الصفحات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

تحميل وطباعة هذه الصفحة

Print Friendly and PDF

الأربعاء، 2 يوليو 2025

الدعوى رقم 2 لسنة 45 ق دستورية عليا " دستورية" جلسة 1 / 6 / 2025

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الأحد الأول من يونيو سنة 2025م، الموافق الخامس من ذي الحجة سنة 1446ه.

برئاسة السيد المستشار/ بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة المستشارين: الدكتور عادل عمر شريف والدكتور محمد عماد النجار والدكتور عبد العزيز محمد سالمان والدكتور طارق عبد الجواد شبل وطارق عبد العليم أبو العطا وصلاح محمد الرويني نواب رئيس المحكمة

وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ عبد الرحمن حمدي محمود أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 2 لسنة 45 قضائية "دستورية"، بعد أن أحالت محكمة استئناف القاهرة بحكمها الصادر بجلسة 5/10/2020، ملف الاستئناف رقم 634 لسنة 24 قضائية

المقام من

أيمن محمد فريد الكفوري

ضد

رئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي

------------

الإجراءات

بتاريخ الثالث والعشرين من يناير سنة 2023، ورد إلى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا ملف الاستئناف رقم 634 لسنة 24 قضائية، نفاذًا لحكم محكمة استئناف القاهرة، الصادر بجلسة 5/10/2020، بوقف الاستئناف وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية نص الفقرة الأخيرة من المادة (110) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968، فيما تضمنه من التزام المحكمة المحال إليها الدعوى بنظرها فيما يخص الحكم بعدم الاختصاص المتعلق بالولاية.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وقدمت الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي مذكرة، طلبت فيها الحكم، أصليًّا: بعدم قبول الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.

ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة اليوم.

---------------

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق – في أن المدعي في الدعوى الموضوعية أقام أمام محكمة القضاء الإداري – الدائرة الثانية عشرة – الدعوى رقم 36511 لسنة 66 قضائية، ضد الهيئة المدعى عليها، طالبًا الحكم بأحقيته في ضم مدة خدمته وخبرته السابقة التي قضاها بالشركة المصرية لإنتاج اللحوم والدواجن في الفترة من 3/1/1990 إلى 2/5/1998، إلى مدة خدمته الحالية بالهيئة القومية للتأمين الاجتماعي؛ وذلك على سند من القول إنه يعمل بوظيفة مراجع حسابات بالهيئة المدعى عليها، وكانت له مدة خدمة سابقة بالقطاع العام إبان عمله محاسبًا ماليًّا بالشركة المصرية لإنتاج اللحوم والدواجن، ومن ثم توافر في شأنه مناط ضم تلك المدة، إلا أن الهيئة المذكورة رفضت ذلك؛ مما حدا به إلى إقامة دعواه. وبجلسة 30/4/2018، حكمت المحكمة بعدم اختصاصها ولائيًّا بنظر الدعوى وأمرت بإحالتها إلى محكمة شمال القاهرة الابتدائية – دائرة عمالية – للاختصاص بنظرها، عملًا بنص المادة (110) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، تأسيسًا على أن مدة خبرة المدعي المطلوب ضمها كانت بأحد أشخاص القانون الخاص. قيدت الدعوى أمام المحكمة المذكورة برقم 5690 لسنة 2019 عمال كلي شمال القاهرة. وبجلسة 24/12/2019، حكمت المحكمة برفض الدعوى. لم يلق هذا القضاء قبولًا لدى المدعي في تلك الدعوى فأقام أمام محكمة استئناف القاهرة – مأمورية شمال - الاستئناف رقم 634 لسنة 24 قضائية، طالبًا الحكم بإلغاء الحكم المستأنف والقضاء مجددًا بضم مدة خدمته سالفة الذكر. وبجلسة 5/10/2020، حكمت المحكمة بوقف الاستئناف وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا، للفصل في دستورية نص الفقرة الأخيرة من المادة (110) من قانون المرافعات المدنية والتجارية المار ذكره، فيما تضمنه من إلزام المحكمة المحال إليها الدعوى بنظرها فيما يخص الحكم بعدم الاختصاص المتعلق بالولاية، وذلك لما تراءى لها من مخالفته للمواد (94 و97 و185 و186 و188 و190 و192) من الدستور.

وحيث إن المادة (110) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968 المعدلة بالقانون رقم 76 لسنة 2007 تنص على أنه "على المحكمة إذا قضت بعدم اختصاصها أن تأمر بإحالة الدعوى بحالتها إلى المحكمة المختصة، ولو كان عدم الاختصاص متعلقًا بالولاية، ويجوز لها عندئذ أن تحكم بغرامة لا تجاوز أربعمائة جنيه.

وتلتزم المحكمة المحال إليها الدعوى بنظرها".

وحيث إنه عن الدفع المبدى من الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي بعدم قبول الدعوى لانتفاء شرط المصلحة، بقالة إن الفصل في دستورية النص المحال لن يكون ذا أثر على طلبات المدعي الموضوعية بضم مدة خدمته السابقة؛ لكونه محجوبًا بقيد الزميل، فهذا الدفع مردود أولًا: بما جرى عليه قضاء هذه المحكمة من أن لكل من الدعويين الموضوعية والدستورية ذاتيتها ومقوماتها؛ ذلك أنهما لا تختلطان ببعضهما ولا تتحدان في شرائط قبولهما، بل تستقل كل منهما عن الأخرى، سواء في موضوعها، أو في مضمون الشروط التي يتطلبها القانون لجواز رفعها. ومردود ثانيًا: بأن المحكمة الاستئنافية – المحيلة – إنما تعمل رقابتها على قضاء المحكمة الابتدائية المطعون فيه أمامها، ويغدو من الحتم تحققها – ابتداءً – من ولايتها بنظر النزاع الموضوعي، باعتباره مسألة أولية مطروحة عليها – وجوبًا – قبل الفصل في الموضوع. ومردود ثالثًا: بأن الشرعية الدستورية، التي تقوم المحكمة الدستورية العليا بمراقبة التقيد بها، غايتها ضمان أن تكون النصوص القانونية مطابقة لأحكام الدستور، وتتبوأ هذه الشرعية من البنيان القانوني للدولة ذراه، وهى كذلك فرع من خضوعها للقانون، بما مؤداه: امتناع أي محكمة أو هيئة ذات اختصاص قضائي عن تطبيق نص قانوني يكون لازمًا للفصل في ولايتها، أو في موضوع النزاع المعروض عليها إذا بدا لها – من وجهة مبدئية – مصادمًا للدستور؛ ذلك أن وجود هذه الشبهة لديها يُلزمها أن تستوثق من صحتها من خلال عرضها على المحكمة الدستورية العليا التي عقد لها الدستور، دون غيرها، ولاية الفصل في المسائل الدستورية.

وحيث إن المصلحة في الدعوى الدستورية، وهي شرط لقبولها، مناطها

– على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة – أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يؤثر الحكم في المسألة الدستورية على الطلبات المرتبطة بها، المطروحة على محكمة الموضوع، ويستوي في شأن توافر المصلحة أن تكون الدعوى قد اتصلت بالمحكمة عن طريق الدفع أو عن طريق الإحالة. والمحكمة الدستورية العليا هى وحدها التي تتحرى توفر شرط المصلحة في الدعوى الدستورية للتثبت من شروط قبولها، ومؤدى ذلك أن الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا لا تفيد بذاتها توافر المصلحة، بل لازمه أن هذه الدعوى لا تكون مقبولة إلا بقدر انعكاس الفصل في دستورية النص التشريعي المحال على النزاع الموضوعي، فيكون الحكم في المطاعن الدستورية لازمًا للفصل في مسألة كلية أو فرعية تدور حولها الخصومة بأكملها أو في شق منها في الدعوى الموضوعية.

متى كان ما تقدم، وكان النص المحال قد ألزم المحكمة المحال إليها الدعوى بنظرها، وحال بينها وبين القضاء مجددًا بعدم اختصاصها ولائيًّا بنظرها، وإحالتها إلى المحكمة المختصة، بعد أن استبان لها أن المنازعة المطروحة عليها من طبيعة إدارية مما ينعقد الاختصاص بنظرها إلى قضاء مجلس الدولة، ومن ثم فإن المصلحة في الدعوى الدستورية المعروضة تكون قائمة، ويتحدد نطاقها فيما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة (110) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968 من أنه "وتلتزم المحكمة المحال إليها الدعوى بنظرها"، وذلك في مجال إعمالها على القضاء بعدم الاختصاص المتعلق بالولاية.

وحيث إن حكم الإحالة ينعى على النص المحال – في النطاق السالف تحديده – أنه ألزم المحكمة المحال إليها الدعوى بنظرها والفصل فيها، متضمنًا الحالات التي يتبين لها أنها تخرج عن اختصاصها الولائي، بالمخالفة لحق التقاضي الذي يستوجب أن يكون لكل منازعة قاضيها الطبيعي المختص بنظرها، وكذا مساسه باستقلال جهات القضاء، إذ فرض على كل منها الفصل في الدعوى المحالة إليها، ولو كانت غير مختصة ولائيًّا بنظرها، فضلًا عن انتقاصه من اختصاص المحكمة الدستورية العليا بالفصل في التنازع على الاختصاص، بأن وسد إلى محكمة الإحالة اختصاص محكمة التنازع.

وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الدستور هو القانون الأساسي الأعلى الذي يُرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ويحدد السلطات العامة ويرسم لها وظائفها ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها، ويقرر الحريات والحقوق العامة ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها؛ ومن ثم فقد تميز الدستور بطبيعة خاصة تُضفي عليه السيادة والسمو، بحسبانه كفيل الحريات وموئلها، وعماد الحريات الدستورية وأساس نظامها، وحق لقواعده أن تستوي على القمة من البناء القانوني للدولة، وتتبوأ مقام الصدارة بين قواعد النظام العام باعتبارها أسمى القواعد الآمرة التي يتعين على الدولة التزامها في تشريعاتها، وفي قضائها، وفيما تمارسه من سلطات تنفيذية، دون تفرقة أو تمييز في مجال الالتزام بها بين السلطات العامة الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإذ كان خضوع الدولة بجميع سلطاتها لمبدأ سيادة الدستور أصلًا مقررًا وحكمًا لازمًا لكل نظام ديمقراطي سليم، فإنه يتعين على كل سلطة عامة، أيًّا كان نشاطها، وأيًّا كانت وظيفتها وطبيعة الاختصاصات المسندة إليها، أن تنزل على قواعد الدستور ومبادئه، وأن تلتزم حدوده وقيوده، فإن هى خالفتها أو تجاوزتها شاب عملها عيب مخالفة الدستور، وخضعت – متى انصبت المخالفة على قانون أو لائحة – للرقابة القضائية التي عهد بها الدستور إلى المحكمة الدستورية العليا، بوصفها الجهة القضائية العليا التي اختصها دون غيرها بالفصل في دستورية القوانين واللوائح، بغية الحفاظ على أحكام الدستور، وصونها وحمايتها من الخروج عليها.

وحيث إن الدساتير المصرية المتعاقبة قد حرصت جميعها – منذ دستور سنة 1923 – على تقرير الحقوق والحريات العامة في صلبها، قصدًا من المشرع الدستوري أن يكون النص عليها في الدستور قيدًا على المشرع العادي فيما يسنه من قواعد وأحكام، وفي حدود ما أورده الدستور لكل منها، فإذا خرج المشرع فيما يقره من تشريعات على هذا الضمان الدستوري، وعن الإطار الذي عينه الدستور له، بأن قيد حرية أو حقًّا أو أهدر أو انتقص من أيهما تحت ستار التنظيم الجائز دستوريًّا، وبالمخالفة للضوابط الحاكمة له؛ وقع عمله التشريعي في حومة مخالفة أحكام الدستور.

وحيث إن الدستور كفل لكل مواطن بنص المادة (97) منه حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، مخولًا إياه بذلك أن يسعى بدعواه إلى قاض يكون، بالنظر إلى طبيعتها، وعلى ضوء مختلف العناصر التي لابستها، وطبيعة القواعد الموضوعية والإجرائية المعمول بها أمامه، مهيأً دون غيره للفصل فيها.

وحيث إن الدستور قد نص في المادة (184) منه على أن "السلطة القضائية مستقلة... والتدخل في شئون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم"، ونص في المادة (186) على أن "القضاة مستقلون غير قابلين للعزل، لا سلطان عليهم في عملهم لغير القانون ..."، وكان هذا الاستقلال يتوخى أن يكون عاصمًا من التدخل في شئون السلطة القضائية، أو التأثير في مجرياتها أو الإخلال بمقوماتها؛ باعتبار أن القرار النهائي في شأن حقوق الأفراد وواجباتهم وحرياتهم بيد أعضائها، ترد عنهم العدوان، وتقدم لمن يلوذ بها الترضية القضائية التي يكفلها الدستور أو القانون أو كلاهما، لا يثنيها عن ذلك أحد، وليس لجهة أيًّا كان شأنها أن تصرفها عن مهامها أو تعطلها.

وحيث إن استقلال السلطة القضائية مؤداه أن يكون تقدير كل قاضٍ لوقائع النزاع، وفهمه لحكم القانون بشأنها، متحررًا من كل قيد، أو تأثير، أو إغواء، أو وعيد، أو تدخل، أو ضغوط، أيًّا كان نوعها أو مداها أو مصدرها أو سببها أو صورتها، ما يكون منها مباشرًا أو غير مباشر، وكان مما يعزز هذه الضمانة ويؤكدها استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأن تنبسط ولايتها على كل مسألة من طبيعة قضائية.

وحيث إن النصوص الدستورية لا تتعارض أو تتهادم أو تتناقض فيما بينها، ولكنها تتكامل في إطار الوحدة العضوية التي تنتظمها، من خلال التوفيق بين مجموع أحكامها وربطها بالقيم العليا التي تؤمن بها الجماعة، في مراحل تطورها المختلفة، ويتعين دومًا أن يُعتد بهذه النصوص، بوصفها متآلفة فيما بينها، لا تتماهي أو تتآكل، بل تتجانس معانيها، وتتضافر توجهاتها، ولا محل -من ثمَّ- لقالة إلغاء بعضها البعض، بقدر تصادمها؛ ذلك أن إنفاذ الوثيقة الدستورية، وفرض أحكامها على المخاطبين بها، يفترض العمل بها في مجموعها، وشرط ذلك اتساقها، وترابطها، والنظر إليها باعتبار أن لكل نص منها مضمونًا ذاتيًّا، لا ينعزل به عن غيره من النصوص، أو ينافيها، أو يسقطها، بل يقوم إلى جوارها متساندًا معها مقيدًا بالأغراض النهائية والمقاصد الكلية التي تجمعها.

وحيث إن المشرع الدستوري قد أقام النظام القضائي على أساس تعدد جهات القضاء، التي حصرها في أربع جهات قضائية، وحدد اختصاصاتها، إذ أسند إلى القضاء العادي، بموجب المادة (188) من الدستور، الولاية العامة بالفصل في كافة المنازعات والجرائم عدا ما تختص به جهة قضائية أخرى، وخص مجلس الدولة - دون غيره - بموجب نص المادة (190) بولاية الفصل في المنازعات الإدارية والتأديبية، ووسد إلى المحكمة الدستورية العليا، بمقتضى المادة (192) – بالإضافة إلى اختصاصها بالفصل في دستورية القوانين واللوائح، وغيرها من الاختصاصات الواردة في هذه المادة – اختصاصًا استئثاريًّا بالفصل في التنازع على الاختصاص بين جهات القضاء، وفض التناقض الذي يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين صادر أحدهما من أي جهة من جهات القضاء أو هيئة ذات اختصاص قضائي والآخر من جهة أخرى منها، وعين القضاء العسكري، بموجب المادة (204)، جهة مختصة بالفصل في الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها، ومن في حكمهم، والجرائم المرتكبة من أفراد المخابرات العامة أثناء وبسبب الخدمة، بما مؤداه: أن الدستور أفرد لكل جهة قضائية اختصاصاتها الأساسية، وفوض السلطة التشريعية في بيان الاختصاصات الأخرى للجهات القضائية الأربع، التي ترتبط باختصاصاتها السالفة ارتباط الفرع بالأصل، أو تتصل بها اتصالًا منطقيًّا، وبما ليس فيه من خروج على الاختصاصات الأساسية التي عينها لكل جهة قضائية، أو تعدٍ على اختصاص محجوز لإحداها.

وحيث إنه عن المناعي التي وجهها حكم الإحالة إلى النص المحال – في النطاق المحدد سلفًا – فإنها سديدة في جملتها؛ ذلك أن المشرع الدستوري قد تولى تحديد الجهات القضائية، وقرر اختصاصاتها من خلال توزيع الولاية القضائية بين الجهات التي عينها، تحديدًا لقسط كل منها أو نصيبها فيها، بما يحول دون تنازعها فيما بينها أو إقحام إحداها فيما تتولاه غيرها من المهام، وبما يكفل دومًا عدم عزلها جميعًا عن نظر خصومة بعينها، وترك للمشرع العادي تحديد باقي اختصاصات تلك الجهات في ظل الإطار الدستوري الذي وضعه لكل منها. وعلى ذلك فإن جهات القضاء مستقلة عن بعضها البعض، ومؤدى هذا الاستقلال أن تختص كل جهة – وظيفيًّا - بغير ما تختص به الأخرى، حسبما قرره المشرع الدستوري، وألا يسلط قضاء جهة على قضاء جهة أخرى. وترتيبًا على ذلك، فإن ما تضمنه النص المحال من إلزام المحكمة المحال إليها الدعوى بنظرها والفصل فيها، وإن تبين لها أنها غير مختصة ولائيًّا بنظرها – طبقًا للاختصاص الذي وسده الدستور لها – يكون قد أهدر النصوص الدستورية التي أفردت لكل جهة قضائية اختصاصها، فضلاً عن عصفه بحق التقاضي، وذلك بفرض قاضٍ لا يُعد – طبقًا للاختصاص الموسد له دستوريًّا – القاضي الطبيعي المختص بالفصل في المنازعة، كما أنه يتضمن تدخلًا مباشرًا في شئون الوظيفة القضائية بما ينال من جوهرها، ولا يقيم المحاكمة المنصفة وفق متطلباتها، وينال -من ثمَّ- من استقلالها، ويُعد تسليطًا لجهة قضاء على جهة قضاء أخرى، بإلزامها بالفصل في نزاع يخرج عن ولايتها القضائية، وتطبيق تشريعات ليست من طبيعة التشريعات التي تختص وظيفيًّا بتطبيقها، ويجعل من الحكم في الاختصاص الذي تصدره المحكمة المحيلة قضاءً معادلًا لحكم محكمة التنازع التي وسد الدستور اختصاصاتها إلى المحكمة الدستورية العليا – دون غيرها – لتحدد لكل جهة قضائية قسطها أو نصيبها من المنازعات التي اختصها بالفصل فيها، مما يصم النص المحال بمخالفة أحكام الدستور.

وحيث إنه عن الاحتجاج بأن النص المحال قد تغيا سرعة الفصل في القضايا وتجنب تعدد الأحكام الصادرة بعدم الاختصاص، وهو ما يدخل في إطار سلطة المشرع التقديرية في تنظيم حق التقاضي، على نحو ما ذهبت إليه هيئة قضايا الدولة، فإنه مردود أولًا: بأن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخومًا لا يجوز اقتحامها أو تخطيها، وكان الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية بتنظيم موضوع معين، فإن ما تقرره من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها؛ ذلك أن إهدار هذه الحقوق أو تهميشها عدوان على مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها، ولا يجوز -من ثمَّ- أن يكون تنظيم هذه الحقوق اقتحامًا لفحواها، بل يتعين أن يكون منصفًا ومبررًا. وكان جوهر السلطة التقديرية يتمثل في المفاضلة التي يجريها المشرع بين البدائل المختلفة لاختيار ما يقدر أنه أنسبها لمصلحة الجماعة، وأكثرها ملاءمةً للوفاء بمتطلباتها في خصوص الموضوع الذي يتناوله بالتنظيم؛ ومن ثم فإن تيسير إجراءات التقاضي وضمان سرعة الفصل في القضايا غايته أن يتم الفصل في الخصومة القضائية- بعد عرضها على قضاتها– خلال فترة زمنية لا تجاوز باستطالتها كل حد معقول، ولا يكون قصرها متناهيًا، الأمر الذي يكفله ويحقق مبتغاه أن يعهد بالفصل في النزاع إلى قاضيه الطبيعي الذي عينه الدستور، باعتبار ذلك ضمانًا أكيدًا للتوازن بين العدالة الناجزة والمحاكمة المنصفة، باعتبارهما يشكلان باجتماعهما مقتضيات حق التقاضي، فلا يكون لأحدهما دون الآخر تحقيقها، وذلك على النحو الذي تطلبه الدستور في المادة (97) منه. ومردود ثانيًا: بأن السياسة التشريعية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها، لانعدام الرابطة المنطقية بينها، تقديرًا بأن الأصل في النصوص التشريعية – في الدولة القانونية – هو ارتباطها عقلًا بأهدافها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف؛ ومن ثم يتعين دائمًا استظهار ما إذا كان النص المطعون فيه يلتزم إطارًا منطقيًّا للدائرة التي يعمل فيها، كافلًا من خلالها تناغم الأغراض التي يستهدفها، أو متهادمًا مع مقاصده أو مجاوزًا لها، ومناهضًا –من ثمَّ– لمبدأ خضوع الدولة للقانون المنصوص عليه في المادة (94) من الدستور. وترتيبًا على ما تقدم، فإن الحد من حالات التنازع على الاختصاص بين جهات القضاء لا يحققه إلزام أي من هذه الجهات بنظر منازعات تخرج – في بعض الأحوال- عن اختصاصها الولائي، بمجرد إحالتها إليها من جهة قضائية أخرى، وإنما بتوسيد هذا الأمر إلى المحكمة الدستورية العليا – طبقًا لاختصاصها المنصوص عليه في الدستور- وذلك بما تصدره من أحكام في دعاوى التنازع وتناقض الأحكام، تلتزم بحجيتها محاكم جهة القضاء المحيلة والمحال إليها، على ما تقضي به المادة (195) من الدستور.

وحيث إن مؤدى ما تقدم جميعه، ولازمه، أن النص التشريعي المحال يكون قد أخل بمبدأ خضوع الدولة للقانون، وحق التقاضي، والمحاكمة المنصفة، واستقلال السلطة القضائية، والتنظيم الدستوري المحدد لاختصاص الجهات القضائية، وذلك بالمخالفة لأحكام المواد (94 و97 و184 و186 و188 و190 و192 و204) من الدستور؛ الأمر الذي يتعين معه القضاء بعدم دستوريته في النطاق المحدد سلفًا.

وحيث إن القضاء بعدم دستورية النص المحال - في النطاق المحدد سلفًا - ينفتح به للمحاكم المحال إليها الدعاوى بسبب الولاية، بدرجاتها المختلفة، أن تُعيد النظر في الاختصاص الولائي لها في الدعاوى سالفة البيان، فتمضي في نظرها إذا كانت تدخل في ولايتها القضائية، أو تقضي بعدم اختصاصها بنظرها لخروجها على هذه الولاية، وبإحالتها إلى محاكم جهة قضاء أخرى غير تلك التي أحالتها إليها، أو إلى هيئة ذات اختصاص قضائي ينعقد لها الاختصاص الولائي بالفصل في النزاع الموضوعي، كما يكون لها إن قضت بعدم الاختصاص الولائي أن تمسك عن الإحالة إلى المحكمة التي أحالت إليها الدعوى للاختصاص المتعلق بالولاية، التزامًا منها بحجية ذلك الحكم – ما لم يتم الغاؤه - والتي تحول بذاتها بين المحكمة المحيلة أولًا وبين إعادة نظر الدعوى التي أحالتها بعدما استنفدت ولايتها بشأنها، فيغدو حالئذٍ لكل ذي شأن أن يطلب من المحكمة الدستورية العليا - بوصفها القاضي الطبيعي المنوط به الفصل في تنازع الاختصاص الناشئ عن تسلب المحكمتين المحيلة والمحال إليها من نظر الدعوى- تعيين جهة القضاء المختصة بنظر النزاع، وذلك على ما يجري به نص المادة (192) من الدستور والبند "ثانيًا" من المادة (25) من قانون هذه المحكمة الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979.

وحيث إن مقتضى حكم المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 – بعد تعديلها بقرار رئيس الجمهورية رقم 168 لسنة 1998 – هو عدم تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته على الوقائع اللاحقة لليوم التالي لتاريخ نشر الحكم الصادر بذلك، وكذلك على الوقائع السابقة على هذا النشر، إلا إذا حدد الحكم الصادر بعدم الدستورية تاريخًا آخر لسريانه. لما كان ذلك، فإنه صونًا لاستقرار المراكز القانونية للخصوم في الدعاوى المحالة إلى محاكم جهة قضاء أخرى بسبب الولاية، فإن هذه المحكمة تعمل الرخصة المخولة لها بنص الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانونها، وتحدد اليوم التالي لنشر هذا الحكم تاريخًا لإعمال آثاره.

فلهذه الأسباب

 حكمت المحكمة:

أولًا: بعدم دستورية نص الفقرة الأخيرة من المادة (110) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968، في مجال إعمالها على القضاء بعدم الاختصاص المتعلق بالولاية.

ثانيًا: بتحديد اليوم التالي لنشر هذا الحكم تاريخًا لإعمال آثاره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق