برئاسة السيد القاضي: محمد محمد محفوظ, وعضوية السادة القضاة: أحمد
سميح طلعت, وأحمد سلطان, وأحمد مهدي الديواني, وعبد المجيد محمود الغرايبة.
الدعوى رقم 1 لسنة 4 دستورية.
----------------
- 1 دستور "تفسيره".
اختصاص "الاختصاص النوعي." اتحاد "سلطاته". محاكم استئنافية
"إنشائها".
إباحة إنشاء محاكم استئناف اتحادية جديدة قائمة بذاتها تختص بالفصل في
ما يرفع إليها من أحكام المحاكم الاتحادية الابتدائية. المادتان 95 ، 103 من
الدستور. أساس ذلك؟
إن المادة 95 تنص على أن يكون للاتحاد محكمة اتحادية عليا ومحاكم
اتحادية ابتدائية على الوجه المبين في المواد التالية. وتنص المادة 103 على أن
ينظم القانون كل ما يتعلق بالمحاكم الاتحادية الابتدائية من حيث ترتيبها وتشكيلها
ودوائرها واختصاصها المكاني والإجراءات التي تتبع أمامها واليمين التي يؤديها قضاة
هذه المحاكم وشروط الخدمة المتعلقة بهم وطرق الطعن في أحكامهم. ويجوز أن ينص
القانون على استئناف أحكام تلك المحاكم أمام إحدى دوائر المحكمة الاتحادية العليا
في الحالات وبالإجراءات التي يحددها.
مما تقدم يبين أن الدستور أورد في هاتين المادتين أحكاماً بعضها عن
المحاكم التي تكون في الاتحاد وبعضها عن تنظيم المحاكم الاتحادية الابتدائية وقد
سيقت هذه الأحكام على نحو كلي إجمالي أكتفى فيها الدستور بوضع الخطوط الرئيسية
والإطار العام لهذه الأحكام تاركاً للمشرع أن يباشر وظيفته الإنشائية داخل هذا
الإطار، ومن ثم يتعين تحليل طبيعة هذه الأحكام لتحديد مدى ما يتركه الدستور للمشرع
من سلطة في تنفيذها وكذلك مدى ما يستطيع ممارسته من اختصاص في هذا الإطار.
وحيث إن المادة 103 من الدستور المؤقت فوضت المشرع في أن يضطلع بتنظيم
الطعن في أحكام المحاكم الاتحادية الابتدائية وأجازت له في هذا الخصوص أن ينص في
القانون الذي يصدره على استئناف أحكام هذه المحاكم أمام المحكمة الاتحادية العليا
ومن ثم فإن إحالة الاختصاص الاستئنافي إلى المحكمة العليا ليس تكليفاً على المشرع
وليس حكماً مسوقاً على سبيل التحتيم والوجوب وإنما هو – على ما يتضح من ظاهر النص
– أمر جوازي يكيفه المشرع وفق ظروف الحال ومقتضياته فهو يملك أن يحيل ويملك ألا
يحيل ولم يحدد الدستور الجهة القضائية البديلة التي يلجأ إليها المشرع في حالة عدم
النص على إحالة الاستئناف إلى المحكمة العليا بيد أنه لما كان الواضح من المادة
103 سالفة البيان أنها تركت الباب مفتوحاً لاجتهاد غير محدود المدى يباشره المشرع
في تنظيم طرق الطعن وفي تعيين الجهات القضائية التي يرجع إليها في هذا الشأن، ولما
كانت هذه السلطة التقديرية تسوغ له ضمناً اختيار الجهة التي يراها مناسبة وملائمة
لنظر الاستئناف لأن نص المادة سالفة البيان لم يقيده في ذلك بأية قيود ولم يلزمه
بالاتجاه إلى المحكمة العليا وإنما جاء ذلك على سبيل التجويز ومن ثم فلا جناح على
المشرع في أن ينشئ محاكم استئناف يؤثرها بنظر هذا الاستئناف حتى على الرغم من عدم
الإشارة إليها في سياق نص المادة 95 من الدستور ولا يعتبر ذلك من جانب المشرع
توسعاً يتخطى به حدوده الدستورية المرسومة في المادة 95 أو اقتحاماً منه في مجال
تشريعي حرمه الدستور ذلك أن البيان الذي سيق في المادة 95 واكتفى فيه الدستور بذكر
المحكمة الاتحادية العليا والمحاكم الاتحادية الابتدائية لم يسلك فيه المشرع سبيل
التعداد والحصر ولم يكن الغرض منه الشمول والاستبعاد وإنما الواقع أن الدستور ترك
ما عدا هذه المحاكم للدواعي العملية التي يستقل المشرع بتقديرها. ومن ثم فإن عدم
تضمين نص المادة 95 محاكم استئناف لا يستدل به على تحريم إنشائها لأن الأصل أن كل
ما لم يحرمه الدستور على المشرع فهو من سلطته واختصاصه ولأنه لا توجد أية حكمة
خاصة من هذا التحريم ومن غير المتصور أن يضيق الدستور على المشرع في ممارسته سلطته
التقديرية على النحو الذي يراه ملائماً ومحققاً لصالح المتقاضين – ثم إن في طرح
الاستئناف أمام محاكم استئناف مستقلة وأعلى درجة من المحاكم الابتدائية هو مما
يتلاءم مع طبيعة الاستئناف ومع مميزاته الرئيسية – فالاستئناف طريق من طرق الطعن
العادية الهدف منه ضمان إصلاح الخطأ الذي يقع فيه قضاة محكمة أول درجة ومن أهم ما
يتميز به أنه يرفع إلى محكمة أعلى لأنه ما دام أن هذا الطريق يتضمن تظلماً من
أحكام قضاة محكمة أول درجة وتجهيلاً لقضائهم فقد تعين أن يطرح أمام هيئة أعلى
تتوفر فيها الضمانات التي تكفل تصحيح الحكم وهذا المبدأ وهو مبدأ تعدد الدرجات قد
أخذ به الدستور المؤقت بالنسبة لأحكام المحاكم الاتحادية الابتدائية ومن الضمانات
التي لا يمكن الاستغناء عنها في النظم القضائية ويستلزم لكي يحقق الغرض المقصود
منه أن ينظر الاستئناف أمام محكمة استئناف تكون أعلى من محكمة أول درجة وتختلف في
طريقة تشكيلها عن هذه المحكمة بمعنى أن تكون من قضاة أوسع علماً وأوفى تجربة من
قضاة المحكمة الابتدائية – وفي الوقت ذاته فإن إنشاء محاكم استئناف هو أمر يرتبط
ارتباطاً وثيقاً بالطابع البنائي للمحاكم ويتسق مع مبدأ تدرج السلم القضائي –
فالمحكمة الاتحادية الابتدائية هي قاعدة السلم القضائي الاتحادي ويتعين أن تستأنف
أحكامها أمام محكمة اتحادية تليها درجة في هذا السلم وكلا المحكمتين محكمة البداية
ومحكمة الاستئناف هما جزءان لا ينفصلان في البناء القضائي ليسا سوى دعامتين
متكاملتين ومتكافئتي القيمة لأي تنظيم قضائي محكم وبغيرهما لا يكون هذا التنظيم
القضائي قائماً على أساس سليم – ومن كل ذلك يتضح أن إنشاء محاكم استئناف اتحادية
علاوة على أنه يجد سنداً شرعياً مستخلصاً من نصوص الدستور ذاتها فإنه يتمشى مع
الأصول الأساسية للنظام القضائي ومع موجهات الاستئناف وخصائصه الذاتية ويحقق
الغاية المنشودة منه ومن شأنه أيضاً أن يحقق الأهداف الإيجابية التي يتغياها
الدستور لأن الدستور يحرص على أن يراعي المشرع الأسس الجوهرية للتقاضي وصالح
المتقاضين عند إصدار التنظيم الذي عهد به إليه وأن يكون رائده التوسل بكل الوسائل
التي تضع هذه الأسس موضع التنفيذ بغية توفير أكبر قدر من الضمانات والعمل على
تدعيم مقومات الجودة والثقة والطمأنينة الواجب توافرها في الأحكام وقد أجاز
الدستور للمشرع إضافة الاختصاص الاستئنافي إلى ولاية المحكمة العليا وهي أعلى من
المحكمة الابتدائية فإذا ما رأى المشرع لاعتبارات يقدرها عدم استعمال هذه الرخصة
الدستورية فإنه مما يتمشى مع روح الدستور وغاياته ومع الأصول الأساسية للتنظيم
القضائي أن يكون البديل عن المحكمة العليا في هذا الخصوص محاكم استئناف اتحادية
تكون أعلى من المحكمة الاتحادية الابتدائية وتختص بالحكم في هذا الاستئناف وما
دامت الغاية مشروعة ولم تخرج عن نطاق الدستور فإن كل سبيل مناسب لتحقيقها ويكون من
شأنه على نحو واضح أن يؤدي إليها بغير مجافاة لنصوص الدستور وروحه يعد عملاً
دستورياً جائزاً.
وحيث إنه يخلص مما سبق أن نص المادة 103 تخول المشرع سلطة إنشاء محاكم
استئناف يؤثرها بنظر الاستئناف الذي يرفع عن الأحكام الصادرة ابتدائياً من المحاكم
الاتحادية الابتدائية وهذه السلطة لا تتعارض مع مفهوم نص المادة 95 من الدستور
وترى المحكمة أن الحكمة من عدم الإشارة إلى محاكم اتحادية استئنافية في المادة 95
هو أن الدستور لم يشأ إلزام المشرع بإنشائها أسوة بالمحكمة العليا والمحكمة
الابتدائية وإنما جعل إنشاءها خاضعاً لدواعي الحاجة وحيث لا يرى المشرع ملاءمة
إيثار المحكمة العليا بهذا الاختصاص الاستئنافي – وهذه الحكمة مستخلصة ضمناً من
المادة 103 من الدستور المؤقت التي أجازت للمشرع إحالة الاستئناف إلى المحكمة
العليا مما مؤداه أن المشرع قد يجد في هذه الإحالة غناء عن التفكير في إنشاء محاكم
استئناف اتحادية وعندئذ تنتفي مسوغها ولا يكون ثمة موطن لها – وعلى المحكمة أن
تقرب بين النصوص الدستورية وتفسرها تفسيراً متناسقاً دون أن تنتهج في هذا الشأن
منهج التفسير الضيق حتى تستطيع أن تقوم بدور إيجابي في تزويد المشرع بالأداة
الدستورية اللازمة لاختيار الوسائل التي يراها لتنفيذ السلطات المخولة له على
النحو الكفيل بصالح المواطنين.
وحيث إنه لكل ما تقدم ترى المحكمة أن التفسير السليم لنص المادتين 95
و103 من الدستور المؤقت للاتحاد يسمح للمشرع بإنشاء محاكم استئناف اتحادية تكون
قائمة بذاتها وتستأنف أمامها المحاكم الاتحادية الابتدائية – وإن كل ذلك لا يمنع
المشرع كما هو الحال في أغلب التشريعات – أن يستثنى القضايا قليلة الأهمية باعتبار
أن تفاهة قيمتها لا تستأهل استطالة أمد النزاع ولأن مصاريفها في الدرجتين تستنفذ
معظم قيمتها وهو أمر متروك تقديره للمشرع.
- 2 دستور
" تفسيره". حكم "حجيته". قوة الأمر المقضي. طعن
"نوعه".
المقصود بكلمة نهائياً الواردة في المادة 105 من الدستور بشأن أحكام
محاكم الاستئناف. الأحكام التي استنفدت طرق الطعن العادية وأصبحت حائزة لقوة الأمر
المقضي به ولكنها لم تصبح باتة بالطعن عليها بطرق الطعن غير العادية. أساس ذلك؟
إن المقصود بكلمة "نهائياً" أن الحكم استنفذ كل وسائل الطعن
العادية حائزاً لقوة الشيء المحكوم به. ولكن هذا الحكم لا يكون باتاً وبالتالي
يقبل الطعن فيه بطرق الطعن غير العادية كالنقض والتماس إعادة النظر لأن الحكم
البات هو الذي لا يقبل الطعن فيه بأي طريقة من طرق الطعن العادية أو غير العادية
ومن ثم فإنه يجوز أن ينص القانون على أن تكون هذه الأحكام قابلة للطعن فيها بطرق
الطعن غير العادية كالنقض والتماس إعادة النظر في الحالات التي يحددها، فإذا
استنفذت طرق الطعن غير العادية فإن الحكم يكون باتاً.
----------------
المحكمة
بتاريخ 7 من يناير سنة 1976 أودع المستشار مدير دائرة الفتوى والتشريع
الاتحادية قلم كتاب المحكمة الاتحادية العليا عريضة طلب تفسير بعض أحكام الدستور
المؤقت للاتحاد بناءً على طلب وزير العدل وذلك لبيان ما يأتي:
أولاً: تفسير أحكام المادتين 95 ، 103 من الدستور المؤقت للاتحاد
لتحديد ما إذا كان الدستور المؤقت يسمح بإنشاء محاكم استئناف اتحادية تكون قائمة
بذاتها وتباشر اختصاصاتها بالفصل في الاستئنافات التي ترفع إليها طعناً على أحكام
المحاكم الاتحادية الابتدائية أم أن الدستور عدد في المادة 95 المحاكم المنصوص
عليها تعداد حصر بحيث يمتنع إنشاء محاكم استئناف اتحادية في نطاق الدستور.
ثانياً: تفسير نص المادة 105 من الدستور المؤقت لبيان المعنى المقصود
بكلمة "نهائياً" التي وردت في الفقرة الثانية من المادة وهل تعني هذه
الكلمة أن تكون الأحكام الصادرة من المحاكم الاتحادية الابتدائية تعقيباً على
أحكام الهيئات القضائية المحلية أحكاماً باتة لا تقبل فيها بأي وجه أم أن هذه
النهائية لا تمنع من تنظيم طريق للطعن في أحكام المحاكم الاتحادية الابتدائية التي
تصدر عنها وفقاً للفقرة الثانية من المادة 105، وأرفق الطالب بالعريضة صورة كتاب
مرسل من وزير العدل إلى وكيل وزارة العدل يطلب منه الاتصال بدائرة الفتوى والتشريع
لإعداد طلب تفسير أحكام الدستور المؤقت في المواد المشار إليها لكي تفصل فيه
المحكمة الاتحادية العليا.
وعين السيد القاضي ....لتحضير الطلب وتهيئته للمرافعة وحضر عن الطالب
مندوب عن دائرة الفتوى والتشريع ولم يضيف إلى ما جاء بالطلب وقدمت النيابة العامة
مذكرة أبدت فيها الرأي بأنه عن الحالة الأولى فإن نص المادتين 95 و 103 من الدستور
المؤقت لا يسمح بإنشاء محاكم استئناف تكون قائمة بذاتها وتستأنف أمامها أحكام
المحاكم الاتحادية الابتدائية ذلك لأن الدستور رد على ذلك صراحةً في المادة 103
حين أجاز للمشرع أن ينص على أن يكون استئناف أحكام المحاكم الاتحادية الابتدائية
أمام إحدى دوائر المحكمة الاتحادية العليا فمنع بذلك إنشاء محاكم استئناف اتحادية
– وعن الحالة الثانية فإن المقصود بكلمة "نهائياً" هو أن الحكم قد
استنفذ طرق الطعن العادية ولا يقبل الطعن فيه بأي وجه اللهم إلا إذا أجاز القانون
الطعن فيه بطرق الطعن غير العادية كالنقض والتماس إعادة النظر مما لا ترى النيابة
العامة موجباً له منعاً من زيادة أمد التقاضي.
وبعد تحضير الطلب وإيداع التقرير حدد لنظره جلسة 7/3/1976 وفيها حضر
عن وزير العدل السيد المستشار بدائرة الفتوى والتشريع وأبدى طلباته على الوجه
المبين بمحضر الجلسة وتمسكت النيابة برأيها الثابت بمذكرتها ثم حددت المحكمة للنطق
بالقرار جلسة اليوم.
أولاً: تفسير أحكام المادتين 95 ، 103 من الدستور المؤقت للاتحاد
لتحديد ما إذا كان الدستور المؤقت يسمح بإنشاء محاكم استئناف اتحادية تكون قائمة
بذاتها وتباشر اختصاصاتها بالفصل في الاستئنافات التي ترفع إليها طعناً على أحكام
المحاكم الاتحادية الابتدائية أم أن الدستور عدد في المادة 95 المحاكم المنصوص
عليها تعداد حصر بحيث يمتنع إنشاء محاكم استئناف اتحادية في نطاق الدستور.
وحيث إن المادة 95 تنص على أن يكون للاتحاد محكمة اتحادية عليا ومحاكم
اتحادية ابتدائية على الوجه المبين في المواد التالية. وتنص المادة 103 على أن
ينظم القانون كل ما يتعلق بالمحاكم الاتحادية الابتدائية من حيث ترتيبها وتشكيلها
ودوائرها واختصاصها المكاني والإجراءات التي تتبع أمامها واليمين التي يؤديها قضاة
هذه المحاكم وشروط الخدمة المتعلقة بهم وطرق الطعن في أحكامهم. ويجوز أن ينص
القانون على استئناف أحكام تلك المحاكم أمام إحدى دوائر المحكمة الاتحادية العليا
في الحالات وبالإجراءات التي يحددها.
وحيث إنه يبين مما تقدم أن الدستور أورد في هاتين المادتين أحكاماً
بعضها عن المحاكم التي تكون في الاتحاد وبعضها عن تنظيم المحاكم الاتحادية
الابتدائية وقد سيقت هذه الأحكام على نحو كلي إجمالي اكتفى فيها الدستور بوضع
الخطوط الرئيسية والإطار العام لهذه الأحكام تاركاً للمشرع أن يباشر وظيفته
الإنشائية داخل هذا الإطار، ومن ثم يتعين تحليل طبيعة الأحكام لتحديد مدى ما يتركه
الدستور للمشرع من سلطة في تنفيذها وكذلك مدى ما يستطيع ممارسته من اختصاص في هذا
الإطار.
وحيث إن المادة 103 من الدستور المؤقت فوضت المشرع في أن يضطلع بتنظيم
الطعن في أحكام المحاكم الاتحادية الابتدائية وأجازت له في هذا الخصوص أن ينص في
القانون الذي يصدره على استئناف أحكام هذه المحاكم أمام المحكمة الاتحادية العليا
ومن ثم فإن إحالة الاختصاص الاستئنافي إلى المحكمة العليا ليس تكليفاً على المشرع
وليس حكماً مسوقاً على سبيل التحتيم والوجوب وإنما هو – على ما يتضح من ظاهر النص
– أمر جوازي يكيفه المشرع وفق ظروف الحال ومقتضياته فهو يملك أن يحيل ويملك ألا
يحيل ولم يحدد الدستور الجهة القضائية البديلة التي يلجأ إليها المشرع في حالة عدم
النص على إحالة الاستئناف إلى المحكمة العليا بيد أنه لما كان الواضح من المادة
103 سالفة البيان أنها تركت الباب مفتوحاً لاجتهاد غير محدود المدى يباشره المشرع
في تنظيم طرق الطعن وفي تعيين الجهات القضائية التي يرجع إليها في هذا الشأن، ولما
كانت هذه السلطة التقديرية تسوغ له ضمناً اختيار الجهة التي يراها مناسبة وملائمة
لنظر الاستئناف لأن نص المادة سالفة البيان لم يقيده في ذلك بأية قيود ولم يلزمه
بالاتجاه إلى المحكمة العليا وإنما جاء ذلك على سبيل التجويز ومن ثم فلا جناح على
المشرع في أن ينشئ محاكم استئناف يؤثرها بنظر هذا الاستئناف حتى على الرغم من عدم
الإشارة إليها في سياق نص المادة 95 من الدستور ولا يعتبر ذلك من جانب المشرع
توسعاً يتخطى به حدوده الدستورية المرسومة في المادة 95 أو اقتحاماً منه في مجال
تشريعي حرمه الدستور ذلك أن البيان الذي سيق في المادة 95 واكتفى فيه الدستور بذكر
المحكمة الاتحادية العليا والمحاكم الاتحادية الابتدائية لم يسلك فيه المشرع سبيل
التعداد والحصر ولم يكن الغرض منه الشمول والاستبعاد وإنما الواقع أن الدستور ترك
ما عدا هذه المحاكم للدواعي العملية التي يستقل المشرع بتقديرها. ومن ثم فإن عدم
تضمين نص المادة 95 محاكم استئناف لا يستدل به على تحريم إنشائها لأن الأصل أن كل
ما لم يحرمه الدستور على المشرع فهو من سلطته واختصاصه ولأنه لا توجد أية محكمة
خاصة من هذا التحريم ومن غير المتصور أن يضيق الدستور على المشرع في ممارسته سلطته
التقديرية على النحو الذي يراه ملائماً ومحققاً لصالح المتقاضين -. ثم إن في طرح
الاستئناف أمام محاكم استئناف مستقلة وأعلى درجة من المحاكم الابتدائية هو مما
يتلاءم مع طبيعة الاستئناف ومع مميزاته الرئيسية – فالاستئناف طريق من طرق الطعن
العادية الهدف منه ضمان إصلاح الخطأ الذي يقع فيه قضاة محكمة أول درجة ومن أهم ما
يتميز به أنه يرفع إلى محكمة أعلى لأنه ما دام أن هذا الطريق يتضمن تظلماً من
أحكام قضاة محكمة أول درجة وتجهيلاً لقضائهم فقد تعين أن يطرح أمام هيئة أعلى
تتوفر فيها الضمانات التي تكفل تصحيح الحكم وهذا المبدأ وهو مبدأ تعدد الدرجات قد
أخذ به الدستور المؤقت بالنسبة لأحكام المحاكم الاتحادية الابتدائية ومن الضمانات
التي لا يمكن الاستغناء عنها في النظم القضائية ويستلزم لكي يحقق الغرض المقصود
منه أن ينظر الاستئناف أمام محكمة استئناف تكون أعلى من محكمة أول درجة وتختلف في
طريقة تشكيلها عن هذه المحكمة بمعنى أن تكون من قضاة أوسع علماً وأوفى تجربةً من
قضاة المحكمة الابتدائية – وفي الوقت ذاته فإن إنشاء محاكم استئناف هو أمر يرتبط
ارتباطاً وثيقاً بالطابع البنائي للمحاكم ويتسق مع مبدأ تدرج السلم القضائي –
فالمحكمة الاتحادية الابتدائية هي قاعدة السلم القضائي الاتحادي ويتعين أن تستأنف
أحكامها أمام محكمة اتحادية تليها درجة في هذا السلم وكلا المحكمتين محكمة البداية
ومحكمة الاستئناف هما جزءان لا ينفصلان في البناء القضائي ليسا سوى دعامتين
متكاملتين ومتكافئتي القيمة لأي تنظيم قضائي محكم وبغيرهما لا يكون هذا التنظيم
القضائي قائماً على أساس سليم - ومن كل ذلك يتضح أن إنشاء محاكم استئناف اتحادية
علاوة على أنه يجد سنداً شرعياً مستخلصاً من نصوص الدستور ذاتها فإنه يتمشى مع
الأصول الأساسية للنظام القضائي ومع موجهات الاستئناف وخصائصه الذاتية ويحقق
الغاية المنشودة منه ومن شأنه أيضاً أن يحقق الأهداف الإيجابية التي يتغياها
الدستور لأن الدستور يحرص على أن يراعي المشرع الأسس الجوهرية للتقاضي وصالح
المتقاضين عند إصدار التنظيم الذي عهد به إليه وأن يكون رائده التوسل بكل الوسائل
التي تضع هذه الأسس موضع التنفيذ بغية توفير أكبر قدر من الضمانات والعمل على
تدعيم مقومات الجودة والثقة والطمأنينة الواجب توافرها في الأحكام وقد أجاز
الدستور للمشرع إضافة الاختصاص الاستئنافي إلى ولاية المحكمة العليا وهي أعلى من
المحكمة الابتدائية فإذا ما رأى المشرع لاعتبارات يقدرها عدم استعمال هذه الرخصة
الدستورية فإنه مما يتمشى مع روح الدستور وغاياته ومع الأصول الأساسية للتنظيم
القضائي أن يكون البديل عن المحكمة العليا في هذا الخصوص محاكم استئناف اتحادية
تكون أعلى من المحكمة الاتحادية الابتدائية. وتختص بالحكم في هذا الاستئناف وما
دامت الغاية مشروعة ولم تخرج عن نطاق الدستور فإن كل سبيل مناسب لتحقيقها ويكون من
شأنه على نحو واضح أن يؤدي إليها بغير مجافاة لنصوص الدستور وروحه يعد عملاً
دستورياً جائزاً.
وحيث إنه يخلص مما سبق أن نص المادة 103 تخول المشرع سلطة إنشاء محاكم
استئناف يؤثرها بنظر الاستئناف الذي يرفع عن الأحكام الصادرة ابتدائياً من المحاكم
الاتحادية الابتدائية وهذه السلطة لا تتعارض مع مفهوم نص المادة 95 من الدستور
وترى المحكمة أن الحكمة من عدم الإشارة إلى محاكم اتحادية استئنافية في المادة 95
هو أن الدستور لم يشأ إلزام المشرع بإنشائها أسوة بالمحكمة العليا والمحكمة
الابتدائية وإنما جعل إنشاءها خاضعاً لدواعي الحاجة وحيث لا يرى المشرع ملاءمة
إيثار المحكمة العليا بهذا الاختصاص الاستئنافي – وهذه الحكمة مستخلصة من المادة
103 من الدستور المؤقت التي أجازت للمشرع إحالة الاستئناف إلى المحكمة العليا مما
مؤداه أن المشرع قد يجد في هذه الإحالة غناء عن التفكير في إنشاء محاكم استئناف
اتحادية وعندئذ تنتفي مسوغها ولا يكون ثمة موطن لها – وعلى المحكمة أن تقرب بين
النصوص الدستورية وتفسرها تفسيراً متناسقاً دون أن تنتهج في هذا الشأن منهج
التفسير الضيق حتى تستطيع أن تقوم بدور إيجابي في تزويد المشرع بالأداة الدستورية
اللازمة لاختيار الوسائل التي يراها لتنفيذ السلطات المخولة له على النحو الكفيل
بصالح المواطنين.
وحيث إنه لكل ما تقدم ترى المحكمة أن التفسير السليم لنص المادتين 95
، 103 من الدستور المؤقت للاتحاد يسمح للمشرع بإنشاء محاكم استئناف اتحادية تكون
قائمة بذاتها وتستأنف أمامها المحاكم الاتحادية الابتدائية – وإن كل ذلك لا يمنع
المشرع كما هو الحال في أغلب التشريعات – أن يستثنى القضايا قلية الأهمية باعتبار
أن تفاهة قيمتها لا تستأهل استطالة أمد النزاع ولأن مصاريفها في الدرجتين تستنفذ
معظم قيمتها وهو أمر متروك تقديره للمشرع.
ثانياً: عن تفسير المادة 105 من الدستور المؤقت للاتحاد لبيان المعنى
المقصود بكلمة "نهائياً" التي وردت في الفقرة الثانية من المادة.
وحيث إن المادة 105 تنص على ما يأتي "يجوز بناءً على قانون
اتحادي يصدر بناءً على طلب إمارة معينة نقل كل أو بعض الاختصاصات التي تتولاها
هيئاتها القضائية المحلية بموجب المادة السابقة إلى المحاكم الاتحادية الابتدائية
كما يحدد بقانون اتحادي الحالات التي يجوز فيها استئناف أحكام الهيئات القضائية
المحلية في القضايا الجزائية والمدنية والتجارية وغيرها أمام المحاكم الاتحادية
على أن يكون قضاؤها عند الفصل في هذا الاستئناف نهائياً.
وحيث إن المقصود بكلمة "نهائياً" أن الحكم استنفذ كل وسائل
الطعن العادية حائزاً لقوة الشيء المحكوم به. ولكن هذا الحكم لا يكون باتاً
وبالتالي يقبل الطعن فيه بطرق الطعن غير العادية كالنقض والتماس إعادة النظر لأن
الحكم البات هو الذي لا يقبل الطعن فيه بأي طريقة من طرق الطعن العادية أو غير
العادية ومن ثم فإنه يجوز أن ينص القانون على أن تكون هذه الأحكام قابلة للطعن
فيها بطرق الطعن غير العادية كالنقض والتماس إعادة النظر في الحالات التي يحددها،
فإذا استنفذت طرق الطعن غير العادية فإن الحكم يكون باتاً.
فلهذه الأسباب
وبعد الإطلاع على المواد 95 ، 103 ، 105 من الدستور المؤقت للاتحاد.
قررت المحكمة قبول الطلب شكلاً وفي الموضوع:
أولاً: إن أحكام المادتين 95 ، 103 من الدستور المؤقت تبيح للمشرع
إنشاء محاكم استئناف اتحادية تكون قائمة بذاتها وتختص بالحكم في قضايا الاستئناف
الذي يرفع إليها عن الأحكام الصادرة ابتدائياً من المحاكم الاتحادية الابتدائية.
ثانيا: إن المقصود بكلمة "نهائياً" التي وردت في الفقرة
الثانية من المادة 105 من الدستور المؤقت للاتحاد أن الأحكام التي تصدر من المحاكم
الاتحادية في الاستئنافات التي ترفع إليها عن أحكام الهيئات القضائية المحلية قد
استنفذت كل وسائل الطعن العادية وأصبحت حائزة لقوة الشيء المحكوم به ولكن هذه
الأحكام لا تعتبر أحكاماً باتة ومن ثم يجوز أن ينص القانون على أن تكون هذه
الأحكام قابلة للطعن فيها بطرق الطعن غير العادية كالنقض والتماس إعادة النظر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق