الصفحات

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 29 يونيو 2022

الطعن رقم 89 لسنة 42 ق دستورية عليا "دستورية" جلسة 4 / 6 / 2022

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الرابع من يونيه سنة 2022م، الموافق الرابع من ذى القعدة سنة 1443 هـ.
برئاسة السيد المستشار / بولس فهمى إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار ورجب عبد الحكيـم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد شبل وخالد أحمد رأفت دســوقى والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز نواب رئيس المحكمة

وحضور السيد المستشار الدكتور / عماد طارق البشرى رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر

أصدرت الحكم الآتى
فى الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 89 لسنة 42 قضائية دستورية، بعد أن أحالت محكمة القضاء الإدارى بالإسماعيلية (الدائرة الأولى - أفراد) بحكمها الصادر بجلسة 28/ 12/ 2019، ملف الدعوى رقم 5178 لسنة 23 قضائية.
المقامة من
عبدالعال محمد عبدالعال، بصفته وليًّــا طبيعيًّــا على ابنه القاصر عبدالله
ضـــد
رئيس هيئة قناة السويس

----------------

" الإجـراءات "
بتاريخ السابع من ديسمبر سنة 2020، ورد إلى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا ملف الدعوى رقم 5178 لسنة 23 قضائية، بعد أن قضت محكمة القضاء الإدارى بالإسماعيلية - الدائرة الأولى - بجلسة 28/ 12/ 2019، بوقف الدعوى وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا، للفصل فى دستورية البند (9) من المادة (1) من لائحة مركز التدريب المهنى الصادرة بقرار رئيس مجلس إدارة هيئة قناة السويس رقم 362 لسنة 1983، فيما تضمنه من إعطاء أسبقية خاصة لأبناء العاملين بهيئة قناة السويس الموجودين فى الخدمة أو الذين انتهت خدمتهم بسبب الوفاة أو الإحالة إلى المعاش، وذلك بإضافة عدد من الدرجات إلى مجموعهم تحدده الهيئة.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

----------------

" المحكمة "

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من حكم الإحالـة وسـائر الأوراق - في أن المدعى، بصفته وليًــا طبيعيًّــا على ابنه القاصر، كان قد أقام الدعوى رقم 5178 لسنة 23 قضائية، أمام محكمة القضاء الإداري بالإسماعيلية، طلبًــا للحكم بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه، فيما تضمنه من تخطي نجله في القبول بمركز التدريب المهني التابع لهيئة قناة السويس بالترسانة البحرية ببورفؤاد وفرعه ببورتوفيق، مع ما يترتب على ذلك من آثار، أهمها: قبول نجله وإلحاقه بمركز التدريب المهني المار ذكره، وبإلغاء القرار المطعون فيه، مع ما يترتب على ذلك من آثار. وقال المدعى شرحًا لدعواه إنه بتاريخ 19/ 6/ 2016، أعلنت هيئة قناة السويس- بموجب الإعلان رقم 5 لسنة 2016 عن قبول دفعة جديدة للالتحاق بمركز التدريب المهني التابع للهيئة بالترسانة البحرية ببورفؤاد وفرعه ببورتوفيق، لحملة الشهادة الإعدادية من خريجي عام 2016، وإذ توافرت في نجله الشروط الواردة في ذلك الإعلان، تقدم بطلب لإلحاقه بالمركز المذكور، وقام نجله باجتياز الاختبارات المقررة، إلا أنه فوجئ بصدور قرار إعلان نتيجة القبول بالمركز متخطيًــا نجله في القبول، في حين أنه تم قبول من هم دونه في مجموع الدرجات، سواء في نتيجة الشهادة الإعدادية أو في نتيجة امتحان القبول، وقد نمى إلى علمه أن الهيئة قامت بمنح أبناء العاملين بها، المتقدمين للالتحاق بالمركز (50) درجة لكل منهم، حتى يتميزون عن باقي المتقدمين، وذلك إعمالاً لنص البند (9) من المادة (1) من لائحة مركز التدريب المهني التابع لهيئة قناة السويس المشـــار إليهـــا. وبتاريخ 12/ 2/ 2018، تظلم من هذا القرار، إلا أن جهـــة الإدارة لم تجبه لتظلمه، مما حدا به إلى إقامة الدعوى المار ذكرها، بطلباته السالفة البيان. وإذ تراءى لمحكمة الموضوع أن نص البند (9) من المادة (1) من لائحة مركز التدريب المهني، الذي يقضــي بإعطــاء أسبقية خاصــة لأبناء العاملين بهيئة قناة السويس الموجودين في الخدمــة أو الذين انتهت خدمتهـم بسبب الوفاة أو الإحالة إلى المعاش، وذلك بإضافة عدد من الدرجات إلى مجموعهم تحدده الهيئة، يتعارض مع أحكام الدستور، لما انطوى عليه من إهدار لحق المواطنين فى التعليم وعلى الأخص التعليم الفنى والتدريب المهنى، إذ منح أسبقية القبول بالمركز المذكور لأبناء العاملين الحاليين والسابقين بهيئة قناة السويس على الرغم من انقطاع الصلة بين الانتماء الأسرى لمن يتقدم للالتحاق بالمركز والضوابط التى يتعين توافرها للقبول به، مما يوقع النص المحال فى شبهة مخالفة نصى المادتين (19، 20) من الدستور، فضلاُ عن مخالفته لمبدأى المساواة وتكافؤ الفرص المنصوص عليهما فى المادتين (9، 53) من الدستور، فقضت بجلسة 28 ديسمبر سنة 2019، بوقف الدعوى وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية البند المشار إليه.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن اختصاصها في شأن الرقابة على الشرعية الدستورية، ينحصر في النصوص التشريعية أيًّــا كان موضوعها ونطاق تطبيقها أو الجهة التي أقرتها أو أصدرتها، متى تولدت عنها مراكز قانونية عامة مجردة سواء وردت هذه النصوص بالتشريعات الأصلية التي أقرتها السلطة التشريعية، أو تضمنتها التشريعات الفرعية التي أصدرتها السلطة التنفيذية في حدود صلاحياتها الدستورية. لما كان ذلك، وكانت اللائحة المار ذكرها صادرة عن أحد أشخاص القانون العام بناء على تفويض من المشرع في المادة (6) من القانون رقم 30 لسنة 1975 بنظام هيئة قناة السويس، بشأن إنشاء وتنظيم مركز التدريب المهنى التابع للهيئة، وتحديد قواعد القبول والدراسة به، والذى يضطلع بمهمة أساسية هى إعداد الفنيين وتأهيلهم عمليًّــا وفنيًّــا فى التخصصات التى عددتها مقدمة هذه اللائحة، وذلك لسد النقص الذى تعانى منه البلاد فى مجال العمالة الفنية، وإمداد الهيئة بالفنيين المدربين لخدمة ذلك المرفق الحيوي الذى تقوم على شئونه هيئة عامة، التي وإن أحلّها قانون إنشائها من التقيد بالنظم والأوضاع الحكومية، وأباح لها اتباع أساليب الإدارة والاستقلال المعمول بها في المشروعات التجارية، إلا أن وشائجها بالسلطة العامة وامتيازاتها ما انفكت وثيقة، وما فتئت هذه الرابطة رابطة تنظيمية، وإذ تضمنت تلك اللائحة نصوصًــا قانونية تتولد عنها مراكز قانونية عامة مجردة، تنظم شروط وقواعد القبول بالمركز المذكور، فإنها تغدو بهذه المثابة تشريعًــا بالمعنى الموضوعى، مما تنعقد معه الولاية بالرقابة على دستوريتها لهذه المحكمة.
وحيث إن المادة (1) من لائحة مركز التدريب المهني الصادرة بقرار رئيس مجلس إدارة هيئة قناة السويس رقم 362 لسنة 1983 تنص على أن شروط الالتحاق:
..........................
(9) تعطى أسبقية خاصة لأبناء العاملين بهيئة قناة السويس الموجودين في الخدمة أو الذين انتهت خدمتهم بسبب الوفاة أو الإحالة إلى المعاش وذلك بإضافة عدد من الدرجات إلى مجموعهم تحدده الهيئة.
وتنص المادة (2) من مواد إصدار هذه اللائحة على أن تطبق هذه اللائحة على أية مراكز تدريبية أخرى تنشئها الهيئة .....، وقد رددت المادة (34) من اللائحة المشار إليها الأحكام ذاتها فنصت على أن تسرى هذه اللائحة اعتبارًا من تاريخ صدورها.
تسرى اللائحة على أية مراكز تدريب تنشئها هيئة قناة السويس .....
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية مؤثرًا في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع. ويستوى فى شأن توافر المصلحة أن تكون الدعوى قد اتصلت بالمحكمة عن طريق الدفع أو عن طريق الإحالة، والمحكمة الدستورية العليا هى وحدها التى تتحرى توافر شرط المصلحة فـــى الدعـــاوى الدستورية، للتثبت من شروط قبولهـــا، بما مؤداه أن الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا لا تفيد بذاتها توافر المصلحة، بل يتعين أن يكون الحكم فى المطاعن الدستورية لازمًــا للفصل فى النزاع المثار أمام محكمة الموضوع. متى كان ذلك، وكان نص البند (9) من المادة (1) من اللائحة المشار إليها - المحال - هو أحد الضوابط والشروط التى تحكم القبول بمركز التدريب المهنى، التى تضمنتها هذه المادة، والتى تسرى أحكامها على جميع مراكز التدريب التى تنشئها هيئة قناة السويس، إعمالاً لنص المادة (2) من مواد إصدار هذه اللائحة، والمادة (34) منها، وكان الثابت من الأوراق أن المدعي فى الدعوى الموضوعية أقامها بطلب وقف تنفيذ ثم إلغاء قرار هيئة قناة السويس بشأن إعلان نتيجة القبول بمركز التدريب المهني التابع لها، فيما تضمنه من تخطي نجله في القبول بذلك المركز، وكان الثابت أن نجل المدعي المذكور قد تقدم بطلب الالتحاق بالمركز واجتاز الاختبارات المقررة في هذا الشأن، إلا أنه لم يتم قبوله بالمركز نظرًا لأن ترتيبه بين المتقدمين جاء متأخرًا، وكان ذلك أثرًا لإعمال الجهة الإدارية النص المحال، فيما تضمنه من إعطاء أسبقية خاصة لأبناء العاملين بهيئة قناة السويس الموجوديـن في الخدمـة أو الذين انتهت خدمتهم بسبب الوفاة أو الإحالة إلى المعاش، وذلك بمنحهم عددًا من الدرجات أضيفت إلى درجات الاختبار الشفوي. ومن ثم، يكون النص المحال هو الحاكم للمسألة المعروضة في تلك الدعوى، وتضحى المصلحة متحققة بالنسبة له، بحسبان القضاء في دستورية هذا النص سيكون ذا أثر مباشر، وانعكاس أكيد على الدعوى الموضوعية، والطلبات المطروحة بها، وقضاء محكمة الموضوع فيها.
وحيث إن من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الدستور وإن قرن العدل بكثير من النصوص التي تضمنها، وخلا في الوقت ذاته من كل تحديد لمعناه، فإن مفهوم العدل - سواء بمبناه أو أبعاده - يتعين أن يكون محددًا من منظور اجتماعي، باعتبار أن العـدل يتغيا التعبير عن تلك القيم الاجتماعية التي لا تنفصل الجماعة في حركتها عنها، والتي تبلور مقاييسها في شأن ما يعتبر حقًــا لديها، فلا يكون العدل مفهومًـــا مطلقًـــا باطراد، بل مرنًــا ومتغيرًا وفقًــا لمعايير الضمير الاجتماعي ومستوياتها، وهو بذلك لا يعدو أن يكون نهجًـــا متواصلاً منبسطًــا على أشكال من الحياة تتعدد ألوانها، وازنًــا بالقسط تلك الأعباء التي يفرضها المشرع على المواطنين، فلا تكون وطأتها على بعضهم عدوانًــا، بل تطبيقها فيما بينهم إنصافًــا، وإلا كان القانون منهيًــا للتوافق في مجال تنفيذه، وغدا إلغاؤه لازمًــا .
وحيث إن الدستور قد حرص في المادة (4) منه، على النص على مبدأ تكافؤ الفرص، باعتباره إلى جانب مبدأى العدل والمساواة أساسًا لبناء المجتمع وصيانة وحدته الوطنية، ومن أجل ذلك جعل الدستور بمقتضى نص المادة (9) منه تحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز، التزامًــا دستوريًــا على عاتق الدولة، لا تستطيع منه فكاكا. وقوام هذا المبدأ - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن الفرص التي كفلها الدستور للمواطنين فيما بينهم تفترض تكافؤها، وتدخل الدولة إيجابيًّــا لضمان عدالة توزيعها بين من يتزاحمون عليها، وضرورة ترتيبهم بالتالي فيما بينهم على ضوء قواعد يمليها التبصر والاعتدال، وهو ما يعنى أن موضوعية شروط النفاذ إليها، مناطها تلك العلاقة المنطقية التي تربطها بأهدافها، فلا تنفصل عنها.
وحيث إن الدستور قد اعتمد بمقتضى نص المادة (4) منه، مبدأ المساواة، باعتباره أساسًــا لبناء المجتمع وصــون وحدته الوطنية، وتأكيدًا لذلك حرص الدستور فى المادة (53) منه، على كفالة تحقيق المساواة لجميع المواطنين أمام القانون، فى الحقوق والواجبات العامة، دون تمييز بينهم لأى سبب، كما ألزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وفى هذا الإطار جعل الدستور بمقتضى نص المادة (19) منه عدم التمييز فى مجال الحق فى التعليم، كحق قرره الدستور لكل مواطن، أحد الأهداف التى تلتزم الدولة بمراعاة تحقيقها، ليغدو كفالة ذلك التزامًــا دستوريًّــا على عاتق الدولة، وقيدًا على كل تنظيم يتناول هذا الحق، إلا أن ذلك لا يعنى - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن يعامل المواطنون على ما بين فئاتهم من تفاوت فى مراكزها القانونية معاملة قانونية متكافئة، كذلك لا يقوم هذا المبدأ على معارضة صور التمييز جميعًــا، ذلك أن من بينها ما يستند إلى أسس موضوعية، ولا ينطوى بالتالى على مخالفة لنصوص المواد (4، 19، 53) المشار إليها، بما مؤداه أن التمييز المنهى عنه بموجبها هو الذى يكون تحكميًّــا، وأساس ذلك أن كل تنظيم تشريعى لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل لتحقيق أغراض بعينها تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التى يسعى المشرع إلى تحقيقها من وراء هذا التنظيم، فإذا كان النص المطعون فيه - بما ينطوى عليه من تمييز - مصادمًــا لهذه الأغراض، بحيث يستحيل منطقًــا ربطه بها أو اعتباره مدخلاً إليها، فإن التمييز يكون تحكميًّــا، وغير مستند بالتالى إلى أسس موضوعية، ومن ثم مجافيًــا لمبدأ المساواة.
وحيث إن الإخلال بالمساواة أمام القانون، الذى كفله الدستور - على ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة - يتحقق بأي عمل يهدر الحماية القانونية المتكافئة، تتخذه الدولة سواء من خلال سلطتها التشريعية أو عن طريق سلطتها التنفيذية، بما مؤداه أن أيًّا من هاتين السلطتين لا يجوز لها أن تفرض تغايرًا في المعاملة ما لم يكن مبررًا بفروق منطقية يمكن ربطها عقلاً بالأغراض التي يتوخاها العمل التشريعي الصادر عنها؛ وليس بصحيح أن كل تقسيم تشريعي يعتبر تصنيفًا منافيًا لمبدأ المساواة، بل يتعين دومًـــا أن ينظر إلى النصوص القانونية باعتبارها وسائل حددها المشرع لتحقيق أغراض يبتغيها، فلا يستقيم إعمال مبدأ المساواة أمام القانون إلا على ضوء مشروعيتهـا، واتصال هذه الوسائل منطقيًا بها، ولا يتصور بالتالي أن يكون تقييم التقسيم التشريعي منفصلاً عن الأغراض التي يتغياها المشرع، بل يرتبط جواز هذا التقسيم بالقيود التي يفرضها الدستور على هذه الأغراض، وبوجود حد أدنى من التوافق بينها وبين طرائق تحقيقها، ويستحيل بالتالي أن يكون التقدير الموضوعي لمعقولية التقسيم التشريعي منفصلاً كليًّا عن الأغراض النهائية للتشريع.
وحيث إن الحق في التعليم من الحقوق الأساسية التي كفلها الدستور لكل مواطن، إلا أنه ليس هناك ما يمنع المشرع من تناول هذا الحق بالتنظيم، ما دام رائده في ذلك مصلحة عامة معتبرة، سعى إلى تحقيقها من خلال بدائل وخيارات قائمة على أسس موضوعية ترتبط بالغاية المتوخاة من تنظيمه، مستهدفًا بذلك الصالح العام، وفي حدود أحكام الدستور ومتطلباته، فالأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيــم الحقوق - على ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة - أنها سلطة تقديرية ما لم يقيدها الدستور بضوابط معينة. ولما كان جوهر السلطة التقديرية يتمثل في المفاضلة التي يجريها المشرع بين البدائل المختلفة لاختيار ما يقدر أنه أنسبها لمصلحة الجماعة، وأكثرها ملاءمة للوفاء بمتطلباتها في خصوص الموضوع الذى يتناوله بالتنظيم، وكان التعليم من أكثر المهام خطرًا، وأعمقها اتصالاً بإعداد أجيال تكون قادرة - علمًا وعملاً - على أن ترقى بمجتمعها، وانطلاقًا من المسئولية التي تتحملها الدولة في مجال إشرافها عليه - طبقًا لما تقضى به المادة (19) من الدستور القائم - فإنه أصبح لزامًا عليها أن تراعى عند تنظيمها للحق في التعليم أن يكون لكل مواطن الحق في أن يتلقى منه قدرًا يتناسب مع ميوله وملكاته وقدراته ومواهبه، في حدود ما تضعه الدولــة من سياســات وما ترصده من إمكانات في هذا المجال بما يحقق الربط بين ممارسة هذا الحق وبين حاجات المجتمع والإنتاج، وذلك كله وفق القواعد التي يضعها المشرع تنظيمًا لهذا الحق بما لا يؤدى إلى مصادرته أو الانتقاص منه، وعلى ألا تخل القيود التي يفرضها في مجال هذا التنظيم بمبدأي تكافؤ الفرص والمساواة.
وحيث إن المادة (20) من الدستور تنص على أن تلتزم الدولة بتشجيع التعليم الفني والتقني والتدريب المهني وتطويره والتوسع في أنواعه كافة، وفقًا لمعايير الجودة العالمية، وبما يتناسب مع احتياجات سوق العمل، ومن ثم كان حريًّــا تنامى الاهتمام بالتعليم الفني والتدريب المهني، لمساهمتهما في تلبية متطلبات سوق العمل وإعداد الخريجين وتحسين قابليتهم للعمل، عن طريق تدريبهم على مواكبة التطور التكنولوجي الهائل، وصقل مهاراتهم العملية في مجالات متخصصة تحتاجها الدولة في إدارة مرافقها الحيوية.
وحيث إن الحقوق جميعها - ويندرج تحتها حق العمل- لا تنشأ إلا بتوافر متطلباتها، ذلك أن الشروط التي يفرضها المشرع لقيام حق من الحقوق، تعتبر من عناصره، بها ينهض سويًّــا على قدميه، ولا يتصور وجوده بدونها، ولا أن يكتمل كيانه في غيبتها. ومن ثم لا تنعزل هذه الشروط عن الحق الذي نشأ مرتبطاً بها، مكتملاً وجودًا بتحققها. وحيث إن لكل حق أوضاعًــا يقتضيها وآثارًا يرتبها، من بينها - في مجال حق العمل - ضمان الشروط التي يكون أداء العمل في نطاقها، منصفًــا وإنسانيًــا ومواتيًــا، ويتصل بها ألا يكون العمل قسريًّــا، وامتناع التمييز بين العمال في مجال استخدامهم لاعتبار لا يتعلق بقيمة العمل، أو النزول بأجورهم عن حد أدنى يكفيهم لمعاشهم. ويتعين دومًــا ضمان راحتهم الأسبوعية، وأن يكون زمن عملهم محددًا، وعجزهم عن العمل مُؤمَّنًــا، وعطلاتهم الرسمية مأجورة، وينبغي بوجه خاص أن يكفل المشرع مساواتهم في الأجر عن الأعمال عينها، دونما تمييز.
وحيث إن البين من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 146 لسنة 1957 بنظام هيئة قناة السويس أنه عهد بإدارتها إلى مجلس يصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية، ويكون له كافة الصلاحيات والسلطات التي تمكن من تحقيق أهداف المرفق، مع عدم التقيد بالنظم والأوضاع الحكومية، واتباع سبل الإدارة والاستقلال المعمول بها في المشروعات التجارية، وإصدار اللوائح اللازمة لنشاط المرفق، والتي يقتضيها حسن سيره ومتابعة تنفيذها، ثم صدر القانون رقم 30 لسنة 1975 بنظام هيئة قناة السويس ملغيًــا القرار بقانون السابق، متبنيًــا أحكامه الأساسية السالفة البيان، وفوض مجلس إدارة هيئة قناة السويس بمقتضى نص المادة (6) منه، في إصدار اللوائح اللازمة لحسن سير المرفق. وتنفيذًا لذلك أصدر رئيس مجلس إدارة الهيئة - بناء على قرار مجلس إدارتها بجلسته السادسة لعام 1983 - القــرار رقـــم (362) لسنة 1983 بلائحة مركز التدريب المهني التابع لهيئة قناة السويس، بهدف إعداد الفنيين ذوي الكفاءات لسد النقص الذي تعاني منه الهيئة والبلاد في مجال العمالة الفنية في التخصصات وفي حدود الأعداد التي تتطلبها الخطة العامة للعمالة بالهيئة، وذلك بالتدريب الفني للطلبة الحاصلين على الشهادة الإعدادية العامة أو ما يعادلها من المدارس الصناعية، لتأهيلهم عمليًّــا وفنيًّــا في أحد التخصصات المختلفة التي تحتاجها هيئة قناة السويس. وحددت تلك اللائحة عدة شروط - بموجب نص المادة (1) منها - لانتقاء أفضل العناصر الوطنية لتدريبهم تدريبًا فنيًّــا، بحيث تتناسب قدرات الطلبة المقبولين مع ما يتطلبه برنامج التدريب المتخصص، ليفرز ذلك مجموعة من الفنيين الأكفاء، بهدف إلحاقهم بعد تخرجهم بالعمل بالشركات التابعة للهيئة، على ما تقضى به المادة (3) من هذه اللائحة، ليتولوا حمل لواء مسئولية تسيير مرفق قناة السويس بانتظام واطراد، كافلاً بذلك تحقيق الربط بين التعليم الفني والتدريب المهني بالمركز وبين حاجات مرفق قناة السويس، متوخيًا بذلك حسن إدارة هذا المرفق, وهى الغايات الحاكمة لتحديد شروط وقواعد القبول بهذا المركز، والضابطة لموضوعيتها، واتساقها مع أحكام الدستور، والتى يناقضها ما تضمنه النص المحال من إعطاء أسبقية خاصة لأبناء العاملين بهيئة قنـاة السويس الموجوديـن فـي الخدمـة أو الذين انتهت خدمتهـم بسبب الوفــاة أو الإحالة إلى المعاش، بإضافة عدد من الدرجات إلى مجموعهم تحدده الهيئة، تلك المعاملة الاستثنائية التى ترتكز في واقعها على أسس منبتة الصلة بطبيعة هذا التعليم وأهدافه ومتطلبات الدراسة فيه، إذ تقوم هذه المعاملة في أساسها ودوافعها على تقرير مزية استثنائية للطلبة المستفيدين منها، قوامها: الانتماء الأسرى لمن يشغل أو كان شاغلاً لوظيفة بعينها، وقائمًــا بأعبائها في جهة بذاتها، أو متوليًــا مسئولياتها في تاريخ معين، بما يتضمنه ذلك من تمييز تحكمى لا يستند إلى أسس موضوعية تبرره، لتناقضه مع الأغراض والغايات التى سعى المشرع إلى تحقيقها بهذا التنظيم القانونى الحاكم لقواعد القبول بالمركز المذكور، والأهداف التى حددها الدستور، وجعل كفالة تحقيقها، التزامًــا دستوريًّــا على عاتق الدولة، ومن بينها كفالة الحق فى التعليم دون تمييز المقرر بنص المادة (19) من الدستور، وكفالة الحق فى الوظيفة العامة على أساس الكفـاءة دون محابـاة أو وساطة، طبقًــا لنص المـادة (14) منـه والتزام الدولة المقرر بنص المادة (53) من الدستور باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، ليضحى النص المحال، وقد اعتد بالانتماء الأسرى للمتقدم كمعيار لأسبقية القبول بالمركز، منطويًــا على تمييز منهى عنه من الوجهة الدستورية، ويتعارض مع مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص والحق فى التعليم، التى كفلتها المواد (4، 9، 19، 53) من الدستور، والحق فى العمل والوظيفة العامة المقرر بالمادتين (12، 14) من الدستور، فوق كونه يُعد خروجًــا على الالتزام، بتشجيع التعليم الفنى والتدريب المهنى وتطويره المنصوص عليه فى المادة (20) من الدستور.
وحيث إنه متى كان ذلك؛ فإن النص المحال يكون مخالفًــا لأحكام المواد (4، 9، 12، 14، 19، 20، 53) من الدستور؛ متعينًــا القضاء بعدم دستوريته.
وحيث إن إعمال الأثر الرجعي للحكم بعدم دستورية البند (9) من المادة (1) من لائحة مركز التدريب المهني التابع لهيئة قناة السويس الصادرة بقرار رئيس مجلس إدارة هيئة قناة السويس رقم (362) لسنة 1983 يمس مراكز قانونية استقرت، فإن هذه المحكمة موازنة منها بين متطلبات الشرعية الدستورية، واعتبارات استقرار المراكز القانونية في المجتمع، وإعمالاً للرخصة المخولة لها بنص الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانونها الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، تحدد اليوم التالي لنشر هذا الحكم تاريخًــا لسريانه وإعمال أثره، دون إخلال باستفادة المدعى، فى الدعوى الموضوعية، من الحكم الصادر بعدم دستورية النص المحال.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة:
أولاً: بعدم دستورية البند (9) من المادة (1) من لائحة مركز التدريب المهني، الصــادرة بقــرار رئيس مجلس إدارة هيئة قناة السويس رقــم (362) لسنة 1983.
ثانيًــا: بتحديد اليوم التالي لنشر هذا الحكم تاريخًا لإعمال أثره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق