الصفحات

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 8 ديسمبر 2021

الطعن 144 لسنة 20 ق جلسة 4 / 3 / 2000 دستورية عليا مكتب فني 9 دستورية ق 60 ص 497

جلسة 4 مارس سنة 2000

برئاسة السيد المستشار/ محمد ولي الدين جلال - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: الدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله وعلي عوض محمد صالح،

وحضور السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق حسن - رئيس هيئة المفوضين،

وحضور السيد/ ناصر إمام محمد حسن - أمين السر.

--------------

قاعدة رقم (60(
القضية رقم 144 لسنة 20 قضائية "دستورية"

(1) حرية التعاقد "حرية شخصية – حق الملكية الخاصة".
حرية التعاقد قاعدة أساسية يقتضيها الدستور صوناً للحرية الشخصية، فهي من خصائصها الجوهرية – وهي كذلك وثيقة الصلة بالحق في الملكية – القيود التشريعية عليها لا يسعها أن تدهم الدائرة التي تباشر فيها الإرادة سلطانها.
(2) تشريع "الفقرة الأولى من المادة 19 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر: عدوان على الإرادة".
النص المذكور فيما انطوى عليه من عدم اشتراط موافقة المالك عند تغيير المستأجر استعمال العين إلى غير غرض السكنى إنما يتضمن عدواناً على الحدود المنطقية التي تعمل الإرادة الحرة في نطاقها.
(3) حق الملكية الخاصة "صونها".
عدم جواز تجريد الملكية الخاصة من لوازمها أو الانتقاص من أصلها أو تغيير طبيعتها دون ما ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية – عدم جواز فرض قيود عليها من شأنها حرمان أصحابها من تقرير صور الانتفاع بها – الأصل أن يظل مؤجر العين متصلاً بها فلا يجوز عزله عنها من خلال سلطة مباشرة يباشرها آخرون بناء على نص قانوني عليها.
(4) دستور "تضامن اجتماعي".
ما نص عليه الدستور من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي يعني وحدة الجماعة في بنيانها وإمكان التوفيق بين مصالحها، وترابط أفرادها فيما بينهم.
(5) تشريع "الفقرة الأولى من المادة 19 من القانون رقم 136 لسنة 1981: ترجيح مصلحة المستأجر".
النص المشار إليه حلقة في اتجاه عام تبناه المشرع في إطار من مفاهيم تمثل ظلماً لمؤجرين ما برج المستأجرون يرجحون عليهم مصالحهم.

--------------
1 - حرية التعاقد قاعدة أساسية يقتضيها الدستور صوناً للحرية الشخصية التي يقتصر ضمانها على تأمينها ضد صور العدوان على البدن، بل تمتد حمايتها إلى أشكال متعددة من إرادة الاختيار وسلطة التقرير التي ينبغي أن يملكها كل شخص، فلا يكون بها كائناً يحمل على ما لا يرضاه.
إن حرية التعاقد – بهذه المثابة – فوق كونها من الخصائص الجوهرية للحرية الشخصية، فهي كذلك وثيقة الصلة بالحق في الملكية، وذلك بالنظر إلى الحقوق التي ترتبها العقود – المبنية على الإرادة الحرة – فيما بين أطرافها؛ بيد أن هذه الحرية – التي لا يكفلها انسيابها دون عائق، ولا جرفها لكل قيد عليها، ولا علوها على مصالح ترجحها، وإنما يدنيها من أهدافها قدر من التوازن بين جموحها وتنظيمها – لا تعطلها تلك القيود التي تفرضها السلطة التشريعية عليها بما يحول دون انفلاتها من كوابحها. ويندرج تحتها أن يكون تنظيمها لأنواع من العقود محدداً بقواعد آمرة تحيط ببعض جوانبها، غير أن هذه القيود لا يسعها أن تدهم الدائرة التي تباشر فيها الإرادة سلطانها، ولا أن تخلط بين المنفعة الشخصية التي يجنيها المستأجر من عقد الإيجار – والتي انصرف إليها إرادة المالك عند التأجير – وبين حق الانتفاع كأحد الحقوق العينية المتفرعة عن الملكية.
2 - النص المطعون فيه خول المستأجر تغيير استعمال عين كان قد استأجرها سكناً إلى غير غرض السكنى، وكان هذا النص – وباعتباره واقعاً في طار القيود الاستثنائية التي نظم بها المشرع العلائق الإيجارية – قد استهدف إسقاط شرط موافقة المالك على قيام المستأجر بهذا التغيير، وكان حق المستأجر لا زال حقاً شخصياً مقصوراً على استعمال عين بذاتها فيما لا يجاوز الغرض الذي أجرت من أجله، فلا يمتد إلى سلطة تغيير استعمالها بغير موافقة مالكها؛ وبالمخالفة لشرط اتصل بإجارة أبرماها معاً، صريحاً كان هذا الشرط أم ضمنياً؛ فإن هذا النص يكون متضمناً عدواناً على الحدود المنطقية التي تعمل الإرادة الحرة في نطاقها، والتي لا تستقيم الحرية الشخصية – في صحيح بنيانها – بفواتها، فلا تكون الإجارة إلا إملاء يناقض أسسها.
3 - صون الدستور للملكية الخاصة، مؤداه أن المشرع لا يجوز أن يجردها من لوازمها، ولا أن يفصل عنها بعض أجزائها، ولا أن ينتقص من أصلها أو بغير من طبيعتها دون ما ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية، وكان ضمان وظيفتها هذه يفترض ألا ترهق القيود التي يفرضها المشرع عليها جوهر مقوماتها، ولا أن يكون من شأنها حرمان أصحابها من تقرير صور الانتفاع بها، وكان صون الملكية وإعاقتها لا يجتمعان، فإن هدمها أو تفويض أسسها من خلال قيود تنال منها، ينحل عصفاً بها منافياً للحق فيها.
إن مكنة استغلال الأعيان ممن يملكونها من خلال عقود إيجار إنما تعني حقهم في اختيار من يستأجرونها من ناحية والغرض من استعمالها من ناحية أخرى، وكانت حريتهم في هذا الاختيار جزءاً لا يتجزأ من حق الاستغلال الذي يباشرونه أصلاً عليها، وكان من المقرر أن لحقوق الملكية – بكامل عناصرها – قيماً مالية يجوز التعامل فيها، وكان الأصل أن يظل مؤجر العين متصلاً بها، فلا يُعزل عنها من خلال سلطة مباشرة يمارسها آخرون عليها بناء على نص في القانون؛ بيد أن النص المطعون فيه أجاز للمستأجر بإرادته المنفردة الحق في تغيير استعمال العين إلى غير غرض السكنى، في إطار علائق إيجارية شخصية بطبيعتها، مهدراً كل إرادة لمؤجرها في مجال القبول بهذا التغيير أو الاعتراض عليه.
4 ، 5 - مقتضى ما نص عليه الدستور في المادة 7 من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعني وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، وترابط أفرادها فيما بينهم فلا يكون بعضهم لبعض إلا ظهيراً، ولا يتناحرون طمعاً، وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم عن حماية تلك المصالح، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها، وليس لفريق منهم أو يتقدم على غيره انتهازاً، ولا أن ينال قدراً من الحقوق يكون بها – عدواناً – أكثر علواً – وإنما تتضافر جهودهم وتتوافق توجهاتهم، لتكون لهم الفرص ذاتها التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق، وتتهيأ معها تلك الحماية التي ينبغي أن يلوذ بها ضعفاؤهم، ليجدوا في كنفها الأمن والاستقرار.
النص المطعون فيه، ليس إلا حلقة من اتجاه عام تبناه المشرع أمداً طويلاً في إطار من مفاهيم تمثل ظلماً لمؤجرين ما برح المستأجرون يرجحون عليهم مصالحهم، متدثرين في ذلك بعباءة قوانين استثنائية جاوز واضعوها بها حدود الاعتدال فلا يكون مجتمعهم معها إلا متحيفاً حقوقاً ما كان يجوز الإضرار بها، نائياً بالإجارة عن حدود متطلباتها، وعلى الأخص ما تعلق منها بتعاون طرفيها اقتصادياً واجتماعياً، حتى لا يكون صراعهما – بعد الدخول في الإجارة – إطاراً لها.


الإجراءات

بتاريخ الخامس من يوليو سنة 1998، أودع المدعي قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة، طالباً الحكم بعدم دستورية المادة 19 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعي كان قد أقام الدعوى رقم 1290 لسنة 1998 إيجارات أمام محكمة شمال القاهرة الابتدائية ضد المدعى عليه الرابع ابتغاء القضاء بفسخ عقد الإيجار المؤرخ 21/ 5/ 1995 وإخلائه من العين المؤجرة المبينة بالأوراق قولاً بأن المدعى عليه استأجرها بقصد استعمالها سكناً خاصاً غير أنه قام بتغيير استعمالها إلى عيادة طبية دون موافقة المؤجر، وأثناء نظر الدعوى، دفع المدعي دستورية المادة 19 من القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليه. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه وصرحت له بإقامة دعواه الدستورية فقد أقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن المادة 19 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر تنص على أنه: "في الأحوال التي يتم فيها تغيير استعمال العين إلى غير أغراض السكنى تزاد الأجرة القانونية بنسبة.
1 - ............
2 - ...........
3 - ..........
4 - ..........
وفي حالة التغيير الجزئي للاستعمال يستحق المالك نصف النسب المشار إليها.
ويشترط ألا يترتب على تغيير الاستعمال كلياً أو جزئياً إلحاق ضرر بالمبنى أو بشاغليه.
وتلغى المادة 23 من القانون رقم 49 لسنة 1977 وذلك اعتباراً من تاريخ العمل بهذا القانون".
ومؤدى هذا النص أن تغيير استعمال العين المؤجرة سكناً إلى غير غرض السكنى غداً رخصة للمستأجر يجوز له أن يستعملها – دون توقف على إرادة مالكها – وذلك بعد إلغائه صراحة المادة 23 المشار إليها والتي كانت تشترط موافقة المالك على هذا التغيير؛ وهو ما أكدته أعماله التحضيرية على ما يبين من مضبطة الجلسة رقم (69) لمجلس الشعب المعقودة بتاريخ 22 يونيه 1981 والتقارير الملحقة بها.
حيث إن المدعي ينعى على النص المطعون فيه أنه إذا منح المستأجر حرية تغيير استعمال العين المؤجرة سكناً إلى غرض آخر دون موافقة المالك، فقد تمحض عدواناً على الملكية التي يحميها الدستور، تقديراً بأن حق مستأجر العين في استعمالها – حتى بعد العمل بالتشريعات الاستثنائية في مجال الإسكان – لا زال حقاً شخصياً؛ وما النص المطعون فيه إلا ميزة إضافية اقتحم المشرع بها حق الملكية إخلالاً بمجالاته الحيوية التي لا يجوز المساس بها، منشئاً بذلك حقوقاً مبتدأه للمستأجر لا يتوازن بها مركزه القانوني مع المؤجر، ولا يقيم علاقتهما ببعض على أساس من التضامن الاجتماعي، مخالفاً بذلك أحكام الشريعة الإسلامية ومهدراً مبدأ حرية التعاقد الذي هو فرع من الحرية الشخصية المكفولة بنص المادة 41 من الدستور.
وحيث إن هذا النص المسألتين الآتيتين:
(الأولى) دستورية زيادة الأجرة بالنسب الثابتة التي حددها النص في الأحوال التي يتم فيها تغيير استعمال العين إلى غير غرض السكنى.
(الثانية) دستورية شروط هذا التغيير بإلزام المالك به دون توقف على موافقته.
وحيث إن هذا المحكمة سبق أن حسمت المسألة الأولى بحكمها الصادر بجلسة 7 فبراير سنة 1998 في الدعوى رقم 137 لسنة 18 قضائية "دستورية"، الذي قضى "بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 27 من القانون رقم 136 لسنة 1981 بشأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وذلك فيما تضمنته من استثناء الأماكن التي حددتها، من الخضوع لزيادة الأجرة المقررة بمقتضى نص المادة 19 من هذا القانون". أما المسألة الثانية فلم تكن مطروحة على هذه المحكمة في الدعوى سالفة الذكر وذلك لما هو مقرر من أن الخصومة الدستورية لا تتناول غير النصوص المطعون عليها – محددة نطاقاً على نحو ما قدرته المحكمة – ولا شأن لها بما يجاوز هذا النطاق؛ ومن ثم يظل أمر المادة 19 فيما انطوت عليه من عدم اشتراط موافقة المالك على تغيير المستأجر استعمال العين المؤجرة سكناً إلى غير غرض السكنى، مطروحاً على هذه المحكمة للفصل في دستوريته؛ إذ لم يتعرض الحكم سالف الذكر إلى شروط ذلك التغيير.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن حرية التعاقد قاعدة أساسية يقتضيها الدستور صوناً للحرية الشخصية التي لا يقتصر ضمانها على تأمينها ضد صور العدوان على البدن، بل تمتد حمايتها إلى أشكال متعددة من إرادة الاختيار وسلطة التقرير التي ينبغي أن يملكها كل شخص، فلا يكون بها كائناً يُحمل على ما لا يرضاه.
وحيث إن حرية التعاقد – بهذه المثابة – فوق كونها من الخصائص الجوهرية للحرية الشخصية، فهي كذلك وثيقة الصلة بالحق في الملكية، وذلك بالنظر إلى الحقوق التي ترتبها العقود – المبنية على الإرادة الحرية – فيما بين أطرافها؛ بيد أن هذه الحرية – التي لا يكفلها انسيابها دون عائق، ولا جرفها لكل قيد عليها، ولا علوها على مصالح ترجحها، وإنما يدنيها من أهدافها قدر من التوازن بين جموحها وتنظيمها – لا تعطلها تلك القيود التي تفرضها السلطة التشريعية عليها بما يحول دون انفلاتها من كوابحها. ويندرج تحتها أن يكون تنظيمها لأنواع من العقود محدداً بقواعد آمرة تحيط ببعض جوانبها، غير أن هذه القيود لا يسعها أن تدهم الدائرة التي تباشر فيها الإرادة سلطانها، ولا أن تخلط بين المنفعة الشخصية التي يجنيها المستأجر من عقد الإيجار – والتي انصرف إليها إرادة المالك عند التأجير – وبين حق الانتفاع كأحد الحقوق العينية المتفرعة عن الملكية.
وحيث إن النص المطعون فيه خول المستأجر تغيير استعمال عين كان قد استأجرها سكناً إلى غير غرض السكنى، وكان هذا النص – وباعتباره واقعاً في إطار القيود الاستثنائية التي نظم بها المشرع العلائق الإيجارية – قد استهدف إسقاط شرط موافقة المالك على قيام المستأجر بهذا التغيير، وكان حق المستأجر لا زال حقاً شخصياً مقصوراً على استعمال عين بذاتها فيما لا يجاوز الغرض الذي أجرت من أجله، فلا يمتد إلى سلطة تغيير استعمالها بغير موافقة مالكها؛ وبالمخالفة لشرط اتصل بإجارة أبرماها معاً، صريحاً كان هذا الشرط أم ضمنيا؛ فإن هذا النص يكون متضمناً عدواناً على الحدود المنطقية التي تعمل الإرادة الحرة في نطاقها، والتي لا تستقيم الحرية الشخصية – في صحيح بنيانها – بفواتها، فلا تكون الإجارة إلا إملاء يناقض أسسها.
وحيث إن من المقرر – في قضاء هذه المحكمة – أن صون الدستور للملكية الخاصة، مؤداه أن المشرع لا يجوز أن يجردها من لوازمها، ولا أن يفصل عنها بعض أجزائها، ولا أن ينتقص من أصلها أو بغير من طبيعتها دون ما ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية، وكان ضمان وظيفتها هذه يفترض ألا ترهق القيود التي يفرضها المشرع عليها جوهر مقوماتها، ولا أن يكون من شأنها حرمان أصحابها من تقرير صور الانتفاع بها، وكان صون الملكية وإعاقتها لا يجتمعان، فإن هدمها أو تفويض أسسها من خلال قيود تنال منها، ينحل عصفاً بها منافياً للحق فيها.
وحيث إن مكنه استغلال الأعيان ممن يملكونها من خلال عقود إيجار إنما عقود إيجار إنما تعني حقهم في اختيار من يستأجرونها من ناحية والغرض من استعمالها من ناحية أخرى، وكانت حريتهم في هذا الاختيار جزءاً لا يتجزأ من حق الاستغلال الذي يباشرونه أصلاً عليها، وكان من المقرر أن لحقوق الملكية – بكامل عناصرها – قيماً مالية يجوز التعامل فيها، وكان الأصل أن يظل مؤجر العين متصلاً بها، فلا يُعزل عنها من خلال سلطة مباشرة يمارسها آخرون عليها بناء على نص في القانون؛ بيد أن النص المطعون فيه أجاز للمستأجر بإرادته المنفردة الحق في تغيير استعمال العين إلى غير غرض السكنى، في إطار علائق إيجارية شخصية بطبيعتها، مهدراً كل إرادة لمؤجرها في مجال القبول بهذا التغيير أو الاعتراض عليه.
وحيث إن مقتضى ما نص عليه الدستور في المادة 7 من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعني وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، وترابط أفرادها فيما بينهم فلا يكون بعضهم لبعض إلا ظهيراً، ولا يتناحرون طمعاً، وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم عن حماية تلك المصالح، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها، وليس لفريق منهم أو يتقدم على غيره انتهازاً، ولا أن ينال قدراً من الحقوق يكون بها – عدواناً – أكثر علواً – ، وإنما تتضافر جهودهم وتتوافق توجهاتهم، لتكون لهم الفرص ذاتها التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق، وتتهيأ معها تلك الحماية التي ينبغي أن يلوذ بها صعفاؤهم، ليجدوا في كنفها الأمن والاستقرار.
وحيث إن النص المطعون فيه، ليس إلا حلقة من اتجاه عام تبناه المشرع أمداً طويلاً في إطار من مفاهيم تمثل ظلماً لمؤجرين ما برح المستأجرون يرجحون عليهم مصالحهم، متدثرين في ذلك بعباءة قوانين استثنائية جاوز واضعوها بها حدود الاعتدال فلا يكون مجتمعهم معها إلا متحيفاً حقوقاً ما كان يجوز الإضرار بها، نائياً بالإجارة عن حدود متطلباتها، وعلى الأخص ما تعلق منها بتعاون طرفيها اقتصادياً واجتماعياً، حتى لا يكون صراعهما – بعد الدخول في الإجارة – إطاراً لها.
وحيث إن لما تقدم، يكون النص المطعون فيه مخالفاً للمواد 7 و32 و34 و41 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من المادة 19 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر فيما انطوى عليه من عدم اشتراط موافقة المالك عند تغيير المستأجر استعمال العين إلى غير غرض السكنى، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

الطعن 215 لسنة 19 ق جلسة 2 / 10 / 1999 دستورية عليا مكتب فني 9 دستورية ق 45 ص 363

جلسة 2 أكتوبر سنة 1999

برئاسة السيد المستشار/ محمد ولي الدين جلال - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: فاروق عبد الرحيم غنيم وحمدي محمد علي وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين،

وحضور السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق حسن - رئيس هيئة المفوضين،

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر - أمين السر.

---------------

قاعدة رقم (45(
القضية رقم 215 لسنة 19 قضائية "دستورية"

(1) دعوى دستورية "إحالة: ترك الخصومة".
في الدعوى الدستورية المحالة من غير الجائز أن يترك الخصم الخصومة فيها كلياً أو في شق منها.
(2) دعوى دستورية "المصلحة: مناطها - تحريها".
مناط المصلحة - كشرط لقبول الدعوى الدستورية - أن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع - تحري المحكمة الدستورية العليا وحدها توافر شرط المصلحة.
(3) دعوى دستورية "حكم: حجيته - إعماله".
للحكم الصادر في الدعوى الدستورية حجية مطلقة ملزمة للكافة ولجميع سلطات الدولة سواء قضى بعدم دستورية النص التشريعي أو برفض الدعوى لتوافقه مع أحكام الدستور - التزام محكمة الموضوع بإعمال أثره على النزاع المعروض عليها.
(4) حق الملكية الخاصة "حق دائم".
حق الملكية ذاته غير قابل للسقوط بالتقادم وكذلك الحق في إقامة الدعوى التي يطلب بها هذا الحق.
(5) تشريع "الفقرة الأخيرة من المادة 12 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد علي المصادرة: إخلال بالحماية".
انتقاص نص هذه الفقرة من الحماية التي كفلها الدستور لحق الملكية - فيما تضمنه من تقرير سقوط حق الملكية بفوات سنة وفقاً للقواعد والإجراءات المبينة فيه.

---------------
1 - الدعوى الماثلة اتصلت بهذه المحكمة عن طريق الإحالة من محكمة الموضوع التي تراءى لها من وجهة مبدئية عدم دستورية نصوص المواد سالفة الذكر، فأحالت الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا - وفقاً للبند أ من المادة 29 من قانونيها - لتقول فيها كلمتها الفاصلة؛ فلا اعتداد - من ثم - بما قرره أحد الخصوم أمام هذه المحكمة بقصر الدعوى الراهنة على بعض النصوص المحالة من محكمة الموضوع، ولا يغير من هذه النتيجة أن يكون هذا الخصم قد سبق له أن دفع أمام تلك المحكمة بعدم دستورية ذات النصوص؛ ذلك أنه إذا كان جائزاً في الدعوى الدستورية التي يقيمها الخصم إثر دفع بعدم الدستورية قدرت محكمة الموضوع جديته - وفقاً للبند ب من المادة 29 المشار إليها - أن يترك الخصومة فيها كلياً أو في شق منها، فإن ذلك لا يجوز في الدعوى الدستورية المحالة إلى هذه المحكمة مباشرة من محكمة الموضوع.
2 - يشترط لقبول الدعوى الدستورية - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - توافر المصلحة فيها، ومناطها أن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع. والمحكمة الدستورية العليا وحدها هي التي تتحرى توافر شرط المصلحة في الدعوى المقامة أمامها للتثبت من شروط قبولها، وليس لجهة أخرى أن تنازعها ذلك أو تحل محلها فيه، وليس هناك تلازم بين الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا وتوافر المصلحة في الدعوى الدستورية؛ فالأولى لا تغني عن الثانية. فإذا لم يكن للفصل في دستورية النصوص المحالة التي تراءى لمحكمة الموضوع عدم دستوريتها، انعكاس على النزاع الموضوعي، فإن الدعوى الدستورية تكون غير مقبولة.
3 - الدعوى الدستورية عينية بطبيعتها بحيث يكون للحكم الصادر فيها - سواء قضى بعدم دستورية النص التشريعي أو برفض الدعوى لتوافقه وأحكام الدستور - حجية مطلقة ملزمة للكافة ولجميع سلطات الدولة - بما فيها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها - فلا يجوز التحلل منه أو المجادلة فيه أو مجاوزة مضمونه أو إعادة طرحه من جديد على هذه المحكمة لمراجعته، ومن ثم تلتزم محكمة الموضوع بإعمال أثر ذلك الحكم على النزاع المعروض عليها.
4 ، 5 - لحق الملكية خاصية تميزه عن غيره من الحقوق - الشخصية منها أو العينية أصلية كانت أم تبعية - وتتمثل هذه الخاصية في أن الملكية وحدها هي التي تعتبر حقاً دائماً، وتقتضي طبيعتها ألا يزول هذا الحق بعدم الاستعمال، ذلك أنه أياً ما كانت المدة التي يخرج فيها الشيء من حيازة مالكه، فإنه لا يفقد ملكيته بالتقاعس عن استعمالها، بل يظل من حقه أن يقيم دعواه للمطالبة بها مهما طال الزمن إلا إذا كسبها غيره وفقاً للقانون، بما مؤداه أن حق الملكية باق لا يزول ما بقى الشيء المملوك منقولاً كان أو عقاراً، وبالتالي لا يسقط الحق في إقامة الدعوى التي تحميه بانقضاء زمن معين؛ ذلك أنه لا يتصّور أن يكون حق الملكية ذاته غير قابل للسقوط بالتقادم، ويسقط مع ذلك الحق في إقامة الدعوى التي يُطلب بها هذا الحق؛ ومن ثم يكون نص الفقرة الأخيرة من المادة 12 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد علي المصادرة، فيما تضمنه من تقرير سقوط حق الملكية بفوات سنة من تاريخ النشر في الجريدة الرسمية دون تقديم طلب إلى اللجنة، حسبما ورد بتلك المادة قد انتقص من الحماية التي كفلها الدستور لحق الملكية، وجاء بالتالي مخالفاً لأحكام المادة 34 من الدستور التي تتضمن صون حق الملكية الخاصة وكفالة حق الإرث فيها.


الإجراءات

في السابع من ديسمبر سنة 1997، ورد إلى المحكمة الدستورية العليا ملف الاستئناف رقم 5498 لسنة 144 قضائية بعد أن قضت محكمة استئناف القاهرة بجلسة 12/ 8/ 1997 بقبول الاستئناف شكلاً وقبل الفصل في موضوعه بوقفه وإحالة الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية المواد 9، 12، 14/ 1، 15، 17 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد علي المصادرة.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم أصلياً بعدم قبول الدعوى واحتياطياً برفضها.
وقدمت المدعى عليها الرابعة مذكرة بدفاعها طلبت فيها الحكم بعدم دستورية قرار الاستيلاء على الأطيان محل النزاع الموضوعي، وعدم أحقية المدعيات لهذه الأطيان.
وقدم المدعى عليه الأخير مذكرة بدفاعه طلب فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق، تتحصل في أن المدعيات كن قد أقمن ضد المدعى عليهم الثلاثة الأول الدعوى رقم 10677 لسنة 1995 مدني كلي جنوب القاهرة بطلب الحكم بأحقية كل منهم لخمسين فداناً من مساحة 13 س 11 ط 1744 ف كان والدهن الملك السابق فاروق قد أوقفها عليهن وعلى والدتهن، وتثبيت ملكيتهن بالتساوي بينهن لقصر الطاهرة البالغ مساحته 20056.30 متراً مربعاً والذي كان موضوع عقد الهبة الصادر من جدهن لأمهن بصفته وكيلاً عن والدتهن إلى والدهن الذي قرر إسكانهن ووالدتهن فيه بعد طلاقه لها مما يُعتبر - في رأيهن - عدولاً عن قبول الهبة يعيد القصر إلى ملكية والدتهن فينتقل بالميراث إليهن، وأحقيتهن بالتساوي بينهن في مساحة 5 س 18 ط 3 ف كائنة بزمام نزلة السمان محافظة الجيزة، كانت والدتهن قد اشترتها بعقد مشهر سنة 1951 بعد طلاقها من والدهن وصيرورتها غريبة عن أسرة محمد علي ثم أضافت المدعيات طلباًً بتعويضهن عن القدر الزائد على الحد الأقصى لملكية الأراضي الزراعية والذي تم الاستيلاء عليه - طبقاً لقوانين الإصلاح الزراعي - من أطيانهن وأطيان والدهن ووالتهن. وأثناء نظر الدعوى طلب المدعى عليه الأخير التدخل فيها هجومياً بطلب إلزام المدعى عليه الثاني بتعويض عما تم الاستيلاء عليه من أطيان زراعية كانت مملوكة للمدعيات ووالدهن ووالدتهن. كما طلبت المدعى عليها الرابعة التدخل في تلك الدعوى طالبة الحكم بعدم أحقية المدعيات في أطيان الوقف التي يطالبن بها تأسيساً على أنه وقف صدر من أجدادها لصالح ذريتهم، وأن الملك السابق فاروق كان ناظراً على الوقف، وأن نظارة الوقف لا تنقل ملكيته إلى ناظره. وبجلسة 18/ 3/ 1997 قضت محكمة جنوب القاهرة بقبول تدخل هيئة الخدمات الحكومية، وتدخل السيدة/ نعمة الله محمد علي الخواص، وفي موضوع التدخل وموضوع الدعوى بعدم سماعها، استناداً إلى المادة 14 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد علي المصادرة، فطعنت المدعيات على ذلك الحكم بالاستئناف رقم 5498 لسنة 114 قضائية أمام محكمة استئناف القاهرة التي قضت بجلسة 12/ 8/ 1997 بقبول الاستئناف شكلاً، وقبل الفصل في الموضوع بوقفه وإحالة الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية المواد 9، 12، 14/ 1، 15، 17 من القانون رقم 598 لسنة 1953 المشار إليه لمخالفتها للحماية الدستورية المقررة لحق المحكمة.
وحيث إن الدعوى الماثلة اتصلت بهذه المحكمة عن طريق الإحالة من محكمة الموضوع التي تراءى لها من وجهة مبدئية عدم دستورية نصوص المواد سالفة الذكر، فأحالت الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا - وفقاً للبند أ من المادة 29 من قانونها - لتقول فيها كلمتها الفاصلة؛ فلا اعتداد - من ثم - بما قرره أحد الخصوم أمام هذه المحكمة بقصر الدعوى الراهنة على بعض النصوص المحالة من محكمة الموضوع، ولا يغير من هذه النتيجة أن يكون هذا الخصم قد سبق له أن دفع أمام تلك المحكمة بعدم دستورية ذات النصوص؛ ذلك أنه إذا كان جائزاً في الدعوى الدستورية التي يقيمها الخصم إثر دفع بعدم الدستورية قدرت محكمة الموضوع جديته - وفقاً للبند ب من المادة 29 المشار إليها - أن يترك الخصومة فيها كلياً أو في شق منها، فإن ذلك لا يجوز في الدعوى الدستورية المحالة إلى هذه المحكمة مباشرة من محكمة الموضوع.
وحيث إنه يشترط لقبول الدعوى الدستورية - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - توافر المصلحة فيها، ومناطها أن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع. والمحكمة الدستورية العليا وحدها هي التي تتحرى توافر شرط المصلحة في الدعوى المقامة أمامها للتثبت من شروط قبولها، وليس لجهة أخرى أن تنازعها ذلك أو تحل محلها فيه، وليس هناك تلازم بين الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا وتوافر المصلحة في الدعوى الدستورية؛ فالأولى لا تغني عن الثانية. فإذا لم يكن للفصل في دستورية النصوص المحالة التي تراءى لمحكمة الموضوع عدم دستوريتها، انعكاس على النزاع الموضوعي، فإن الدعوى الدستورية تكون غير مقبولة.
وحيث إن المادة 9 من القانون 598 لسنة 1953 المشار إليه تنص على تشكيل لجان بقرار من وزير العدل تختص بالفصل في كل طلب بدين أو ادعاء بحق قبل الأشخاص المصادرة أموالهم، وفي كل منازعة في دين لهم قبل الغير، والنظر في تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد أحدهم، وفي كل نزاع يتعلق بالأموال المصادرة، وتقضي المادة 12 من ذات القانون في فقرتيها الأولتين بعدم إنفاذ أي حق بالنسبة لهذه الأموال لا يقدم صاحبه طلباً في الميعاد المحدد بالمادة العاشر مع إجازة قبول الطلب إن كان عدم تقديمه في الميعاد راجعاً إلى قوة قاهرة أو ظرف استثنائي تقبله اللجنة، ومن ثم فإن التنظيم التشريعي الوارد بالمادة 9 وفقرتي المادة 12 المشار إليها فيما سبق، لا محل لإعماله إلا بالنسبة للأنزعة التي يكون قد تم تقديم طلب بشأنها إلى اللجنة المذكورة، وإذ كانت أوراق الدعوى الماثلة خلواً من الإشارة إلى سبق تقديم أي طلب إلى تلك اللجنة، فليس ثمة مصلحة قائمة في الدعوى الراهنة تقتضي الفصل في دستورية النصوص سالفة الذكر.
وحيث إنه بالنسبة للمادة 17 من القانون المشار إليه فإنها إذ تقرر إنشاء إدارة لتصفية الأموال المصادرة يصدر بتشكيلها قرار من وزير العدل وتختص بإدارة هذه الأموال وتمتثل الدولة في شأن المناعات الخاصة بها، وكانت مصادرة المال تعني انتقاله من الملكية الخاصة إلى ملكية الدولة بلا مقابل، فإن تحديد جهة معينة لإدارته وتمثيل الدولة في المنازعات المتعلقة به، لا تتصل بالطلبات المطروحة على محكمة الموضوع في النزاع الموضوعي الذي ينحصر في أحقية المدعيات في الأعيان والأطيان التي يطالبن بها والتعويض عن القدر الزائد على الحد الأقصى للملكية الزراعية، وهي طلبات لا تتأثر بكون الأموال المصادرة أو غيرها هي التي تمثل الدولة بشأنها، وبالتالي لا تكون هناك مصلحة - في الدعوى الماثلة - للفصل في دستورية المادة 17 المشار إليها.
وحيث إن هذه المحكمة سبق أن باشرت رقابتها الدستورية على المادتين 14/ 1، 15 من القانون سالف الذكر، فقضت بجلستها المعقودة بتاريخ 11/ 10/ 1997 في الدعوى رقم 13 لسنة 15 قضائية دستورية، "بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 14 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد علي المصادرة وذلك فيما تضمنته من عدم جواز سماع الدعوى المتعلقة بمصادرة أموال أسرة محمد علي ولو كان موضوعها أمولاً تلقاها - عن غير طريقها - أشخاص ينتمون إليها، أو اكتسبها أشخاص من غير أفرادها"؛ "وبعدم دستورية نص المادة 15 من هذا القانون في مجال تطبيقها بالنسبة إلى أموال تمت مصادرتها، إذا كان أصحابها لا ينتمون لأسرة محمد علي، أو يرتبطون بها وتلقوها عن غير طريقها". وقد نشر ذلك الحكم بالجريدة الرسمية بتاريخ 23/ 10/ 1997. متى كان ما تقدم، وكانت الدعوى الدستورية عينية بطبيعتها بحيث يكون للحكم الصادر فيها - سواء قضى بعدم دستورية النص التشريعي أو برفض الدعوى لتوافقه وأحكام الدستور - حجية مطلقة ملزمة للكافة ولجميع سلطات الدولة - بما فيها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها - فلا يجوز التحلل منه أو المجادلة فيه أو مجاوزة مضمونه أو إعادة طرحه من جديد على هذه المحكمة لمراجعته، ومن ثم تلتزم محكمة الموضوع بإعمال أثر ذلك الحكم على النزاع المعروض عليها.
وحيث إنه - على ضوء ما تقدم - ينحصر نطاق الدعوى الدستورية الماثلة في الفقرة الأخيرة من المادة 12 من القانون رقم 598 لسنة 1953 المشار إليه، التي يجري نصها كالتالي: "وعلى أية حال تسقط كافة الحقوق بالنسبة إلى الأموال المصادرة إذا لم يقدم عنها طلب إلى اللجنة المذكورة خلال سنة من تاريخ النشر في الجريدة الرسمية من الأشخاص الذين يمتلكون شيئاً من الأموال المصادرة". وقد ورد بالمذكرة الإيضاحية لذلك القانون "أنه في كل الأحوال لا يقبل طلب بعد فوات مدة سنة على تاريخ النشر في الجريدة الرسمية من الأشخاص المصادرة أموالهم"، ومؤدى النص سالف الذكر سقوط كافة حقوق أصحاب الأموال المصادرة - ومن بينها حق الملكية - على هذه الأموال إذا لم يقدموا طلباً بها خلال السنة المحددة بالنص.
وحيث إنه لا وجه لا ساقته هيئة قضايا الدولة من أن القضاء بعدم دستورية سقوط حق الملكية بعدم تقديم الطلب خلال السنة المشار إليها على نحو ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة 12 سالفة الذكر، يكون متجاوزاً مصلحة المدعيات بحسبان أنه لا يؤدي إلى تغيير في مركزهن القانوني؛ ذلك أنه من بين الدفوع المثارة في النزاع الموضوعي والتي تعتبر مطروحة على المحكمة المحيلة - إعمالاً للأثر الناقل للاستئناف - دفع بسقوط حق المدعيات استناداً إلى نص الفقرة الأخيرة من المادة 12 المشار إليها، وبالتالي فليس ثمة سند للقول بانتفاء المصلحة في الدعوى الماثلة بشأن الفصل في دستورية تلك الفقرة. كذلك فإن قول هيئة قضايا الدولة أنه ما دامت المادة 14/ 1 من القانون المشار إليه لا تجيز للمحاكم سماع الدعوى بشأن الأموال المصادرة فإن القضاء بعدم دستورية الفقرة الأخيرة من المادة 12 منه لا يكون له من محل؛ مردود بأنه سبق لهذه المحكمة حكمها الصادر بجلسة 11/ 10/ 1997 في الدعوى رقم 13 لسنة 15 قضائية دستورية أن قضت بعدم دستورية المادتين 14/ 1، 15 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد علي المصادرة على النحو الوارد بالحكم المذكور، ومن ثم فإذا ما رأت محكمة الموضوع أن هناك محلاً لإعمال حكم المحكمة الدستورية العليا المشار إليه على النزاع المطروح عليها، فسيظل معلقاً أمامها الفصل في الدفع بالسقوط المستند إلى الفقرة الأخيرة من المادة الثانية عشر من ذلك القانون.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن لحق الملكية خاصية تميزه عن غيره من الحقوق - الشخصية منها أو العينية أصلية كانت أم تبعية - وتتمثل هذه الخاصية في أن الملكية وحدها هي التي تعتبر حقاً دائماً، وتقتضي طبيعتها ألا يزول هذا الحق بعدم الاستعمال، ذلك أنه أياً ما كانت المدة التي يخرج فيها الشيء من حيازة مالكه، فإنه لا يفقد ملكيته بالتقاعس عن استعمالها، بل يظل من حقه أن يقيم دعواه للمطالبة بها مهما طال الزمن إلا إذا كسبها غيره وفقاً للقانون، بما مؤداه أن حق الملكية باق لا يزول ما بقى الشيء المملوك منقولاً كان أو عقاراً، وبالتالي لا يسقط الحق في إقامة الدعوى التي تحميه بانقضاء زمن معين؛ ذلك أنه لا يتصّور أن يكون حق الملكية ذاته غير قابل للسقوط بالتقادم، ويسقط مع ذلك الحق في إقامة الدعوى التي يُطلب بها هذا الحق؛ ومن ثم يكون نص الفقرة الأخيرة من المادة 12 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد علي المصادرة، فيما تضمنه من تقرير سقوط حق الملكية بفوات سنة من تاريخ النشر في الجريدة الرسمية دون تقديم طلب إلى اللجنة، حسبما ورد بتلك المادة قد انتقص من الحماية التي كفلها الدستور لحق الملكية، وجاء بالتالي مخالفاً لأحكام المادة 34 من الدستور التي تتضمن صون حق الملكية الخاصة وكفالة حق الإرث فيها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة: أولاً: بعدم قبول الدعوى بالنسبة للطعن على المادتين 9، 17، والفقرتين الأولى والثانية من المادة 12، من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد علي المصادرة.
ثانياً: بانتهاء الخصومة بالنسبة للطعن على المادتين 14/ 1، 15 من ذلك القانون.
ثالثاً: بعدم دستورية نص الفقرة الأخيرة من المادة 12 من القانون المشار إليه في مجال تطبيقها بالنسبة لحق الملكية.

الطعن 133 لسنة 19 ق جلسة 3 / 4 / 1999 دستورية عليا مكتب فني 9 دستورية ق 30 ص 237

جلسة 3 إبريل سنة 1999

برئاسة السيد المستشار/ محمد ولي الدين جلال - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: فاروق عبد الرحيم غنيم وحمدي محمد علي وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين،

وحضور السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق حسن - رئيس هيئة المفوضين،

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر - أمين السر.

---------

قاعدة رقم (30)
القضية رقم 133 لسنة 19 قضائية "دستورية"

(1) دعوى دستورية "المصلحة الشخصية المباشرة: نطاق الدعوى".
شرط المصلحة يحدد للخصومة الدستورية نطاقها، فلا تندرج تحتها إلا النصوص التشريعية التي يؤثر الحكم بصحتها أو بطلانها بصفة مباشرة على النزاع الموضوعي دون ما سواها.
(2)  منازعات إدارية "مجلس الدولة - استثناء".
عموم ولاية مجلس الدولة وانبساطها على المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية بمختلف أشكالها لا يعني غل يد المشرع عن استثناء إسناد الفصل في بعضها إلى جهات قضائية أخرى - هذا الاستثناء يكون بالقدر وفي الحدود التي يقتضيها الصالح العام، وفي إطار التفويض المخول للمشرع بنص المادة 167 من الدستور.
(3) أعمال قضائية "خصائصها".
ثمة عناصر تعين على إبراز الخصائص الرئيسية للعمل القضائي - استقلال الجهة المعهود إليها بالفصل في النزاع - إثارة النزاع المطروح عليها ادعاء قانونياً يبلور الحق في الدعوى - إطار الفصل فيه محدد بما لا يخل بالضمانات القضائية الرئيسية، وعلى ضوء قاعدة قانونية نص عليها المشرع سلفاً.
(4) دستور "المادة 169" - حكم "سرية".
اقتصار ما قررته هذه المادة من النطق بالحكم في جلسة علنية على الأحكام الصادرة من المحاكم بالمعنى الضيق دون سواها من الهيئات القضائية.
(5) تشريع "قانون السلطة القضائية الصادر بالقرار بقانون رقم 46 لسنة 1972: مجالس تأديب المحضرين: قاضي طبيعي".
إسناد المشرع ولاية الفصل في الدعاوى التأديبية المقامة ضد المحضرين بالمحاكم الابتدائية فصلاً قضائياً لمجالس التأديب المقررة بهذا القانون لا إخلال فيه بالولاية المعقودة لمجلس الدولة في شأنها - هذه المجالس أضحت القاضي الطبيعي للمحضرين في شأن تلك المنازعات.
(6) مبدأ تكافؤ الفرص "مضمونه".
مضمون هذا المبدأ إنما يتصل بالفرص التي تتعهد الدولة بتقديمها - إعماله يقع عند التزاحم عليها - غاية الحماية الدستورية لتلك الفرص تقرير أولوية في مجال الانتفاع بها لبعض المتزاحمين عليها - تحديد هذه الأولوية وفق أسس موضوعية يقتضيها الصالح العام.
(7) مبدأ المساواة أمام القانون "إعماله".
إعمال هذا المبدأ يفترض تماثل المراكز القانونية في نطاق الموضوع محل التنظيم التشريعي.
(8) سلطة قضائية "استقلالها - حيدتها - مواثيق دولية".
حيدة السلطة القضائية عنصر فاعل في صون رسالتها لا تقل شأناً عن استقلالها بما يؤكد تكاملهما - التأكيد على ذلك في قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
(9) حق التقاضي "مؤداه: ترضية قضائية".
حق التقاضي المقرر بنص المادة 68 من الدستور مؤداه أن لكل خصومة في نهاية مطافها حلاً منصفاً يمثل الترضية القضائية التي يقتضيها رد العدوان على الحقوق المدعى بها - تقرير هذه الترضية يلزم أن يكون عائداً إلى هيئة قضائية توافر لها استقلالها وحيدتها.
(10) تشريع "الفقرة الثانية من المادة 167، المادة 168 من قانون السلطة القضائية الصادر بالقانون رقم 46 لسنة 1972: حيدة".
إخلال ما تضمنته هاتان المادتان من اشتراك رئيس المحكمة الذي طلب إقامة الدعوى التأديبية في مجلس تأديب محضري المحكمة الابتدائية بضمانة الحيدة.

-------------
1 - إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط يلزم تحققه لقبول الدعوى الدستورية - يحدد للخصومة الدستورية نطاقها، فلا تندرج تحتها إلا النصوص التشريعية التي يؤثر الحكم بصحتها أو بطلانها مباشرة على النزاع الموضوعي دون ما سواها.
2 - مجلس الدولة قد غدا وفقاً لنص المادة 172 من الدستور قاضي القانون العام في المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية، وكان قانون مجلس الدولة الصادر بالقرار بقانون رقم 47 لسنة 1972 وقد ردد هذا الأصل بنص مادته العاشرة؛ إلا أن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن عموم هذه الولاية وانبساطها على المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية بمختلف أشكالها وتعدد صورها لا يعني غل يد المشرع عن إسناد الفصل في بعضها إلى جهات قضائية أخرى، على أن يكون ذلك استثناء من الأصل العام وبالقدر وفي الحدود التي يقتضيها الصالح العام، وفي إطار التفويض المخول للمشرع بنص المادة 167 من الدستور في شأن تحديد الهيئات القضائية واختصاصاتها وتنظيم طريقة تشكيلها.
3 - التمييز بين الأعمال القضائية وبين غيرها من الأعمال التي قد تلتبس بها، إنما يقوم على مجموعة من العناصر لا تحدد بها ضوابط هذا التمييز على وجه قطعي، ولكنها تعين على إبراز الخصائص الرئيسية للعمل القضائي، ومن بينها أن إسباغ الصفة القضائية على أعمال أية جهة عهد إليها المشرع بالفصل في نزاع معين، يفترض أن يكون تشكليها واستقلالها كاشفين عن حيدتها عند الفصل في النزاع ومؤدين إلى غيريتها في مواجهة أطرافه، وأنه في كل حال يتعين أن يثير النزاع المطروح عليها ادعاء قانونياً يبلور الحق في الدعوى كرابطة قانونية تنعقد الخصومة القضائية من خلالها وبوصفها الوسيلة التي عينها المشرع لاقتضاء الحقوق المدعى بها، بمراعاة أن يكون إطار الفصل فيها محدداً بما لا يخل بالضمانات القضائية الرئيسية التي لا يجوز النزول عنها، وعلى ضوء قاعدة قانونية نص عليها المشرع سلفاً ليكون القرار الصادر في النزاع مؤكداً للحقيقة القانونية، مبلوراً لمضمونها، لتفرض نفسها على كل من ألزمه المشرع بها، بافتراض تطابقها مع الحقيقة الواقعة.
4 - المادة 169 من الدستور - فيما قررته من علنية جلسات المحاكم إلا إذا قررت جعلها سرية مراعاة للنظام العام أو الآداب، وأوجبته من النطق بالحكم في جلسة علنية - إنما يقتصر حكمها على الأحكام التي تصدر من المحاكم بالمعنى الضيق دون سواها من الهيئات القضائية.
5 - المحضرون إنما يعاونون بعملهم في قيام السلطة القضائية بمهامها، وتبدو خطورة العمل المنوط بهم من أن إعلان صحف الدعاوى - الذي يتولونه - إنما يتوافر به للخصومة القضائية أحد أركان انعقادها، بل إن هذه الخصومة لن تؤتي ثمرتها إلا بتحصيل المتقاضين لحقوقهم المقضي بها، والتي يتم إنفاذها - بوساطة المحضرين - جبراً على المحكوم عليهم بها، ومن ثم فإن إخلالهم بواجبات وظائفهم إنما ينعكس على أداء الوظيفة القضائية، فيعوق سيرها على الوجه المرجو ويعرقل انضباطها، ويعطل اقتضاء الحقوق المقضي بها، وبهذه المثابة تكون مجالس التأديب المشكلة بالمحاكم - وعلى الأخص بالنسبة إلى تشكيلها - أكثر إدراكاً من غيرها بأوجه القصور التي قد تعتري عمل المحضرين لديها، وأقدر بالتالي على مؤاخذتهم تأديبياً عنها؛ إذ كان ذلك، فإن المشرع - وفي حدود ما يملكه من إسناد الفصل في بعض المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية إلى جهة قضائية أخرى غير مجلس الدولة تحقيقاً للصالح العام - لا يكون بالنصوص التشريعية المطعون فيها قد خالف المادة 172 من الدستور. وإذ اختص المشرع تلك المجالس بولاية الفصل في الدعاوى التأديبية المقامة ضد المحضرين بالمحاكم الابتدائية فصلاً قضائياً، فقد أضحت هي قاضيهم الطبيعي في شأنها، الأمر الذي لا ينطوي على أية مخالفة - من هذه الناحية - لحكم المادة 68 من الدستور.
6 - مبدأ تكافؤ الفرص الذي تكفله الدولة للمواطنين وفقاً لنص المادة 8 من الدستور إنما يتصل بالفرص التي تتعهد الدولة بتقديمها، وأن إعماله يقع عند التزاحم عليها، وأن الحماية الدستورية لتلك الفرص غايتها تقرير أولوية - في مجال الانتفاع بها - لبعض المتزاحمين على بعض، وهي أولوية تتحدد وفق أسس موضوعية يقتضيها الصالح العام.
7 - إعمال مبدأ المساواة أمام القانون - وما يقتضيه من الحماية القانونية المتكافئة - يفترض تماثل المراكز القانونية في نطاق الموضوع محل التنظيم التشريعي، ومعاملتها بالتالي على ضوء قاعدة موحدة لا تفرق بين أصحابها بما ينال من مضمون الحقوق التي يتمتعون بها.
8 - استقلال السلطة القضائية، وإن كان لازماً لضمان موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على الترضية القضائية التي يطلبونها عند وقوع عدوان على حقوقهم وحرياتهم، إلا أن حيدتها عنصر فاعل في صون رسالتها لا تقل شأناً عن استقلالها بما يؤكد تكاملهما، ذلك أن استقلال السلطة القضائية، يعني أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير التي توهن عزائم رجالها، فيميلون معها عن الحق إغواء وإرغاماً، ترغيباً أو ترهيباً، فإذا كان انصرافهم عن إنفاذ الحق تحاملاً من جانبهم على أحد الخصوم، وانحيازاً لغيره، كان ذلك منافياً لضمانة التجرد عند الفصل في الخصومة القضائية، ولحقيقة أن العمل القضائي لا يجوز أن يثير ظلالاً قاتمة حول حيدته، فلا يطمئن إليه متقاضون داخلهم الريب فيه بعد أن صار نائياً عن القيم الرفيعة للوظيفة القضائية. يؤيد ذلك.
أولاً: أن إعلان المبادئ الأساسية في شأن استقلال القضاء التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بقراريها الصادرين في 29/ 1/ 1985، 13/ 12/ 1985 يؤكد بوضوح أن المنازعات التي تدخل في اختصاص السلطة القضائية، ينبغي الفصل فيها بطريقة محايدة، وعلى ضوء وقائعها ووفقاً لحكم القانون بشأنها، مع تجرد قضاتها من عوامل التأثير أو التحريض، وكذلك من كل صور الضغوط أو التهديد أو التدخل غير المشروع - مباشراً كان أم غير مباشر - وأياً كان مصدرها أو سببها.
ثانياً: أن استقلال السلطة القضائية وحيدتها ضمانتان تنصبان معاً على إدارة العدالة بما يكفل فاعليتها، وهما بذلك متلازمتان. وإذا جاز القول - وهو صحيح - بأن الخصومة القضائية لا يستقيم الفصل فيها حقاً وعدلاً إذا خالطتها عوامل تؤثر في موضوعية القرار الصادر بشأنها، فقد صار أمراً مقضياً أن تتعادل ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها في مجال اتصالهما بالفصل في الحقوق انتصافاً، لتكون لهما معاً القيمة الدستورية ذاتها فلا تعلو إحداهما على أخراهما أو تجبها بل تتضاممان وتتكافآن قدراً.
ثالثاً: أن ضمانة الفصل إنصافاً في المنازعات على اختلافها وفق نص المادة 67 من الدستور، تمتد بالضرورة إلى كل خصومة قضائية، أياً كانت طبيعة موضوعها جنائياً كان أم مدنياً أو تأديبياً إذ أن التحقيق في هذه الخصومات وحسمها إنما يتعين إسناده إلى جهة قضاء أو هيئة قضائية منحها القانون اختصاص الفصل فيها بعد أن كفل استقلالها وحيدتها وأحاط الحكم الصادر فيها بضمانات التقاضي التي يندرج تحتها حق كل خصم في عرض دعواه وطرح أدلتها، والرد على ما يعارضها على ضوء فرص يتكافأ أطرافها، ليكون تشكيلها وقواعد تنظيمها وطبيعة النظم المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها عملاً، محدداً للعدالة مفهوماً تقدمياً يلتئم مع المقاييس المعاصرة للدولة المتحضرة.
9 - حق التقاضي المنصوص عليه في المادة 68 من الدستور مؤداه أن لكل خصومة - في نهاية مطافها - حلاً منصفاً يمثل الترضية القضائية التي يقتضيها رد العدوان على الحقوق المدعى بها، وتفترض هذه الترضية أن يكون مضمونها موافقاً لأحكام الدستور، وهي لا تكون كذلك إذا كان تقريرها عائداً إلى جهة أو هيئة تفتقر إلى استقلالها أو حيدتها أو هما معاً، ذلك أن هاتين الضمانتين - وقد فرضهما الدستور على ما تقدم - تعتبران قيداً على السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق، ومن ثم يلحق البطلان كل تنظيم تشريعي للخصومة القضائية على خلافهما.
10 - إن الفصل في الدعوى التأديبية المقامة ضد أحد محضري المحاكم الابتدائية معقود بنص الفقرة الثانية من المادة 167 من قانون السلطة القضائية، لمجلس التأديب، باعتباره هيئة ذات اختصاص قضائي يشارك فيه رئيس المحكمة الابتدائية الذي أجازت له المادة 168 أن تقام هذه الدعوى بناء على طلبه، وكان الأصل ألا يطلب إقامتها قبل أن يستكمل التحقيق مجراه، وأن يكون قد جال ببصره فيه بعد عرضه عليه مرجحاً - على ضوء اعتقاده - ما إذا كان بنيانه متماسكاً أو متهادماً، منتهياً من ذلك إلى المضي في الدعوى التأديبية أو التخلي عنها، وكان ذلك لا يعدو أن يكون رأياً مؤثراً في موضوعية تلك الخصومة وحائلاً دون تأسيسها على ضمانة الحيدة التي لا يجوز إسقاطها عن أحد المتقاضين لتسعهم جميعاً على تباينهم.


الإجراءات

بتاريخ الرابع والعشرين من يونيو سنة 1997، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالباً الحكم بعدم دستورية المواد 166، 167، 168، 169 من قانون السلطة القضائية الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 46 لسنة 1972.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت في ختامها الحكم أصلياً بعدم قبول الدعوى، واحتياطياً برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المستشار رئيس محكمة شمال القاهرة الابتدائية كان قد أصدر قراراً بإحالة المدعي - ويعمل بوظيفة محضر بمحكمة المطرية الجزئية - إلى مجلس التأديب المشكل بالمحكمة وقيدت الدعوى التأديبية برقم 26 لسنة 1996 لمحاكمته تأديبياً عما هو منسوب إليه من مخالفات مبينة في قرار الإحالة. وإذ دفع المدعي - أثناء نظر الدعوى التأديبية - بعدم دستورية المواد أرقام 166، 167، 168، 169 من قانون السلطة القضائية، وقدر مجلس التأديب جدية هذا الدفع، فقد صرح له برفع دعواه الدستورية فأقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن المواد الطعينة تنص على ما يأتي:
مادة 166: "لا توقع العقوبات إلا بحكم من مجلس التأديب، ومع ذلك فلإنذار أو الخصم من المرتب يجوز أن يكون بقرار من رؤساء المحاكم بالنسبة إلى الكتاب والمحضرين والمترجمين ومن النائب العام ومن رؤساء النيابات بالنسبة إلى كتاب النيابات، ولا يجوز أن يزيد الخصم في المرة الواحدة على مرتب خمسة عشر يوماً ولا يزيد على ثلاثين يوماً في السنة الواحدة".
مادة 167: "يشكل مجلس التأديب في محكمة النقض وفي كل محكمة من محاكم الاستئناف من مستشار تنتخبه الجمعية العامة ومن المحامي العام وكبير كتاب المحكمة.
وفي المحاكم الابتدائية والنيابات من رئيس المحكمة، ورئيس النيابة أو من يقوم مقامهما وكبير الكتاب، ويستبدل كبير المحضرين عند محاكمة أحد المحضرين ورئيس القلم الجنائي عند محاكمة أحد كتاب النيابات.
وفي حالة محاكمة كبير الكتاب وكبير المحضرين أو رئيس القلم الجنائي يندب وزير العدل من يحل محله في مجلس التأديب ممن يكونون في درجته على الأقل".
مادة 168: "يجوز أن تقام الدعوى التأديبية ضد موظفي المحاكم والنيابات بناء على طلب رئيس المحكمة بالنسبة لموظفي المحاكم، وبناء على طلب النائب العام أو رئيس النيابة بالنسبة لموظفي النيابات".
مادة 169: "تتضمن ورقة الاتهام التي تعلن بأمر رئيس مجلس التأديب التهمة أو التهم المنسوبة إلى المتهم وبياناً موجزاً بالأدلة واليوم المحدد للمحاكمة، ويحضر المتهم بشخصه أمام المجلس، وله أن يقدم دفاعه كتابة وأن يوكل عنه محامياً وتجرى المحاكمة في جلسة سرية".
وحيث إن المدعي ينعى على نصوص المواد المشار إليها أنها أخضعت العاملين بالمحاكم لنظام تأديبي استُلبت بمقتضاه ولاية قضاء التأديب من مجلس الدولة بحسبانه قاضيهم الطبيعي في أنزعتهم التأديبية الذي اختصه الدستور بها وفقاً للمادة 172، واستعاضت عنه بمجالس تأديب، تنقص أعضاءها الخبرة بالقواعد القانونية التي تحكم الخصومات التأديبية ولا تعدو بهذه المثابة أن تكون لجاناً إدارية ذات اختصاص قضائي ولا تتوافر فيها ضمانات التقاضي التي يكفلها النظام القضائي بمجلس الدولة لأقرانهم من العاملين المدنيين، الأمر الذي يخل بمبدأي تكافؤ الفرص ومساواة المواطنين في الحقوق والواجبات، اللذين قرر الدستور أولهما في المادة 8 وثانيهما في المادة 40، ذلك فضلاً عن أن المادتين 167، 168 الطعينتين إذ أجازتا لرئيس المحكمة الابتدائية الجمع بين سلطتي الاتهام والمحاكمة فإنهما تكونان قد أخلتا بمبدأ حياد القاضي، فلا يستقيم للعدالة ولا لحق التقاضي من ثم ضماناتهما.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط يلزم تحققه لقبول الدعوى الدستورية - يحدد للخصومة الدستورية نطاقها، فلا تندرج تحتها إلا النصوص التشريعية التي يؤثر الحكم بصحتها أو بطلانها مباشرة على النزاع الموضوعي دون ما سواها: إذ كان ذلك، وكان المدعي يعمل بوظيفته محضر تابع لمحكمة شمال القاهرة الابتدائية، وتمثلت المنازعة الموضوعية - التي أقيمت الدعوى الماثلة بمناسبتها - في محاكمته تأديبياً أمام مجلس تأديب بها لمعاقبته عما أسند إليه من مخالفات مخلة بواجبات وظيفته، فإن مصلحته الشخصية المباشرة إنما تقتصر على ما تعلق من نصوص المواد المطعون عليها بمحضري المحاكم الابتدائية دون غيرهم من المخاطبين بأحكامها، وفي حدود ما يتصل منها بمحاكمتهم التأديبية، ومن ثم يتحدد نطاق الخصومة الدستورية الراهنة فيما أوجبته المادة 166 من أن العقوبات التأديبية لا توقع إلا بحكم من مجلس التأديب، وما فضت به المادة 167 من أن يشكل مجلس التأديب في المحاكم الابتدائية من رئيس المحكمة ورئيس النيابة أو من يقوم مقامهما وكبير المحضرين عند محاكمة أحد المحضرين، وفيما أجازته المادة 168 لرئيس المحكمة من طلب إقامة الدعوى التأديبية ضد المحضرين في المحاكم؛ ولا يغير من ذلك ما ذهبت إليه هيئة قضايا الدولة من عدم قبول الدعوى لانتفاء المصلحة تأسيساً على أن الفصل بين سلطتي رئيس المحكمة في الاتهام والمحاكمة، قد تحقق بالفعل - بالنسبة إلى المدعي - بتخلي رئيس المحكمة الابتدائية، عن المشاركة في مجلس التأديب الذي قرر إحالته إليه مما تنتفي معه مصلحته في الطعن بعدم دستورية المادة 167 المشار إليها؛ ذلك أن الأصل في تعيين مجال تطبيق النصوص التشريعية هو أن تتحدد مضامينها على ضوء موضوعها وبمراعاة مقاصدها، وبما لا يخرج ألفاظ النص وعباراته عن سياقها، مما يلزم معه أن تؤخذ هذه النصوص على ضوء كل الصور التي يتحقق فيها معناها، إذ كان ذلك، وكان نص المادة 167 المطعون فيه قد أوكل إلى رئيس المحكمة - أو من يقوم مقامه - المشاركة في مجلس التأديب، بما مؤداه أن إنابة غيره وجلوسه محله لا يمنع رئيس المحكمة الابتدائية وهو الأصيل من أن يقرر المشاركة في المجلس حين يشاء، فإن تطبيق نص هذه المادة في شأن المدعي يقيم له مصلحة شخصية مباشرة في طلب القضاء بعدم دستوريته، إذ ببطلانها - إذا ما قضى بذلك يغدو رئيس المحكمة غير صالح للفصل في الدعوى التأديبية التي طلب إقامتها ضد المدعي.
وحيث إنه بالنسبة لما ينعاه المدعي من أن النصوص التشريعية المطعون فيها قد انتزعت ولاية قضاء التأديب من مجلس الدولة وعهدت بها إلى مجالس تأديب لا تتوافر أمامها مقومات التقاضي وضماناته الرئيسية، فإنه وإن كان مجلس الدولة قد غدا وفقاً لنص المادة 172 من الدستور قاضي القانون العام في المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية، وكان قانون مجلس الدولة الصادر بالقرار بقانون رقم 47 لسنة 1972 وقد ردد هذا الأصل بنص مادته العاشرة؛ إلا أن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن عموم هذه الولاية وانبساطها على المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية بمختلف أشكالها وتعدد صورها لا يعني غل يد المشرع عن إسناد الفصل في بعضها إلى جهات قضائية أخرى، على أن يكون ذلك استثناء من الأصل المخول للمشرع بنص المادة 167 من الدستور في شأن تحديد الهيئات القضائية واختصاصاتها وتنظيم طريقة تشكيلها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن التمييز بين الأعمال القضائية وبين غيرها من الأعمال التي قد تلتبس بها، إنما يقوم على مجموعة من العناصر لا تتحدد بها ضوابط هذا التمييز على وجه قطعي، ولكنها تعين على إبراز الخصائص الرئيسية لعمل القضائي، ومن بينها أن إسباغ الصفة القضائية على أعمال أية جهة عهد إليها المشرع بالفصل في نزاع معين، يفترض أن يكون تشكليها واستقلالها كاشفين عن حيدتها عند الفصل في النزاع ومؤدين إلى غيريتها في مواجهة أطرافه، وأنه في كل حال يتعين أن يثير النزاع المطروح عليها ادعاء قانونياً يبلور الحق في الدعوى كرابطة قانونية تنعقد الخصومة القضائية من خلالها وبوصفها الوسيلة التي عينها المشرع لاقتضاء الحقوق المدعى بها، بمراعاة أن يكون إطار الفصل فيها محدداً بما لا يخل بالضمانات القضائية الرئيسية التي لا يجوز النزول عنها، وعلى ضوء قاعدة قانونية نص عليها المشرع سلفاً ليكون القرار الصادر في النزاع مؤكداً للحقيقة القانونية، مبلوراً لمضمونها، لتفرض نفسها على كل من ألزمه المشرع بها، بافتراض تطابقها مع الحقيقة الواقعة.
وحيث إن البين من أحكام قانون السلطة القضائية الصادر بالقرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 أنه اعتبر المحضرين - بنص المادة 131 - من أعوان القضاء، ونظم في الباب الخامس منه شئون العاملين بالمحاكم. ومنهم المحضرون، ونص في المادة 136 على أنه فيما عدا ما نص عليه فيه تسري على العاملين بالمحاكم الأحكام العامة للعاملين المدنيين في الدولة، كما فرض على أولئك العاملين واجبات بعينها ترتد إلى الطبيعة الخاصة للعمل المنوط بهم، كما نظم في الفصل السادس من هذا الباب - الذي وردت فيه النصوص المطعون فيها - تأديب هؤلاء العاملين على النحو السابق بيانه في المواد من 166 إلى 169 من ذلك القانون.
وحيث إن مؤدى النصوص المشار إليها أن مجلس تأديب محضري المحاكم الابتدائية يغلب على تشكيله العنصر القضائي، وأنه يفصل - باعتباره سلطة تأديبية - فيما يدخل في اختصاصه بعد إعلان المتهم بما هو منسوب إليه، وباليوم المحدد للمحاكمة، وأن له أن يمثل بشخصه أمامه وأن المشرع قد كفل له كذلك حق الدفاع، إذ أتاح له الفرصة الكاملة لإبداء أقواله وتقديم دفاعه كتابة، سواء بنفسه أو بمحام موكل عنه، بما يمكنه من مجابهة التهم المسندة إليه، ودحض ما قدم ضده من أدلة عليها، كما أن مجلس التأديب إذ يستنفد ولايته بإصدار حكمه فإن الجهة الإدارية ينغلق عليها المساس بذلك الحكم. وكان ما أوجبه المشرع من سرية المحاكمة لا مأخذ عليه، لما هو مقرر - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - من أن المادة 169 من الدستور - فيما قررته من علنية جلسات المحاكم إلا إذا قررت جعلها سرية مراعاة للنظام العام أو الآداب، وأوجبته من النطق بالحكم في جلسة علنية - إنما يقتصر حكمها على الأحكام التي تصدر من المحاكم بالمعنى الضيق دون سواها من الهيئات القضائية، وكانت تلك النصوص قد انطوت - بذلك - على ضمانات قضائية تحقيقاً لمحكمة منصفة وانتهاجاً لضوابطها إذ كان ذلك، وكان مجلس التأديب يفصل في الخصومة التأديبية المطروحة عليه في ضوء قواعد إجرائية وموضوعية محددة على النحو السالف الإشارة إليه، فإن المشرع يكون قد أقام من هذا المجلس هيئة ذات اختصاص قضائي تختص بالنظر فيما أوكله إليها من دعاوى تأديبية والفصل فيها.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان المحضرون إنما يعاونون بعملهم في قيام السلطة القضائية بمهامها، وتبدو خطورة العمل المنوط بهم من أن إعلان صحف الدعاوى - الذي يتولونه - إنما يتوافر به للخصومة القضائية أحد أركان انعقادها، بل إن هذه الخصومة لن تؤتي ثمرتها إلا بتحصيل المتقاضين لحقوقهم المقضى بها، والتي يتم إنفاذها - بوساطة المحضرين - جبراً على المحكوم عليهم بها، ومن ثم فإن إخلالهم بواجبات وظائفهم إنما ينعكس على أداء الوظيفة القضائية، فيعوق سيرها على الوجه المرجو ويعرقل انضباطها، ويعطل اقتضاء الحقوق المقضى بها، وبهذه المثابة تكون مجالس التأديب المشكلة بالمحاكم - وعلى الأخص بالنسبة إلى تشكيلها - أكثر إدراكاً من غيرها بأوجه القصور التي قد تعتري عمل المحضرين لديها، وأقدر بالتالي على مؤاخذتهم تأديبياً عنها؛ إذ كان ذلك، فإن المشرع - وفي حدود ما يملكه من إسناد الفصل في بعض المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية إلى جهة قضائية أخرى غير مجلس الدولة تحقيقاً للصالح العام - لا يكون بالنصوص التشريعية المطعون فيها قد خالف المادة 172 من الدستور. وإذ اختص المشرع تلك المجلس بولاية الفصل في الدعاوى التأديبية المقامة ضد المحضرين بالمحاكم الابتدائية فصلاً قضائياً، فقد أضحت هي قاضيهم الطبيعي في شأنها، الأمر الذي لا ينطوي على أية مخالفة - من هذه الناحية - لحكم المادة 68 من الدستور.
وحيث إن ما ينعاه المدعي من إخلال النصوص المطعون عليها بمبدأ تكافؤ الفرص الذي تكفله الدولة للمواطنين وفقاً لنص المادة 8 من الدستور إنما يتصل بالفرص التي تتعهد الدولة بتقديمها، وأن إعماله يقع عند التزاحم عليها، وأن الحماية الدستورية لتلك الفرص غايتها تقرير أولوية - في مجال الانتفاع بها - لبعض المتزاحمين على بعض، وهي أولوية تتحدد وفق أسس موضوعية يقتضيها الصالح العام، إذ كان ذلك, فإن النعي بمخالفة النصوص الطعينة لمبدأ تكافؤ الفرص لا يكون له محل، إذ لا صلة لها بفرص قائمة يجري التزام عليها.
وحيث إن المدعي ينعى على النصوص الطعينة إخلالها بمبدأ المساواة أمام القانون - وإذ كان إعمال هذا المبدأ - وما يقتضيه من الحماية القانونية المتكافئة - يفترض تماثل المراكز القانونية في نطاق الموضوع محل التنظيم التشريعي، ومعاملتها بالتالي على ضوء قاعدة موحدة لا تفرق بين أصحابها بما ينال من مضمون الحقوق التي يتمتعون بها، وكانت النصوص التشريعية المطعون عليها قد نظمت تأديب المحضرين العاملين في المحاكم الابتدائية، وقد تقرر هذا التنظيم لأغراض مشروعة ووفق أسس موضوعية لا تقيم في مجال تطبيقها تمييزاً منهياً عنه بين المخاطبين بها، فإن قالة إخلال النصوص الطعينة بمبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في المادة 40 من الدستور، تكون لغواً.
وحيث إن النعي على المادتين 167، 168 إخلالهما بمبدأ حياد القاضي، سديد في جوهره، ذلك أن ضمانة الحيدة - في نطاق النزاع الماثل - إنما تتصل أساساً بما إذا كان يجوز لرئيس المحكمة الابتدائية أن يفصل في منازعة تأديبية من طبيعة قضائية سبق أن أبدى رأياً فيها أو اتخذ موقفاً منها. إذ على ضوء ذلك يرتبط الفصل في دستورية تشكيل مجلس التأديب، بما إذا كان الإخلال بضمانة حيدة رئيسه وأعضائه يعتبر إهداراً لأحد الحقوق التي كفلها الدستور، فلا يتم الفصل إنصافاً في الخصومة القضائية مع غيابها، أم أن هذه الضمانة لا ترقى بوزنها إلى مرتبة الحقوق التي تستمد من الدستور أصلها، فلا ينافيها إلغاؤها أو تقييدها بقانون تقره السلطة التشريعية في حدود سلطتها التقديرية.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن استقلال السلطة القضائية، وإن كان لازماً لضمان موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على الترضية القضائية التي يطلبونها عند وقوع عدوان على حقوقهم وحرياتهم، إلا أن حيدتها عنصر فاعل في صون رسالتها لا تقل شأناً عن استقلالها بما يؤكد تكاملهما، ذلك أن استقلال السلطة القضائية، يعني أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير التي توهن عزائم رجالها، فيميلون معهاً عن الحق إغواء وإرغاماً، ترغيباً أو ترهيباً، فإذا كان انصرافهم عن إنفاذ الحق تحاملاً من جانبهم على أحد الخصوم، وانحيازاً لغيره، كان ذلك منافياً لضمانة التجرد عند الفصل في الخصومة القضائية، ولحقيقة أن العمل القضائي لا يجوز أن يثير ظلالاً قاتمة حول حيدته، فلا يطمئن إليه متقاضون داخلهم الريب فيه بعد أن صار نائباً عن القيم الرفيعة للوظيفة القضائية. يؤيد ذلك:
أولاً: أن إعلان المبادئ الأساسية في شأن استقلال القضاء التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بقراريها الصادرين في 29/ 1/ 1985، 13/ 12/ 1985 يؤكد بوضوح أن المنازعات التي تدخل في اختصاص السلطة القضائية، ينبغي الفصل فيها بطريقة محايدة، وعلى ضوء وقائعها ووفقاً لحكم القانون بشأنها، مع تجرد قضاتها من عوامل التأثير أو التحريض، وكذلك من كل صور الضغوط أو التهديد أو التدخل غير المشروع - مباشراً كان أم غير مباشر - وأياً كان مصدرها أو سببها.
ثانياً: أن استقلال السلطة القضائية وحيدتها ضمانتان تنصبان معاً على إدارة العدالة بما يكفل فعاليتها، وهما بذلك متلازمتان. وإذا جاز القول - وهو صحيح - بأن الخصومة القضائية لا يستقيم الفصل فيها حقاً وعدلاً إذا خالطتها عوامل تؤثر في موضوعية القرار الصادر بشأنها، فقد صار أمراً مقضياً أن تتعادل ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها في مجال اتصالهما بالفصل في الحقوق انتصافاً، لتكون لهما معاً القيمة الدستورية ذاتها فلا تعلو إحداهما على أخراهما أو تجبها بل تتضاممان تكاملاً وتتكافآن قدراً.
ثالثاً: أن ضمانة الفصل إنصافاً في المنازعات على اختلافها وفق نص المادة 67 من الدستور، تمتد بالضرورة إلى كل خصومة قضائية، أياً كانت طبيعة موضوعها جنائياً كان أم مدنياً أو تأديبياً إذ أن التحقيق في هذه الخصومات وحسمها إنما يتعين إسناده إلى جهة قضاء أو هيئة قضائية منحها القانون اختصاص الفصل فيها بعد أن كفل استقلالها وحيدتها وأحاط الحكم الصادر فيها بضمانات التقاضي التي يندرج تحتها حق كل خصم في عرض دعواه وطرح أدلتها، والرد على ما يعارضها على ضوء فرص يتكافأ أطرافها، ليكون تشكيلها وقواعد تنظيمها وطبيعة النظم المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها عملاً، محدداً للعدالة مفهوماً تقدمياً يلتئم مع المقاييس المعاصرة للدولة المتحضرة.
وحيث إن حق التقاضي المنصوص عليه في المادة 68 من الدستور مؤداه أن لكل خصومة - في نهاية مطافها - حلاً منصفاً يمثل الترضية القضائية التي يقتضيها رد العدوان على الحقوق المدعى بها، وتفترض هذه الترضية أن يكون مضمونها موافقاً لأحكام الدستور، وهي لا تكون كذلك إذا كان تقريرها عائداً إلى جهة أو هيئة تفتقر إلى استقلالها أو حيدتها أو هما معاً، ذلك أن هاتين الضمانتين - وقد فرضهما الدستور على ما تقدم - تعتبران قيداً على السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق، ومن ثم يلحق البطلان كل تنظيم تشريعي للخصومة القضائية على خلافهما.
وحيث إن إخلال أحد محضري المحاكم الابتدائية بواجبات وظيفته أو خروجه على مقتضياتها يعتبر ذنباً إدارياً مؤاخذاً عليه قانوناً؛ وإسناده إليه يتعين إن يكون مسبوقاً بتحقيق متكامل لا يقتصر على بعض عناصر الاتهام بل يحيط بها جميعاً، ويمحص أدلتها مع ضمان سماع أقوال المحضر المحال إلى التحقيق، فلا يكون التحقيق مبتسراً أو مجرداً من ضمان موضوعيته، بل وافياً أميناً، وكلما استكمل التحقيق عناصره، وكان واشياً بأن للتهمة معينها من الأوراق، كان عرضه لازماً على الجهة التي أولاها المشرع مسئولية الفصل فيه بشرطين أولهما: أن تكون قضائية في تشكيلها وضماناتها، ثانيهما: ألا يكون من بين أعضائها من اتصل بإجراء سابق على توليها لمهامها سواء كان تحقيقاً أو اتهاماً.
وحيث إن الفصل في الدعوى التأديبية المقامة ضد أحد محضري المحاكم الابتدائية معقود بنص الفقرة الثانية من المادة 167 من قانون السلطة القضائية، لمجلس التأديب، باعتباره هيئة ذات اختصاص قضائي يشارك فيه رئيس المحكمة الابتدائية الذي أجازت له المادة 168 أن تقام هذه الدعوى بناء على طلبه، وكان الأصل ألا يطلب إقامتها قبل أن يستكمل التحقيق مجراه، وأن يكون قد جال ببصره فيه بعد عرضه عليه مرجحاً - على ضوء اعتقاده - ما إذا كان بنيانه متماسكاً أو متهادماً، منتهياً من ذلك إلى المضي في الدعوى التأديبية أو التخلي عنها، وكان ذلك لا يعدو أن يكون رأياً مؤثراً في موضوعية تلك الخصومة وحائلاً دون تأسيسها على ضمانة الحيدة التي لا يجوز إسقاطها عن أحد المتقاضين لتسعهم جميعاً على تباينهم، فإن نص الفقرة الثانية من المادة 167 والمادة 168 يكونان في هذه الحدود مخالفين لأحكام المواد 65، 67، 68 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 167، والمادة 168 من قانون السلطة القضائية الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 46 لسنة 1972، وذلك فيما تضمنتاه من أن يشترك في مجلس تأديب محضري المحكمة الابتدائية رئيس المحكمة الذي طلب إقامة الدعوى التأديبية، برفض ما عدا ذلك من طلبات، وألزمت الحكومة المصروفات، ومبلغ مائة جنية مقابل أتعاب المحاماة.