الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 1 يوليو 2021

دستورية العقاب على شراء المنتج البترولي لغير الاستعمال الشخصي بغرض إعادة البيع (ومصادرته)

الدعوى رقم 83 لسنة 40 ق "دستورية" جلسة 5 / 6 / 2021
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الخامس من يونيه سنة 2021م، الموافق الرابع والعشرين من شوال سنة 1442 ه.

برئاسة السيد المستشار / سعيد مرعى عمرو رئيس المحكمة

وعضوية السادة المستشارين: الدكتور عادل عمر شريف وبولس فهمى إسكندر والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد شبل وطارق وخالد أحمد رأفت والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز نواب رئيس المحكمة

وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشرى رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد / محمد ناجى عبد السميع أمين السر


أصدرت الحكم الآتى

في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 83 لسنة 40 قضائية "دستورية".

المقامة من

1- صالح محمد محمود حسانين

2- سامح محمد محمود حسانين

ضد

1 - رئيس الجمهورية

2 - رئيس مجلس الوزراء

3 - وزير العدل

4 – وزير التموين

5- النائب العام


الإجراءات

بتاريخ التاسع عشر من أغسطس سنة 2018، أودع المدعيان صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبين الحكم بعدم دستورية المادة (3) مكررًا (ب) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين المضافة بالقانون رقم 109 لسنة 1980 والمستبدلة بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 92 لسنة 2012.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.

ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – في أن النيابة العامة اتهمت المدعيين، في الجنحة رقم 15650 لسنة 2016 دار السلام، بوصف أنهما: بتاريخ 26/10/2016، بدائرة مركز شرطة السلام، المتهم الأول:...... المتهم الثاني:..............

المتهمان: اشتريا لغير استعمالهما الشخصي ولإعادة البيع، موادًّا بترولية موزعة عن طريق محطات خدمة وتموين السيارات، على النحو المبين بالأوراق. وأحالتهما لمحكمة جنح دار السلام، لمعاقبتهما بالمواد (1 و3 مكررًا (ب) بند (1) و57 و58) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 المعدل بالقانونين رقمي 109 لسنة 1980 و92 لسنة 2012. تدوولت الدعوى أمام المحكمة، وبجلسة 8/3/2017، قضت في شأن الاتهام الموجه للمدعيين معًا: بحبس كل منهما سنة مع الشغل وغرامة عشرين ألف جنيه. طعن المدعيان على الحكم بالاستئناف رقم 1825 لسنة 2018 جنح مستأنف دار السلام، وبجلسة 26/6/2018، دفعا بعدم دستورية المادة (3) مكررًا (ب) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 المضافة بالقانون رقم 109 لسنة 1980، المستبدلة بالقانون رقم 92 لسنة 2012، فقررت المحكمة تأجيل نظر الاستئناف لجلسة 4/9/2018، لاتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية، فأقام المدعيان الدعوى المعروضة.



وحيث إن المادة (3) مكررًا (ب) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين المضافة بالقانون رقم 109 لسنة 1980 والمستبدلة بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 92 لسنة 2012 تنص على أنه " مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد منصوص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تجاوز خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه كل من:

1- اشترى لغير استعماله الشخصي ولإعادة البيع مواد التموين والمواد البترولية الموزعة عن طريق شركات القطاع العام وشركات قطاع الأعمال العام والجمعيات التعاونية الاستهلاكية وفروعها ومستودعات البوتاجاز ومحطات خدمة وتموين السيارات أو غيرها، وكذلك كل من باع له المواد المشار إليها مع علمه بذلك أو كل من امتنع عن البيع للغير.

2- ..... 3- ..... 4- ...... 5- .......

6- .... 7- ..... 8- ..... 9- .......

ويحكم في جميع الأحوال بمصادرة المواد أو العبوات المضبوطة".

وحيث إن قضاء هذه المحكمة، قد جرى على أن المصلحة الشخصية المباشرة، وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية، مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع. لما كان ذلك، وكانت الدعوى الموضوعية تدور رحاها حول اتهام المدعيين بأنهما اشتريا لغير استعمالهما الشخصي ولإعادة البيع، موادًّا بترولية موزعة عن طريق محطات خدمة وتموين السيارات، وهى الواقعة المؤثمة جنائيًّا، المنصوص على عقوبتها في البند (1) من المادة (3) مكررًا (ب) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين المضافة بالقانون رقم 109 لسنة 1980، المستبدلة بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 92 لسنة 2012، ومن ثم فإن الفصل في دستورية ذلك النص يرتب انعكاسًا أكيدًا وأثرًا مباشرًا على الاتهام المسند للمدعيين في الدعوى الموضوعية، وقضاء محكمة الموضوع فيه، وتتوافر للمدعيين مصلحة شخصية ومباشرة في الطعن عليه، ويتحدد نطاق الدعوى المعروضة فيما نص عليه صدر المادة السالف بيانها، في مجال سريانه على البند (1) والفقرة الأخيرة من المادة ذاتها، من أنه " .........، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تجاوز خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه كل من اشترى لغير استعماله الشخصي ولإعادة البيع المواد البترولية الموزعة عن طريق محطات خدمة وتموين السيارات. ويحكم في جميع الأحوال بمصادرة المواد أو العبوات المضبوطة".

وحيث إن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن إلغاء النص التشريعي الجنائي المطعون فيه، متى كان أصلح للمتهم، لا يحول دون النظر والفصل في الطعن عليه بعدم الدستورية من قبل من طُبق عليهم ذلك النص خلال فترة نفاذه، وترتبت بمقتضاه آثار قانونية بالنسبة إليهم، وبالتالي توافرت لهم مصلحة شخصية في الطعن عليه. متى كان ذلك، فإن مصلحة المدعيين في الطعن على النص المطعون فيه تظل قائمة، على الرغم من صدور القانون رقم 15 لسنة 2019، بتعديل بعض أحكام المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين وبعض أحكام قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية الصادر بالقانون رقم 3 لسنة 2005، ناصًا في مادته الأولى على أن " يستبدل بنصي المادتين (3مكررًا ب، 3 مكررًا ج) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين النصان الآتيان:

مادة (3 مكررًا "ب"): مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد منصوص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على مليون جنيه، كل من: 1) اشترى لغير استعماله الشخصي ولإعادة البيع مواد التموين والمواد البترولية المدعومة ماليًا من الدولة الموزعة عن طريق شركات القطاع العام وشركات قطاع الأعمال العام والجمعيات التعاونية الاستهلاكية وفروعها، ومستودعات البوتاجاز ومحطات خدمة وتموين السيارات أو غيرها، وكذلك كل من باع له المواد المشار إليها مع علمه بذلك ... 2).......3) ....4).....5)... 6)..... 7).... 8) ...9).... 10).....

ويحكم في جميع الأحوال بمصادرة المواد أو العبوات المضبوطة، ويجوز للمحكمة أن تقضى بإلغاء رخصة المحل".
مادة (3 مكررًا "ج") : .........

وحيث إن عقوبة الغرامة المنصوص عليها في القانون رقم 15 لسنة 2019 السالف بيانها، تزيد عن تلك المنصوص عليها في النص المطعون عليه، كما نص هذا القانون على عقوبة جوازية تكميلية بإلغاء رخصة المحل، مما لا يكون معه قانونًا أصلح للمدعيين، ومن ثم يظل الفعل المنسوب إليهما محكومًا بالنص المطعون عليه، مادام أنه قد طبق عليهما خلال مدة نفاذه.

وحيث إن المدعيين ينعيان على قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 92 لسنة 2012 عدم استيفائه الإجراءات المقررة في دستور سنة 2014، التي توجب عرض القرارات بقوانين التي يصدرها رئيس الجمهورية في غيبة مجلس النواب، على المجلس في المواعيد وبالإجراءات المقررة في الدستور الساري، فضلاً عن انتفاء الغاية من إصدار التشريع ذاته، كما خص المدعيان النص المطعون عليه – في النطاق السالف بيانه - بمطاعن، حاصلها، إخلاله بالحرية الشخصية، وخروجه على المبادئ الدستورية المقررة في التجريم والعقاب، وافتئاته على استقلال القضاء، وعدوانه على الملكية الخاصة، مخالفًا المواد (9، 27، 33، 35، 53، 94، 95، 96، 99، 156، 184، 186) من دستور 2014.

وحيث إنه عن النعي على القرار بقانون رقم 92 لسنة 2012، المتضمن للنص المطعون فيه، عدم عرضه على مجلس النواب، وصدوره رغم انتفاء الغاية من إصداره، فإنه مردود؛ بأن الأوضاع الشكلية للقانون من حيث اقتراحه وإقراره وإصداره، تحكمه الوثيقة الدستورية السارية وقت صدوره. ولما كانت المادة الثانية من الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 12/8/2012، قد نصت على أن يستبدل بنص المادة (25) فقرة (2) من الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس سنة 2011، النص الآتي " ويباشر فور توليه مهام منصبه، كامل الاختصاصات المنصوص عليها بالمادة (56) من هذا الإعلان". وكانت المادة (56) المشار إليها، قد جرى نصها على أن "يتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد، وله في سبيل ذلك مباشرة السلطات الآتية: 1- التشريع"، ومن ثم يكون الإعلان الدستوري الصادر في 12/8/2012 - الذى يبقى نافذًا ما ترتب عليه من آثار خلال مدة العمل به، قبل إلغائه؛ وذلك على مقتضى ما نصت عليه المادة (236) من دستور سنة 2012 - قد ناط سلطة التشريع برئيس الجمهورية فور توليه منصبه، ولم يقيدها الإعلان الدستوري المشار إليه بأي قيد، ومن ثم تكون السلطة المخولة لرئيس الجمهورية، أثناء سريان ذلك الإعلان الدستوري، سلطة تشريع أصلية لا استثنائية، يترخص له ممارستها، وليس للمحكمة الدستورية العليا، من بعد، أن تزن بنفسها وبمعاييرها، ما إذا كان التنظيم التشريعي المعروض – الصادر خلال سريان الإعلان الدستوري الفائت ذكره - لازمًا، وما إذا كان إقراره في مناسبة بعينها ملائمًا، وليس لها إلا أن ترد النصوص التشريعية المطعون عليها إلى أحكام الدستور، ومن ثم فإن المناعي الشكلية التي نسبها المدعيان إلى القرار بقانون المطعون عليه تكون مفتقرة للسند، متعينًا رفضها.

وحيث إن الرقابة على دستورية القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلاً، على ما جرى به قضاء هذه المحكمة، صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، وأن نصوص هذا الدستور تمثل دائمًا القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها، ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من تشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. ومن ثم فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على النص المطعون فيه، محددًا نطاقًا على النحو المتقدم بيانه، من خلال أحكام الوثيقة الدستورية الصادرة في 18 يناير سنة 2014.

وحيث إنه عن نعى المدعيين على النص المطعون فيه، إخلاله بالحرية الشخصية، لخلوه من الركن المادي للجريمة التي تم إدانتهما عنها، فإنه مردود؛ بأن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الدستور كفل في مادته السادسة والتسعين، الحق في المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تُكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه، وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة، التي تقرر أولاهما : أن لكل شخص حقًّا مكتملاً ومتكافئًا مع غيره في محاكمة علنية، ومنصفة، تقوم عليها محكمة مستقلة ومحايدة، تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية، أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتُرَدّدُ ثانيتهما، في فقرتها الأولى، حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية، في أن تُفترض براءته إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية تُوفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه. وهذه الفقرة تؤكد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديمقراطية، وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهومًا للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة، وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية، كما أنها تُعَدُّ في نطاق الاتهام الجنائي، وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي كفلها الدستور، ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيرًا ضيقًا، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية، وهي التي تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة؛ ولأن نطاقها - وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي - إنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تُعَدُّ أكثر لزومًا في الدعوى الجنائية، وذلك أيًّا كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها.

وحيث إنه على ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نطاقًا متكامل الملامح، يتوخى بالأسس التي يقوم عليها، صون كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقًا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية، ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها سلطاتها في مجال فرض العقوبة صونًا للنظام الاجتماعي، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفًا مقصودًا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها، مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها .

وحيث إن المقرر أن الدستور في اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة، ومتابعة خطاها والتقيد بمناهجها التقدمية؛ نص في المادة (95) على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون الذى ينص عليها. وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركنًا ماديًّا لا قوام لها بغيره، يتمثل أساسًا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحًا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء، في زواجره ونواهيه، هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيًّا كان هذا الفعل أم سلبيًّا، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهى التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها عن بعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعًا واضحًا، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها، ومن ثَمَّ تعكس هذه العناصر تعبيرًا خارجيًّا وماديًّا عن إرادة واعية، ولا يتصور بالتالي وفقًا لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم، والنتائج التي أحدثها بعيدًا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكًا خارجيًّا مؤاخذًا عليه قانونًا، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيًّا في صور مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.

وحيث إن الأصل في الجرائم، أنها تعكس تكوينًا مركّبًا، باعتبار أن قوامها تزامنًا بين يد اتصل الإثم بعملها، وعقل واع خالطها ليهيمن عليها محددًا خطاها، متوجهًا إلى النتيجة المترتبة على نشاطها؛ ليكون القصد الجنائي ركنًا معنويًّا في الجريمة مُكملاً لركنها المادي، ومتلائمًا مع الشخصية الفردية في ملامحها وتوجهاتها. وهذه الإرادة الواعية هي التي تتطلبها الأمم المتحضرة في مناهجها في مجال التجريم بوصفها ركنًا في الجريمة، وأصلاً ثابتًا كامنًا في طبيعتها، وليس أمرًا فجًّا أو دخيلاً مقحمًا عليها أو غريبًا عن خصائصها، ذلك أن حرية الإرادة تعنى حرية الاختيار بين الخير والشر، ولكلٍ وجهة هو مُوَلِّيها، لتنحل الجريمة - في معناها الحق - إلى علاقة ما بين العقوبة التي تفرضها الدولة بتشريعاتها، والإرادة التي تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التي يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها، بديلاً عن الانتقام والثأر المحض من صاحبها. وغدا أمرًا ثابتًا - كأصل عام - ألا يجرم الفعل ما لم يكن إراديًّا قائمًا على الاختيار الحر، ومن ثَمَّ كان مقصودًا. ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك الإرادة وقوفًا على ماهيتها، مازال أمرًا عسرًا، فإن معناها - بوصفها ركنًا معنويًّا في الجريمة - يدور بوجه عام حول النوايا الإجرامية، أو الجانحة، أو النوازع الشريرة المدبرة، أو تلك التي يكون الخداع قوامها، أو التي تتمحض عن علم بالتأثيم، مقترنًا بقصد اقتحام حدوده، لتدل جميعها على إرادة إتيان الفعل بغيًا.

متى كان ما تقدم، وكان النص المطعون فيه – محددًا نطاقًا على ما سلف بيانه – قد أفصح بجلاء على أن المصلحة المحمية من التجريم هي ضمان تدفق المواد البترولية إلى مستهلكيها من أفراد طبيعيين وأشخاص معنوية، في مجالات خدمية وإنتاجية، على نحو مستمر، فضلاً عن حماية الدعم المالي الذى تقدمه الدولة للمنتج البترولي، وفاء منها بالتزام دستوري، جوهره تحقيق الرخاء في البلاد من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، بما يكفل رفع معدل النمو الحقيقي للاقتصاد القومي، ورفع مستوى المعيشة، وذلك على ما جرى به نص المادة (27) من الدستور. وفى سياق ما تقدم، نصت المادة (1) من القانون رقم 120 لسنة 1976 في شأن الهيئة المصرية العامة للبترول على أنها "هيئة عامة لها شخصية اعتبارية مستقلة تعمل على تنمية الثروة البترولية وحسن استغلالها وتوفير احتياجات البلاد من المنتجات البترولية المختلفة ....". وكان شراء المنتج البترولي لغير الاستعمال الشخصي بغرض إعادة البيع، هو قوام الركن المادي للجريمة المنصوص عليها في النص المطعون فيه، وهي واقعة مادية محققة، لها مظاهرها الخارجية، التي ينتفى معها العقاب على النوايا الباطنية، أو وصفها بالجريمة المستقبلية. وكانت هذه الجريمة من الجرائم العمدية التي يتعين أن تُلابس فيها نية الجاني إعادة بيع المنتج البترولي، واقعة شراء المنتج لغير استعماله الشخصي، ومن ثم يغدو حقيقيًا أن النص المطعون فيه لم يتغيا إلا أن تكون العقوبة المفروضة به صونًا للنظام الاجتماعي، وضمانًا لمقومات البلاد الاقتصادية، وبما لا ينافى حماية الحرية الشخصية لمرتكب الفعل المؤثم بذلك النص، من خلال عدم انطوائه على حكم من شأنه أن يعصف بضوابط المحاكمة المنصفة للجاني، مما لازمه أن يكون وجه النعي المار ذكره لا سند له، خليقًا بالالتفات عنه.

وحيث إنه عن النعي على النص المطعون فيه خروجه على المبادئ الدستورية المقررة في التجريم والعقاب، وافتئاته على استقلال القضاء، فإنه مردود؛ بأن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد اطرد على أن الدستور هو القانون الأعلى الذي يرسى القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخل أي منها في أعمال السلطة الأخرى، أو مزاحمتها في ممارسة اختصاصاتها التي ناطها الدستور بها.

وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقًا لأحكامه، فنص في المادة (101) منه على أن "يتولى مجلس النواب سلطة التشريع؛ وإقرار السياسة العامة للدولة، .......، وذلك كله على النحو المبين في الدستور". كما اختص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات والخصومات على النحو المبين في الدستور؛ فنص في المادة (184) منه على أن "السلطة القضائية مستقلة؛ تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقًا للقانون .....".

وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين - طبقًا لنص المادة (101) من الدستور - لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتًا على ولايتها، وإخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات، الذى حرص الدستور على توكيده في المادة (5) منه، بوصفه الحاكم للعلاقة المتوازنة بين السلطات العامة في الدولة، ومن بينها السلطتان التشريعية والقضائية.

وحيث إن الدستور الحالي إذ نص في المادة (94) منه على خضوع الدولة للقانون، وأن استقلال القضاء، وحصانته، وحيدته، ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات، كما أكد على هذه المبادئ في المادتين (184) و(186) منه، فقد دلَّ على أن الدولة القانونية هي التي تتقيد في كافة مظاهر نشاطها، أيًّا كانت طبيعة سلطاتها، بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطًا لأعمالها وتصرفاتها في أشكالها المختلفة، ذلك أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازًا شخصيًّا لأحد ولكنها تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها، ولأن الدولة القانونية هي التي يتوافر لكل مواطن في كنفها الضمانة الأولية لحماية حقوقه وحرياته، ولتنظيم السلطة وممارستها في إطار من المشروعية، وهى ضمانة يدعمها القضاء من خلال استقلاله وحصانته لتصبح القاعدة القانونية محورًا لكل تنظيم، وحدًّا لكل سلطة، ورادعًا ضد كل عدوان.

وحيث إنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، فإن هذا القانون يفارقها في اتخاذه الجزاء الجنائي أداة لحملهم على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها، أو التخلي عن تلك التي ينهاهم عن مقارفتها، وهو بذلك يتغيّا أن يحدد من منظور اجتماعي، ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مخالفًا للدستور، إلا إذا كان مجاوزًا حدود الضرورة التي اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مبررًا من وجهة اجتماعية انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية، ومن ثم يتعين على المشرع، دومًا، إجراء موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى. وكان من المقرر، أيضًا، وجوب صياغة النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع متصيّدًا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وهى ضمانات غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بيّنة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيًا لها، بل اتساقًا معها ونزولاً عليها.

وحيث إنه من المقرر قانونًا أن العقوبة التخييرية، أو استبدال عقوبة أخف أو تدبير احترازي بعقوبة أصلية أشد، عند توافر عذر قانوني جوازي مخفف للعقوبة، أو إجازة استعمال الرأفة في مواد الجنايات بالنزول بعقوبتها درجة واحدة أو درجتين إذا اقتضت أحوال الجريمة ذلك التبديل عملاً بنص المادة (17) من قانون العقوبات، أو إيقاف تنفيذ عقوبتي الغرامة أو الحبس الذى لا تزيد مدته على سنة إذا رأت المحكمة من الظروف الشخصية للمحكوم عليه أو الظروف العينية التي لابست الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بعدم العودة إلى مخالفة القانون على ما جرى به نص المادة (55) من قانون العقوبات، إنما هي أدوات تشريعية يتساند القاضي إليها، بحسب ظروف كل دعوى، لتطبيق مبدأ تفريد العقوبة.

متى كان ما تقدم، وكانت الجهة القائمة على التشريع، بإقرارها وإصدارها النص المطعون فيه - محددًا نطاقًا على ما سلف بيانه - قد أعملت سلطتها التقديرية في الموازنة بين البدائل المختلفة في مجال التجريم والعقاب، والتزمت من الوسائل ما يحقق الأهداف المنشودة من النص، فصاغت عبارته بوضوح لا خفاء فيه ولا غموض، وحددت ركني الجريمة المتعين توافرهما لقيامها، مستوفية بهما البناء القانوني لها، مستدعية من خلالهما سبل مكافحة الأخطار التي تتهدد المصالح التي يروم النص إلى حمايتها، ورصدت عقوبة أصلية على مخالفة أحكامه، معدودة من عقوبات الجنح، هي الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تجاوز خمس سنوات، وغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، فمن ثم يبرأ النص المطعون فيه من الافتئات على الضوابط الدستورية في مجالي التجريم والعقاب، مما مؤداه عدم اعتبار ذلك النص منطويًا على تغول السلطة التشريعية على اختصاص محجوز للسلطة القضائية في التحقق من توافر ركني الجريمة، وثبوتها قبل من اتهمته النيابة العامة باقترافها من خلال الأدلة التي تقدمها عند إحالته إلى المحاكمة الجنائية، وفيها يستقل قاضى الموضوع وحده بالتحقق من أن شراء المتهم للمنتج البترولي كان لغير الاستعمال الشخصي، ولإعادة البيع، ويقيم ذلك في حكمه على أدلة تنتجه، ويجوز له أن يتخير العقوبة التي ينزلها بالمتهم بين حديها الأدنى والأقصى المنصوص عليهما، كما يجوز له عند الحكم بالغرامة وبالحبس مدة لا تزيد عن سنة أن يأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة، في الأحوال المنصوص عليها في المادة (55) من قانون العقوبات، مما لازمه أن النص المطعون فيه لا يحول بين قاضى الموضوع وسلطته في تفريد العقوبة بإحدى وسائل التفريد القضائي، ومن ثم يغدو رفض وجه النعي المار بيانه، بكافة عناصره، متعينًا.

وحيث إنه عن النعي على النص المطعون فيه، عدوانه على حق الملكية الخاصة، بوجوب الحكم بمصادرة المواد البترولية المضبوطة، فإنه مردود؛ بأن الدستور وقد نص في المادة (40) منه على أن " المصادرة العامة للأموال محظورة، ولا تجوز المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي"، يكون قد أرسى أحكام المصادرة الخاصة، ومؤداها تحديد الأداة التي تتم بمقتضاها، فأوجب إلا أن تكون حكمًا قضائيًا، حرصًا على صون الملكية الخاصة، إذ تكفل إجراءات التقاضي وضماناته لصاحب المواد المضبوطة الحق في الدفاع عن ملكيته لها، بنفيه أيًّا من ركني الجريمة أو كليهما، وكانت مصادرة تلك المواد – فيما لو قضى بالإدانة – وإن بدا أنها تتضمن معنى العقوبة، فإن المقصود منها هو التعويض ورد قصد الجاني، وإعادة المواد المضبوطة إلى ملك الدولة بوصفها داعمة لها ماليًا، ومؤدى ما تقدم، التزام النص المطعون عليه الضوابط الدستورية المقررة للمصادرة الخاصة.

وحيث إنه وبالبناء على ما تقدم، فإن النص المطعون فيه لا يكون قد خالف نصوص المواد (9، 27، 33، 35، 53، 94، 95، 96، 99، 156، 184، 186) من الدستور القائم، أو أيًّا من أحكامه الأخرى، الأمر الذى يكون معه القضاء برفض الدعوى متعينًا.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت المدعيين المصروفات، ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق