الصفحات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 9 مارس 2015

الشفعة بين الحق والرخصة : (نظرة من الفقه الاسلامي)

للوصول إلى نتيجة يقينية بين أن الموقف الفعلي للشفعة بين الحق والرخصة نجد أن عشرات الأحكام لمجلس الدولة في فرنسا ومصر وكذلك لمحاكم النقض والتمييز – وسايرتهما كافة الدول العربية في ذلك - لا نجد حكما واحدا إلا ويعطف العبارتين (المركز القانوني والحق المكتسب) على بعضهما بما يفيد المغايرة.

وقد اعتدت القوانين جميعا بوقائع مادية بحتة جعلتها أسباباً لكسب الملكية ومثالها الميراث والوصية والحيازة والعقد والشفعة والاستيلاء والالتصاق كلها أسباب مباشرة لكسب الملكية دون أن يتصور تصنيفها على أساس أنها حق شخصي أو حق عيني وإنما كلها وقائع مادية تؤثر في الحقوق المكتسبة ومن ثم في المراكز القانونية .
ولمعرفة الفارق بينهما يطيب لي العودة إلى ما كتبه العلامة السنهوري في كتابه نظرية الحق ، حيث يقول تعليقا على ذلك : " وما بين الرخصة والحق توجد منزلة وسطى ، هي أعلى من الرخصة وادنى من الحق .... فحق التملك وحق الملك ، الأول رخصة والثاني حق . وما بينهما منزلة وسطى هي حق الشخص في ان يتملك . فلو ان شخصاً رأى داراً اعجبته ورغب في شرائها ، فهو قبل ان يصدر له ايجاب البائع بالبيع كان له حق التملك عامة في الدار وفي غيرها ، فهذه رخصة . وبعد ان يصدر منه قبول بشراء الدار صارت له ملكية الدار ، وهذا حق . ولكنه قبل القبول وبعد الايجاب في منزلة وسطى بين الرخصة والحق بالنسبة إلى الدار . فهو من جهة ليس له فحسب مجرد رخصة في تملك الدار كغيرها من الاعيان التي لا يملكها . وهي من جهة أخرى لم يبلغ ان يصبح صاحب الملك في الدار . بل هو بين بين . له أكثر من رخصة في التملك واقل من حق الملك : له الحق في ان يتملك . إذ يستطيع بقبوله البيع أي بإرادته وحده ان يصبح مالكاً للدار . ولم يصل الفقه الغربي إلى تبين هذه المنزلة الوسطى إلا بعد ان ارتقى ووصل في الرقي إلى مرحلة بعيدة . نرى ذلك في الفقه الجرماني الحديث .
ويدعو الفقيه فون تور (Von Tuhr) هذه المنزلة الوسطى بالحق المنشيء (droit formateur) ، ويعرفه بأنه : " مكنة تعطي الشخص بسبب مركز قانوني خاص في ان يحدث اثراً قانونيا بمحض ارادته " . ويأتي بأمثلة لهذا الحق المنشيء يذكر منها : حق من وجه إليه الايجاب ، وحق المسترد في ان يسترد الحصة الشائعة المبيعة ، وحق البائع وفاء في ان يسترد المبيع ، وحق الشفيع في أن يأخذ بالشفعة ....
ومما يقطع في وجود هذه المنزلة الوسطى في الفقه الاسلامي أن القرافي يقابل في عبارات صريحة ما بينها وبين الرخصة . فيقول عن صاحب الرخصة " من ملك ان يملك " ، وعن صاحب المنزلة الوسطى " من جرى له سبب يقتضي المطالبة بالتمليك " وينكر على الأول ان يكون مالكاً اطلاقاً ويجعل الثاني محلاً للنظر . وننقل ما يقوله في هذا الصدد : " اعلم ان جماعة من مشايخ المذهب رضي الله عنهم اطلقوا عباراتهم بقولهم من ملك ان يملك هل يعد مالكاً ام لا ، قولان .... وليس الامر بل هذه القاعدة باطلة وبيان بطلانها ان الإنسان يملك ان يملك أربعين شاة ، فهل يتخيل احد انه يعد مالكاً الآن قبل شرائها حتى تجب الزكاة عليه على احد القولين ؟ وإذا كان الآن قادراً على ان يتزوج ، فهل يجري في وجوب الصدقة والنفقة عليه قولان قبل ان يخطب المرأة لأنه ملك ان يملك عصمتها ؟ والإنسان مالك ان يملك خادماً أو دابة ، فهل يقول احد انه يعد الآن مالكاً لهما فيجب عليه كلفتهما ومؤونتهما على قول من الاقوال الشاذة أو الجادة ؟ بل هذا لا يتخيله من عنده ادنى مسكة من العقد والفقه ... بل القاعدة التي يمكن ان تجعل قاعدة شرعية ، ويجري فيها الخلاف في بعض فروعها لا في كلها ، ان من جرى له سبب يقتضي المطالبة بالتمليك هل يعطى حكم من ملك ؟ قد يختلف في هذا الأصل في بعض الفروع ، ولذلك مسائل ....
(المسألة الرابعة) في الشفعة ، إذا باع شريكه تحقق له سبب يقتضي المطالبة بان يتملك الشخص المبيع بالشفعة ولم ار خلافاً في انه غير مالك .
( المسألة الخامسة ) الفقير وغيره من المسلمين له سبب يقتضي أن يملك من بيت المال ما يستحقه بصفة فقره أو غير ذلك من الصفات الموجبة للاستحقاق .... فإذا سرق هل يعد كالمالك فلا يجب عليه الحد لوجود سبب المطالبة بالتمليك أو يجب عليه القطع لأنه لا يعد مالكا وهو المشهور ؟ قولان . فهذه القاعدة على ما فيها من القوة من جهة قولنا جرى له سبب التمليك في تمشيتها عسر لأجل كثرة النقوض عليها . أما هذا المفهوم وهو قولنا من ملك أن يملك مطلقا من غير جريان سبب يقتضي مطالبته بالتمليك ولا غير ذلك من القيود ، فهذا جعله قاعدة شرعية ظاهر البطلان لضعف المناسبة جدا أو لعدمها البتة . أما إذا قلنا انعقد له سبب يقتضي المطالبة بالتمليك فهو مناسب لأن يعد مالكا من حيث الجملة تنزيلا لسبب السبب منزلة السبب ، وإقامة للسبب البعيد مقام السبب القريب فهذا يمكن أن يتخيل وقوعه قاعدة في الشريعة . أما مجرد ما ذكروه فليس فيه إلا مجرد الإمكان والقبول للتملك وذلك في غاية البعد عن المناسبة فلا يمكن جعله قاعدة.
(الفروق للقرافي جزء 3 ص 20 - 21)
ويتبين مما نقلناه عن القرافي انه يميز بين أوضاع ثلاثة : 
(أولا) وضع من ملك أن يملك ، كمن ملك أن يملك أربعين شاة ومن ملك أن يتزوج ومن ملك أن يملك خادماً أو دابة .... هؤلاء جميعاً لا يملكون ، فلا يجب على الأول الزكاة ، ولا على الثاني الصداق والنفقة ، ولا على الثالث الكلفة والمؤونة .... وترجمة ذلك إلى الفقه الغربي أن هؤلاء جميعاً ليس لهم حق الملك ، وإنما لهم رخصة التملك ، والرخصة ليست بحق . 
(ثانياً) وضع من جرى له سبب يقتضي المطالبة بالتمليك ، كما ... في بيع الشريك لنصيبه بالنسبة إلى شريكه الشفيع . وفي بيت المال بالنسبة إلى المستحق لفقر أو جهاد أو غير ذلك . هؤلاء أيضاً على خلاف في الرأي ، لا يملكون بمجرده جريان السبب الذي يقتضي المطالبة بالتمليك ... فالشفيع لا يملك الشيء المبيع إلا إذا أخذنا بالشفعة ، والفقير لا يملك شيئاً من بيت المال إلا إذا طالب فأعطى وقبل ذلك إذا سرق وجب عليه الحد . وترجمة ذلك إلى لغة الفقه الغربي أن هذه المنزلة الوسطى بين رخصة التملك وحق الملك ، فهي دون الملك وفوق الرخصة . 
(ثالثاً) وضع من جرى له سبب الملك ، كمن اشترى أرضا أو شفع في دار ، فهذا هو الذي له حق الملك".
( مصادر الحق في الفقه الإسلامي ، عبد الرزاق السنهوري ، ج 1 ص 4 – ص 8 )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق