من دونه تحت وصف معين فإننا نكون بصدد ركن خاص وهذا هو وضع صفة الموظف العام في جريمة اختلاس المال العام، حيث إنّ تخلف هذه الصفة عن الفاعل أثناء ارتكابه للفعل المكون لركنها المادي، لا يؤدي إلى انتفاء الفعل المخالف للقانون، وإنما يتغير الوصف القانوني لهذه الجريمة، التي قد تصبح جريمة خيانة أمانة أو سرقة. كما أن أصحاب الرأي الأخير يرون بأن المفروض إذا كان هناك شروط أو شرط مفترض، فيجب أن يمتد مفهومه ليشمل كافة الجرائم، والحال أنه قاصر على بعضها دون البعض الآخر، فضلا على أنه ما دام هذا الشرط مفترضا فلا داعي للبحث عنه وإثباته(43)، في حين أن التحري عنه وإثباته لازمين لقيام الجريمة تحت وصف معين(44) كما أن علم الجاني يجب أن يحيط بالشروط المفترضة في الجريمة وانتفاء العلم بالشرط المفترض في جريمة معينة يؤدي إلى انتفاء القصد الجنائي فيها(45).

كما أن البعض من مؤيدي هذا الاتجاه يرى بأن العناصر المكونة للتكييف القانوني هي الأركان وهي إما عامة تشترك فيها جميع الجرائم، أو خاصة ببعض الجرائم دون البعض الآخر ومن بين الأركان الخاصة التي ذكرها فقهاء هذا الاتجاه صفة الموظف العام في جريمة اختلاس المال العام والتي اعتبروها عناصر تكوينية لأن تخلفها يؤدي إلى عدم وجود الجريمة بصفتها القانونية المذكورة، وبالتالي انعدام تحقيقها وهي مفترضة بسبب أسبقيتها على وجود الجريمة واستقلالها عنها، إلا أن هذه الأسبقية ليست ذات أهمية، لأن العبرة بوجودها وتوافرها أثناء قيام صاحب هذه الصفة بارتكاب الجريمة.

خاتمة:

لكل جريمة بنيانها القانوني الذي يعتمد عليه في قيامها، والذي يقوم أساسا على ركنين، ركن مادي، وركن معنوي وهما ما يعرف بالأركان العامة للجريمة إلا أنه بالإضافة إلى ذلك هناك بعض الجرائم تتطلب في قيامها –زيادة على الأركان العامة– وجود عناصر أساسية أخرى سابقة على ارتكابها، تتمثل إما في واقعة أو صفة قانونية أو فعلية، وإما في مركز قانوني أو فعلي، والتي أطلق عليها جانب من الفقه الجنائي مصطلح الشروط المفترضة، هذه الأخيرة من دونها لا يكتمل البنيان القانوني للجريمة بالوصف المحدد لها قانونا إلا أن تخلفها لا يؤدي إلى انعدام قيام الجريمة، وإنما يغير من وصفها القانوني، أو من تحديد مقدار العقوبة المقررة لها، كما هو الحال لصفة الفاعل في جريمة اختلاس الممتلكات العامة.

ولهذا توصلنا –في هذه الدراسة– إلى أن ما يطلق عليه جانب من الفقه الجنائي اصطلاحا الشرط المفترض في الجريمة ما هو في حقيقة الأمر إلا ركنا خاصا فيها للأسباب السابق ذكرها. ولما كانت مكانة صفة الفاعل في جريمة اختلاس الممتلكات العامة، ليست من الأركان العامة لها كما أن هذه الجريمة بهذا الوصف الذي أطلقه المشرع عليها، لا تقوم إلا بتوافر هذه الصفة، فهي بالتالي تعتبر ركنا خاصا فيها.

الهوامش:

1.    د/ رمسيس بهنام، النظرية العامة للقانون الجنائي ط (3)، 1971، منشاة المعارف الإسكندرية، ص1889.

·         د/ عبد العظيم مرسي وزير، الشروط المفترضة في الجريمة، دراسة تحليلية تأصيلية، دار النهضة العربية،1883، ص72.

2.    د/ حاتم عبد الرحمان منصور شيحا، القانون العقابي –القسم الخاص– جرائم الاعتداء على المصلحة العامة والأشخاص، ط 2004، دار النهضة العربية، ص 20.

3.    د/ مأمون محمد سلامة، قانون العقوبات –القسم الخاص، ج 1 الجرائم المضرة بالمصلحة العامة، دار الفكر العربي، ص ص 247، 248.

4.    د/ عبد ﷲ حسين حيدة، المسؤولية الجنائية للموظف العام للامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية، رسالة دكتوراه جامعة القاهرة، ط 2005، ص 36.

5.    محسن ناجي، الأحكام العامة في قانون العقوبات، ط1 1974 مطبعة العاني، بغداد، ص13.

6.    د/ رفيق محمد سلام، الحماية الجنائية للمال العام، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، ص. 116

7.    Michèle،Laure Rassat, Droit pénal spécial –Dalloz, Collection Nouveaux Précis, 5ème éd., 2006.

8.    د/ عبد العظيم مرسي وزير، المرجع السابق، ص 53.

9.    د/ حسنين براهيم صالح عبيد، مفترضات الجريمة، مقال – مجلة القانون والاقتصاد – العددان الثالث والرابع. السنة 49 سبتمبر – ديسمبر 1979 مطبعة جامعة القاهرة 1981 ص. 2

·         د/ عبد العظيم مرسي وزير، المرجع السابق، ص 60.

10. د/ أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، 1981، ص256.

·         د/ عبد العظيم مرسي وزير، المرجع السابق، حيث جعله عنوان مؤلفه.

11. د/ رمسيس بهنام، النظرية العامة، مرجع سابق، ص 494.

12. د/ محمد زكي أبو عامر، قانون العقوبات، القسم الخاص، ط 2 مطبعة التوني 1980، ص 42.

13. د/ امال عبد الرحيم عثمان، النموذج القانوني للجريمة، مقال – مجلة العلوم القانونية والاقتصادية – العدد الأول السنة 1972، ص 248.

·         د/ حسنين براهيم صالح عبيد، المقال السابق، ص 1.

14. د/ عبد الفتاح مصطفى الصيفي، القاعدة الجنائية، دار النهضة العربية ص 259.

15. د/ عبد العظيم مرسي وزير، المرجع السابق، ص ص 115 – 116.

16. د/ عادل عازر، النظرية العامة في ظروف الجريمة، رسالة دكتوراه، 1966 ص 213.

·         د/ عبد المنعي محمد براهيم رضوان، موضع الضرر في البنيان القانوني للجريمة، رسالة دكتوراه 1993، ص 64.

17. Crim 27 oct 1966. Bull 44. Revue de science Crim 1967 page 439 obs.

18. للمزيد أنظر، د/ عبد ﷲ حسين حيدة، المرجع السابق، ص ص 37- 38.

·         Roger Merle et André Vitu , Traité de droit criminel: Droit pénal spécial, Tome I, Paris, Edition1981 , P 21.

19. Michèle،Laure Rassat, Droit pénal spécial. ed.1997, N° .42

20. القاموس المحيط ج 2، ط (4) القاهرة 1938 باب الضاد فصل الفاء، ص 340.

21. د/ عبد العظيم مرسي وزير –المرجع السابق– ص 76،

22. Robert-François-Marie Vouin, précis de droit pénal spécial, ed Dalloz 1976 , p 2.

23. Gaston Stefani, Georges Levasseur et Bernard Bouloc, Droit pénal général, 11e éd., coll. « Précis Dalloz », Paris, Dalloz, 1980.

24. د/ عبد الفتاح مصطفى الصيفي، القاعدة الجنائية، مرجع سابق، ص 259.

·         د/ حسنين براهيم صالح عبيد، المرجع السابق، ص ص 1 – 2.

25. د/ رمسيس بهنام. النظرية العامة للقانون الجنائي ط (3) 1971 منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر، ص 494.

26. د/ محمود محمود مصطفى – شرح قانون العقوبات، القسم العام، ط 9، 1974 فقرة .22

·         د/ عبد الحكم فودة – امتناع العقاب، في ضوء الفقه والقضاء، مطبعة دار الألفي لتوزيع الكتب القانونية، المنيا، مصر، ص13.

·         د/ عادل عازر – المرجع السابق، ص 38. 27- ناصر خلف بخيت – الحماية الجنائية للمال العام 2008 – 2009، ص 55.

27. د/، عبد المهيمن بكر، القسم الخاص في قانون العقوبات، دار النهضة العربية، ط (7) 1977، ص 13. 28

28. د/ حسنين براهيم صالح عبيد، المرجع السابق، ص 5.

·         د/ عبد الفتاح مصطفى الصيفي، المرجع السابق، ص ص 94 – 95. 29-

29. للمزيد أنظر، د/ عبد العظيم مرسي وزير، المرجع السابق، ص ص 78 - 79.

·         د/، حسنين براهيم صالح عبيد، المرجع السابق، ص ص 10 – 13.

·         د/ محمود محمود مصطفي، المرجع السابق، ص39.

30. د/ محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم العام، ط3، القاهرة 1983، ص53.

31. د/ حسنين براهيم صالح عبيد، المرجع السابق، ص27.

32. د/ احمد عبد اللطيف، جرائم الأموال العامة، دار النهضة المصرية، ص113.

33. د/ محمود محمود مصطفي – المرجع السابق ص39.

·         د/ مامون محمد سلامة، جرائم الموظفين ضد الادارة العامة مجلة القانون والاقتصاد 1969، ص105.

·         د / آمال عبد الرحيم عثمان، المرجع السابق، ص249.

34. د/ جلال ثروة محمد، قانون العقوبات اللبناني، القسم العام، بيروت 1962، ص113. أشار إليه، د/ عبد الفتاح الصيفي، المرجع السابق، ص 262، هامش 2.

35. د/ عبد الفتاح مصطفي الصيفي، المرجع السابق، ص 262.

36. د/ عبد العظيم مرسي وزير، المرجع السابق، ص 112.

37. د/ عادل عازر، المرجع السابق، ص 220 وما بعدها.

·         نوفل علي عبد ﷲ صفو الدليمي – الحماية الجنائية للمال العام، دار هومة، الجزائر، 2005، ص 185.

38. د/ محمد رفيق سلام، المرجع السابق، ص 119.

39. د/ حسنين براهيم صالح عبيد، المرجع السابق، ص 559.

40. د/ حسنين براهيم صالح عبيد، المرجع السابق، ص 568.

41. د/ حسنين براهيم صالح عبيد، المرجع السابق، ص 569.

42. نوفل علي عبد ﷲ صقو الدليمي، المرجع السابق، ص 155.

43. د/ محمود محمود مصطفي، الوسيط في الإجراءات الجنائية، ج1، ط1، 1981، ص. 514

44. د/ ناصر خلف بخيت، المرجع السابق، ص 95.

45. د/ رفيق محمد سلام، المرجع السابق، ص 120.

·         د/ احمد عبد اللطيف، المرجع السابق، ص 116.

·         د/ رفيق محمد سلام، المرجع السابق، ص 120.

·         د/ أحمد عبد اللطيف، المرجع السابق، ص 116.

·         د/ ناصر خلف بخيت، المرجع السابق، ص 95.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق