باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثاني مـن يوليه سنة 2022م،
الموافق الثالث من ذي الحجة سنة 1443 هـ.
برئاسة السيد المستشار / بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة
المستشارين: الدكتور عادل عمر شريف ورجب عبد الحكيم سليــم ومحمود محمد غنيم
والدكتور عبد العزيز محمد سالمان وطارق عبد العليم أبو العطا وعلاء الدين أحمد
السيد نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور / عماد طارق البشرى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
فى الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 56 لسنة 35 قضائية
دستورية.
المقامة من
محمد السيد عبد الخالق فخر الدين
ضـد
1 - رئيس الجمهوريــة
2 - رئيس مجلس الشورى (الشيوخ حاليًــا)
3 - رئيس مجلس الوزراء
4 - وزيـر العدل
5 - وريثى المرحوم / حسام ياسر إبراهيم إبراهيم، وهما:
أ - ياسر إبراهيم على إبراهيم
ب - إيناس سامي سيد أحمد أبو السعود
6 - عصام أحمد محمد السعداوى
7 - رئيس مجلس إدارة شركة مصر للتأمين
-----------------
" الإجراءات "
بتاريخ الحادي والعشرين من أبريل سنة 2013، أودع المدعى صحيفة هذه
الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية المادتين
(8، 9) من قانون التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات
النقل السريع داخل جمهورية مصر العربية الصادر بالقانون رقم 72 لسنة 2007.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار
الحكم فيها بجلسة اليوم.
----------------
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق -
في أن المدعى عليهما خامسًــا كانا قد أقاما ضد المدعى والمدعى عليه السادس الدعوى
رقم 531 لسنة 2011 مدني كلى، أمام محكمة طنطا الابتدائية، طلبًــا للحكم بإلزامهما
متضامنين بأن يؤديا إليهما مبلغًــا مقداره مائة ألف جنيه، تعويضًــا عن الأضرار
المادية والأدبية والموروثة التي لحقت بهما جراء وفاة مورثهما. وذلك على سند من
أنه بتاريخ 26/9/2010، وحال قيادة المدعى عليه السادس سيارة نقل مملوكة للمدعى،
تسبب بخطئه في وفاة مورث المدعى عليهما خامسًــا، وصدر حكم بإدانته فى الدعوى رقم
33752 لسنة 2010 جنح مركز طنطا، وصار نهائيًّــا بالحكم الصادر في الدعوى رقم 3517 لسنة 2011 جنح
مستأنف مركز طنطا، وهو ما حدا بهما إلى إقامة دعوى التعويض المشار إليها مخاصمين
قائد السيارة، ومالكها - المدعى - بصفته مسئولاً عن الحقوق المدنية. وإبان تداول
الدعوى، أدخل المدعى الشركة المدعى عليها الأخيرة بصفتها الشركة المؤمنة على
السيارة مرتكبة الحادث خصمًا في الدعوى، بدعوى الضمان الفرعية، بطلب أصلى بعدم
قبول الدعوى الأصلية، وآخر احتياطي بإلزام الخصم المدخل بما عسى أن يُحكم به عليه
والمدعى عليه السادس، وبجلسة 27/6/2012، قضت المحكمة بقبول طلب الإدخال شكلاً،
ورفضه موضوعًا، وألزمت المدعى والمدعى عليه السادس بأداء التعويض المقضي به،
مخصومًا منه ما أدته الشركة المدعى عليها الأخيرة للمدعى عليهما خامسًـا، مؤسسة
حكمها على إدانة المتسبب فى الحادث بحكم نهائي، وثبوت عناصر المسئولية التقصيرية
والمسئولية المفترضة للمدعى كحارس للأشياء. استأنف المدعى عليهما خامسًا الحكم
المار ذكره بالاستئناف رقم 1083 لسنة 62 قضائية، أمام محكمة استئناف طنطا، طلبًــا للحكم بزيادة مبلغ التعويض،
كما استأنفه المدعى بالاستئناف رقم 1269 لسنة 62 قضائية أمام المحكمة ذاتها، ودفع بعدم دستورية المادتين (8 و9) من
قانون التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل
السريع داخل جمهورية مصر العربية الصادر بالقانون رقم 72 لسنة 2007، لمخالفتهما مبدأ المساواة، ومبادئ الشريعة
الإسلامية، وانتهى إلى طلب الحكم أصليًّــا: بوقف الدعوى وإحالتها للمحكمة
الدستورية العليا، واحتياطيًّــا: عدم قبول الدعوى، ومن باب الاحتياط: إلزام
المؤمن - الشركة المدعى عليها الأخيرة - بمبلغ التعويض المقضي به، مع تخفيضه إلى
الحد الجابر للضرر، ضمت المحكمة الاستئنافين ليصدر فيهما حكم واحـد، حددت له جلسة
27/2/2013، وإذ قدرت المحكمة جدية الدفع بعدم الدستورية، قررت إعادة الاستئنافين
للمرافعة لجلسة 24/4/2013، وصرحت للمدعى بإقامة الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى
المعروضة.
وحيث إن المادة (8) من قانون التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية
الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع داخل جمهورية مصر العربية الصادر بالقانون
رقم 72 لسنة 2007، تنص على أنه تؤدى شركة التأمين مبلغ
التأمين المحدد عن الحوادث المشار إليها في المادة (1) من هذا القانـون إلـى
المستحـق أو ورثته وذلك دون الحاجة إلى اللجوء للقضاء في هذا الخصوص.
ويكون مبلغ التأمين الذي تؤديه شركة التأمين قدره أربعون ألف جنيه في
حالات الوفاة أو العجز الكلى المستديم .....، ويحدد مجلس إدارة الهيئة المصرية
للرقابة على التأمين كيفية وشروط أداء مبلغ التأمين للمستحقين في كل من الحالات
المشار إليها، على أن يصرف مبلغ التأمين في مدة لا تجاوز شهرًا من تاريخ إبلاغ
شركة التأمين بوقوع الحادث.
وتنص المادة (9) من القانون ذاته على أنه للمضرور أو ورثته اتخاذ
الإجراءات القضائية قبل المتسبب عن الحادث والمسئول عن الحقوق المدنية للمطالبة
بما يجاوز مبلغ التأمين.
وحيث إن من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن المصلحة الشخصية المباشرة
تعد شرطًا لقبول الدعوى الدستورية، ومناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة
فى الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم فى المسألة الدستورية لازمًا للفصل فى
الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، المطروحة على محكمة الموضوع. متى كان ذلك، وكانت
رحى النزاع الموضوعي تدور حول طلب المدعى عليهما خامسًــا إلزام المدعى - بصفته
مالك السيارة - والمدعى عليه السادس - قائدها المتسبب فى الحادث - بأداء التعويض
المطالب به، الأمر الذي حدا بالمدعى إلى إدخال الشركة المؤمنة لإلزامها بما عسى أن
يقضى عليه به، ولما كان نصا المادتين (8 و9) من القانون السالف الإشارة إليه -
المطعون عليهما - هما المحددين لضوابط المسئولية المدنية الناشئة عن حـوادث مركبات
النقـل السريـع، إذ قصر أولهما حدود المسئولية المدنية للشركة المؤمنة في مبلغ
مقطـوع مقداره أربعون ألف جنيه، في حالة الوفاة أو العجز الكلى المستديم، تؤديه
للمضرور أو ورثته، دون حاجة للمطالبة به قضائيًّــا، وفق الشروط الموضوعية المنصوص
عليها في ذلك القانون، وأجاز الآخر للمضرور أو ورثته اتخاذ الإجراءات القضائية قبل
مالك السيارة - المسئول عن الحقوق المدنية - وقائدها - المتسبب في الحادث -
للمطالبة بما يجاوز مبلغ التأمين المقطوع المقرر بالمادة (8) السالفة الذكر،
طبقًــا للقواعد العامة للمسئولية التقصيرية ومسئولية حارس الأشياء في القانون
المدني، مما تتوافر به للمدعى مصلحة شخصية ومباشرة في اختصام هذين النصين، لما
للقضاء في دستوريتهما من أثر مباشر وانعكاس أكيد على الطلبات فى الدعوى الموضوعية،
وقضاء محكمة الموضوع فيها، ويتحدد نطاق الدعوى المعروضة فيما نص عليه صدر الفقرة
الثانية من المادة (8) من القانون المشار إليه، من أنه ويكون مبلغ التأمين الذي
تؤديه شركة التأمين قدره أربعـون ألف جنيه فى حـالات الوفـاة أو العجـز الكلى
المستديم . وما نصـت عليـه المادة (9) مـن القانــون ذاته من أنه للمضـرور أو
ورثته اتخاذ الإجراءات القضائية قبل المتسبب عن الحادث والمسئول عن الحقوق المدنية
للمطالبة بما يجاوز مبلغ التأمين ، وذلك في مجال انطباقها على حالتي الوفاة والعجز
الكلى المستديم.
وحيث إن المدعى ينعى على نصي المادتين (8، 9) من القانون رقم 72 لسنة 2007 المشار
إليه، مخالفتهما مبادئ الشريعة الإسلامية والإخلال بمبدأ المساواة المنصوص عليهما
بالمادتين (2 و33) من دستور عام 2012، وتقابلهما المواد (2 و4 و53) من الدستور
الحالي.
وحيث إن الرقابة على مدى مطابقة النصوص التشريعية - أيًّـا كان تاريخ
العمل بها - للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور
القائم دون غيره، لكون هذه الرقابة إنما تستهدف أصلاً - على ما جرى به قضاء هذه
المحكمة - صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، وأن نصوص هذا الدستور
تمثل دائمًــا القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين
قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من
التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعي التي وجهها
المدعى إلى النصين المطعون فيهما تندرج تحت المطاعن الموضوعية التي تقوم في مبناها
على مخالفة نص تشريعي لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعي، ومن ثم، فإن هذه
المحكمة تباشر رقابتها على دستورية النصين المطعون فيهمـا، اللذين ما زالا قائمين
ومعمولاً بأحكامهما - محددين نطاقًـا على النحو المتقدم - من خلال أحكام الدستور
القائم الصادر سنة 2014.
وحيث إنه عن النعي بمخالفة النصين المطعون فيهما مبادئ الشريعة
الإسلامية، المنصوص عليها في المادة (2) من الدستور، فهو مردود، بأن المقرر فى
قضاء هذه المحكمة، أنه إذ نصت المادة الثانية من دستور سنة 1971، بعد تعديلهـا في
22/5/1980 - التي تردد حكمها في المادة الثانية من دستور سنة 2012، والمادة الثانية
من دستور سنة 2014 - على أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، يدل
على أن الدستور أوردها ليفرض بمقتضاها - واعتبارًا من تاريخ العمل بهذا التعديل -
قيدًا على السلطة التشريعية فيما تقره من النصوص القانونية بألا تناقض الأحكام
الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتهــا معًا، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي
يمتنــع الاجتهـاد فيها، لأنهــا تمثل من الشريعــة الإسلاميـة ثوابتهــا التي لا
تحتمــل تأويلاً أو تبديلاً، أما الأحكام غير القطعية في ثبوتها أو في دلالتها أو
فيهما معًا، فإن باب الاجتهاد يتسع فيها لمواجهة تغير الزمان والمكان، وتطور
الحياة وتنوع مصالح العباد، وهو اجتهاد إن كان جائزًا ومندوبًــا من أهل الفقه،
فهو في ذلك أوجب وأولى لولى الأمر، ليواجه ما تقتضيه مصلحة الجماعة درءًا لمفسدة
أو جلبًا لمنفعة أو درءًا وجلبًا للأمرين معًا. إذ كان ذلك، وكان الأصل في العقود
هو الإباحة، وليس في الشريعة الغراء ما يوجب حصر العقود في أنواع معينة، بل كان
للناس ولولى الأمر أن يأووا إلى أنواع جديدة من العقود، إذا كانت الحاجة والمصلحة
في زمانهم تدعوهم إليها، متى استوفت شرائطها العامة. فالشريعة - على المتفق عليه
من أقوال الفقهاء - تستجيب دومًــا لحاجات ومصالح الإنسان، وهو حال التأمين
بأنواعه المختلفة، كونه من المعاملات المستحدثة التي لم يرد بشأنها نص شرعي
يحرمها، فقد خضع التعامل به لاجتهادات العلماء وآرائهم المستنبطة من بعض النصوص في
عمومها، كقوله تعالى وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ الآية (2) سورة المائدة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالسهر والحمى - رواه البخاري، وليبق عقد التأمين خاضعًــا للحكم قطعي
الثبوت في شأن العقـود كافـة، وهو النص القرآني الكريم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ - الآية (1) سورة المائدة - الذي اختلف الفقهاء -
على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - اختلافًا كبيرًا فيما هو المقصود بالعقد فى
تفسير الآية الكريمة، ونضحت كتب المفسرين بهذا الاختلاف، الذي كشف عن ظنية دلالة
النص بالرغم من قطعية ثبوته، ورجح الفقهاء أن النص قد تضمن أمرًا بتنفيذ العقود
قاطبة وإنفاذ آثارها، وهو يشمل العقود الماليـة التـي اتفـق الفقهـاء على أن إرادة
المتعاقديـن فيهـا لهـا سلطـان ما دامـت لا تخالف أمرًا مقررًا بنص قطعي في ثبوته
ودلالته. وعلى ذلك، فإن شرعية عقد التأمين كانت محلاً لاختلاف الفقهاء، فقد وجد من
بين علماء المسلمين من أجازوه وأباحوه، بعد أن أصبح التأمين بكل أنواعه ضرورة
اجتماعية تحتمها ظروف الحياة، ولا يمكن الاستغناء عنه، وأن قوامه التكافل والتضامن
والتعاون فى رفع ما يصيب الأفراد أو الهيئات من أضرار الحوادث والكوارث، وهو ما
أخذت به دار الإفتاء المصرية بفتواها رقـم (33) بتاريخ 5/10/2011. ومن ثم فقد بات الأخذ
بنظام التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل
السريع، الذي تناوله بالتنظيم القانون المشتمل على النصين المطعون فيهما مبررًا
شرعًــا، لمواجهـة مصلحـة الجماعـة، وتحقيق التكافل والتضامن والتعاون بين
أفرادهـا، ولا يناقض في ذلك حكـمًــا شرعيًّــا قطعـي الثبوت والدلالـة في الشريعة
الإسلامية، ومن ثم لا مخالفة فيه لأحكـام المادة (2) مـن الدستور.
حيث إن المدعى ينعى على النصين المشار إليهما - فى حدود النطاق
المتقدم - مخالفتهما نص المادة (33) من دستور 2012 - ويقابلها نصا المادتين (4، 53)
من دستور 2014، لإخلالهما بمبدأ المساواة، إذ مايز النصان في مجال المسئولية
المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع بين شركات التأمين وبين قائد
السيارة والمسئول عن الحقوق المدنية، فاختص الفئة الأولى بمعاملة مميزة، إذ ألزمها
بمبلغ مقطوع يغطى كامل مسئوليتها المدنية، حال أنه حرم الفئة الثانية من هذه
المزية، وأباح للمضرور أو ورثته اللجوء إلى القضاء في مواجهة مالك السيارة،
والمتسبب في الحادث، طلبًا لكامل التعويض الجابر للضرر، رغم تماثل المركز القانوني
للفئتين، واحتكامهما في هذا الالتزام لعقد التأمين الإجباري المبرم بين المؤمـن
والمؤمـن له، وهو ما يقتضى خضوعهما لقواعد موحـدة، لا تقيم فـي مجال انطباقها
تمييزًا بين المخاطبين بأحكامها، مما مؤداه إلزام المؤمــن - شركة التأمين - بأداء
التعويض الكامل عن الأضرار التي تلحق بالمضرور أو ورثته.
وحيث إن الدستور قد حرص في المادة (4) منه على كفالة العدل، باعتباره
أساسًــا لبناء المجتمع، وصيانة وحدته الوطنية، وكانت العدالة في غاياتها - على ما
جرى به قضاء هذه المحكمة - لا تنفصل علاقتها بالقانون باعتباره أداة تحقيقها، فلا
يكون القانون منصفًــا إلا إذا كان كافلاً لأهدافها، وإذا زاغ ببصره عنها، وأهدر
القيم الأصيلة التي تحتضنها، كان منهيًــا للتوافق فى مجال تنفيذه، ومسقطًــا كل
قيمة لوجوده، ومستوجبًــا تغييره أو إلغاءه.
وحيث إن الدساتير المصرية على تعاقبها قد حرصت على النص على التضامن
الاجتماعي، باعتباره ركيزة أساسية لبناء المجتمع، وواحدًا من الضمانات الجوهرية
التي ينبغي أن يتمتع بها كل أفراده. وأن ما نص عليه الدستور في المادة (8) من قيام
المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي يعنى وحدة الجماعة فى بنيانها، وتداخل
مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، وترابط
أفرادها فيما بينهم، فيكون بعضهم لبعض ظهيرًا، ولا يتناحرون طمعًا، وهم بذلك شركاء
في مسئوليتهم عن حماية تلك المصالح، ولا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها، وليس
لفريق منهم أن يتقدم على غيره انتهازًا، ولا أن ينال قدرًا من الحقوق يكون بها -
عدوانًا - أكثر علوًّا، وإنما تتضافر جهودهم وتتوافق توجهاتهم، لتكون لهم الفرص
ذاتها التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق، وتتهيأ معها تلك الحماية التي ينبغي أن
يلوذ بها ضعفاؤهم، ليجدوا في كنفها الأمن والاستقرار. وكان الدستور قد اتخذ من
تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير سبل التضامن الاجتماعي، أحد ركائزه الأساسية،
قاصدًا من ذلك - على ما أفصحت عنه المادة (8) منه - ضمان الحياة الكريمة لجميع
المواطنين، وقد ناط الدستور بالقانون تنظيم القواعد التي تحقق هذا الهدف.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن للمشرع أن يورد في شأن كافة
العقود، حتى ما يكون منها في دائرة القانون الخاص، قيودًا يراعى على ضوئها حدودًا
للنظام العام لا يجوز اقتحامها، كأن يخضعها لشكلية معينة ينص عليها، وقد يعيد إلى
العقود توازنًا اقتصاديًّــا اختل فيما بين أطرافها، وله أن يتدخل في عقود بذواتها
محورًا من التزامات الضعفاء فيها انتقاصًا كما في عقود الإذعان والعمل. بما مؤداه
أن للمشرع أن يرسم للإرادة حدودًا لا يجوز أن يتخطاها سلطانها، ومن ثم لا تكون
حرية التعاقد محددة على ضوء هذا المفهوم حقًــا مطلقًــا، بل موصوفًــا، فليس
إطلاق هذه الحرية أو إعفاؤها من كل قيد بجائز، وإلا آل أثرها سرابًا وانفلاتًا.
وفكرة النظام العام - بما يحكمه من نسبية من حيث الزمان والمكان - هي أحد خطوط
دفاع النظام القانوني عن نفسه أو الجماعة عن ذاتها، من جموح الإرادة الفردية، إذ
تلفت نظرها إلى وجوب مراعاة أسس النظام القانوني القائم فيما تشرع فيه من تصرفات
حتى تنهض وتستوي صحيحة.
وحيث إن مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون- وبقدر تعلقه بالحدود
التي تباشـر فيها هذه المحكمة ولايتها- مؤداه: ألا تقـر السلطة التشريعية أو تصدر
السلطة التنفيذية - فى حدود صلاحياتها التي ناطها الدستور بها - تشريعًا يخل
بالحماية القانونية المتكافئة للحقوق جميعها، سواء في ذلك تلك التي نص عليها
الدستور، أو التي كفلها المشرع. ومن ثم كان هذا المبدأ عاصمًا من النصوص القانونية
التي يقيم بها المشرع تمييزًا غير مبرر تتنافر به المراكز القانونية التي تتوافق
عناصرها، فلا تكون وحدة بنيانها مدخلاً لوحدة تنظيمها، بل تكون القاعدة القانونية
التي تحكمها، إما مجاوزة باتساعها أوضاع هذه المراكز أو قاصرة بمداها عن
استيعابها. وكان الدستور الحالي قد اعتمد بمقتضى نص المادة (4) منه، مبدأ
المساواة، باعتباره إلى جانب مبدأي العدل وتكافؤ الفرص، أساسًــا لبناء المجتمع
وصيانة وحدته الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور في المادة (53) منه، على كفالة
تحقيق المساواة لجميع المواطنين أمام القانون، في الحقوق والحريات والواجبات
العامة، دون تمييز بينهــم لأي سبب، إلا أن ذلك لا يعنى - وفقًــا لما استقر عليه
قضاء هذه المحكمة - أن تعامل فئاتهم على ما بينها من تفاوت في مراكزها القانونية
معاملة قانونية متكافئة، كذلك لا يقوم هذا المبدأ على معارضة صور التمييز جميعها،
ذلك أن من بينها ما يستند إلى أسس موضوعية، ولا ينطوي بالتالي على مخالفة لنصي
المادتين (4، 53) المشار إليهما، بما مؤداه أن التمييز المنهي عنه بموجبهما هو ذلك
الذي يكون تحكميًّــا، وأساس ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل
لتحقيق أغراض بعينها تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التي يسعى المشرع إلى
تحقيقها من وراء هذا التنظيم، فإذا كان النص المطعون فيه - بما ينطوي عليه من
تمييز - مصادمًــا لهذه الأغراض بحيث يستحيل منطقيًّـا ربطه بها أو اعتباره مدخلاً
إليها فإن التمييز يكون تحكميًّــا، وغير مستند بالتالي إلى أسس موضوعية، ومن ثم
مجافيًــا لمبدأ المساواة.
كما جرى قضاء هذه المحكمة على أن مبدأ المساواة أمام القانون لا يعنى
معاملة المواطنين جميعًــا وفق قواعد موحدة، ذلك أن التنظيم التشريعي قد ينطوي على
تقسيم أو تصنيف أو تمييز، سواء من خلال الأعباء التي يلقيها على البعض أو من خلال
المزايا التى يمنحها لفئة دون غيرها، إلا أن مناط دستورية هذا التنظيم ألا تنفصل
النصوص التي ينظم بها المشرع موضوعًــا معينًــا عن أهدافها، ليكون اتصال الأغراض
التي توخى تحقيقها بالوسائل التي لجأ إليها منطقيًّــا، وليس واهنًــا، أو
منتحلاً، بما يخل بالأسس التي يقوم عليها التمييز المبرر دستوريًّــا.
وحيث إن المشرع قد حرص على مواجهة المثالب التي أظهرها تطبيق نصوص
القانون رقم 652 لسنة 1955 بشأن التأمين الإجباري من المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث
السيارات، مما أوجب تدخله لإعادة تنظيم العلاقة القانونية الناشئة عن عقد التأمين
- على ما أوضحت الأعمال التحضيرية للقانون المشتمل على النصين المطعون فيهما - بعد
أن تزايدت أعداد الحوادث، مع ثبات أقسـاط التأمين، وما ترتب على ذلك من إلحاق
خسائر جسيمة بشركات التأمين أثرت على اقتصاديات تشغيلها، وما استتبعه من عزوف
شركات التأمين الخاصة عن الدخول فى مجال التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية
الناشئة عن حوادث السيارات، فضلاً عن ضرورة التربص حتى صدور حكم نهائي يقضى
للمضرور أو ورثته بتعويض نهائي، مما ترتب عليه الحيلولة دون اقتضاء البعض لحقوقهم
قبل شركات التأمين. وبهذه المثابة توجه المشرع في القانون رقم 72 لسنة 2007 السالف
الذكر، إلى تحقيق التوازن بين أطراف تلك العلاقة القانونية، على نحـو ما أوجبته
المادة (27) من الدستور، وجعلت تحقيقه التزامًــا دستوريًّــا على عاتق النظام
الاقتصادي للدولة، بإلزام شركة التأمين بأن تؤدى - في مدة لا تجاوز شهرًا من تاريخ
إبلاغ الشركة بوقوع الحادث - للمضرور أو ورثته مبلغًا مقطوعًا قدره أربعون ألف
جنيه في حالات الوفاة أو العجز الكلى المستديم، وذلك دون حاجة إلى اللجوء إلى
القضاء لتحديد المسئولية العقدية للشركة المؤمنة، وذلك لقاء أقساط التأمين التي
عين القانون ضوابط تحديدها، بما يحقق التناسب بين قيمة القسط والخطـر المؤمن منه،
والمبلغ المقطـوع الذي تلتزم شركة التأمين بسداده، فلا يثقل كاهل المؤمن له، ويكفل
تحقيق الاتزان المالي لتلك الشركات، الذي جعلت المادة (27) من الدستور مراعاته
التزامًــا على النظام الاقتصادي الذي تنتهجه الدولة، وضابطًــا لتوافقه مع أحكام
الدستور، وهو ما يمثل في الوقت ذاته إحدى صور التكافل والتضامن الاجتماعي الذي
اعتبره الدستور بمقتضى المادة (8) منه أساسًــا لبناء المجتمع، وجعل تحقيقه
واجبًــا على الدولة، غايتـه ضمـان الحيـاة الكريمة لجميـع المواطنين، دون إخـلال
بحـق المضـرور أو ورثته فى الرجوع على المتسبب في الحادث والمسئول عن الحقوق
المدنية طبقًــا للقواعد العامة الحاكمة للمسئولية التقصيرية، ومسئولية المتبوع عن
أعمال تابعه، ومسئولية حارس الأشياء المقررة بالقانون المدني، بما يجاوز مبلغ
التأمين المشار إليه، للحصول على التعويض الجابر للضرر، ليغدو تقرير المسئولية
القانونية قبل المتسبب في الحادث والمسئول عن الحقوق المدنية بمقتضى نص المادة (9)
المطعون عليها، مبررًا من الوجهة الدستورية.
متى كان ما تقدم، وكان التنظيم الذي تضمنه نصا المادتين (8، 9)
المطعون فيهما، باعتباره الوسيلة التي اختارها المشرع - والبديل الذي اعتمده -
وقدر مناسبته لبلوغ الأهداف والأغراض المتقدمة، وكفالة تحقيقها، والتي ترتبط بتلك
الغايات بعلاقة منطقية وعقلية مستندًا إلى أسس موضوعية تبرره، ولا يتضمن تمييزًا
تحكميًّا بين المؤمن والمؤمن له، ولا يخالف - من ثم - مبدأي العدل والمساواة
اللذين حرص الدستور على كفالتهما، ليضحى النصان المطعون فيهما غير مخالفين لنصوص
المواد (2، 4، 8، 53) من الدستور.
وحيث إن النصين المطعون فيهما لا يتعارضان مع أحكام الدستور من أوجه
أخرى، الأمر الذي يتعين معه القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت المدعى المصروفات
ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق